موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

لا يبعد العمل بالظن (١) ولو ترددت بين جهتين متقابلتين اختار الأُخريين ، ولو تردد بين المتصلتين فكالترديد بين الأربع ، التكليف ساقط فيتخيّر بين الجهات.

[٤٣٥] مسألة ١٥ : الأحوط ترك إقعاد الطفل للتخلِّي على وجه يكون مستقبلاً أو مستدبراً (٢) ولا يجب منع الصبي والمجنون إذا استقبلا أو استدبرا عند‌

______________________________________________________

(١) إذا ظن بالقبلة في جهة فهل يحرم التخلي إلى تلك الجهة ، أو أن الظن كالشك ولا يمكن الاعتماد عليه فلا محالة يتخيّر بينها وبين سائر الجهات؟

الصحيح أن الظن حجّة في باب القبلة مطلقاً ، وذلك لإطلاق صحيحة زرارة قال : « قال أبو جعفر : يجزئ التحرِّي أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة » (١) لدلالتها على كفاية الأخذ في باب القبلة بما هو أحرى وأرجح في نظر المكلف ، ولا إشعار فيها باختصاص ذلك بباب الصلاة ، بل مقتضى إطلاقها حجية الظن في تعيين القبلة بالإضافة إلى الأحكام المترتبة عليها ، وجوبية كانت كما في الصلاة والدفن ونحوهما أم تحريمية كما في التخلي ، أم شرطاً كما في الذبح ، وهذا من الموارد التي أثبتنا حجية الظن فيها بالخصوص.

(٢) قد يستفاد من الدليل المتكفل لبيان حرمة الشي‌ء أو من الخارج أن ذلك الشي‌ء مبغوض مطلقاً ، وأن المولى لا يرضى بصدوره ولو من غير المكلفين كما في الخمر واللّواط والزِّنا وقتل النفس وأمثالها مما علمنا أن الشارع لا يرضى بصدورها ولو من الصبي ، وفي مثل ذلك يحرم إيجاده وإصداره بالصبي بالاختيار ، لأنه إيجاد للمبغوض شرعاً.

وقد لا يستفاد من نفس الدليل ولا من الخارج إلاّ حرمة الشي‌ء على المكلفين ، ولا مانع في مثله من إصداره بغير المكلفين ، لعدم كونه مبغوضاً من مثله ، والأمر في المقام كذلك ، لأن غاية ما ثبت بالإجماع والروايات إنما هي حرمة استقبال القبلة واستدبارها من المكلفين ، لأن الخطاب مختص بهم كما في بعضها : « إذا دخلت‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٠٧ / أبواب القبلة ب ٦ ح ١.

٣٤١

التخلِّي (١) ويجب ردع البالغ العاقل العالم بالحكم والموضوع من باب النهي عن المنكر ، كما أنه يجب إرشاده إن كان من جهة جهله بالحكم ، ولا يجب ردعه إن كان من جهة الجهل بالموضوع (٢).

______________________________________________________

المخرج ... » (١) أو « لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها » (٢) فلا يكون استقبالها واستدبارها مبغوضاً من غير البالغين ، ومعه لا مانع من إقعاد الطفل إليها للتخلِّي ، هذا ولو شككنا في ذلك ولم نعلم أن المنهي عنه مبغوض مطلقاً أو مبغوض من المكلفين ، أيضاً لا مانع من إقعاد الطفل إليها لأصالة البراءة عن حرمته.

(١) كما يظهر وجهه مما يأتي في التعليقة الآتية.

(٢) المتخلي مستقبل القبلة أو مستدبراً لها قد يكون عالماً بالحكم وموضوعه وقد لا يكون ، وغير العالم قد يكون ناسياً وغافلاً وقد يكون جاهلاً بالحكم أو موضوعه.

أما العالم بالحكم وموضوعه فلا إشكال في وجوب ردعه ، لوجوب النهي عن المنكر وحرمة العمل في حقه.

وأما غير العالم ، فقد يكون جهله رافعاً للحرمة الواقعية عنه كما في الناسي والغافل ، ولا يجب الردع في مثله لأنّ ما يصدر منهما عمل محلل حقيقة وغير مبغوض في حقهما ، وقد يكون جهله مسوغاً للعمل في مرحلة الظاهر فحسب ولا يتصف بالحلية الواقعية لأجله ، بل هو باق على مبغوضيته وحرمته كما هو الحال في موارد الجهل بالموضوع إذا ارتكب العمل اعتماداً على أصل أو أمارة ، نظير ما إذا ظن بالقبلة في جهة معينة أو قامت الأمارة على ذلك وبال المكلف إلى غيرها وصادف القبلة واقعاً لخطأ الأمارة أو الظن ، والردع في هذه الصورة أيضاً غير واجب ، وهذا لا لأن العمل مباح واقعاً ، بل لأنه مرخص في الارتكاب ، ومع الترخيص المولوي ولو في مرحلة الظاهر لا يبقى مجال للردع عنه ، وهذا هو الحال في جميع الشبهات الموضوعية إذا اعتمد فيها على أصل أو أمارة معتبرة ولم يصادفا الواقع إلاّ في موارد علمنا فيها باهتمام‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ١ : ٣٠٢ / أبواب أحكام الخلوة ب ٢ ح ٥ ، ٦.

٣٤٢

ولو سأل عن القبلة فالظاهر عدم وجوب البيان (١) نعم لا يجوز إيقاعه في خلاف الواقع (٢).

[٤٣٦] مسألة ١٦ : يتحقق ترك الاستقبال والاستدبار بمجرد الميل إلى أحد الطرفين ولا يجب التشريق أو التغريب وإن كان أحوط (٣).

______________________________________________________

الشارع وعدم رضائه بصدورها ولو من غير المكلّفين ، وذلك كما في النفوس والأعراض والأموال الخطيرة ، فإذا أراد تزويج امرأة وعلمنا أنها أُخته ، أو أراد قتل شخص باعتقاد أنه سبع أو كافر وعلمنا أنه مؤمن محرم القتل ، وجب ردعه عن عمله وإن كان مستنداً في عمله ذلك إلى حجة معتبرة.

وأما لو كان المكلف جاهلاً بالحكم ولم يكن جهله رافعاً للحرمة الواقعية كما في موارد الغفلة والنسيان فيجب إرشاده من باب وجوب البيان وتبليغ الأحكام الشرعية وحفظها عن الانطماس والاندراس.

