موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

واللاّزم ستر لون البشرة دون الحجم وإن كان الأحوط ستره أيضاً وأما الشبح وهو ما يتراءى عند كون الساتر رقيقاً ، فستره لازم ، وفي الحقيقة يرجع إلى ستر اللّون (١).

______________________________________________________

إلاّ أن هذه الأخبار ساقطة عن الاعتبار لضعف اسنادها ولا يمكن الاستدلال بها بوجه ، على أنها معارضة بمثلها من الأخبار الضعاف :

منها : مرسلة الصدوق عن الصادق عليه‌السلام « الفخذ ليس من العورة » (١).

ومنها : مرسلة أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابه عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام قال : « العورة عورتان : القبل والدبر ، والدبر مستور بالأليتين فإذا سترت القضيب والبيضتين فقد سترت العورة » (٢).

ومنها : مرسلة الكليني : « أما الدبر فقد سترته الأليتان ، وأما القبل فاستره بيدك » (٣) وبما ذكرناه تحمل الطائفة المتقدِّمة على الاستحباب بناء على التسامح في أدلّته أو على المحافظة على الجاه والشرف.

(١) ظاهر الأدلّة المتقدِّمة الدالّة على وجوب حفظ الفرج وحرمة النظر إلى عورة الغير أن المحرم وقوع النظر على العين نفسها ، لأنه الظاهر من كلمة النظر في موارد استعمالاتها ، فالمنسبق إلى الذهن في مثل قولنا : زيد نظر إلى كذا ، أنه نظر إلى عين ذلك الشي‌ء ونفسه ، والفقهاء قدس‌سرهم عبّروا عن ذلك بحرمة النظر إلى لون البشرة وأرادوا بذلك بيان أن وقوع النظر على نفس العورة هو الحرام ، وذلك لوضوح أن لون البشرة لا مدخلية له في الحكم بوجه ، لأن من قام وراء زجاجة حمراء أو صفراء مثلاً بحيث لا ترى عورته إلاّ بغير لونها ، لم يجز النظر إلى عورته بوجه ، ولم يكف التلوّن في الستر الواجب أبداً.

ويترتّب على ذلك أن اللاّزم إنما هو ستر نفس العورة لا حجمها ، ولا مانع من النظر إليه لعدم صدق النظر إلى العورة حينئذ. نعم يحرم النظر إلى ما يتراءى تحت‌

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) الوسائل ٢ : ٣٥ / أبواب آداب الحمام ب ٤ ح ٤ ، ٢ ، ٣.

٣٢١

[٤٢٢] مسألة ٢ : لا فرق في الحرمة بين عورة المسلم والكافر على الأقوى (*) (١)

______________________________________________________

الساتر الرقيق غير المانع عن وقوع النظر إلى نفس العورة لما فيه من الخلل ، وذلك لأن في مثله يصدق النظر إلى العورة حقيقة فلا يمكن الاكتفاء به في الستر الواجب بوجه.

(١) ما أفاده قدس‌سره بالإضافة إلى وجوب ستر العورة مما لا إشكال فيه ، لأن مقتضى الأدلّة المتقدِّمة وجعله من لوازم الايمان كما في بعضها وجوب ستر العورة عن الناظر مطلقاً ، بلا فرق في ذلك بين المسلم وغيره. على أن كشف العورة لدى الكافر ينافي احترام المسلم ، فعلى ذلك لو فرضنا أن من في الحمام بأجمعهم يهود أو نصارى مثلاً لم يجز الدخول فيه من غير إزار.

وأما بالإضافة إلى حرمة النظر إلى عورة الكافر ففيه كلام وخلاف ، وقد ورد جوازه في روايتين وإن كان يحتمل اتحادهما إحداهما : حسنة ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل النظر إلى عورة الحمار » (٢) وثانيتهما : مرسلة الصدوق عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : « إنما أكره النظر إلى عورة المسلم ، فأمّا النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل النظر إلى عورة الحمار » (٣) وهما صريحتان في الجواز كما ترى ، ولعل الوجه فيه أن غير المسلم نازل عن الإنسانية وساقط عن الاحترام فحالهم حال الحيوان ، لأنهم كالأنعام بل هم أضل.

وهذا أعني القول بالجواز هو المحكي عن جماعة ، وهو ظاهر الوسائل والحدائق (٤) بل الصدوق (٥) أيضاً ، لأن إيراده الرواية في كتابه يكشف عن عمله على طبقها.

__________________

(*) في القوة إشكال وإن كان هو الأحوط.

(١) ، (٢) الوسائل ٢ : ٣٥ / أبواب آداب الحمام ب ٦ ح ١ ، ٢.

(٣) الحدائق ٢ : ٥.

(٤) الفقيه ١ : ٦٣ / ٢٣٦.

٣٢٢

وما ذهبوا إليه لا يخلو عن قوة ، لصراحة الحسنة في الجواز واعتبارها بحسب السند هذا ، وقد يناقش في الاستدلال بها من جهتين :

إحداهما : أنها ضعيفة السند بالإرسال ، لأن ابن أبي عمير قد نقلها عن غير واحد عن أبي عبد الله عليه‌السلام وفي الحدائق وصفها بالإرسال وإن كان قد عمل على طبقها.

وهذه المناقشة ساقطة ، وذلك لا لأن مراسيل ابن أبي عمير كمسانيده ، لما مر غير مرة من أن المراسيل ساقطة عن الحجية مطلقاً ، كان مرسلها ابن أبي عمير ونظراءه أم غيرهم ، بل لأن قوله : عن غير واحد ، معناه أن الرواية وصلت إليه عن جماعة من الرواة ، لعدم صحة هذا التعبير فيما إذا رواها واحد أو اثنان ، وتلك الجماعة نطمئن بوثاقة بعضهم على الأقل ، لأنه من البعيد أن يكون كلهم غير موثقين.

وثانيتهما : أن الرواية مهجورة لإعراض الأصحاب عن العمل على طبقها ، كما يستكشف من إطلاق كلماتهم في حرمة النظر إلى عورة الغير.

