موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

وإلاّ تعيّن الماء (١) وإذا تعدى على وجه الانفصال ، كما إذا وقع نقطة من الغائط على فخذه من غير اتصال بالمخرج ، يتخيّر في المخرج بين الأمرين (٢)

______________________________________________________

والصحيح كفاية التمسح للإطلاقات ، فهو مخيّر في تطهير المخرج بين التمسح والغسل وإن كان الغسل في المقدار الزائد على المعتاد متعيناً. ويتعدى ثالثاً إلى حواشي المخرج بالمقدار المتعارف المعتاد ، والظاهر كفاية التمسح في الزائد ، لأن المسح بالخرق ونحوها قد كان متعارفاً في تلك الأزمنة ، والأخبار الواردة في الاجتزاء به ناظرة إلى الاستنجاء المتعارف ، ولا كلام في أن التعدي إلى حواشي المخرج أمر معتاد وإن كان لا يتعدى إليها أحياناً ، إلاّ أن المتعارف هو التعدي وعدم كفاية التمسح حينئذ يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه ، إلاّ أن يقوم الإجماع عليه وهو أمر لا نحتمله فضلاً عن الظن أو الاطمئنان به ، حيث إن لازم ذلك تخصيص روايات التمسح بالإجماع وحملها على المورد النادر وهو كما ترى.

وأما ما نسبه الجمهور إلى علي عليه‌السلام من أنه قال : « كنتم تبعرون بعراً وأنتم اليوم تثلطون ثلطاً فأتبعوا الماء الأحجار » (١) فهو على تقدير صدوره ، مندفع بأن الأخبار الواردة في جواز الاكتفاء بالتمسح إنما صدرت عنهم عليهم‌السلام في عصر السعة والرخاء متأخراً عن عصر علي عليه‌السلام ومع ذلك كيف يمكن الالتزام بمفاد الرواية. على أن لازمها تخصيص الأخبار الواردة في المقام بالموارد النادرة وهو أمر لا نحتمله.

(١) كما مرّ.

(٢) تقدّم وجهه.

__________________

(١) نسبه إلى علي عليه‌السلام ابن قدامة في المغني ١ : ١٨٢ / ٢١٨ وابن الأثير في النهاية ١ : ٢٢٠ وابن منظور في لسان العرب ٧ : ٢٦٨ وقد ينسب إلى الحسن البصري كما في بدائع الصنائع ج ١ ص ٢١.

٣٦١

ويتعيّن الماء فيما وقع على الفخذ (١) والغسل أفضل من المسح بالأحجار (٢) ، والجمع بينهما أكمل (٣) ولا يعتبر في الغسل تعدد بل الحد النقاء وإن حصل بغسلة (٤)

______________________________________________________

(١) لما عرفت.

(٢) لما رواه جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في قول الله عزّ وجلّ ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) قال : كان الناس يستنجون بالكرسف والأحجار ، ثم أُحدث الوضوء وهو خلق كريم ، فأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصنعه فأنزل الله في كتابه ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) » (١) وغيرها من الأخبار.

(٣) لم يظهر لنا معنى أكملية الجمع ، نعم هو جمع بين الأمرين ولا إشكال في جوازه. وأما ما ورد عن علي عليه‌السلام « فأتبعوا الماء الأحجار » (٢) فقد عرفت أنه حديث عامي ، والحكم باستحباب الجمع بذلك مبني على القول بالتسامح في أدلة السنن ، واستحباب ما بلغ فيه الثواب ولو بطريق غير صحيح ، وأما بناء على ما سلكناه في محله من أن أخبار من بلغ لا دلالة لها على استحباب العمل ، وإنما تدل على ترتب الثواب على إتيانه برجاء الثواب والاستحباب ، وأنها إرشاد إلى حسن الانقياد (٣) فلا يمكننا الحكم باستحباب الجمع وأكمليته بالخبر الضعيف ، لأن الاستحباب كالوجوب حكم شرعي لا يثبت إلاّ بحجة معتبرة.

(٤) لحسنة ابن المغيرة عن أبي الحسن عليه‌السلام قال « قلت له : للاستنجاء حد؟ قال : لا ، ينقي ما ثمة ... » (٤) وموثقة يونس بن يعقوب قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الوضوء الذي افترضه الله على العباد لمن جاء من الغائط أو بال؟ قال :

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٥٥ / أبواب أحكام الخلوة ب ٣٤ ح ٤.

(٢) المتقدِّمة في ص ٣٦١.

(٣) مصباح الأُصول ٢ : ٣١٩.

(٤) الوسائل ١ : ٣٢٢ / أبواب أحكام الخلوة ب ١٣ ح ١ ، ٣٥٨ / أبواب أحكام الخلوة ب ٣٥ ح ٦ ، ٣ : ٤٣٩ / أبواب النجاسات ب ٢٥ ح ٢.

٣٦٢

وفي المسح لا بدّ من ثلاث وإن حصل النقاء بالأقل (*) ، وإن لم يحصل بالثلاث فالى النقاء ، فالواجب في المسح أكثر الأمرين من النقاء والعدد (١).

______________________________________________________

يغسل ذكره ويذهب الغائط ثم يتوضّأ مرّتين مرّتين » (١) لدلالتها على أن المدار إنما هو إذهاب الغائط ، سواء كان ذلك بالتمسح أو بالغسلة الواحدة أو بالغسلتين.

(١) لا ينبغي التردد في أن الغائط إذا لم يذهب عينه بالتمسح ثلاثاً لم يحكم بطهارة المحل ، بل وجب غسله أو التمسح بعد ذلك حتى يحصل النقاء ، إذ لا يحتمل طهارة المحل بمجرد المسح ثلاث مرات وإن كانت العين بحالها ، فزوال العين مما لا بدّ منه في كل من الغسل والمسح ، وإنما الكلام في أن النقاء إذا حصل بأقل من الثلاث فهل يكتفى به في تطهير المحل أو يجب إكمال الثلاث؟ والكلام في ذلك يقع في موردين :

أحدهما : أن التمسح بأقل من الثلاث هل دلّ دليل على كفايته ، بحيث لا تصل النوبة إلى الشك والأصل العملي من استصحاب النجاسة أو قاعدة الطهارة ، أو لا دليل عليها ولا بدّ من الرجوع إلى الأصل العملي في المسألة؟

وثانيهما : في الأدلّة الواردة في التقييد بالثلاث.