(١) لأنه من السؤال عن الموضوع الخارجي ولا يجب فيه البيان. نعم لو سأل عن حكمها لوجب الجواب والبيان ، لوجوب تبليغ الأحكام وإرشاد الجهال.

(٢) كما لو عيّن القبلة في غير جهتها ليبول إلى جهة القبلة ، نظير ما إذا قدّم طعاماً نجساً للجاهل ليأكله ، وقد ذكرنا في بحث المياه أن الشارع إذا نهى المكلف عن عمل دلّنا ذلك بحسب الارتكاز على أن مبغوض الشارع مطلق الوجود ، بلا فرق في ذلك بين إيجاده بالمباشرة وإيجاده بالتسبيب ، فإيجاد البول إلى القبلة بالتسبيب كاصداره بالمباشرة حرام.

(٣) أما إذا كان المدرك هو التسالم والإجماع ، فلأنه لا إجماع ولا تسالم على حرمة التخلي منحرفاً عن القبلة إلى الشرق أو الغرب ، لاختصاصهما بالتخلي إلى القبلة فحسب. وأما إذا كان المدرك هو الروايات ، فلأنها إنما دلت على حرمة استقبال القبلة واستدبارها ، ولا دلالة لها على وجوب التشريق أو التغريب. وما ورد في بعض النصوص من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « ولكن شرّقوا أو غرّبوا » (١) غير صالح‌

__________________

(١) وهو رواية عيسى بن عبد الله الهاشمي عن أبيه عن جده المروية في الوسائل ١ : ٣٠٢

٣٤٣

[٤٣٧] مسألة ١٧ : الأحوط في من يتواتر بوله أو غائطه مراعاة ترك الاستقبال والاستدبار بقدر الإمكان ، وإن كان الأقوى عدم الوجوب (١).

______________________________________________________

للاستدلال به على وجوبهما ، وذلك لضعفها بعيسى بن عبد الله وغيره ، ولعدم دلالته على وجوبهما بالمعنى المقصود في المقام أعني مواجهة المشرق أو المغرب لأنهما بمعنى الميل إليهما والانحراف عن القبلة ، وبهذا المعنى يستعملان اليوم في عرفنا ، فيتحققان في أمثال بلادنا بالميل إلى طرفي الشرق أو الغرب.

(١) والوجه في ذلك ، أما بناء على أن مدركهما الإجماع والتسالم ، فلأن المقدار المتيقن منهما حرمة الاستقبال والاستدبار في البول والغائط المعتادين ، وقيامهما على حرمتهما في من تواتر بوله أو غائطه غير معلوم.

وأما بناء على أن المدرك هو الأخبار ، فلأن ما يصدر من المتخلي مستقبل القبلة أو مستدبراً لها ، أمران أحدهما : الاستقبال واستدبار القبلة. وثانيهما : التبوّل والتغوّط فان كان المحرّم في حقه هو استقبال القبلة واستدبارها حال التخلي ، فمن تواتر بوله أو غائطه مشمول للأخبار الناهية عنهما ، لأن مركز الحرمة أمر اختياري له وهو استقباله واستدباره ، وإن كان البول والغائط خارجين عن تحت قدرته.

وأما لو كان المحرم على المتخلي هو التبوّل والتغوّط مستقبل القبلة أو مستدبراً لها كما هو مدلول النصوص فالأخبار لا تشمل المقام ، ولا يحرم على من تواتر بوله أو غائطه استقبال القبلة واستدبارها ، لأن الأفعال الصادرة عن المكلفين إنما تتصف بالحرمة أو غيرها إذا كانت اختيارية لفاعلها ، والتبوّل والتغوّط إنما يصدران عمن تواتر بوله أو غائطه لا بالاختيار ، فلا يتصفان بالحرمة في حقه ، فما أفاده الماتن قدس‌سره هو الصحيح ، ومع ذلك فالأحوط ترك الاستقبال والاستدبار بقدر الإمكان ، وفي غير ذلك لا يحرم للقطع بعدم حرمتهما في حقه زائداً على إمكانه ووسعه ، وإلاّ لاستلزم العسر والحرج المنفيين في الشريعة المقدّسة.

__________________

/ أبواب أحكام الخلوة ب ٢ ح ٥.

٣٤٤

[٤٣٨] مسألة ١٨ : عند اشتباه القبلة بين الأربع لا يجوز أن يدور ببوله (١) إلى جميع الأطراف. نعم إذا اختار في مرّة أحدها لا يجب عليه الاستمرار عليه بعدها (٢) بل له أن يختار في كل مرة جهة أُخرى إلى تمام الأربع ، وإن كان الأحوط ترك (*) ما يوجب القطع بأحد الأمرين ولو تدريجاً ، خصوصاً إذا كان قاصداً ذلك من الأوّل ، بل لا يترك في هذه الصورة.

______________________________________________________

(١) لاستلزامه المخالفة القطعية مع اتحاد الواقعة ، وقد تقدم أن الموافقة القطعية في أطراف العلم الإجمالي واجبة كما أن المخالفة القطعية فيها محرمة فيما إذا أمكنتا ، وحيث لا يمكن الموافقة القطعية في المقام لاضطرار المكلف إلى التخلي مستقبلاً أو مستدبراً لبعض الجهات ، سقط العلم الإجمالي عن التنجيز بالإضافة إلى وجوب الموافقة ، إلاّ أنه بالإضافة إلى حرمة المخالفة القطعية باق على تنجيزه لإمكانها ، وقد مرّ أن الاضطرار إلى ارتكاب أحد أطراف الشبهة لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز. نعم إذا تمكن من الانتظار إلى أن يظهر الحال ، لكان العلم منجزاً بالإضافة إلى وجوب الموافقة القطعية أيضاً.

(٢) بأن كانت الواقعة متعددة ، كما إذا حبس مدة في مكان واضطر فيه إلى البول متعدداً ، وكون التخيير استمرارياً حينئذ وعدم وجوب اختيار الطرف الذي قد اختاره في المرة الأُولى كما ذهب إليه الماتن قدس‌سره مبني على عدم تنجيز العلم الإجمالي في الأُمور التدريجية ، وقد ذكرنا في محله أن التدريجي كالدفعي والعلم الإجمالي منجز في كليهما ، وذلك لأن للمكلف علوماً إجمالية عند العلم بحرمة البول إلى إحدى الجهات ، وذلك لأنه إذا بال إلى جهة علم أن البول إلى تلك الجهة أو إلى الجهة الأُخرى محرم ، وهكذا الحال في المرة الثانية والثالثة وهكذا ، ومقتضى ذلك تنجز التكليف بالإضافة إلى الموافقة والمخالفة القطعيتين ، نعم الموافقة القطعية ساقطة عن الوجوب لعدم كونها ممكنة في حقه للاضطرار ، ولكن المخالفة القطعية باقية على‌

__________________

(*) بل الأقوى ذلك.