ويرد على هذه المناقشة :

أوّلاً : أن إعراضهم عن الرواية لم يثبت بوجه ، لأنه من المحتمل أن يستندوا في الحكم بحرمة النظر مطلقاً إلى ترجيح الأدلّة المعارضة وتقديمها على رواية الجواز كما ربّما يظهر من كلام شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) فتركهم العمل على طبقها من جهة مخالفة الرواية لإطلاق الآية والروايات ، والاعراض عن الرواية إنما يسقطها عن الحجية فيما إذا كشف عن ضعفها ، دون ما إذا كان مستنداً إلى علة أُخرى كما في المقام. على أن مثل الصدوق وغيره ممن ذهبوا إلى الجواز قد عملوا على طبقها فصغرى الاعراض غير ثابتة.

وثانياً : أن كبرى سقوط الرواية عن الحجية باعراضهم لا يمكن الالتزام بها بوجه كما قدّمناه في محلِّه (٢) وعلى ذلك لا إشكال في الرواية سنداً كما لا كلام في دلالتها على‌

__________________

(١) كتاب الطهارة ١ : ٤٢٢.

(٢) مصباح الأُصول ٢ : ٢٠٣.

٣٢٣

الجواز ، فهي مقيدة للأدلة المتقدِّمة الدالّة على حرمة النظر إلى عورة الغير على تقدير كونها مطلقة ، هذا.

على أنّا لو أغمضنا عن رواية الجواز ، أيضاً لا يمكننا الحكم بحرمة النظر إلى عورة الكافر ، وذلك لقصور المقتضي في نفسه حيث لا إطلاق فيما دلّ على حرمة النظر إلى عورة الغير حتى يشمل الكفار ، لأن الأخبار الواردة في ذلك مقيدة بالمؤمن أو المسلم أو الأخ ، وأما الآية المباركة ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) (١) فهي أيضاً لا دلالة لها على المدعى وذلك :

أمّا أوّلاً : فلأن الظاهر من الآية المباركة أنها ناظرة إلى الجامعة الإسلامية وتكفلت ببيان وظيفة بعضهم بالإضافة إلى بعض آخر ، فلا إطلاق لها حتى تشمل غير المسلمين.

وأمّا ثانياً : فلأنها على تقدير إطلاقها وشمولها لغير المسلمين ، لا بدّ من تقييدها برواية حريز وما تقدم عن حنان بن سدير وغيرهما من الأخبار المشتملة على الأخ المؤمن أو المسلم ، والسر في ذلك أن تقييد موضوع الحكم بوصف أو بغيره من القيود يدل على أن الحكم في القضية لم يترتب على الطبيعة بإطلاقها وأينما سَرَت ، وإنما ترتب على الحصة المتصفة بذلك الوصف أو القيد ، لأنه لولا ذلك لكان تقييد الموضوع بأحدهما لغواً ظاهراً ، وقد تقدم في مبحث المفاهيم أن ذلك متوسط بين القول بمفهوم الوصف وإنكاره (٢) حيث لا نلتزم بالمفهوم في الأوصاف بأن ننفي الحكم عن غير المتصف ولو بسبب آخر ، ولا ننكر مدخليته في ثبوت الحكم رأساً ، بل ندعي أن للقيد دخالة في ترتب الحكم على موضوعه ، إلاّ أنه لا يدل على عدم مدخلية غيره من القيود فيه ، مثلاً تقييد الرجل بالعلم في قولنا : أكرم الرجل العالم يدل على أن له دخلاً في الحكم بوجوب إكرام الرجل ، ولا يدل على أن العدالة مثلاً ليست كذلك لأنه يحتمل أن تكون العدالة أيضاً كالعلم علة للحكم.

__________________

(١) المتقدِّمة في ص ٣١٦.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ١٣٣.

٣٢٤

[٤٢٣] مسألة ٣ : المراد من الناظر المحترم مَن عدا الطفل غير المميّز (١). والزوج والزوجة (٢) والمملوكة بالنسبة إلى المالك ، والمحللة بالنسبة إلى المحلل له (٣) فيجوز نظر كل من الزوجين إلى عورة الآخر ، وهكذا في المملوكة ومالكها والمحلّلة والمحلّل له ، ولا يجوز نظر المالكة إلى مملوكها أو مملوكتها وبالعكس (٤).

[٤٢٤] مسألة ٤ : لا يجوز للمالك النظر إلى عورة مملوكته إذا كانت مزوّجة (٥)

______________________________________________________

وعلى الجملة تقييد حرمة النظر في الأدلّة المتقدِّمة بالمؤمن أو المسلم أو الأخ ، يدلّنا على أن الحرمة لم تترتب على النظر إلى عورة طبيعي البشر ، وإنما هي خاصة بحصة معينة ، وهذا يكفينا في الحكم بجواز النظر إلى عورة الكافر ، لأنه مقتضى الصناعة العلمية وإن كان الاحتياط في تركه.

(١) لما تقدّم من أن الظاهر المنصرف إليه من الأدلّة المتقدِّمة لزوم ستر العورة عمن له إدراك وشعور ، فغير المدرك الشاعر كالصبي غير المميز والبهائم خارج عن منصرف الأدلّة رأساً ، هذا مضافاً إلى السيرة الجارية على عدم التستر عن مثله لأنهم يدخلون الحمامات مصاحبين لأطفالهم من غير أن يتستروا عن غير المميّزين كما لا يجتنبون عن النظر إلى عوراتهم ، وهي سيرة متصلة بزمان المعصومين عليهم‌السلام ولم يردع عنها في أي دليل.

(٢) لأن الآية المباركة الآمرة بالتحفظ على الفرج قد استثنت الأزواج وما ملكت أيمانهم. على أن جواز النظر في الزوج والزوجة من اللوازم العادية للوطء الجائز لهما وكذلك الحال في المالك ومملوكته.

(٣) لجواز الوطء وعدم وجوب التحفظ على الفرج في حقهما ، وقد مرّ أن جواز النظر من اللوازم العادية للوطء واللمس الجائزين لهما.

(٤) لإطلاق ما دلّ على وجوب التحفظ على الفرج وحرمة النظر إلى عورة الغير.

(٥) المسألة منصوصة وقد عقد لها باباً في الوسائل ، ومن جملة ما ورد في المسألة‌

٣٢٥

خبر الحسين بن علوان المتقدِّم نقله (١) عن قرب الاسناد عن جعفر عن أبيه عليه‌السلام أنه قال : « إذا زوج الرجل أمته فلا ينظرن إلى عورتها » (٢).

