موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

بشروط خمسة :

الأوّل : أن يكون عالماً بملاقاة المذكورات للنجس الفلاني.

الثاني : علمه بكون ذلك الشي‌ء نجساً أو متنجساً اجتهاداً أو تقليداً.

الثالث : استعماله لذلك الشي‌ء فيما يشترط فيه الطّهارة ، على وجه يكون أمارة نوعية على طهارته ، من باب حمل فعل المسلم على الصحّة (١).

______________________________________________________

فالإنصاف أن السيرة غير مختصة بمورد دون مورد إلاّ أنه مع ذلك لا يمكننا الجزم بعدم الاشتراط ، لإمكان المناقشة فيما تقدم بأن عدم تجنبهم عن مساورة الأشخاص المتقدم ذكرهم يحتمل أن يكون مبنياً على عدم تنجيس المتنجِّس شرعاً.

ويمكن الجواب عن ذلك بأن الاستدلال بالسيرة لا يتوقف على القول بالسراية في المتنجسات ، لأنّا لو قلنا بالسراية في المتنجِّس من دون واسطة وأنكرناها في غيره بل لو سلمنا عدم تنجيس المتنجِّس مطلقاً أيضاً أمكننا الاستدلال بالسيرة على عدم الاشتراط ، لعدم اختصاصها بعدم الغسل فيما يصيبه العامّة أو الفسقة بأبدانهم أو في ألبستهم وغيرها مما يتعلق بهم حتى يحتمل استنادها إلى إنكار السراية في المتنجسات ، بل هي جارية على المعاملة مع الأُمور المذكورة معاملة الأشياء الطاهرة ، لأنهم يصلّون فيما يشترونه من أمثالهم كالفرو في المثال المتقدم ، ومن الظاهر أنه لو كان محكوماً بالنجاسة لم تصح فيه الصلاة قلنا بالسراية في المتنجسات أم لم نقل.

وعلى الجملة القول بعدم الاشتراط هو الأقرب ، والسيرة مخصصة للاستصحاب وبها يحكم بالطهارة فيما علمنا بنجاسته سابقاً عند احتمال طروء الطهارة عليه ، إلاّ أن الاحتياط اللاّزم يقتضي اعتبار الشرائط المتقدِّمة في الحكم بالطهارة.

(١) الشروط المذكورة تبتني أكثرها على أن يكون الحكم بالطهارة في موارد الغيبة من باب تقديم الظاهر على الأصل حملاً لفعل المسلم على الصحيح ، وحيث لم يثبت ذلك لما تقدّم من أن الحكم بالطهارة في تلك الموارد أمر تعبدي وليس من باب أمارية حال المسلم وظهوره ، فالقول بشرطية الأُمور المذكورة يكون مبنياً على الاحتياط كما مرّ.

٢٤١

الرابع : علمه باشتراط (*) الطهارة في الاستعمال المفروض (١).

الخامس : أن يكون تطهيره لذلك الشي‌ء محتملاً ، وإلاّ فمع العلم بعدمه لا وجه للحكم بطهارته (٢) بل لو علم من حاله أنه لا يبالي بالنجاسة وأن الطاهر والنجس عنده سواء يشكل الحكم بطهارته ، وإن كان تطهيره إياه محتملاً. وفي اشتراط كونه بالغاً ، أو يكفي ولو كان صبياً مميزاً وجهان (**) (٣) والأحوط ذلك. نعم لو رأينا أن وليه مع علمه بنجاسة بدنه أو ثوبه يجري عليه بعد غيبته آثار الطهارة لا يبعد البناء عليها. والظاهر إلحاق الظلمة والعمى بالغيبة مع تحقق الشروط المذكورة (٤).

______________________________________________________

(١) قد عرفت الكلام في ذلك فلا نعيد.

(٢) ضرورة أن جريان السيرة مختص بصورة الشك ولا يحتمل أن تكون الغيبة من المطهرات.