٣٤٥

[٤٣٩] مسألة ١٩ : إذا علم ببقاء شي‌ء من البول في المجرى يخرج بالاستبراء ،

______________________________________________________

حرمتها لكونها ميسورة له ، وقد تقدم أن الاضطرار إلى أحد أطراف الشبهة لا يوجب سقوط العلم عن التنجيز بالإضافة إلى حرمة المخالفة القطعية ، بلا فرق في ذلك بين أن يكون المكلف قاصداً للوصول إلى الحرام من الابتداء وعدمه ، وإن كان القصد إليه أشنع ، فعلى ذلك لا يكون التخيير استمرارياً وإنما هو بدوي ، هذا.

وقد يقال : إن التخيير استمراري في المقام ، وله أن يختار في كل مرة جهة غير الجهة التي اختارها أوّلاً ، بدعوى أنه إذا بال إلى جميع الجهات وإن حصل له العلم بالمخالفة القطعية ، إلاّ أنه يعلم حصول الموافقة القطعية أيضاً ، لعلمه بأنه بال إلى غير القبلة في بعض الجهات ، لأن الجوانب ليست قبلة بأجمعها ، وأما إذا اقتصر على ما اختاره أوّلاً فهو لم يرتكب المخالفة القطعية بالوجدان ، إلاّ أنه لم يحصل العلم بالموافقة القطعية أيضاً ، لاحتمال أن تكون القبلة هي الجهة التي قد اختارها للتخلي ، فالموافقة والمخالفة احتماليتان ، والأمر يدور بين المخالفة القطعية المستلزمة للموافقة القطعية ، وبين الموافقة الاحتمالية المستلزمة للمخالفة الاحتمالية ، وهما سيان عقلاً ولا ترجيح لأحدهما على الآخر ، هذا.

ولا يمكن المساعدة على ذلك ، لأن المخالفة الاحتمالية المقرونة بالموافقة كذلك لا يمكن مقايستها بالمخالفة القطعية المستتبعة للعلم بالموافقة القطعية ، لما بيّناه في المباحث الأُصولية من أن المخالفة الاحتمالية بالترخيص في بعض الأطراف أمر ممكن لا قباحة فيه ، وإنما لم نلتزم بجوازها لقصور أدلة اعتبار الأُصول العملية وعدم شمولها للأطراف ، إذ شمولها لبعضها المعيّن لا مرجح له وشمولها للجميع يستلزم الترخيص في المعصية ، وشمولها لبعضها غير المعيّن لا معنى محصل له ، وهذا بخلاف المخالفة القطعية ، لأن الترخيص فيها قبيح وإن كانت مستتبعة للعلم بالموافقة القطعية. وعلى الجملة ، العقل لا يرخص في المخالفة القطعية تحصيلاً للعلم بالموافقة القطعية (١).

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٣٤٨ ، ٣٥١.

٣٤٦

فالاحتياط بترك الاستقبال أو الاستدبار في حاله أشد (١).

[٤٤٠] مسألة ٢٠ : يحرم التخلِّي في ملك الغير من غير إذنه حتى الوقف الخاص (٢) ، بل في الطريق غير النافذ بدون إذن أربابه (٣) وكذا يحرم على قبور‌

______________________________________________________

(١) تعرّض قدس‌سره في المسألة الرابعة عشرة (١) لحكم الاستبراء مستقبل القبلة أو مستدبرها ، وجعل تركهما أحوط ، وجعل الأحوط في المقام أشد ، وذلك لفرض علم المكلف بخروج البول بالاستبراء ، وقد قدّمنا جوازه مستقبل القبلة ومستدبرها ، لأن المتيقن من التسالم والإجماع غير ذلك ، وليست الحرمة في الأدلّة اللفظية مترتبة على مجرد خروج البول من مخرجه ، وإنما هي مترتبة على عدم جواز البول مستقبل القبلة ومستدبرها ، ومن البديهي أن الاستبراء ولو خرج به البول لا يسمّى بولاً عرفاً ولا يصدق معه أنه يبول ، بل يقال إنه يستبرئ.

(٢) لحرمة التصرّف في ملك الغير من غير إذنه ورضاه ، ونظيره الوقف الخاص ، لأن التخلِّي فيه من دون رضا الموقوف عليه تصرّف في الوقف على غير ما أوقفه أهله.

(٣) حرمة التخلي في الطريق غير النافذ تبتني على أحد أمرين :

أحدهما : القول بأن الطرق غير النافذة مختصة كانت أم مشتركة ملك لأربابها بالحيازة ، ومن ثمة جاز لهم أن يجعلوا لها الباب وجاز منع غيرهم من التصرّف فيها بأنحائه ، وهذا كله للسيرة الجارية عليه ، ومعه لا يجوز التصرف فيها إلاّ بإذن أربابها كما هو الحال في الأملاك والوقوف.

ثانيهما : أن التصرف فيها بالتخلي أو غيره بناء على عدم كونها ملكاً لأربابها إنما يسوغ إذا لم يكن مزاحماً لاستطراق أربابها ، وأما إذا زاحمه ولو بتلوث أبدانهم وأثوابهم ولو في استطراقهم ليلاً فلا مجوز لمنعهم ومزاحمتهم بالتخلي أو غيره ، كما هو الحال في الطرق النافذة ، لأن التخلي وغيره من التصرفات إنما يجوز إذا لم يزاحم‌

__________________

(١) في ص ٣٣٧.

٣٤٧

المؤمنين إذا كان هتكاً لهم (١).

[٤٤١] مسألة ٢١ : المراد بمقاديم البدن : الصدر والبطن والركبتان (٢).

______________________________________________________

المارّة بوجه.

(١) لحرمة هتك المؤمن حيّاً وميِّتاً.