تنبيهان :

أحدهما : أن مقتضى الأخبار الواردة في المنع عن وطء الأمة المزوجة والنظر إلى عورتها عدم الفرق في ذلك بين كونها مدخولاً بها وعدمه لإطلاقها ، وأما الأمة المحلّلة فهي بما أنها محللة لا دليل على حرمة النظر إلى عورتها ، اللهمّ إلاّ أن تكون حبلى أو موطوءة ولم تستبرأ ، وذلك لما ورد في جملة من الروايات من عدم جواز وطء الأمة الحامل من زوجها أو من المحلل له ، أو التي لم تنقض عدتها أو التي وطئت ولم تستبرأ (٣) فلا مانع من اندراج المحللة في من يحرم على المالك النظر إلى عورتها إذا كانت حبلى من المحلل له أو موطوءة له قبل أن تستبرأ ، لأن الأمة إذا حرم وطؤها لا بدّ من الرجوع فيها إلى إطلاق الأدلّة المتقدِّمة الدالّة على حرمة النظر إلى عورة الغير ووجوب سترها عن النظر ، وذلك لاختصاص الاستثناء في الآية المباركة بغير من يحرم وطؤها من الإماء ، فمع حرمته تندرج الأمة في الجملة المستثنى منها لا محالة ومع عدم كونها كذلك يجوز للمالك النظر إلى عورتها بمقتضى الاستثناء الوارد في الآية المباركة ، ولا يمكن قياسها على المزوّجة.

فما أفاده الماتن قدس‌سره من أن المالك لا يجوز له النظر إلى عورة مملوكته المحللة لا يمكن المساعدة على إطلاقه.

وثانيهما : أن من يحرم النظر إلى عورتها من الإماء غير منحصرة بمن ذكرها الماتن قدس‌سره بل هي كثيرة جمعها المحدث الكاشاني قدس‌سره فيما عقد له من الباب وسمّاه بباب ما يحرم من الإماء وتحل (٤) وتعرض لها صاحب الوسائل ( قدس‌سره )

__________________

(١) في ص ٣٢٠.

(٢) الوسائل ٢١ : ١٤٨ / أبواب نكاح العبيد والإماء ب ٤٤ ح ٧.

(٣) الوسائل ٢١ : ٨٢ / أبواب نكاح العبيد والإماء ب ٢ ، ٧ ، ٨ ، ٤٤.

(٤) الوافي ٢١ : ٢٧٣.

٣٢٦

أو محلّلة (*) أو في العدّة (١) وكذا إذا كانت مشتركة بين مالكين لا يجوز لواحد منهما النظر إلى عورتها وبالعكس (٢).

[٤٢٥] مسألة ٥ : لا يجب ستر الفخذين ولا الأليتين ولا الشعر النابت أطراف العورة (٣) نعم يستحب ستر ما بين السرّة إلى الرّكبة (**) بل إلى نصف الساق (٤).

______________________________________________________

أيضاً فليراجع (٣) فمنها : ما إذا ملك أُخت أمته. ومنها : ما إذا ملك أُم امه من الرضاعة أو أُختها أو عمتها أو خالتها ، لأنهن امه أو عمته أو خالته من الرضاعة. ومنها : ما إذا ملك بنت أمته. ومنها : غير ذلك من الموارد ، ومع حرمة الوطء يحرم النظر إلى عورتها كما مرّ ، فالأولى حينئذ أن يقال : يحرم النظر إلى عورة الأمة المحرم وطؤها ثم يمثل بما ذكره الماتن قدس‌سره لا كما صنعه هو قدس‌سره لأن ظاهره الحصر مع أن المحرّمات كثيرة كما مرّ.

(١) للنص كما مرّ.

(٢) لعدم جواز وطئها للمالكين المشتركين ، وقد تقدم أن مع حرمة الوطء في الإماء لا بدّ من الرجوع إلى إطلاق الأدلّة المتقدِّمة ، وهي تقتضي حرمة النظر إلى عورتها ووجوب حفظ الفرج عنها.

(٣) لانحصار العورة بالقبل والدبر ، أو به وبالقضيب والبيضتين ، فالفخذان خارجان عن حدها ، وكذا الحال في الأليتين وفي الشعر النابت أطراف العورة.

(٤) لعله لرواية النبال المتقدِّمة (٤) بناء على أن المتعارف من الاتزار هو ما يستر به ما بين السرّة إلى نصف الساق ، أو لما نسب إلى الحلبي من أن العورة من السرّة إلى‌

__________________

(*) في إطلاق حرمة النظر إلى عورة المحللة إشكال ، بل منع.

(**) مرّ حكم ذلك بالنسبة إلى المرأة [ في المسألة ٤٢١ ].

(١) الوسائل ٢١ : ١٠٥ / أبواب نكاح العبيد والإماء ب ١٨ ح ٣ ، ٤.

(٢) في ص ٣٢٠.

٣٢٧

[٤٢٦] مسألة ٦ : لا فرق بين أفراد الساتر فيجوز بكل ما يستر ، ولو بيده أو يد زوجته أو مملوكته (١).

[٤٢٧] مسألة ٧ : لا يجب الستر (٢) في الظلمة المانعة عن الرؤية ، أو مع عدم حضور شخص ، أو كون الحاضر أعمى ، أو العلم بعدم نظره.

[٤٢٨] مسألة ٨ : لا يجوز النظر إلى عورة الغير من وراء الشيشة (٣) بل ولا في المرآة أو الماء الصافي (٤).

______________________________________________________

نصف الساق (١) هذا ولا يخفى أن الاستحباب لا يمكن إثباته بشي‌ء منهما.

(١) لأن الغرض في الستر الواجب في نفسه لا الستر الصلاتي إنما هو التحفّظ عن النظر إلى البشرة ، فيكفي في سقوط الأمر به الستر بكل ما يحصل هذا الغرض ، كما إذا سترها بيده أو بيد زوجته أو مملوكته أو الوحل أو الدخول في الحفيرة أو الماء ، أو غير ذلك مما يمنع عن وقوع النظر إلى البشرة ، وهذا بخلاف الستر الواجب في الصلاة لأنه يعتبر أن يكون ثوباً ولا يجزئ غيره إلاّ مع الاضطرار.

(٢) لعدم وقوع النظر على العين مع الظلمة ، فالغرض من الأمر بالتستر حاصل من غير حاجة إلى الستر ، وهذا بخلاف الستر الصلاتي لأنه واجب وإن صلّى في الظلمة أو عند الأعمى أو في مكان خال عن الغير.