أمّا المورد الأوّل : فقد يستدل على كفاية الأقل من الثلاث بعدة من الروايات :

منها : موثقة يونس بن يعقوب المتقدِّمة ، لأن السؤال فيها وإن كان عن الوضوء إلاّ أنه عليه‌السلام تصدى لبيان ما يعتبر في الوضوء ومقدماته من غسل الذكر وتطهير موضع الغائط أيضاً تفضلاً ، وحيث إنه لم يقيد إذهاب الغائط بشي‌ء فمقتضى إطلاقها عدم الفرق بين التمسح مرة واحدة أو مرتين ، لأن المدار على ما يستفاد منها إنما هو على ذهاب الغائط فحسب فاذا حصل بالمسح مرة واحدة حكم بكفايته.

وعن شيخنا الأنصاري قدس‌سره المناقشة في الموثقة ، بأن ذكر الوضوء في صدرها وذكر غسل الذكر في الجواب ، قرينتان على أنها ناظرة إلى التطهير بالماء‌

__________________

(*) على الأحوط وجوباً.

(١) الوسائل ١ : ٣١٦ / أبواب أحكام الخلوة ب ٩ ح ٥.

٣٦٣

فلا تعم التمسح بالأحجار أو غيرها ، فالمراد من الموثقة أنه يغسل ذكره ودبره ، وإنما ترك التعبير بغسل الدبر للاستهجان بذكره (١).

وفيه : أن الذكر والدبر في الاستهجان سواء ، فلما ذا صرح بالذكر دون الدبر. على أن في بعض الروايات صرح بمسح العجان (٢) وهو والدّبر بمعنى واحد. هذا مضافاً إلى إمكان التعبير عن الدبر بموضع الغائط ومحل النجو ونحوهما مما لا استهجان في ذكره فعدم ذكر الغسل في موضع الغائط يكشف عن أن الموثقة ناظرة إلى كفاية مجرّد النقاء سواء أكان بالماء أو بالتمسح مرة أو مرتين أو أكثر.

ومنها : حسنة ابن المغيرة المتقدِّمة (٣) لأنها صريحة الدلالة على أن حدّ الاستنجاء هو النقاء سواء حصل ذلك بالغسل أو بالتمسح مرة أو مرتين أو أكثر.

وربما يناقش في دلالتها كما عن شيخنا الأنصاري ـ قدس‌سره بأن الرواية بذيلها « قلت ينقي ما ثمة ويبقى الريح؟ قال : الريح لا ينظر إليها » ظاهرة في إرادة النقاء بالماء ، لأن الريح الباقية في المحل إنما يستكشف باستشمام اليد ، ومزاولة اليد المحل إنما هي في الاستنجاء بالماء (٤).

ولا يخفي ضعف هذه المناقشة ، لأن بقاء الريح كما يمكن استكشافه باستشمام اليد المزاولة للمحل كذلك يمكن أن يستكشف بغيرها من الأشياء الملاقية له ، وكذا باستشمام اليد الماسحة على الموضع بعد التمسح بالأحجار أو الخرق ونحوهما ، فهذه المناقشة ساقطة.

نعم ، يرد على الاستدلال بالحسنة ، أن المراد بالنقاء لو كان يعم التمسّح لكان الأولى بل المتعيّن أن يسأل عن الأجزاء الصغار أيضاً ، لتخلّفها في المحل وعدم زوالها‌

__________________

(١) كتاب الطهارة ١ : ٤٥٧.

(٢) وهي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال « جرت السنة في أثر الغائط بثلاثة أحجار ، أن يمسح العجان ولا يغسله ... » الوسائل ١ : ٣٤٨ / أبواب أحكام الخلوة ب ٣٠ ح ٣.

(٣) في ص ٣٦٢.

(٤) كتاب الطهارة ١ : ٤٥٥.

٣٦٤

بالتمسّح. ويشهد لذلك اختباره في اليد الملوثة بالوحل أو غيره ، حيث ترى أن مسحها بالحجر أو الخرق لا يزيل الأجزاء الصغار ، ومن هنا ذكر فقهاؤنا الأعلام قدس‌سرهم أنه لا يعتبر في الاستنجاء بالتمسح إزالة الأثر المفسر بالأجزاء الصغار ، دون الأعراض الخارجية من اللون والرائحة ونحوهما ، لعدم اعتبار زوالها في الغسل فكيف بالمسح ، وحيث لم يسأل عن الأجزاء الصغار فيستكشف به أن الرواية ناظرة إلى الاستنجاء بالماء ولا تعم التمسح أصلاً. بل لو كانت الرواية ناظرة إلى الأعم منه لم يبق موجب للسؤال عن بقاء الريح بوجه ، وذلك لأن التمسح غير قالع للأجزاء الصغار وهي مستتبعة لبقاء الريح بلا كلام ، ومع العفو عن الأجزاء المذكورة كيف يكون بقاء الريح مخلًّا للطهارة ، وهذا بخلاف ما إذا اختصت الرواية بالغسل ، فان بقاء الريح أمر لا يلازمه ، بل قد تزول به وقد لا تزول ، كما إذا كان الغائط عفناً جدّاً ، وعليه فللسؤال عن بقاء الريح مجال.

وحاصل الجواب عنه : أن المبالغة في الغسل على وجه يذهب به الريح غير معتبر في الاستنجاء ، ومجرد زوال العين كاف في طهارة المحل ، ولعل هذا مراد من منع عن دلالة الرواية على كفاية الأقل من الثلاث في المسح.

ومنها : رواية بريد بن معاوية عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : « يجزئ من الغائط المسح بالأحجار ، ولا يجزئ من البول إلاّ الماء » (١) بتقريب أن اللاّم في الأحجار للجنس ، ومقتضاه أن جنس الحجر كاف في تطهير المحل متعدِّداً كان أو غيره ، ولم يرد به الجمع ليقال إن أقل الجمع ثلاثة.

وفيه : أن اللاّم وإن كان للجنس كما أُفيد ، إذ لا يحتمل حمله على الاستغراق للقطع بعدم إرادة التمسح بأحجار العالم جمع ، كما لا يحتمل حمله على العهد لبعد إرادة الأحجار المعهودة خارجاً ، فلا مناص من أن يكون اللاّم للجنس والطبيعة ، وإنما الكلام في أن المراد به طبيعي الفرد أو طبيعي الجمع ، ولا إشكال في أن ظاهر اللاّم الداخل على الجمع جنس الجمع لا الفرد حيث لا قرينة على العهد ولم يمكن حمله‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٤٨ / أبواب أحكام الخلوة ب ٣٠ ح ٢.