(٢) اعتبر في باب الصلاة مضافاً إلى استقبال القبلة بالصدر والبطن والركبتين استقبال القبلة بالوجه ، ولا يعتبر هذا في المقام ، للفرق بين استقبال القبلة في الصلاة وبين استقبالها فيما نحن فيه ، والفارق هو الدليل ، لأنه دلّ على اعتبار استقبال القبلة بالوجه في الصلاة كما في قوله عزّ من قائل ( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (١) وقد ورد النهي عن الالتفات يميناً وشمالاً في الصلاة (٢) ، وفي بعض الأخبار : « أُمروا أن يقيموا وجوههم شطره » (٣) وبالجملة الدليل الخارجي قام على اعتبار ذلك في باب الصلاة. ولم يقم أي دليل على اعتباره في المقام ، لأن المناط في حرمة التخلي إنما هو صدق استقبال القبلة بالبول والغائط ، ولا ينبغي التردد في عدم توقف ذلك أي صدق استقبال القبلة على الاستقبال بالوجه ، نعم يعتبر في المقام الاستقبال بالصدر لعدم صدقه لولاه ، وكذلك الاستقبال بالبطن لعدم انفكاكه عن الاستقبال بالصدر.

وأما الركبتان ، فقد ذكرنا في بحث الصلاة أن الاستقبال بهما غير معتبر في الصلاة فضلاً عن غيرها ، وذلك لصحة الصلاة متربعاً مع أن الركبتين تستقبلان الشرق والغرب. وفي الصلاة قائماً وإن كانتا واقعتين نحو القبلة ، إلاّ أنه غير معتبر في استقبال الصلاة ، هذا كله في باب الصلاة (٤).

وكذلك الحال في المقام ، لصدق استقبال القبلة فيما إذا قعد للتخلي على النحو‌

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٤٤ ، ١٥٠.

(٢) ، (٣) الوسائل ٤ : ٢٩٧ / أبواب القبلة ب ١ ح ٦ ، ٥.

(٤) في المسألة [١٢٤٦].

٣٤٨

[٤٤٢] مسألة ٢٢ : لا يجوز التخلي في مثل المدارس (١) التي لا يعلم كيفية وقفها من اختصاصها بالطلاّب أو بخصوص الساكنين منهم فيها أو من هذه الجهة‌

______________________________________________________

المتعارف بأن استقبل القبلة بصدره وبطنه ورفع رجليه أمامه فان الركبتين حينئذ إلى السماء مع صدق الاستقبال عليه ، وكذا الحال فيما إذا قعد للتخلِّي متربعاً إذ يصدق عليه الاستقبال عرفاً ، مع أن الركبتين إلى الشرق والغرب. على أن العادة جرت على عدم الاستقبال بهما في التخلِّي ، لما عرفت من عدم استقبال القبلة بالركبتين في التخلي على الوجه المتعارف ، اللهمّ إلاّ بمشقة خارجة عما هو المتعارف المعتاد.

(١) إذا ثبت أن المدرسة مثلاً وقفت لطائفة معينة أو لساكنيها أو لغيرهم بالبينة أو برؤية ورقة الوقف ونحوهما ، فهي من الوقوف الخاصة وقد تقدّم (١) أن التصرف فيها محرم ولا نعيد ، كما أنه إذا ثبت أنها من الوقوف العامة جاز فيها التخلِّي وغيره من التصرفات.

وإنما الكلام فيما إذا لم يثبت شي‌ء من ذلك ، والأقوى حرمة التصرف حينئذ ، لأن التصرف في الوقوف إنما يجوز إذا جعلها الواقف عامة بالنسبة إلى المتصرف فيها فالشك في جواز التصرف وعدمه ينشأ عن الشك في كيفية جعل الواقف وأنه جعل وقفه عاما أو خاصاً ، ومقتضى أصالة عدم جعله عاما بالنسبة إلى المتصرف حرمة التصرف فيه.

وبعبارة اخرى : المدرسة قد خرجت عن سلطنة الواقف جزماً ، وإنما الشك في أنها هل خرجت عن ملكه بجعلها وقفاً عامّاً يشمل المتخلِّي ، أو بجعلها وقفاً مختصاً لطائفة لا يشمل المتصرف فيه ، والأصل عدم جعلها وقفاً عامّاً بالإضافة إليه ، ولا يعارض ذلك أصالة عدم جعلها وقفاً خاصاً ، لأنها وإن كانت تامة الأركان في نفسها إلاّ أن الأثر لم يترتّب على عدم جعل الوقف خاصّاً ، وإنما يترتّب على جعلها وقفاً عاما ، لأن جواز التصرّف في المال يتوقّف على إذن المالك أو كون المتصرف مالكاً له ، والإذن‌

__________________

(١) في ص ٣٤٧.

٣٤٩

أعم من الطلاّب وغيرهم ، ويكفي إذن المتولي (١) إذا لم يعلم كونه على خلاف الواقع ، والظاهر كفاية جريان العادة (٢) أيضاً بذلك ، وكذا الحال في غير التخلي من التصرفات الأُخر.

فصل في الاستنجاء‌

يجب غسل مخرج البول بالماء (٣)

______________________________________________________

مفروض العدم ، والمالكية بمعنى نفوذ التصرفات وجوازها إنما يثبت إذا كان الوقف عامّاً شاملاً للمتخلِّي ، فعدم كونه وقفاً خاصاً لا أثر شرعي له ، واستصحابه لإثبات عموم وقفها من الأُصول المثبتة.

(١) لحجية قول ذي اليد ما لم يعلم مخالفته للواقع.

(٢) كما إذا جرت العادة على التصرّف في الوقف يداً بيد من دون مخالف ونكير وذلك لأن يدهم يد عامة نوعية وهي كاليد الشخصية في الاعتبار ، وهذا هو الحال في الخانات الشاه عباسية الموجودة في بعض الطرق ، فان المسافرين يدخلونها للتخلي ولسائر التصرّفات ولا ينكر ذلك في زمان ، وبه يستكشف أن الوقف عام.

فصل في الاستنجاء‌

(٣) الكلام في ذلك يقع من جهات :

الجهة الأُولى : وجوب غسل المخرج بالماء. وقد تكلمنا في كبرى ذلك في مباحث المياه ، وقلنا إن المتنجِّس لا يطهر إلاّ بالغسل ولا يكفي فيه المسح والدلك ، كما أن الغسل لا بدّ أن يكون بالماء ولا يكفي الغسل بالمضاف أو بغيره من المائعات وإنما الكلام في المقام في مخرج البول بخصوصه ، وأنه كمخرج الغائط يطهر بالتمسّح أو أنه كسائر المتنجسات التي لا تطهر إلاّ بالغسل بالماء؟ يظهر من عدة روايات كفاية التمسّح في مخرج البول.