(٣) لأن الشيشة مانعة عن لمس البشرة وليست مانعة عن رؤيتها ، لنفوذ النور في الزجاج ، وبنفوذه يقع النظر على عين العورة ويصح أن يقال إنه نظر إلى العورة حقيقة ، كالنظر بالمنظرة ، أفيشك معها في صدق النظر إلى العورة حقيقة. فالأدلة القائمة على حرمة النظر إلى العورة غير قاصرة الشمول للنظر من وراء الشيشة.

(٤) حرمة النظر في المرآة أو الماء الصافي يتوقف على أحد أمرين :

أحدهما : أن تكون الرؤية بخروج الشعاع لا بالانطباع ، ويكون النور الخارج من العين المتصل بالمرآة أو الماء منكسراً منهما إلى المرئي وذي الصورة ، بأن يقال إن النور‌

__________________

(١) الكافي في الفقه : ١٣٩.

٣٢٨

[٤٢٩] مسألة ٩ : لا يجوز الوقوف في مكان يعلم بوقوع نظره على عورة الغير ، بل يجب عليه التعدِّي عنه أو غضّ النظر (١) وأما مع الشك أو الظن في وقوع نظره فلا بأس (٢) ولكن الأحوط أيضاً عدم الوقوف أو غض النظر.

______________________________________________________

والشعاع في الأجسام الشفافة والصقيلة التي منها الماء والمرآة بعد ما خرج مستقيماً عن العين يقع على تلك الأجسام الشفافة ، ثم ينكسر فيرد منها أيضاً مستقيماً إلى المرئي وذي الصورة ، وعلى ذلك يقع النظر على نفس العورة حقيقة.

وثانيهما : العلم بعدم الفرق بين النظر إلى ذي الصورة وصورته لأنها هو هو بعينه ، فالنظر إلى المرأة وصورتها سيان بالارتكاز ، وعلى ذلك لو لم نقل بخروج الشعاع والانكسار وقلنا إن المشاهد في الماء أو المرآة صورة العورة مثلاً قد انطبعت فيهما ، لا أن المشاهد هي العورة نفسها ، أيضاً يمكننا الحكم بحرمة النظر إلى العورة فيهما ، لعدم الفرق بين رؤية الشي‌ء ورؤية صورته بالارتكاز.

وأما إذا أنكرنا الانكسار والشعاع ونفينا العلم بمساواة النظر إلى الصورة وصاحبها وإن كان بعيداً في نفسه فلا مناص من الالتزام بجواز النظر إلى العورة في المرآة أو الماء ، وبذلك يتضح أن النظر إليها من وراء الشيشة والنظر إليها في الماء أو المرآة من واديين ، وليست الحرمة في كليهما مبتنية على الأمرين المتقدِّمين.

(١) لعلّه أراد بذلك حرمة الوقوف في مفروض المسألة عقلاً ، لتوقف الامتثال على ترك الوقوف في ذلك المكان ، ومعه يستقل العقل بحرمة الوقوف حتى يتمكن المكلف من الامتثال. وأما لو أراد حرمة الوقوف شرعاً ، بدعوى أنه مقدمة للحرام وهي محرمة إذا قصد بها التوصل إلى الحرام أو كانت علة تامة له كما ادعوه فيندفع بما قدمناه في محله من أن مقدمة الحرام ليست محرمة مطلقاً ، قصد بها التوصل إلى الحرام أم لم يقصد ، كانت علة تامة له أم لم تكن (١).

(٢) لعدم الاعتبار بالظن وحكمه حكم الشك ، وهو مورد لأصالة البراءة.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٤٣٩.

٣٢٩

[٤٣٠] مسألة ١٠ : لو شك في وجود الناظر أو كونه محترماً فالأحوط التستّر (١)

[٤٣١] مسألة ١١ : لو رأى عورة مكشوفة وشك في أنها عورة حيوان أو إنسان ، فالظاهر عدم وجوب الغض عليه (٢) وإن علم أنها من إنسان وشك في أنّها من صبي غير مميِّز أو من بالغ أو مميِّز ، فالأحوط ترك النظر (*) (٣) وإن شكّ‌

______________________________________________________

(١) ذهب المحقق الهمداني قدس‌سره إلى أن وجوب التحفّظ على المكلف موقوف على علمه بوجود ناظر بالفعل ، أو بتجدده حال انكشاف عورته ، فمع الشك في وجوده أو الظن به يجوز كشف العورة لأصالة البراءة عن حرمته (٢).

إلاّ أن دقيق النظر يقتضي خلافه وعدم جريان البراءة في المقام ، وذلك لأن الأمر في قوله تعالى ( وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) إنما تعلق بالمحافظة ، وقد أُخذ في مفهوم المحافظة احتمال ما ينافي صدقها ، بحيث لو لم يعتن بالاحتمال صدق ترك المحافظة لدى العرف مثلاً لو احتمل تلف الأمانة على تقدير وضعها في مكان كذا ، ومع ذلك وضعها فيه كان ذلك مصداقاً لترك المحافظة على الأمانة ، فليس له حينئذ التشبث باستصحاب عدم مجي‌ء السارق أو عدم تلف المال بنفسه ، فالمحافظة لا تصدق إلاّ بسد أبواب الاحتمال ، فاذا لم يستر عورته في موارد الشك في وجود الناظر صدق عدم التحفظ على عورته.

وعلى الجملة مقتضى المحافظة التستر في كل مورد احتمل فيه الناظر المحترم ، فمع الشك لا مناص من الاحتياط بل يمكن الجزم بوجوب التستر كما عرفت.

(٢) للشك في موضوع الحكم وهو العورة ، ومعه تجري البراءة عن حرمة النظر إلى المشكوك فيه.

(٣) والأقوى جوازه ، لاستصحاب عدم بلوغ الصبي حدّ التمييز.

__________________

(*) لا بأس بترك الاحتياط.

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٨٢ السطر ١٤.

٣٣٠

في أنها من زوجته أو مملوكته أو أجنبية فلا يجوز النظر (١) ويجب الغض عنها ، لأن جواز النظر معلّق على عنوان خاص وهو الزوجية أو المملوكية فلا بدّ من إثباته. ولو رأى عضواً من بدن إنسان لا يدري أنه عورته أو غيرها من أعضائه جاز النظر (٢) وإن كان الأحوط الترك.

[٤٣٢] مسألة ١٢ : لا يجوز للرجل والأُنثى النظر إلى دبر الخنثى (٣) وأمّا قُبْلها (٤) فيمكن أن يقال بتجويزه لكل منهما ، للشك في كونه عورة ، لكن الأحوط الترك ، بل الأقوى وجوبه لأنه عورة على كل حال (١).