٣٦٥

على الاستغراق نعم قد تقوم القرينة على إرادة جنس الفرد من اللاّم الداخل على الجمع ، كما في قوله عزّ من قائل ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ... ) (١) وقوله ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها ... ) (٢) وذلك لوضوح أن الخمس والصدقات إنما تدفعان للأفراد لا إلى الجموع ، فهذه الرواية على خلاف المطلوب أدل.

ومنها : مضمرة زرارة : « كان يستنجي من البول ثلاث مرّات ، ومن الغائط بالمدر والخرق » (٣) حيث لم يقيد المسح بالمدر والخرق بالتعدّد ، ومقتضى إطلاقها كفاية التمسّح مطلقاً.

ويرد هذا الاستدلال ، أن الرواية غير واردة لبيان اعتبار التعدّد وعدمه ، وإنما وردت حكاية عن فعل الامام عليه‌السلام وغاية ما تدل عليه أن مخرج البول لا يجتزأ فيه بالتمسح ، لالتزامه عليه‌السلام فيه بالماء وإنما يكفي ذلك في الغائط ، وأما أنه يكفي مطلقاً أو ثلاث مرات فليست الرواية ناظرة إليه. وعلى الجملة الراوي إنما حكى عن الإمام كفاية التمسح في الغائط دون التعدّد وعدمه ، إذ لم يكن عليه‌السلام يستنجي من الغائط بمرأى من زرارة ليتمكن من حكاية ذلك عنه عليه‌السلام.

والحاصل أن الأخبار المتقدِّمة لا دلالة في شي‌ء منها على الاجتزاء بالأقل من الثلاث ، عدا موثقة يونس لتمامية دلالتها كما مرّ ، ومعها لا تصل النوبة إلى الأصل فإن قام دليل مقيد لإطلاقها فلا كلام وإلاّ فلا مناص من الأخذ بإطلاق الموثقة والحكم بالاجتزاء بالأقل من الثلاث في المسح كالغسل ، هذا كله في المورد الأول.

وأمّا المورد الثاني : فقد ورد في صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « لا صلاة إلاّ بطهور ، ويجزئك من الاستنجاء ثلاثة أحجار ، بذلك جرت السنة من‌

__________________

(١) الأنفال ٨ : ٤١.

(٢) التوبة ٩ : ٦٠.

(٣) الوسائل ١ : ٣٤٤ / أبواب أحكام الخلوة ب ٢٦ ح ٦.

٣٦٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (١) وقد قيدت المجزئ من الاستنجاء بالثلاث ، وحيث إنّا نلتزم بمفهوم العدد بالإضافة إلى الأقل ، لأن المتفاهم العرفي في مثل قولنا : الإقامة عشرة أيام موجبة لإتمام الصلاة ، عدم وجوب الإتمام في الإقامة بما دون العشرة ، فلا مناص من الالتزام بعدم إجزاء ما دون الأحجار الثلاثة في المقام ، فهي صالحة لتقييد الموثقة المتقدِّمة بما إذا كان إذهاب الغائط في التمسح بالثلاث.

هذا وقد نوقش في التقييد بهذه الصحيحة من وجوه :

الأوّل : استبعاد وجوب التمسح ثانياً وثالثاً بعد النقاء ، لأن المسح وقتئذ لغو ظاهر لا يترتب عليه أي أثر.

ويبعده أن الأحكام التعبدية لا سبيل إلى استكشاف ملاكاتها بالوجوه الاعتبارية والاستحسانات ، ومن المحتمل أن يكون الملاك في وجوب التمسّح ثلاثاً أمراً آخر وراء النقاء ، ونظائر ذلك كثيرة في الشريعة المقدّسة. منها : وجوب الغسل مرّتين كما في المتنجِّس بالبول ، لأنّا إذا بالغنا في الغسلة الاولى في غسله وأزلنا عنه العين وأثرها لم يترتب على الغسلة الثانية أثر حينئذ ، مع أنها معتبرة في الحكم بطهارته. ومنها : وجوب الغسل ثلاث مرات في الإناء ، مع أن العين قد تزول عنه بالأقل من الثلاث. ومن هذا القبيل نفس الخزف المصنوع منه الإناء لأنه إذا صنع بهيئة غير الإناء كفى في تطهيره الغسل مرّة ، وإذا صنع بهيئة الإناء اعتبر فيه الغسل ثلاث مرّات ، مع أن الخزف هو الخزف بعينه. وكذا الحال في إزالة الغائط بالتمسح حيث يختص ذلك بما إذا كان الغائط في المحل ، لأنه إذا كان في غير المخرج لم يكف في إزالته المسح من غير خلاف ، مع أن العذرة هي العذرة بعينها. وعلى الجملة لا مجال لاستكشاف الملاكات بالاستحسان ، وحيث إن الدليل دلّ على وجوب التمسح ثلاثاً فلا مناص من الأخذ بظاهره والحكم باعتبار التعدّد وإن حصل النقاء قبل الثلاث.

الثاني : أن الصحيحة تشتمل على كلمة السنة وهي تحتمل الاستحباب ، ومع احتماله لا يمكن الاستدلال بها على وجوب التمسح ثلاثاً.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣١٥ / أبواب أحكام الخلوة ب ٩ ح ١.

٣٦٧

ويندفع بأن السنّة في قبال الفريضة ، فالمراد بها ما ثبت وجوبه وتشريعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أن الفريضة هي ما أوجبه الله سبحانه في كتابه. واستعمال السنة بالمعنى المذكور أمر شائع في الأخبار ، فإذا قيل : الركعتان الأخيرتان سنتان في الصلاة ، لا يراد منها استحبابهما وهذا ظاهر.

الثالث : أن التقييد في الصحيحة بالثلاث إنما ورد مورد الغالب ، لعدم حصول النقاء غالباً بالمسح بأقل من ثلاث مرات ، ولا مفهوم للقيد إذا كان وارداً مورد الغالب كما في قوله عزّ من قائل ( وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) (١).

وهذه المناقشة يرد عليها أمران :

أحدهما : منع الكبرى المدعاة ، لأن الإتيان بأي قيد في الكلام ظاهره أن للمتكلم عناية خاصّة به وهو يقتضي المفهوم لا محالة ، ورد في مورد الغالب أو غيره ، لأن الغلبة غير مانعة عما ندعيه من الظهور ، وأما عدم التزامنا بمفهوم القيد في الآية المباركة فهو مستند إلى الأدلّة الدالّة على أن حرمة الربائب لا تختص بما إذا كانت في الحجور ولو لا تلك الأدلّة لالتزمنا بمفهومه كما التزمنا به في قوله : دخلتم بهن. مع أن كون المرأة المزوجة مدخولاً بها أمر غالبي وقلّما يتفق عدم الدخول بها.