٣٥٠

منها : رواية سماعة « قلت لأبي الحسن موسى عليه‌السلام إني أبول ثم أتمسح بالأحجار فيجي‌ء مني البلل ما يفسد سراويلي ، قال : ليس به بأس » (١).

ومنها موثقة حنان بن سدير قال : « سمعت رجلاً سأل أبا عبد الله عليه‌السلام فقال : إني ربما بلت فلا أقدر على الماء ويشتد ذلك عليَّ ، فقال : إذا بلت وتمسحت فامسح ذكرك بريقك ، فان وجدت شيئاً فقل هذا من ذاك » (٢).

ومنها : خبر عبد الله بن بكير قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يبول ولا يكون عنده الماء فيمسح ذكره بالحائط ، قال : كل شي‌ء يابس زكي » (٣).

هذا والصحيح عدم كفاية التمسح في تطهيره ، وذلك لأن أقصى ما يستفاد من الروايتين الأوليين عدم تنجيس المتنجِّس ، وأن الذكر المتنجِّس بالبول لا ينجس الريق أو البلل الخارج منه ، كما أنهما لا ينجسان السراويل وغيره من ملاقياتهما ، فلا دلالة لهما على طهارة مخرج البول بالتمسح.

مضافاً إلى أن الرواية الأُولى ضعيفة السند بحكيم بن مسكين والهيثم بن أبي مسروق لعدم توثيقهما. على أنهما معارضتان في موردهما بصحيحة عيص بن القاسم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر ... قال : يغسل ذكره وفخذيه ... » (٤) لدلالتها على عدم طهارة الذّكر بالمسح وتنجيس المتنجِّس ، ومن هنا أمر بغسل فخذيه لملاقاتهما مع المتنجِّس وهو الذّكر.

وأمّا رواية ابن بكير فهي مضافاً إلى ضعف سندها بمحمد بن خالد ، قاصرة الدلالة على المدعى ، لأنها ظاهرة في أن مخرج البول بعد ما يبس لا ينجس ما لاقاه لا أنه يطهر بيبوسته ، فان مجرد اليبوسة لو كان كافياً في تطهير المتنجِّس لم يحتج في تطهير الفرش والثياب والبدن وغيرها إلى الغسل ، مع وضوح عدم طهارتها إلاّ‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ١ : ٢٨٣ / أبواب نواقض الوضوء ب ١٣ ح ٤ ، ٧.

(٣) ، (٤) الوسائل ١ : ٣٥١ / أبواب أحكام الخلوة ب ٣١ ح ٥ ، ٢.

٣٥١

مرّتين (*) (١)

______________________________________________________

بالغسل بالماء ، فالعموم في قوله : « كل شي‌ء ... » بمعنى أن كل يابس لا تسري نجاسته لما لاقاه لا أنه يطهر باليبوسة ، هذا.

مضافاً إلى صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال « لا صلاة إلاّ بطهور ويجزئك من الاستنجاء ثلاثة أحجار ، بذلك جرت السنّة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأما البول فإنّه لا بدّ من غسله » (٢) ورواية بريد بن معاوية عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال « يجزئ من الغائط المسح بالأحجار ولا يجزئ من البول إلاّ الماء » (٣).

فالمتحصل : أن مخرج البول كسائر المتنجسات لا يطهر إلاّ بالغسل بالماء ، هذا كلّه في الجهة الأُولى.

(١) هذه هي الجهة الثانية من الجهات التي يتكلم عنها في المقام ، ويقع فيها الكلام في أن الغسل مرة واحدة هل يكفي في تطهير مخرج البول أو يعتبر فيه التعدّد؟

قد يقال بكفاية الغسل مرة ويستدل عليها بجملة من الأخبار :

منها : موثقة يونس بن يعقوب قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الوضوء الذي افترضه الله على العباد لمن جاء من الغائط أو بال؟ قال : يغسل ذكره ويذهب الغائط ثم يتوضّأ مرّتين مرّتين » (٤) لأنه عليه‌السلام على ما هو ظاهر الموثقة بصدد بيان ما هو المعتبر في الاستنجاء ، ومع ذلك ترك التقييد بمرتين ، فظهورها في كفاية المرّة قوي غايته. ويزيدها ظهوراً أنه عليه‌السلام قيّد الوضوء بمرتين ، فان التعرض للتعدّد في الوضوء مع استحبابه دون المقام ، أظهر في الدلالة على عدم اعتبار التعدّد في مخرج البول.

__________________

(*) على الأحوط في الماء القليل في الموضع الطبيعي.

(١) ، (٢) ، (٣) الوسائل ١ : ٣١٥ / أبواب أحكام الخلوة ب ٩ ح ١ ، ٦ ، ٥.

٣٥٢

ويرد على هذا الاستدلال أن الموثقة إنما وردت لبيان ما هو المعتبر في الوضوء وذلك بقرينة السؤال لأن السائل إنما سأله عن الوضوء الذي افترضه الله على العباد وليست بصدد بيان ما يجب في تطهير مخرج البول ، فلو دلّت الموثقة فإنّما تدل على اشتراط الاستنجاء في صحّة الوضوء ، كما يأتي عند التعرّض لتلك المسألة.

اللهمّ إلاّ أن يقال إن السؤال فيها وإن كان عن الوضوء إلاّ أنه عليه‌السلام تصدّى لبيان ما يعتبر في الوضوء ، وما هو مقدمة له من غسل الذّكر وتطهير موضع الغائط أيضاً تفضّلاً ، إذن الموثقة مطلقة والجواب عنها على ذلك يأتي في الجواب عن رواية نشيط فانتظره.

ومنها : حسنة ابن المغيرة عن أبي الحسن عليه‌السلام قال « قلت له : للاستنجاء حد؟ قال : لا ، ينقي ما ثمة ... » (١) لأنها تقتضي بإطلاقها كفاية مجرّد النقاء في الاستنجاء ، سواء أكان بالغسل بالماء أم بغيره ، وعلى تقدير الغسل بالماء غسل مرّة أو مرّتين.

وفيه : أن الاستنجاء لغة بمعنى إنقاء موضع الغائط بالغسل أو المسح ، لأنه من النجو فلا يشمل موضع البول بوجه ، وإن كان في كلمات الفقهاء قدس‌سرهم يستعمل بالمعنى الأعم. على أنه لو كان شاملاً لغسل موضع البول في نفسه ففي الرواية قرينة على عدم إرادة المعنى الأعم ، وذلك لما ورد في ذيله من قوله : « قلت ينقي ما ثمة ويبقى الريح؟ قال : الريح لا ينظر إليه » ومن الظاهر أن الريح يختص بالغائط ، فالمراد بالاستنجاء في الحسنة هو إنقاء موضع الغائط فحسب.