(٣) أقواهما عدم اشتراط البلوغ ، لأن المميز إذا كان مستقلا في تصرفاته كالبالغين حكم بطهارة بدنه وما يتعلق به عند احتمال طروء الطهارة عليهما ، لجريان السيرة على المعاملة معهما معاملة الطهارة. نعم لو كان الطفل غير مميز ولم يكن مستقلا في تصرّفاته ولا أنها صدرت تحت رعاية البالغين لم يحكم بطهارة بدنه وثيابه وغيرهما بعد العلم بنجاستهما في زمان ما بمجرد احتمال تطهيرهما ، وذلك لعدم تمكنه من تطهيرهما بنفسه على الفرض ، فاحتمال الطهارة حينئذ إما من جهة احتمال إصابة المطر لهما أو من جهة احتمال تطهير البالغين لبدنه أو ثيابه من باب الصدفة والاتفاق ، إلاّ أن احتمال الصدفة مما لا يعتنى به عند المتشرعة والعقلاء. نعم الطفل غير المميز إذا كانت أفعاله تحت رعاية البالغين حكم بطهارة بدنه وألبسته وجميع ما يتعلق به كالبالغين عند احتمال طروء الطهارة عليها ، لأنه حينئذ من توابع البالغ الذي تصدى لأفعاله وأُموره.

(٤) لأن الغيبة ليست لها خصوصية في الحكم بالطهارة فإنّه يدور مدار قيام‌

__________________

(*) لا تبعد كفاية احتمال العلم أيضاً.

(**) لا يبعد عدم اعتبار البلوغ.

٢٤٢

ثم لا يخفى أن مطهرية الغيبة إنما هي في الظاهر وإلاّ فالواقع على حاله ، وكذا المطهِّر السابق وهو الاستبراء بخلاف سائر الأُمور المذكورة. فعد الغيبة من المطهِّرات من باب المسامحة ، وإلاّ فهي في الحقيقة من طرق إثبات التطهير.

[٣٨٨] مسألة ١ : ليس من المطهِّرات الغسل بالماء بالمضاف (١) ولا مسح النجاسة عن الجسم الصقيل كالشيشة (٢) ولا إزالة الدم بالبصاق (٣) ولا غليان‌

______________________________________________________

السيرة وعدمه ، وهي كما أنها متحقِّقة في موارد الغيبة كذلك متحقِّقة في غيرها ، لأنهم إذا رأوا أحداً استنجى خارج الفسطاط وعلموا بنجاسة يده عاملوا معها معاملة الطهارة عند احتمال تطهيرها بعد ذلك ، فلا موضوعية للغيبة والحكم يشمل موارد الظلمة والعمى وغيرهما.

(١) كما قدّمناه في بحث المياه وضعّفنا ما ذهب إليه الشيخ المفيد والسيد قدس‌سرهما (١).

(٢) وإن ذهب السيد والمحدث الكاشاني قدس‌سرهما إلى كفاية زوال العين في الأجسام الصقيلة بالمسح أو بغيره إلاّ أن مقتضى إطلاقات الأمر بالغسل كقوله في موثقة عمار : « ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء ... » (٢) عدم الفرق في وجوبه بين الأجسام الشفافة الصقيلة وغيرها على ما مر عليه الكلام في محلِّه (٣).

(٣) وإن وردت في رواية غياث (٤) إلاّ أنّا أجبنا عنها في البحث عن أحكام المضاف فليراجع (٥).

__________________

(١) شرح العروة ٢ : ٢٧.

(٢) الوسائل ١ : ١٤٢ / أبواب الماء المطلق ب ٤ ح ١.

(٣) شرح العروة ٢ : ٢٥.

(٤) الوسائل ١ : ٢٠٥ / أبواب الماء المضاف ب ٤ ح ١ ، ٢.

(٥) شرح العروة ٢ : ٣٢.

٢٤٣

الدم في المرق (١) ولا خبز العجين النجس (٢) ، ولا مزج الدهن النجس بالكر الحار (٣) ولا دبغ جلد الميتة (٤) وإن قال بكل قائل.

[٣٨٩] مسألة ٢ : يجوز استعمال جلد الحيوان الذي لا يؤكل لحمه بعد التذكية ولو فيما يشترط فيه الطهارة ، وإن لم يدبغ على الأقوى. نعم يستحب أن لا يستعمل مطلقاً إلاّ بعد الدبغ (٥).

______________________________________________________

(١) كما مرّ في التكلّم على نجاسة الدم (١).

(٢) كما أُشير إليه في المسألة الرابعة والعشرين من فروع التطهير بالماء (٢).