وثانيهما : أن القيد الوارد مورد الغالب لو سلمنا عدم دلالته على الاختصاص فلا ينطبق ذلك على المقام لعدم كونه من هذا القبيل ، وذلك لأن حصول النقاء بالتمسح بثلاثة أحجار ليس بغالبي فإنّه كما يحصل بالثلاثة كذلك يحصل بالأربعة والخمسة نعم لا يحصل النقاء بالمرة الأُولى والثانية غالباً ، لا أن حصوله غالبي في الثلاثة ، فلو كانت العبارة هكذا : لا يجتزأ بالمرة الأُولى والثانية ، لكان للقول بأن التقييد بهما مستند إلى الغلبة وجه صحيح. وأما في مثل قوله عليه‌السلام يجزئك من الاستنجاء ثلاثة أحجار فلا ، لعدم الغلبة في الثلاثة كما عرفت.

إذن فما ذهب إليه المشهور من اشتراط أن يكون التمسح بثلاثة أحجار هو الصحيح.

__________________

(١) النساء ٤ : ٢٣.

٣٦٨

ويجزئ ذو الجهات الثلاث من الحجر (*) ، وبثلاثة أجزاء من الخرقة الواحدة ، وإن كان الأحوط ثلاثة منفصلات (١).

______________________________________________________

(١) بعد ما اتضح أن التمسح يشترط أن يكون بالثلاث ولا يجزي الأقل منها ، يقع الكلام في أنه هل يعتبر في الاستنجاء به أن يكون المسح بثلاثة أحجار ، أو يكفي التمسّح بالحجر الواحد ثلاث مرات ، كما إذا كان له جهات ثلاث؟ وبعبارة اخرى أن المعتبر تعدّد المسح فحسب وإن كان ما به التمسح واحداً ، أو يعتبر التعدّد في كل من التمسح وما به المسح؟

اختلفت كلماتهم في المقام ، فذهب جماعة إلى اعتبار التعدّد فيما يتمسح به من الحجر أو غيره نظراً إلى صحيحة زرارة المتقدِّمة : « يجزئك من الاستنجاء ثلاثة أحجار » لصراحتها في تعدد ما يتمسح به.

وعن جماعة آخرين كفاية التمسح بالحجر الواحد ثلاثاً كما إذا كانت له جهات ثلاث ، للقطع بعدم الفرق بين الاتصال والانفصال ، حيث إن المدار على التمسح ثلاث مرات سواء أكان ما يتمسح به في كل مرة منفصلاً عما يتمسح به في المرة الأُخرى أم لم يكن.

وهذه الدعوى عهدتها على مدعيها ، لما تقدم من أن الأحكام التعبدية لا سبيل إلى استكشاف ملاكاتها بالوجوه الاعتبارية والاستحسانات ، إذ من المحتمل بالوجدان أن يكون للانفصال خصوصية لا يحصل الغرض من التمسح إلاّ به ، ولو لا هذا الاحتمال للزم الحكم بكفاية الغسلة الواحدة فيما يجب فيه الغسلتان إذا كانت الغسلة بمقدار الغسلتين بحسب الكم والزمان ، كما إذا فرضنا زمان كل من الغسلتين دقيقة واحدة وكان الماء المستعمل فيها بمقدار كأس مثلاً ، وقد غسلناه دقيقتين وصببنا عليه الماء كأسين ، فهل يصح أن يقال إنها غسلتان متصلتان ولا فرق بين اتصالهما وانفصالهما ، فهذه الدعوى ساقطة.

__________________

(*) فيه إشكال ، والاحتياط لا يترك.

٣٦٩

ويكفي كل قالع ولو من الأصابع (*) (١)

______________________________________________________

ومن الغريب في المقام ما صدر عن بعضهم من أن قوله عليه‌السلام « يجزئك من الاستنجاء ثلاثة أحجار » يدل على كفاية التمسح بالحجر ذي جهات ثلاث ، وذلك بدعوى أن المراد بالتمسح بثلاثة أحجار هو ثلاث مسحات قياساً للمقام بما إذا قيل : ضربته خمسين سوطاً ، لوضوح أن صدقه لا يتوقّف على تعدّد السوط وما به الضرب ، وعليه فالمسح ثلاث مرات إنما يقتضي تعدّد المسح سواء أكان ما به التمسّح أيضاً متعدِّداً أم لم يكن.

والوجه في غرابته ، أن السوط في المثال مصدر ساط أي ضرب بالسوط ، لأنه قد يستعمل بالمعنى المصدري وقد يستعمل بمعنى الآلة وما به الضرب ، فالمعنى حينئذ : ضربته خمسين مرّة بالسوط ، فسوطاً مفعول مطلق للضرب أي ضربته كذا مقداراً ضرباً بالسوط ، فالتعدّد في المثال إنما هو في الضرب لا في السوط وما به الضرب وأين هذا من قوله عليه‌السلام « يجزئك من الاستنجاء ثلاثة أحجار » حيث إن التعدّد فيه في الآلة وما به التمسح أعني الأحجار ، ولا ينطبق الأحجار الثلاثة على الحجر الواحد وإن كان ذا جهات ثلاث. وعلى ذلك لا مناص من أن يكون ما يتمسّح به كالمسح متعدداً. نعم قد يصدق المسح بالأحجار الثلاثة على التمسّح بالحجر الواحد كما إذا كان حجراً عظيماً أو جبلاً متحجِّراً ، لأنه حجر واحد حقيقة إذ الاتصال مساوق للوحدة ، مع أنه لو تمسح بأطرافه الثلاثة صدق التمسح بالأحجار الثلاثة عرفاً لطول الفواصل بين الأطراف.

(١) كما إذا استنجى بثلاثة من أصابعه ، والمستند في ذلك أُمور :

الأوّل : الإجماع على أنه لا فرق في جواز الاستجمار بين الأحجار وغيرها من الأجسام الطاهرة القالعة للنجاسة ولو كانت هي أصابع المتخلي عدا ما استثني من العظم والروث وغيرهما مما يأتي عليه الكلام.

__________________

(*) فيه إشكال بل منع.

٣٧٠

ويندفع بأن الإجماع التعبدي على جواز الاستجمار بكل جسم قالع للنجاسة لم يثبت بوجه ، وعلى فرض التحقق لا نعلم بل نظن أن يكون المراد من معقد إجماع المجمعين أي جسم قالع للنجاسة ولو كان من أعضاء المتخلي كأصابعه.