ومنها : صحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا انقطعت درّة البول فصبّ الماء » (٢) لأن قوله : « صبّ الماء » بإطلاقه يقتضي جواز الاقتصار بالصب مرّة واحدة.

ويندفع بأن الصحيحة بصدد بيان أن الاستبراء من البول غير معتبر في طهارة‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٢٢ / أبواب أحكام الخلوة ب ١٣ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ٣٤٩ / أبواب أحكام الخلوة ب ٣١ ح ١.

٣٥٣

المحل بالغسل ، بل إذا صبّ الماء عليه بعد انقطاع الدرة طهر ، وليست ناظرة إلى بيان عدم اعتبار التعدّد في تطهير مخرج البول.

ومنها : رواية نشيط عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته كم يجزئ من الماء في الاستنجاء من البول؟ فقال : مثلا ما على الحشفة من البلل » (١) وهذه الرواية هي العمدة في المقام ، لاشتمالها على السؤال عن كم الماء ومقداره اللاّزم في غسل مخرج البول ، وقد دلت على أن كمه مثلا ما على الحشفة ، وتقريب دلالتها على المدعى : أن مثلي البلل الموجود على رأس الحشفة إما أن يصبا عليها دفعة واحدة أو دفعتين لا سبيل إلى إرادة الثاني بوجه ، لأن مثل البلل إذا صبّ على المحل خرج عن كونه ماء مطلقاً لامتزاجه بالبول المساوي معه بحسب الكم ، ومن الظاهر أن المضاف لا يكفي في تطهير المتنجِّس ، فارادة الشق الأوّل هي المتعينة.

والجواب عن هذه الرواية أنها ضعيفة السند بهيثم بن أبي مسروق ، بل يمكن المناقشة في سندها بغير ذلك أيضاً فليراجع.

ثم لو أغمضنا عن ذلك وبنينا على صحّة سندها لكون الرواية مورداً لاعتمادهم قدس‌سرهم حيث أدرجوا عباراتها في كتبهم وفتاواهم وقالوا : يجزئ في الاستنجاء من البول مثلا ما على الحشفة ، فهي قابلة للمناقشة في دلالتها ، وذلك لأن أقصى ما هناك أن الرواية بإطلاقها يقتضي كفاية الغسل مرة وليست صريحة في ذلك ، لأن مثلا ما على الحشفة قد يصبا مرة واحدة وقد يصبا مرتين ولا تقييد في الرواية بأحدهما.

ودعوى أن القطرة الاولى بملاقاتها مع البلل الكائن على الحشفة يخرج عن كونها ماء مطلقاً مما لا يصغي إليه ، لأن القطرة إذا وصلت إلى الحشفة سقطت عنها القطرة العالقة على المحل ، كما أن القطرة الثانية إذا وصلت إليها سقطت عنه القطرة الاولى لا محالة ، ومعه لا تجتمع القطرتان في رأس الحشفة ليخرج الماء عن إطلاقه بالامتزاج ، بل لولا انفصال البول بالصبة الاولى عن المحل لم يمكن الاقتصار بصب مثلي ما على‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٤٤ / أبواب أحكام الخلوة ب ٢٦ ح ٥.

٣٥٤

الحشفة دفعة واحدة أيضاً ، وذلك لأن الماء إذا امتزج بشي‌ء آخر بمقدار الثلث خرج عن إطلاقه ، فلو امتزج كرّان من الماء بمقدار كر من البول سلب إطلاقهما لأن الثلث لا يندك في الثلثين حتى لا يؤثر فيهما.

فالمتحصل أن كفاية المرة إنما تستفاد من إطلاق الرواية. إذن لا مانع من تقييدها بغيرها مما دلّ على اعتبار التعدّد في البول ، لصحيحة البزنطي قال : « سألته عن البول يصيب الجسد؟ قال : صب عليه الماء مرتين » (١) وغيرها من الأخبار الدالّة على المراد ، ومقتضى الجمع العرفي بينهما حمل المطلقة على بيان كم الماء اللاّزم في غسل مخرج البول ، من دون أن تكون متعرضة لكيفيته من أن المثلين يصبان مرة أو مرتين فان المدار في كيفية الغسل على المقيدات وهي تقتضي لزوم الصب مرتين.

هذا وقد يقال كما عن غير واحد إن صحيحة البزنطي وغيرها من المقيدات المشتملة على كلمة « الإصابة » منصرفة عن مخرج البول ، لأن ظاهر الإصابة إصابة البول للجسد من غير الجسد ، ولا تشمل البول الخارج من الجسد.

وهذه الدعوى لا يمكن تتميمها بدليل ، وذلك لأن الإصابة بمعنى الملاقاة وهي تعم البول الواصل من الجسد إلى الجسد ، فلو ورد : اغسل بدنك مما يصيبه من النجاسات ، فهل يشك في شموله للدم أو المني أو غيرهما من النجاسات الخارجة من البدن. على أن العمل بظاهر الرواية غير ممكن في نفسها ، لأنها تدل على كفاية مثلي ما على الحشفة من البلل ، وهو عبارة عن الأجزاء اللطيفة المتخلِّفة في المحل ، ونسبة البلل الموجود على الحشفة إلى القطرة كنسبة الواحدة إلى العشرة ، إذ القطرة الواحدة يمكن أن تبلل بها الكف مثلاً ، ونسبة مخرج البول إلى الكف كنسبة الواحد إلى العشرة أو ما يقاربها ، فما على الحشفة من البلل عشر القطرة تقريباً ، ولا شبهة في أن مثلي عشر القطرة لا يستوعب مخرج البول استيعاباً يصدق عليه الغسل عرفاً.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٩٦ / أبواب النجاسات ب ١ ح ٧ ، ١ : ٣٤٥ / أبواب أحكام الخلوة ب ٢٦ ح ٩.

٣٥٥

مع أن مقتضى الأدلّة ومنها موثقة يونس بن يعقوب المتقدِّمة (١) المشتملة على قوله عليه‌السلام « يغسل ذكره » اعتبار الغسل في تطهير مخرج البول فظاهر الرواية مما لا يمكن العمل به ، وأما العمل على خلاف ظاهرها بحمل البلل على القطرة كما عبرنا بها آنفاً فهو أمر يحتاج إلى دليل ، لعدم حجية الرواية فيما يخالف ظاهرها. هذا كله في رواية نشيط ، وقد ظهر بذلك الجواب عن موثقة يونس المتقدِّمة أيضاً بناء على أنها مطلقة إذ لا بدّ من تقييدها بصحيحة البزنطي وغيرها من المقيدات.