______________________________________________________

(١) للشك في زوجية ذي العورة أو مملوكيته والأصل عدمهما ، والسر في ذلك أن الرخصة والجواز قد تعلقا على عنوان الزوجية أو المملوكية أو غيرهما من العناوين الوجودية ، ومعه لا مناص من إحرازها في الخروج عن الإلزام والتكليف.

(٢) للشك في الموضوع ، وأصالة البراءة عن حرمة النظر إلى المشكوك فيه هي المحكّمة وقتئذ.

(٣) لأنه عورة على كل حال.

(٤) إن قلنا إن الخنثى طبيعة ثالثة اجتمعت فيها الأُنوثة والذكورة ، فهي امرأة ورجل ولها آلتهما ، وأن الإنسان قد يكون ذا آلة واحدة أُنوثية أو ذكورية ، وقد يكون ذا آلتين ، فلا شبهة في حرمة النظر إلى إحليلها وبضعها لأنهما عورتان حقيقة.

وأما لو قلنا إنها مرددة بين الرجال والنساء وليست طبيعة ثالثة ، كما هو المستفاد من الآيات المباركة ( يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ) (٢) ( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً ) (٣)( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى

__________________

(*) هذا إذا نظر إلى مماثل عورته ، وأما في غيره فلا علم بكونه عورة ، نعم إذا كان الخنثى من المحارم لم يجز النظر إلى شي‌ء منهما للعلم الإجمالي بكون أحدهما عورة.

(١) الشورى ٤٢ : ٤٩.

(٢) الشورى ٤٢ : ٥٠.

٣٣١

[٤٣٣] مسألة ١٣ : لو اضطرّ إلى النظر إلى عورة الغير كما في مقام‌

______________________________________________________

وَهُوَ مُؤْمِنٌ ... ) (١) ( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات. وما ورد في استكشاف حالها واختبارها لينظر أنها أُنثى أو ذكر (٣) فيقع الكلام فيها بالإضافة إلى محارمها تارة وبالنسبة إلى الأجنبي اخرى :

أما نظر المحارم إلى أحد قبليها فلا إشكال في حرمته ، للعلم الإجمالي بأن أحدهما عورة فيجب الغض عن كليهما عند ما تمت شرائط التنجيز ، كما إذا كان متمكناً من النظر إلى عورتيها ولو بالغلبة.

وأما الأجنبي ، فإن نظر إلى ما يماثل عورته كما إذا نظر الرجل إلى إحليلها أو المرأة إلى بضعها فلا إشكال أيضاً في حرمته ، للعلم بأنها إما عورة محرمة النظر وإما عضو من أعضاء بدن الأجنبي أو الأجنبية ، مثلاً إذا نظر الرجل الأجنبي إلى إحليلها علم بأنه إمّا عورة الرجل كما إذا كانت ذكراً واقعاً وإما عضو من بدن المرأة الأجنبية كما إذا كانت أُنثى واقعاً وكذلك الحال فيما إذا نظرت المرأة إلى بضعها لأنه إما عورة المرأة على تقدير كونها أُنثى وإما عضو من بدن الرجل كما إذا كانت ذكراً فالناظر حينئذ عالم بحرمة النظر تفصيلاً وإنما الإجمال في سببها ، ولعله إلى ذلك نظر الماتن قدس‌سره في قوله : لأنه عورة على كل حال.

وأما إذا نظر الأجنبي إلى ما يخالف عورته ، كما إذا نظرت المرأة إلى إحليلها أو الرجل إلى بضعها ، فلا يمكن الحكم بحرمته للشك في كل من قبلي الخنثى أنه عورة أو عضو زائد من بدن المماثل للناظر في الأُنوثة والذكورة ، فالمرأة تحتمل أن يكون إحليل الخنثى آلة رجولية ، كما تحتمل أن يكون عضواً زائداً من بدن المرأة ، وكذلك الحال في الرجل ، وحيث إن نظر المماثل إلى بدن المماثل أمر لا حرمة فيه ، فالعلم الإجمالي غير مؤثر في التنجيز ، ولا بدّ من الرجوع إلى أصالة البراءة عن حرمة النظر إلى المشكوك‌

__________________

(١) غافر ٤٠ : ٤٠.

(٢) آل عمران ٣ : ١٩٥.

(٣) الوسائل ٢٦ : ٢٨٣ / أبواب ميراث الخنثى وما أشبهه ب ١ ، ٣.

٣٣٢

المعالجة فالأحوط أن يكون في المرآة المقابلة لها إن اندفع الاضطرار بذلك وإلاّ فلا بأس (١).

[٤٣٤] مسألة ١٤ : يحرم في حال التخلي استقبال القبلة واستدبارها (٢) بمقاديم بدنه وإن أمال عورته إلى غيرهما. والأحوط ترك الاستقبال والاستدبار ،

______________________________________________________

فيه كما تقدّم في الشك في العورة.

(١) إن قلنا بجواز النظر إلى العورة أو الأجنبية في الماء أو المرآة أو غيرهما من الأجسام الشفافة ، فلا شبهة في تعيّن ذلك في المقام لدوران الأمر بين المحرم والمباح ولا كلام في تعيّن الثاني حينئذ. وأما إذا قلنا بحرمته كما قويناه في المسألة الثامنة ولو للعلم الخارجي بعدم الفرق بين النظر إلى العورة أو الأجنبية نفسهما ، وبين النظر إلى صورتيهما لتساويهما في الملاك والمفسدة ، فأيضاً يتعيّن النظر في المرآة أو الماء ونحوهما ، وذلك للقطع بآكدية الحرمة وأقوائيتها في النظر إلى نفس العورة أو الأجنبية ، ولا أقل من احتمال الأهمية والأقوائية منه ، وهذا بخلاف النظر إلى الصورة إذ لا يحتمل أن تكون الحرمة فيه آكد من النظر إلى نفس العورة أو الأجنبية ، فيكون المقام حينئذ من دوران الأمر بين ما يحتمل أهميته وما لا تحتمل أهميته ، ولا إشكال في أن محتمل الأهمية هو المتعيّن حينئذ ، هذا.