الثاني : الأخبار المشتملة على كفاية الاستجمار بغير الأحجار من المدر والخرق والكرسف وغيرها ، فقد ورد في بعضها أن الحسين بن علي عليه‌السلام كان يتمسح من الغائط بالكرسف ولا يغسل (١) وفي مضمرة زرارة المتقدِّمة (٢) أنه كان يستنجي من الغائط بالمدر والخرق ( الخزف ) كما عن بعض نسخ التهذيب (٣) ومعها لا نحتمل أن تكون للأحجار خصوصية بوجه. نعم لو كان الوارد في النصوص خصوص التمسح بالأحجار لاحتملنا أن تكون لها مدخلية في الحكم بالطهارة ، كما أنّا لا نحتمل خصوصية للكرسف والمدر وغيرهما من الأُمور الواردة في النصوص ، بل يستفاد من مجموع الأخبار الواردة في المسألة أن الحكم يعم كل جسم قالع للنجاسة ولو كان من أعضاء المتخلِّي كأصابعه.

ويؤيده ما ورد في رواية ليث المرادي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن استنجاء الرجل بالعظم أو البعر أو العود؟ قال : أما العظم والروث فطعام الجن وذلك مما اشترطوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : لا يصلح بشي‌ء من ذلك » (٤) حيث إن ظاهرها أن الأجسام القالعة بأجمعها صالحة للاستنجاء عدا العظم والروث لاقترانهما بالمانع وهو عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للجن أن لا يستعمل طعامهم في الاستنجاء بلا فرق في ذلك بين الأصابع وغيرها.

ويرد هذا الوجه أن الأحجار وإن لم يحتمل أن تكون لها خصوصية في الاستنجاء فلا مانع من التعدي عنها إلى كل جسم قالع للنجاسة إلاّ أن التعدي إلى مثل الأصابع‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٥٨ / أبواب أحكام الخلوة ب ٣٥ ح ٣.

(٢) في ص ٣٦٦.

(٣) كما في مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٩١ السطر ٨.

(٤) الوسائل ١ : ٣٥٧ / أبواب أحكام الخلوة ب ٣٥ ح ١.

٣٧١

التي هي من أعضاء المتخلي وليست من الأجسام الخارجية الواردة في الروايات يحتاج إلى دليل ، إذ لا يستفاد من النصوص سوى التعدي إلى الأجسام الخارجية دون الأصابع ونحوها.

الثالث : حسنة ابن المغيرة عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « قلت له : للاستنجاء حد؟ قال لا ، ينقي ما ثمة ... » (١) حيث إن الظاهر من جواب الامام عليه‌السلام بقوله : « لا ، ينقي ما ثمة » أن المدار في طهارة موضع الغائط على النقاء ، سواء أكان ذلك بالماء أو حصل من التمسح بالكرسف أو الأحجار أو غيرهما من الأجسام القالعة للنجاسة ولو كانت هي الأصابع.

ويدفع ذلك أمران : أحدهما : ما قدمناه من أن المراد بالنقاء بقرينة السؤال عن الريح هو النقاء المسبب من الغسل ، إذ لو كان المراد به الأعم من التمسّح والغسل لكان المتعيّن أن يسأله عن الأجزاء الصغار المتخلفة في المحل بعد المسح ، بل لم يكن وجه للسؤال عن الريح لأنها من لوازم المسح كما مر.

وثانيهما : إن الحسنة بعد الغض عن المناقشة المتقدِّمة إنما وردت لبيان حد الاستنجاء فحسب لأنه مورد السؤال فيها ، ولم ترد لبيان حد ما يستنجى به ، وكم فرق بينهما ، فالحسنة لا إطلاق لها من تلك الناحية حتى يشمل الأصابع ونحوها.

الرابع : موثقة يونس بن يعقوب « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الوضوء الذي افترضه الله على العباد لمن جاء من الغائط أو بال؟ قال : يغسل ذكره ويذهب الغائط ثم يتوضّأ مرّتين مرّتين » (٢) حيث إنها ناظرة إلى بيان ما يجب في الوضوء وما هو مقدّمة له من غسل الذكر وإذهاب الغائط ، وحيث أنها مطلقة فتعم إذهابه بكل جسم قالع للنجاسة ولو كان هي الأصابع ، ولعل هذه الموثقة هي التي اعتمد عليها الماتن في المقام.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٢٢ / أبواب أحكام الخلوة ب ١٣ ح ١ ، ٣٥٨ ب ٣٥ ح ٦ ، ٣ : ٤٣٩ / أبواب النجاسات ب ٢٥ ح ٢.

(٢) الوسائل ١ : ٣١٦ / أبواب أحكام الخلوة ب ٩ ح ٥.

٣٧٢

ويعتبر فيه الطهارة (١)

______________________________________________________

ولكن الاستدلال بها أيضاً غير تام ، لأن إطلاق الموثقة وإن لم يكن قابلاً للإنكار لما تقدّم من أنها تشمل الإذهاب بكل من الغسل والمسح ولا فرق في ذلك بين الحجر وغيره إلاّ أن إطلاقها لا يشمل الأصابع ، لأنها بصدد بيان ما اعتبر في الوضوء ومقدماته ، ومن الظاهر أن طهارة الأصابع أولى بالاشتراط من غيرها ، لأنها من مواضع الوضوء وبالاستنجاء بها يتنجّس بالعذرة لا محالة ، ومعه يبطل الوضوء. على أنها بظاهرها اعتبرت طهارة الذكر وموضع الغائط في الوضوء فكيف لا تعتبر الطهارة في أعضاء الوضوء ، إذن لا يمكن أن يراد من إذهاب الغائط ما يعم الاستنجاء بالأصابع. نعم إطلاقها بالإضافة إلى غير الأصابع مما لا خدشة فيه.

فالصحيح أن الاستنجاء بكل جسم قالع للنجاسة كاف في طهارة المحل عدا الأصابع كما عرفت.

(١) قد يفرض الكلام في الاستنجاء بالأعيان النجسة أو المتنجِّسة فيما إذا أصابت المحل وهو رطب ، وأُخرى في الاستنجاء بها إذا لم تصب المحل أو أصابته وهو يابس.

أما إذا كان المحل رطباً ، فلا شبهة في أن الاستنجاء بغير الأجسام الطاهرة لا يكفي في طهارته ، لوضوح أن النجس أو المتنجِّس حينئذ ينجسان الموضع بملاقاتهما فلا يكون التمسح بها موجباً للطهارة ، بل يسقط المحل بذلك عن كونه قابلاً للطهارة بالاستجمار ، بحيث لو تمسح بعد ذلك بالأجسام الطاهرة لم يحكم بطهارته ، والوجه فيه أن المحل إذا تنجس بغير النجاسة الخارجة من نفسه لم تشمله الأدلّة الواردة في الاستجمار ، لاختصاصها بما إذا تنجس بالغائط الخارج منه كما أشار إليه الماتن قدس‌سره.