ثم إن لنشيط رواية أُخرى في المقام وهي مرسلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « يجزئ من البول أن تغسله بمثله » (٢) وهي مضافاً إلى إرسالها قاصرة الدلالة على المدعى ، لأن الضمير في « بمثله » غير ظاهر المرجع ، فهل يرجع إلى ما على الحشفة وهو غير مذكور في الرواية ، أو يرجع إلى البول ومعناه إنه لا بدّ من غسل البول بمثله من الماء ، والظاهر أنها بصدد بيان أن البول كالماء ، فكما أن غسل الماء المتنجِّس لا يحتاج إلى مسح أو دلك ونحوهما فكذلك البول يرتفع بصبّ الماء عليه من دون حاجة إلى دلكه ، وهذا بيان للحكم المترتب على البول على نحو الإطلاق فلا اختصاص له بمخرج البول ، لأن الوارد في الرواية مطلق البول ، وقد صرح بذلك في مرسلة الكليني : « وروى أنه يجزئ أن يغسل بمثله من الماء إذا كان على رأس الحشفة وغيره » (٣) كما صرح بعدم اعتبار الدلك فيه في مرسلته الثانية : « روي أنه ماء ليس بوسخ فيحتاج أن يدلك » (٤) فالضمير على ما ذكرناه راجع إلى البول بالمعنى المتقدِّم ، فلا دلالة لها على كفاية المرّة بوجه.

ومنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « لا صلاة إلاّ بطهور ويجزئك من الاستنجاء ثلاثة أحجار ، بذلك جرت السنة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأما البول فإنّه لا بدّ من غسله » (٥) لأن مقتضى إطلاقها جواز‌

__________________

(١) المتقدِّمة في ص ٣٥٢.

(٢) الوسائل ١ : ٣٤٤ / أبواب أحكام الخلوة ب ٢٦ ح ٧.

(٣) ، (٤) الوسائل ١ : ٣٤٣ / أبواب أحكام الخلوة ب ٢٦ ح ٢ ، ٣ ، الكافي ٣ : ٢٠ / ٧.

(٥) الوسائل ١ : ٣١٥ / أبواب أحكام الخلوة ب ٩ ح ١.

٣٥٦

الاقتصار على الغسل مرة واحدة.

والجواب عن ذلك ، أن الصحيحة إنما سيقت لبيان الفارق بين المخرجين وأن مخرج الغائط يكفي فيه التمسح بالأحجار دون مخرج البول ، ولم ترد لبيان كفاية المرة في البول. هذا مضافاً إلى أنها على تقدير إطلاقها كرواية نشيط المتقدِّمة وغيرها لا بدّ من أن يقيد بما دلّ على لزوم التعدّد في البول كما مر.

وعلى الجملة : أن التعدّد في غسل مخرج البول لو لم يكن أقوى فلا أقل أنه أحوط.

تتميم : لقد تلخص عمّا سردناه أن الأخبار المستدل بها على كفاية المرة بين ما ليس بصدد البيان من تلك الناحية كصحيحة زرارة وغيرها ، وبين ما لا يعتمد على سنده على تقدير دلالته. بقي الكلام في صحيحة البزنطي المتقدِّمة وغيرها من الأخبار الواردة في تعدد الصب أو الغسل فيما أصابه البول ، فان منعنا دعوى انصرافها إلى إصابة البول للجسد من غير الجسد كما عرفت فلا كلام فيما قويناه آنفاً من اعتبار التعدّد في مخرج البول ، وأما لو قلنا بانصراف الأخبار إلى إصابة البول من غير الجسد كما لعلّه معنى الإصابة في صحيحة داود بن فرقد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض .... » (١) لوضوح أن الإصابة لا يمكن أن يراد بها ما يعم إصابة البول الخارج من الجسد للجسد ، حتى يشمل مخرج البول ، فان قرضه بسبب البول يستلزم انعدامه متدرجاً فيمكننا الاستدلال على اعتبار التعدّد بأن الأمر بالغسل إرشاد إلى النجاسة كما مرّ غير مرّة ولا فرق في نجاسة البول حسبما هو المرتكز في الأذهان بين مخرج البول وغيره.

ثم لو تنزلنا عن ذلك أيضاً ومنعنا ارتكاز التسوية بين البول الخارج من الجسد والطارئ من غيره ولو باحتمال الفرق بينهما لدى العرف فلا محالة تصل النوبة إلى الأُصول العملية ، لعدم جواز التمسك بإطلاق الأدلّة الدالّة على كفاية الغسلة الواحدة‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٣ / أبواب الماء المطلق ب ١ ح ٤ ، ٣٥٠ / أبواب أحكام الخلوة ب ٣١ ح ٣.

٣٥٧

والأفضل ثلاث (١)

______________________________________________________

في مطلق النجاسات ، وذلك لما فرضناه من أنها كالأدلة الدالّة على التعدّد منصرفة إلى النجاسات الخارجية ، ولا تشمل البول الخارج من الجسد ، فاذا وصلت النوبة إلى الأُصول العملية ، فعلى ما سلكه المشهور من جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية لا بدّ من الالتزام بالتعدد ، إذ بعد الغسلة الواحدة نشك في طهارة مخرج البول وعدمها ومعه يجري استصحاب النجاسة ما لم يقطع بالارتفاع ، وأما بناء على مسلكنا من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام لابتلائه بالمعارض دائماً ، فبعد الغسلة الواحدة إذا شككنا في نجاسة المخرج رجعنا إلى قاعدة الطهارة ، وبها يقتصر في تطهير مخرج البول على الغسل مرة.

(١) لما رواه زرارة قال : « كان يستنجي من البول ثلاث مرات ومن الغائط بالمدر والخرق » (١) وعن المنتقى أن ضمير « كان » عائد إلى أبي جعفر عليه‌السلام (٢) وقوله « كان » يدل على أنه عليه‌السلام كان مستمراً على الثلاث ، وهذا يكشف عن رجحانه لأنه لولاه لم يكن وجه لاستمراره عليه‌السلام عليه ، نعم لو كان صدر ذلك منه عليه‌السلام مرة أو مرتين لم يستكشف به الرجحان أبداً.