مضافاً إلى روايتي موسى بن محمد والمفيد في الإرشاد الواردتين في كيفية اختبار الخنثى ، وأنها تبول من فرج الذّكر أو الأُنثى (١) حيث دلتا على تعيّن الكشف في المرآة وأن العدول أو العدلين يأخذ كل واحد منهم مرآة وتقوم الخنثى خلفهم عريانة فينظرون في المرايا فيرون شبحاً (٢) لا أنهم ينظرون إلى نفس العورة. والروايتان وإن كانتا واضحة الدلالة على المراد إلاّ أنهما ضعيفتان بحسب السند ومن ثمة نجعلهما مؤيدتين للمدعى.

(٢) حرمة استقبال القبلة واستدبارها حال التخلِّي من المسائل المتسالَم عليها عند‌

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٢١٤.

(٢) الوسائل ٢٦ : ٢٩٠ / أبواب ميراث الخنثى وما أشبهه ب ٣ ، ح ١ ، ٢.

٣٣٣

الأصحاب ، حيث لم ينقل فيها الخلاف إلاّ عن جماعة من متأخري المتأخرين منهم صاحب المدارك قدس‌سره حيث ذهب إلى كراهتهما (١) فان اعتمدنا على التسالم القطعي وإجماعهم بأن كان اتفاق المتقدمين والمتأخرين مدركاً لإثبات حكم شرعي كما هو غير بعيد فلا كلام ، وإلاّ فما قواه في المدارك من القول بالكراهة وفاقاً لجملة من متأخري المتأخرين هو الصحيح. وذلك لأن الأخبار المستدل بها على حرمة استقبال القبلة واستدبارها في المقام ساقطة عن الاعتبار ، وهي بين ضعيفة ومرفوعة ومرسلة (٢) ولا يمكننا الاعتماد على شي‌ء منها في الاستدلال.

نعم لا وجه للمناقشة في دلالتها على الحرمة ، لأن اشتمال بعضها على بعض المكروهات كاستقبال الريح واستدبارها غير صالح للقرينية على التصرف في ظهور النهي عن استقبال القبلة واستدبارها في الحرمة ، واقتران حكم غير إلزامي بحكم إلزامي لا يكون قرينة على إرادة غير الإلزام منه بدعوى وحدة السياق ، وذلك لأن الظهور حجّة ولا يمكن أن يرفع اليد عنه إلاّ بقرينة أقوى على خلافه وهي غير موجودة في المقام ، فما عن بعضهم من المناقشة في دلالة الأخبار من جهة اشتمالها على ما هو مسلّم الكراهة مما لا يمكن المساعدة عليه. نعم للمناقشة في إسنادها مجال واسع كما مر ، فلو كنّا نحن وهذه الروايات لم يمكننا الحكم بحرمة استقبال القبلة واستدبارها حال التخلِّي.

بل يمكن الاستدلال على كراهتهما أو استحباب تركهما برواية محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : « دخلت على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام وفي منزله كنيف مستقبل القبلة وسمعته يقول : من بال حذاء القبلة ثم ذكر فانحرف عنها إجلالاً للقبلة وتعظيماً لها لم يقم من مقعده ذلك حتى يغفر له » (٣) وذلك لأن لسانها لسان الاستحباب أو كراهة الفعل ، فان ترك الاستقبال لو كان واجباً لأمره بالانحراف أو نهاه عن‌

__________________

(١) المدارك ١ : ١٥٨.

(٢) الوسائل ١ : ٣٠١ / أبواب أحكام الخلوة ب ٢.

(٣) الوسائل ١ : ٣٠٣ / أبواب أحكام الخلوة ب ٢ ح ٧.

٣٣٤

بعورته فقط ، وإن لم يكن مقاديم بدنه إليهما (١) ، ولا فرق في الحرمة بين الأبنية‌

______________________________________________________

الاستمرار على استقبال القبلة ، نعم لا مجال للاستدلال بوجود الكنيف في منزله مستقبل القبلة على جواز استقبالها حال التخلي ، وذلك لأن استقبال القبلة حالئذ لو لم يكن محرماً فلا أقل من كراهته ، والإمام عليه‌السلام لا يرتكب المكروه ، فلا مناص من حمل ذلك على صورة كون المنزل للغير أو على شرائه وهو بهذه الحالة ، أو على عدم وسع البناء لجعل الكنيف على كيفية أُخرى ، أو غير ذلك من الوجوه.

(١) هل المحرم بناء على حرمة استقبال القبلة حال التخلي هو استقبال القبلة أو استدبارها بمقاديم البدن وإن أمال المتخلي عورته عن القبلة إلى الشرق أو الغرب وبال إلى غير القبلة ، أو أن المحرّم هو البول إلى القبلة سواء كان بمقاديم البدن مستقبلاً لها أم لم يكن؟ الأول هو المشهور وإليه ذهب الماتن قدس‌سره.

والصحيح أن يقال : إن المدرك في الحكم بحرمة استقبال القبلة واستدبارها إن كان هو الروايات ولو بناء على انجبار ضعفها بعملهم كان المتعيّن هو الحكم بحرمة كل من الاستقبال بمقاديم البدن والفرج ، لاشتمال جملة منها على النهي عن استقبال القبلة بالبول أو الغائط ، ومقتضى إطلاقها عدم الفرق في حرمته بين الاستقبال بمقاديم البدن وعدمه ، وبعضها اشتمل على نهي المتخلي عن استقبال القبلة واستدبارها حيث قال : « إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة ولا تستدبرها » (١) ويشمل بإطلاقه صورة الاستقبال بالبول والفرج وعدمه ، وحيث لا تنافي بين الجهتين فنأخذ بكلتيهما ونلتزم بحرمة كل من الاستقبال بالبدن والاستقبال بالفرج ، وإن كان قد يجتمعان بل هذا هو المتعارف كما يأتي ، كما إذا استقبل القبلة بمقاديم بدنه وعورته.

وأما إذا كان المدرك هو التسالم والإجماع ، فلا مناص من القول بحرمة المجمع دون خصوص الاستقبال بالبدن والاستقبال بالفرج ، وذلك لأنه المتيقن مما قام الإجماع على حرمته دون كل واحد منهما لوجود المخالف كما مر ، فالمحرّم على ذلك هو استقبال‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٠٢ / أبواب أحكام الخلوة ب ٢ ح ٥.

٣٣٥

والصحاري (١) والقول بعدم الحرمة في الأوّل ضعيف ، والقبلة المنسوخة كبيت‌

______________________________________________________

المتخلِّي بمقاديم بدنه وفرجه كما هو المتعارف حال التخلي ، لا ما إذا استقبلها ببدنه دون فرجه أو العكس.