ودعوى أن المتنجِّس لا يتنجّس ثانياً ، مندفعة بأن الملاقي للمتنجِّس إذا كان له أثر مغاير لأثر المتنجِّس ، فبمقتضى إطلاق أدلته يرتب ذلك الأثر عليه وإن قلنا بأن المتنجِّس لا يتنجّس ثانياً ، مثلاً إذا دلّ الدليل على أن ما لاقاه بول يجب أن يغسل مرّتين وفرضنا أنه لاقى متنجساً تكفي فيه الغسلة الواحدة وجب غسل المتنجِّس‌

٣٧٣

مرّتين ، وهذا لا لأن المتنجِّس يتنجّس ثانياً بل لإطلاق ما دلّ على التعدّد فيما لاقاه بول مثلاً ، إذ معه لا بدّ من ترتيب الأثر الزائد على المتنجِّس وإن قلنا إن المتنجِّس لا يتنجّس ثانياً. فتحصل أنه إذا استنجى بشي‌ء من الأعيان النجسة أو المتنجِّسة لم يكف التمسّح بعد ذلك في تطهير المحل ووجب الاقتصار فيه على الماء ، لإطلاق الأدلّة الدالّة على وجوب الغسل فيما لاقى نجساً.

وأما إذا كان المحل يابساً أو أن العين لم تصبه أصلاً كما إذا أصابت الغائط فقط فالظاهر أن الأمر أيضاً كذلك وأن ما يتمسّح به لا بدّ أن يكون طاهراً ، وهذا يمكن الاستدلال عليه بوجوه :

الأوّل : الإجماع على عدم كفاية التمسح بالأجسام غير الطاهرة. وهذا يمكن المناقشة فيه بما أوردناه على دعوى الإجماع في سائر المقامات.

الثاني : الارتكاز المتشرعي ، لأنه يدل على أن النجس والمتنجِّس لا يكونان مطهرين في الشريعة المقدسة ، ويؤكده أنّا لا نعهد مطهراً من دون أن يكون محكوماً بالطهارة في نفسه ، وعلى ذلك فيعتبر في المطهر أن يكون طاهراً لا محالة.

الثالث : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « لا صلاة إلاّ بطهور ويجزئك من الاستنجاء ثلاثة أحجار ، بذلك جرت السنة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأما البول فإنّه لا بدّ من غسله » (١) وتقريب الاستدلال بها أن الطهور أعم من الطهارة الحدثية والخبثية بقرينة ذكر الاستنجاء من الغائط والبول نعم لو لا ذلك أمكن دعوى أن الطهور ظاهره الطهارة الحدثية فحسب ، والطهور على ما قدّمناه في أوائل الكتاب هو ما يكون طاهراً في نفسه ومطهراً لغيره ، وحيث إنه شرط في الصلاة فلا مناص من أن يكون المستعمل في كل من الطهارة الحدثية والخبثية طاهراً في نفسه ومطهراً لغيره ، لأنه لو لم يكن مطهراً لغيره أو لم يكن طاهراً في نفسه لم يصدق عليه الطهور ، ويترتب عليه بطلان الصلاة لأنها وقتئذ فاقدة لشرطها وهو الطهور ، فعلى ذلك يشترط الطهارة فيما يتمسح به حتى يصدق عليه‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣١٥ / أبواب أحكام الخلوة ب ٩ ح ١.

٣٧٤

ولا يشترط البكارة (١) فلا يجزئ النجس ، ويجزئ المتنجِّس بعد غسله ، ولو مسح بالنجس أو المتنجِّس لم يطهر بعد ذلك إلاّ بالماء (٢) إلاّ إذا لم يكن لاقى البشرة بل‌

______________________________________________________

الطهور ويصح الاكتفاء به في الصلاة ، وظني أن هذا أحسن استدلال على اعتبار الطهارة فيما يستنجى به فلاحظ.

(١) اختلفت كلماتهم في معنى البكارة فيما يستجمر به ، ففسّرها المحقِّق قدس‌سره في محكي معتبره بأن لا يكون ما يستجمر به مستعملاً في الاستنجاء بوصف كونه متنجِّساً ومستعملاً ، وأما لو طهر الموضع المتنجِّس فيه أو انكسر أو كسره جاز استعماله في الاستنجاء ثانياً (١). وهذا المعنى من البكارة يرجع إلى اشتراط الطهارة فيما يتمسح به وليس شرطاً على حدة ، وإن أمكن الفرق بينهما من بعض الجهات. وقد تكلّمنا في اشتراط الطهارة عن قريب.

وعن بعضهم أن البكارة بمعنى أن لا يستعمل في الاستجمار قبل ذلك ، فالمستعمل فيه لا يكفي في التمسّح به سواء غسل الموضع المتنجِّس منه أو كسر أم لم يغسل ولم يكسر.

وهذا المعنى من البكارة مضافاً إلى أنه مستبعد في نفسه يحتاج إلى دليل ، ولم يرد اعتبار البكارة في شي‌ء من رواياتنا سوى ما عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « جرت السنّة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار ويتبع بالماء » (٢) إلاّ أنها ضعيفة السند بالرفع والإرسال ، ودلالتها أيضاً لا تخلو عن مناقشة وذلك لأن إتباع الأحجار بالماء مستحب ، وهو قرينة على أن البكارة أيضاً مستحبة ولكن المهم هو ضعف السند فهذا المعنى من البكارة لم يقم عليه دليل.

(٢) كما تقدّم (٣).

__________________

(١) المعتبر ١ : ١٣٣.

(٢) الوسائل ١ : ٣٤٩ / أبواب أحكام الخلوة ب ٣٠ ح ٤.

(٣) في ص ٣٧٣.

٣٧٥

لاقى عين النجاسة. ويجب في الغسل بالماء إزالة العين والأثر بمعنى الأجزاء الصغار التي لا ترى (١) لا بمعنى اللّون والرائحة (٢) وفي المسح يكفي إزالة العين ولا يضر بقاء الأثر بالمعنى الأول أيضاً.

[٤٤٣] مسألة ١ : لا يجوز الاستنجاء بالمحترمات (٣)

______________________________________________________

(١) أراد بذلك بيان الفارق بين الغسل والمسح وحاصله : أن التمسّح يكتفى فيه بإزالة العين وإن لم يذهب أثرها ، وأما الغسل بالماء فقد اعتبروا فيه زوال العين والأثر وذلك لأن عنوان الغسل المعتبر بمقتضى الروايات الآمرة به متوقف على إزالة العين والأثر ، ولا يصدق عرفاً من غير زوالهما.