ثم إن المدرك في إسناد الرواية إلى أبي جعفر عليه‌السلام شهادة المنتقى كما مرّ ولا ندري من أين جاء به ، لأن زرارة لجلالته وعلو منزلته وإن كان لا يروي عن غير المعصوم عليه‌السلام إلاّ أن تعيينه في أبي جعفر عليه‌السلام يحتاج إلى قرينة ، لأنه عاصر كلاًّ من الباقر والصادق عليهما‌السلام ولا دليل على تعيين المروي عنه في أحدهما عليهما‌السلام وربما احتمل رجوع الضمير في « قال » إلى أبي جعفر عليه‌السلام وفي « كان » إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا نرى لهذا الاحتمال وجهاً يقتنع به ، لأن الرواية مروية عن زرارة وظاهرها أنه الفاعل لـ « قال » فإرجاع الضمير‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٤٤ / أبواب أحكام الخلوة ب ٢٦ ح ٦.

(٢) منتقى الجمان ١ : ١٠٦.

٣٥٨

بما يسمّى غسلاً (١) ولا يجزئ غير الماء ، ولا فرق بين الذّكر ، والأُنثى ، والخنثى (٢) كما لا فرق بين المخرج الطبيعي وغيره معتاداً أو غير معتاد (٣) وفي مخرج الغائط مخيّر (٤) بين الماء والمسح بالأحجار أو الخرق‌

______________________________________________________

فيه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنه لم يذكر في الكلام يحتاج إلى قرينة معينة ولا قرينة عليه.

(١) لموثقة يونس وصحيحة زرارة المتقدِّمتين (١) وغيرهما من الأدلّة القائمة على اعتبار الغسل في تطهير المتنجِّسات.

(٢) لإطلاق الأخبار الدالّة على التعدّد ، نعم لو بنينا على كفاية المرة في المقام لاختص ذلك بالرجال ، وذلك لأن عمدة الدليل على هذا القول روايتان إحداهما : موثقة يونس بن يعقوب. وثانيتهما : رواية نشيط وهما مختصتان بالرجال.

أمّا الموثقة فبقرينتين إحداهما : قوله عليه‌السلام « يغسل ذكره » وثانيتهما قوله : « ويذهب الغائط » وذلك لأن الإذهاب بمعنى الإزالة ولو بالتمسح بالخرق والمدر ، والاستنجاء بغير الماء إنما يتم على الأغلب في الرجال ، لأن من البعيد في النساء أن لا يصل بولهن إلى حواشي مخرج الغائط ، ومعه لا يكتفى بالتمسح في الاستنجاء منه. وعلى الجملة إن موردها الذكر فهي مختصة بالرجال ، نعم لو كان مورد الموثقة شيئاً قابل التحقق في النساء تعدينا من الذّكر إلى الأُنثى أيضاً بقاعدة الاشتراك في التكليف كما إذا كان السؤال فيها عن الغسل. وأمّا الرواية فاختصاصها بالرجال أظهر من سابقتها لقوله عليه‌السلام فيها : « مثلا ما على الحشفة من البلل ».

(٣) كل ذلك لإطلاق الأخبار ، نعم لو قلنا بكفاية المرّة في مخرج البول اختص ذلك بالمخرج الطبيعي ، لورود الروايتين المتقدمتين في الذّكر والحشفة ولا مناص معه من الالتزام بالتعدد في غير المخرج الطبيعي والخنثى.

(٤) لصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « لا صلاة إلاّ بطهور‌

__________________

(١) المتقدِّمتان في ص ٣٥٢.

٣٥٩

إن لم يتعد عن المخرج على وجه لا يصدق عليه الاستنجاء (١).

______________________________________________________

ويجزئك من الاستنجاء ثلاثة أحجار ، بذلك جرت السنة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأما البول فإنّه لا بدّ من غسله » (١) وغيرها من الأخبار الواردة في المقام ، فان قوله عليه‌السلام يجزئ يدلنا على جواز الاجتزاء في الاستنجاء بالتمسح ولا دلالة لها على تعينه ، ومعه يجوز الاقتصار بالماء أيضاً ، بل الاستنجاء به أفضل كما يأتي عن قريب. مضافاً إلى المطلقات والأخبار الواردة في كفاية الغسل بالماء (٢).

ثم إن الاستنجاء بالماء أو بالتمسح مختص بما إذا نجس الغائط شيئاً من ظاهر البدن وأطراف المقعدة ، وأما إذا خرج من غير أن ينجس شيئاً من ظاهره كما قد يتفق فالظاهر عدم وجوب شي‌ء منهما ، لعدم تنجس الباطن وعدم وجوب غسله ، وإنما يجب الغسل في ظواهر البدن ومع عدم تنجسها لا مقتضي للغسل والتطهير ، واحتمال وجوب الغسل أو التمسح تعبداً يندفع بأنه يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه.

(١) قد يتعدّى الغائط إلى جسم آخر غير متصل بمخرجه ، كما إذا طفر وأصاب رجله أو فخذه ، ولا كلام حينئذ في تعيّن الغسل بالماء ، لأنه جسم متنجس مباين لمخرج الغائط فلا يكفي فيه التمسح بوجه ، وقد يتعدى إلى ما هو متصل بالمخرج زائداً على المقدار المتعارف ، كما إذا استنجى قائماً لأنه يستلزم إصابة الغائط بالأليتين وغيرهما زائداً على المعتاد المتعارف في الاستنجاء ، وفي هذه الصورة أيضاً يتعيّن غسل المقدار الزائد بالماء ولا يكفي فيه التمسح لعدم صدق الاستنجاء عليه ، نعم لهم كلام في أن المسح هل يكفي في تطهير المخرج حينئذ أو أنه كالمقدار الزائد لا بدّ من أن يغسل بالماء؟

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣١٥ / أبواب أحكام الخلوة ب ٩ ح ١.

(٢) كموثقة عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال « ... وإن خرج من مقعدته شي‌ء ولم يبل فإنّما عليه أن يغسل المقعدة وحدها ولا يغسل الإحليل ». وفي جملة أُخرى منها : « إنما عليه أن يغسل ما ظهر منها يعني المقعدة وليس عليه أن يغسل باطنها » الوسائل ١ : ٣٤٦ / أبواب أحكام الخلوة ب ٢٨ ح ١ ، ب ٢٩ ح ٢ وغيرها.

٣٦٠