ثم إن الجمع بين الاستقبال بالبدن والاستقبال بالفرج إنما يأتي في البول ولا يتصور في الغائط أبداً ، لأن استقبال المتخلي ببدنه لا يجتمع مع الاستقبال بمخرج الغائط لضرورة أن المتخلي إذا استقبل القبلة ببدنه كان مخرج الغائط إلى السفل لا إلى القبلة. نعم يمكن استقبالها بمخرج الغائط فيما إذا كان المتخلي مستلقياً وكان رأسه إلى الشمال ورجلاه إلى الجنوب وبالعكس ، فان في مثله قد يكون مخرج الغائط مستقبلاً للقبلة وقد يكون مستدبراً لها ، إلاّ أن ذلك من الفروض النادرة والأدلّة لا تشمل سوى التخلي المعتاد ، وهو التخلي المتعارف حال القعود المستلزم كون الغائط إلى السفل.

(١) لإطلاق الروايات من غير تقييدها بالأبنية ، وأما رواية محمد بن إسماعيل المتقدِّمة (١) فقد عرفت أنها قضية في واقعة من غير أن تدل على جواز التخلي مستقبلاً للقبلة في الأبنية ، وأنها محمولة على ما إذا كان المنزل مؤقتاً أو انتقاله إليه عليه‌السلام وهو بتلك الحالة أو غير ذلك من المحامل.

وأما ما يحكى عن ابن الجنيد (٢) والمفيد (٣) وسلار (٤) ( قدس الله أسرارهم ) من عدم الحرمة في الأبنية ، فلعله من جهة أن استقبال القبلة عند ما لا حائل بينها وبين المتخلِّي مناف لاجلالها وتعظيمها ، وهذا بخلاف ما إذا كان حائل بينهما ، إلاّ أنه يندفع بإطلاق الروايات كما أشرنا إليه ، هذا كله إذا كان المدرك هو الأخبار.

وأما إذا استندنا إلى الإجماع والتسالم فلا مناص من الاقتصار على غير الأبنية لوجود المخالف في الأبنية ، ومع الشك في حرمة استقبال القبلة واستدبارها في الأبنية‌

__________________

(١) في ص ٣٣٤.

(٢) المختلف ١ : ٩٩ المسألة ٥٦.

(٣) المقنعة : ٤١.

(٤) المراسم : ٣٢.

٣٣٦

المقدس لا يلحقها الحكم (١) والأقوى عدم حرمتهما في حال الاستبراء والاستنجاء (٢) وإن كان الترك أحوط.

______________________________________________________

يرجع إلى البراءة ، وإن كان تركهما حتى في الأبنية هو الأحوط.

(١) لاختصاص الإجماع والأخبار بالقبلة الفعلية للمسلمين ، وذلك لأن الحكم بالحرمة على تقدير الصدور إنما يصدر من أئمتنا ( عليهم أفضل الصلاة ) فلا تشمل قبلة اليهود وغيرهم للانصراف ، وكونها هي القبلة للمسلمين سابقاً غير كاف في الشمول لظهور القبلة فيما هو القبلة الفعلية للمسلمين لا ما كان كذلك سابقاً.

(٢) لاختصاص الأدلّة بالبول والغائط ، ولم يرد نهي عن استقبال القبلة أو استدبارها حال الاستبراء والاستنجاء.

نعم ، قد يقال بعموم الحكم لهما لرواية عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قلت له : الرجل يريد أن يستنجي كيف يقعد؟ قال : كما يقعد للغائط » (١) فكما أن القعود للغائط مستقبل القبلة أو مستدبراً لها حرام ، فكذلك القعود للاستنجاء بمقتضى الخبر.

ويرد عليه أن الرواية إنما وردت لبيان الكيفية اللاّزمة في القعود ، وأن كيفيته للاستنجاء ككيفيته للتخلِّي ، فلا يعتبر في القعود له أن يرخي نفسه ولا أن يوسع فخذيه بأكثر من تفريجهما للتخلِّي ، وإن التزم العامّة باستحباب الاسترخاء حينئذ ، بل ذهب بعضهم إلى وجوبه (٢) فلا دلالة للرواية على حرمة استقبال القبلة أو استدبارها‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٦٠ / أبواب أحكام الخلوة ب ٣٧ ح ٢.

(٢) ذكر في شرح الزرقاني على مختصر أبي الضياء المالكي ج ١ ص ٧٦ ويندب لقاضي الحاجة حال الاستنجاء تفريج فخذيه واسترخاؤه لئلا ينقبض المحل على ما فيه من الأذى فيؤدي ذلك إلى بقاء النجاسة. وفي الفقه على المذاهب الأربعة ج ١ ص ٩٧ يندب الاسترخاء قليلاً عند الاستنجاء. والشافعية قالوا بوجوب الاسترخاء والحنفية قالوا انّما يندب الاسترخاء إذا لم يكن صائماً محافظة على الصوم. وفي بدائع الصنائع ج ١ ص ٢١ ينبغي أن يرخي

٣٣٧

ولو اضطرّ إلى أحد الأمرين تخيّر ، وإن كان الأحوط الاستدبار (١)

______________________________________________________

في الاستنجاء ، وقوله عليه‌السلام في ذيلها : « وإنما عليه أن يغسل ما ظهر منه وليس عليه أن يغسل باطنه » أيضاً يدل على ذلك ولا أقل من أنه مشعر به ، لأنه ناظر إلى دفع ما ربما يتوهّمه الغافل من اعتبار إدخال الأنملة لتنظيف الباطن أو الاسترخاء ، أو التفريج الزائد أو غيرها من الأُمور.

وأما الاستبراء فهو أيضاً كسابقه ولا دليل فيه على حرمة استقبال القبلة واستدبارها.

وقد يقال فيه بالحرمة ، نظراً إلى أنه قد يخرج بسببه قطرة بول أو قطرتان أو أكثر فإذا استبرأ المكلف مستقبلاً للقبلة أو مستدبراً لها وهو عالم بخروج البول منه فقد ارتكب الحرام ، لخروج البول منه نحو القبلة أو دبرها.