(٢) لأنهما من الأعراض ، وإزالة العرض غير معتبرة في حصول الطهارة شرعاً ولا سيما في بعض النجاسات كدم الحيض فان لونه قد لا يزول بالمبالغة في غسله ، ومن ثمة ورد في بعض الروايات السؤال عن عدم ذهاب لونه بغسله وأمروا عليهم‌السلام بصبغ ما أصابه بالمشق حتى يختلط ويذهب (١) فالمراد بالأثر ليس هو اللّون والرائحة ، بل المراد به ما لو باشرته باليد الرطبة لأحسست فيه لزوجة تلصق بيدك أو بدنك ، والوجه في اعتبار إزالته لدى الغسل أن اللزوجة عبارة عن الأجزاء الصغار من الغائط والدم وغيرهما من النجاسات وقد تقدم أن إزالة العين مقومة للغسل.

نعم ، لا تعتبر إزالة اللزوجة والأجزاء الصغار في التمسح والاستجمار ، وذلك لأن التمسح المعتبر في الاستنجاء وهو المسح على النحو المتعارف المعتاد غير مزيل للأجزاء الصغار بطبعه إلاّ بالمبالغة الكثيرة المؤدية إلى الحرج وإذهاب البشرة ، ومن هنا لو باشرت ما مسحت عنه الأجسام اللزجة التي منها الغائط بالخرقة أو اليد الرطبتين لرأيت فيه اللصوقة واللزوجة ، وهذه قرينة عقلية على أن الأخبار الواردة في الاستجمار لا تعتبر إزالة الأجزاء الصغار أيضاً.

(٣) ككتب الأخبار والقرآن والعياذ بالله والاستنجاء بها من المحرمات النفسية‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٣٩ / أبواب النجاسات ب ٢٥ ح ١ ، ٣.

٣٧٦

ولا بالعظم والروث (١) ولو استنجى بها عصى لكن يطهر المحل (٢) على الأقوى (*).

______________________________________________________

التكليفية لحرمة هتكها ، ومن هنا لو استنجى بها غفلة أو متعمداً طهر به المحل لإطلاق الأخبار الدالّة على كفاية التمسح وإذهاب الغائط في الاستنجاء وإن كان أمراً محرماً في نفسه ، هذا إذا لم يستلزم الاستنجاء بها الكفر والارتداد ، وأما لو بلغ تلك المرتبة ، كما إذا استنجى بالكتاب عامداً وقلنا إنه يستلزم الارتداد ، فلا معنى للبحث عن طهارة المحل بالاستنجاء لتبدل النجاسة العرضية بالذاتية للارتداد.

(١) الظاهر أن المسألة متسالم عليها عندهم ، ولم ينسب فيها الخلاف إلاّ إلى العلاّمة في التذكرة لتردده (٢) وصاحب الوسائل قدس‌سره حيث عقد باباً وعنونه بكراهة الاستنجاء بالعظم والروث (٣) ولم ينقل خلاف ممن تقدمهما ، بل ظاهر العلاّمة في بعض كتبه دعوى الإجماع على المنع (٤).

(٢) إن اعتمدنا في الحكم بحرمة الاستنجاء بهما إلى النصوص ، بدعوى أنها وإن كانت ضعيفة سنداً إلاّ أن ضعفها منجبر بعملهم ، فلا مناص من الالتزام بعدم حصول الطهارة حينئذ ، وذلك لأن عمدتها رواية ليث المرادي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن استنجاء الرجل بالعظم أو البعر أو العود؟ قال : أما العظم والروث فطعام الجن ، وذلك مما اشترطوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : لا يصلح بشي‌ء من ذلك » (٥) وظاهر قوله : « لا يصلح بشي‌ء من ذلك » نفي الجواز لأنه لم يكن يحتمل استحباب الاستنجاء بهما ليكون نفي الصلاحية نفياً لاستحبابه وقد مرّ غير مرة أن ظاهر النواهي الواردة في المعاملات بالمعنى الأعم عدم التحقّق‌

__________________

(*) في حصول الطهارة بالاستنجاء بالعظم أو الروث إشكال ، وأما حصولها بالاستنجاء بالمحترمات فهو مبني على عدم تبدل النجاسة العرضية بالنجاسة الذاتية الكفرية.

(١) لاحظ التذكرة ١ : ١٢٧.

(٢) الوسائل ١ : ٣٥٧ / أبواب أحكام الخلوة ب ٣٥.

(٣) المنتهي ١ : ٢٧٨.

(٤) الوسائل ١ : ٣٥٧ / أبواب أحكام الخلوة ب ٣٥ ح ١.

٣٧٧

[٤٤٤] مسألة ٢ : في الاستنجاء بالمسحات إذا بقيت الرطوبة في المحل يشكل الحكم بالطهارة (١) فليس حالها حال الأجزاء الصغار.

______________________________________________________

والوجود دون الحرمة التكليفية. إذن فنفي الجواز في هذه الرواية والنهي في غيرها يدلاّن على أن الطهارة لا تتحقق بالاستنجاء بالعظم والروث ، وأنهما غير صالحين لذلك ، لا أنه محرم تكليفي ، فالرواية مقيدة لإطلاق موثقة يونس المتقدِّمة في قوله : « ويذهب الغائط » حيث إن ظاهره كما تقدم حصول الطهارة بالتمسح بأي جسم قالع للنجاسة وموجبة لاختصاصها بغير العظم والروث.

وأما إذا اعتمدنا في المسألة على الإجماعات المنقولة البالغة حدّ الاستفاضة ، فلا بد من الالتزام بحرمة الاستنجاء بهما وضعاً وتكليفاً ، وذلك لاختلاف كلماتهم المحكية في المسألة ، حيث صرح بعضهم بأن الاستنجاء بهما وإن كان معصية إلاّ أنه يقتضي طهارة المحل ، وبهذا التزم الماتن قدس‌سره. وذهب آخر إلى أن الاستنجاء بهما غير مطهر بوجه وإن لم يكن معصية ، وبهذا نستكشف ثبوت أحد الأمرين في الشريعة المقدسة إما عدم جواز الاستنجاء بهما وضعاً وإن جاز تكليفاً ، وإما عدم الجواز تكليفاً وإن جاز وضعاً ، وبه يحصل العلم الإجمالي بإحدى الحرمتين ، فلا يبقى للتمسك بإطلاق الموثقة المتقدِّمة مجال ، لأن قوله عليه‌السلام « ويذهب الغائط » ظاهر في جواز الاستنجاء بهما من كلتا الجهتين ، والعلم الإجمالي بتقييدها من إحدى الناحيتين يمنع عن التمسك بإطلاقها ، وبهذا يشكل الحكم بجواز الاستنجاء بهما وضعاً وتكليفاً. بل مقتضى إطلاقات الأدلّة الدالّة على وجوب الغسل في المتنجسات عدم حصول الطهارة ووجوب الغسل بالماء ، لأن المتيقّن مما خرج عن إطلاقها إنما هو الاستنجاء بغير العظم والروث.

(١) لأن مقتضى إطلاقات الأدلّة أن المتنجسات لا بدّ من غسلها وأنها لا تطهر من دونه ، وقد خرجنا عن ذلك في مخرج الغائط لكفاية الاستجمار في تطهيره ، والمتيقن من ذلك ما إذا أُزيلت النجاسة بما لها من الشؤون والآثار ، إلاّ فيما قامت القرينة على عدم لزوم رفعه وإزالته كما في الأجزاء الصغار ، لما تقدم من أنها لا ترتفع بالتمسّح‌

٣٧٨

[٤٤٥] مسألة ٣ : في الاستنجاء بالمسحات يعتبر أن لا يكون فيما يمسح به رطوبة مسرية (١) فلا يجزئ مثل الطين والوصلة المرطوبة. نعم لا تضر النداوة التي لا تسري.

[٤٤٦] مسألة ٤ : إذا خرج مع الغائط نجاسة أُخرى كالدم ، أو وصل إلى المحل نجاسة من خارج يتعيّن الماء (٢).

______________________________________________________

المتعارف ، وأما رطوبة النجاسة فحيث إنها قابلة للزوال بالتمسح ولا قرينة على عدم لزوم إزالتها ، اعتبرت إزالتها بالتمسح كالعين.

(١) لأن الرطوبة بعد ما تنجست بملاقاة العذرة تنجس المحل ، ويأتي أن التمسح إنما يكفي في الطهارة إذا لم يتنجّس بغير الغائط من النجاسات والمتنجسات ، نعم لا تعتبر اليبوسة في الأحجار ، لأن كونها رطبة برطوبة غير مسرية لا يضر في الاستنجاء بها.

(٢) لأن الأخبار الواردة في المقام إنما دلت على جواز الاجتزاء بالمسح فيما إذا تنجس المحل بالغائط ، وأما إذا تنجس بغيره فيحتاج كفاية التمسح إلى دليل ولم يقم دليل على كفايته ، بل الدليل قد دلّ على عدمها ، وذلك لأن المحل إذا تنجس بغير الغائط من النجاسات الخارجية ترتبت عليه آثارها ، ومنها لزوم غسلها بالماء وعدم كفاية التمسح في إزالتها ، وهذا بناء على أن المحل يتنجّس بالنجاسة الخارجية أو بما خرج مع الغائط مما لا إشكال فيه.

وكذا إذا منعنا عن ذلك ، نظراً إلى أن المتنجِّس لا يتنجّس ثانياً ، وهذا لأن المحل وإن لم يتنجّس بالنجاسة الثانية حينئذ إلاّ أن المحل يتبدل حكمه بملاقاتها ، لأن للنجاسة الثانية أثراً زائداً أو مغايراً مع الأثر المترتب على النجاسة الأولية ، ومقتضى إطلاق أدلته لزوم ترتيب الأثر على المحل ، كما دلّ على وجوب التعدّد أو التعفير أو الغسل بالماء أو غير ذلك من الآثار ، مثلاً إذا أصاب البول جسماً متنجساً بالدم وجب غسله مرتين لإطلاق ما دلّ على لزوم التعدّد فيما تنجّس بالبول ، كما أن الإناء المتنجِّس إذا ولغ فيه الكلب وجب تعفيره لإطلاق ما دلّ على اعتبار التعفير في الولوغ وهكذا.

٣٧٩

ولو شك في ذلك يبنى على العدم فيتخيّر (١).

______________________________________________________

وعلى ذلك إذا أصاب المحل المتنجِّس بالغائط دم أو غيره وجب غسله بالماء لإطلاق ما دلّ على لزوم الغسل بالماء في إزالة الدم ونحوه وعدم كفاية التمسح في التطهير منه. وعلى الجملة إن النجاسة الثانية وإن لم تنجس المحل ثانياً ، إلاّ أن المحل يتبدل حكمه بملاقاتها وينقلب جواز المسح بوجوب الغسل.

(١) للشك في ذلك صورتان :

إحداهما : أن يشك في تنجس المحل قبل خروج الغائط مع القطع بعدم طروء النجاسة عليه بعد الخروج ، ولا مانع في هذه الصورة من استصحاب عدم وصول النجاسة إلى المحل قبل الخروج ، فان مقتضاه الحكم بطهارة المحل إلى حين الخروج وعدم تنجسه إلاّ بالغائط ، أما تنجسه وملاقاته للغائط فبالوجدان وأما عدم تنجسه بغيره فبالاستصحاب ، فبضم الوجدان إلى الأصل يثبت أن المحل متنجس بملاقاة الغائط فحسب ولم تصبه نجاسة أُخرى غيره ، ومعه يتخيّر في تطهيره بين الغسل والمسح.

ودعوى أن المرجع بناء على أن المتنجِّس لا يتنجّس ثانياً هو استصحاب نجاسة المحل بعد الاستجمار ، لأن النجاسة الحاصلة إن كانت مستندة إلى الغائط فقد ارتفعت قطعاً ، وإن كانت مستندة إلى غيره فهي باقية جزماً لعدم ارتفاعها بالمسح فالحادث مردد بين الطويل والقصير وما هو مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، ومعه يرجع إلى استصحاب كلي النجاسة الجامع بين القصير والطويل ، للعلم بتحققها والشك في بقائها وارتفاعها بالمسح ، وهو من القسم الثاني من استصحاب الكلي حينئذ.

مندفعة بأن الاستصحاب إنما يجري في الكلي الجامع فيما إذا تردد الفرد الحادث بين الطويل والقصير ، ولم يكن هناك أصل آخر معيّن لحاله ، كما إذا خرج من المكلف بعد الوضوء مائع مردد بين البول والمني ، وذلك لأن استصحاب عدم حدوث الجنابة حينئذ معارض باستصحاب عدم خروج البول منه ، ومعه يتساقطان ويرجع إلى‌

٣٨٠