ويندفع بأن الحكم في لسان الدليل قد يتعلق بخروج البول من مخرجه ، ولا شبهة حينئذ في أن خروج القطرة يكفي في ترتب الحكم عليه ، وهذا كما في الوضوء لأن المكلف إذا توضأ ثم استبرأ فخرج منه البول ولو قطرة بطل وضوءه لترتب الحكم على خروج البول منه ، وقد يتعلق بالبول ، وأن البول إلى القبلة محرم كما في المقام ، ولا تأمل في عدم ترتب الحكم حينئذ على مجرد خروج قطرة أو قطرتين ، لأنه لا يصدق بذلك أنه قد بال ، ومع عدم صدقه لا مانع من استقبال القبلة أو استدبارها ، هذا كلّه بناء على أن المدرك في المسألة هو الروايات.

وأما إذا استندنا إلى التسالم والإجماع فالأمر أوضح ، لأن المتيقن منه إنما هو حرمة استقبال القبلة أو استدبارها لدى البول أو الغائط دون الاستبراء كما لعله ظاهر.

(١) لأن استدبار القبلة أقرب إلى أجلالها وتعظيمها.

هذا والصحيح أن المسألة تختلف باختلاف المدركين وذلك لأن المدرك في الحكم‌

__________________

نفسه إرخاء تكميلاً للتطهير. وفي البحر الرائق لابن نجيم ج ١ ص ٢٤٠ الأولى أن يقعد مسترخياً كل الاسترخاء إلاّ أن يكون صائماً.

٣٣٨

ولو دار أمره بين أحدهما وترك الستر مع وجود الناظر وجب الستر (١) ولو‌

______________________________________________________

بحرمة استقبال القبلة واستدبارها إن كان هو الأخبار ، فمقتضى إطلاقها عدم الفرق في حرمتهما بين الاضطرار وغيره ، ومعه تندرج المسألة في كبرى التزاحم ، لعدم قدرته على امتثال التكليفين مع الاضطرار إلى ترك أحدهما ، فيرجع إلى مرجحات المتزاحمين ، وحيث إن الحرمة في استقبال القبلة محتملة الأهمية دون الحرمة في استدبارها ، فلا مناص من تقديمها وبذلك يتعيّن عليه الاستدبار ويكون الاحتياط به وجوبياً حينئذ.

وأما إذا كان المدرك هو التسالم والإجماع كما قربناه ، اندرجت المسألة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير بحسب الجعل ، وذلك لأن الإجماع والتسالم إنما يوجبان حرمة استقبال القبلة واستدبارها في الجملة ، ولا يسببان حرمتهما على نحو الإطلاق حتى في موارد عدم التمكن من كليهما ، وبما أن المكلف قد عجز عن أحدهما فلا يحتمل حرمتهما في حقه معاً ، فالحرمة في حال الاضطرار إما أنها مجعولة في خصوص استقبال القبلة لاحتمال كونها أهم أو أنها جعلت لاستقبالها واستدبارها مخيراً ، وقد أسلفنا في محله أن مقتضى الأصل النافي للتعيّن هو التخيير (١) ومعه يكون الاحتياط بالاستدبار احتياطاً ندبياً لا محالة.

(١) كما إذا كان في غير القبلة ودبرها ناظر محترم لا يمكن التستر عنه ، فإن أمره يدور بين ترك استقبال القبلة واستدبارها والبول من دون تستر ، وبين البول مستقبلاً لها أو مستدبراً ، ولا إشكال في وجوب التستر حينئذ ، بلا فرق في ذلك بين كون المدرك هو الأخبار وكونه التسالم والإجماع ، فإنّه وقتئذ بحث علمي لا نتيجة عملية له. فان المدرك لو كان هو الأخبار وقعت المزاحمة بين حرمتهما وحرمة كشف العورة وحيث إن الثانية أهم بالارتكاز فتتقدم على حرمتهما ، ويجوز للمكلف أن يبول مستقبل القبلة أو مستدبراً لها.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٤٤٨.

٣٣٩

اشتبهت القبلة (١)

______________________________________________________

وإذا كان المدرك هو التسالم والإجماع ، لم يبق دليل على حرمة استقبال القبلة واستدبارها عند التزاحم ، وذلك لأن التسالم لا يقتضي حرمتهما إلاّ في الجملة وفي غير مورد التزاحم ، وأما معه فلا مقتضي لحرمتهما كما هو ظاهر.

(١) قد يتمكن المكلف عند اشتباه القبلة من الاحتياط ، كما إذا دار أمر القبلة بين نقطتين متقابلتين ، لأنه يتمكن حينئذ من البول إلى غيرهما من النقاط ، وكذا إذا دارت بين الجهات الأربع أو الأقل أو الأكثر في نقاط معينة ، بحيث لو تقاطع خطان من تلك النقاط على وجه حصلت منهما زوايا أربع علم بوجود القبلة في منتهى أحد الخطوط الأربعة ، لتمكنه حينئذ من البول إلى غيرها كما إذا بال بين خطين منها.

وقد لا يتمكن من الاحتياط ، كما إذا دار أمر القبلة بين جهات متعددة بحيث احتملنا القبلة في كل نقطة من نقاطها ، فان تمكن من الانتظار إلى أن ينكشف له القبلة لوصوله إلى منزله أو لدخول الليل وظهور الأنجم أو لطلوع الشمس أو غير ذلك مما يستكشف به القبلة تعيّن ، وبقيت حرمة التخلي إلى القبلة أو استدبارها بحالها.

وإن لم يتمكن من الانتظار اندرجت المسألة في كبرى الاضطرار إلى أحد أطراف الشبهة لا بعينه ، وقد بيّنا في محله أن العلم الإجمالي لا يسقط عن التنجيز بالاضطرار (١) لأنه لم يتعلق بمخالفة الحكم الواقعي ، إذ لا اضطرار للمكلف إلى البول مستقبل القبلة أو مستدبراً لها ، وإنما تعلق بارتكاب أحد أطراف الشبهة ، ولا يسقط بذلك سوى وجوب الموافقة القطعية مع بقاء المخالفة القطعية بحرمتها ، وقد ذكرنا في المباحث الأُصولية أن الموافقة القطعية مع التمكن منها في أطراف العلم واجبة والمخالفة القطعية محرمة ، ومع العجز عنها تسقط عن الوجوب وتبقى المخالفة القطعية على حرمتها ، خلافاً لصاحب الكفاية قدس‌سره حيث ذهب إلى سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز بطروء الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه (٢).

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٣٨٢.

(٢) كفاية الأُصول : ٣٦٠.

٣٤٠