(٣) كما تقدّم في المسألة التاسعة عشرة من فروع التطهير بالماء (٣). ولا مناقضة فيما أفاده في تلك المسألة وفي المقام حيث حكم في كليهما بعدم كفاية مزج الدهن النجس بالكر. نعم حكى هناك قولاً بكفايته واستشكل فيه إلاّ أنه استثنى صورة واحدة ولم يستبعد الطهارة فيها ، وهي ما إذا جعل الدهن في كر حار وغلى مقداراً من الزمان حتى وصل إلى جميع الأجزاء الدهنية ، وقد ذكرنا هناك أن ذلك أمر لا تحقق له خارجاً وأن الماء لا يصل إلى جميع الأجزاء الدهنية بالغليان.

(٤) نعم ، ورد في بعض الأخبار ما يدل على طهارة جلد الميتة المدبوغ (٤) إلاّ أنها غير قابلة للاستناد إليها لضعفها ومعارضتها مع الأخبار الكثيرة وموافقتها للعامّة كما تعرّضنا لتفصيله في التكلّم على نجاسة الميتة فليراجع (٥).

(٥) في هذه المسألة عدّة فروع :

__________________

(١) شرح العروة ٣ : ٢٢ المسألة [١٩٤].

(٢) في ص ٧٩.

(٣) في ص ٧٣.

(٤) كما في فقه الرضا : ٣٠٢ وخبر الحسين بن زرارة المروية في الوسائل ٢٤ : ١٨٦ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣٤ ح ٧.

(٥) شرح العروة ٢ : ٤٥٥.

٢٤٤

أحدها : أنّ الحيوان الذي لا يؤكل لحمه إذا لم تقع عليه التذكية كما إذا مات حتف أنفه أو بسبب آخر غير شرعي فهل يجوز استعمال جلده أو لا يجوز؟ وقد ذكرنا (١) في التكلّم على الانتفاع بالميتة أن جواز الانتفاع بها فيما لا يشترط فيه الطهارة مما لا تأمل فيه وإنما استشكلنا في جواز بيعها وعليه لا مانع من استعمال جلد الحيوان في مفروض الكلام. والماتن قدس‌سره لم يصرِّح بهذا الفرع في كلامه وإنما أشار إليه بقوله : بعد التذكية.

ثانيها : أن جلد الحيوان الذي لا يؤكل لحمه هل يجوز أن يستعمل بعد التذكية وإن لم يدبغ ، أو أن استعماله محرم قبل دباغته؟

حكي عن الشيخ في المبسوط (٢) والخلاف (٣) وعن السيد المرتضى في مصباحه المنع من استعماله قبل الدبغ (٤). ونسبه في الذكرى إلى المشهور (٥). وعن كشف اللثام نسبته إلى الأكثر (٦). وذلك إما لتوقف تذكية الجلد وطهارته على الدبغ أو من جهة حرمة استعماله قبل الدبغ تعبداً. وذهب الآخرون إلى جواز استعماله من غير حاجة إلى الدبغ ، وهذا هو الصحيح لإطلاق الأخبار الدالّة على جواز الانتفاع بجلد الحيوان بعد التذكية منها : موثقة سماعة قال : « سألته عن جلود السباع أينتفع بها؟ قال : إذا رميت وسميت فانتفع بجلده » (٧). ومنها : موثقته الأُخرى قال : « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن جلود السباع ، فقال : اركبوها ولا تلبسوا شيئاً منها تصلّون فيه » (٨).

__________________

(١) في شرح العروة ٢ : ٤٧١ ٤٧٣.

(٢) المبسوط ١ : ١٥.

(٣) الخلاف ١ : ٦٤ المسألة ١١.

(٤) نقل عنه المحقق في المعتبر ١ : ٤٦٦ والعلاّمة في المختلف ١ : ٣٤٣.

(٥) الذكرى : ١٦.

(٦) كشف اللثام ١ : ٤٨٦.

(٧) الوسائل ٣ : ٤٨٩ / أبواب النجاسات ب ٤٩ ح ٢ ، ٢٤ : ١٨٥ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣٤ ح ٤.

(٨) الوسائل ٤ : ٣٥٣ / أبواب لباس المصلي ب ٥ ح ٤ ، ٦.

٢٤٥

[٣٩٠] مسألة ٣ : ما يؤخذ من الجلود من أيدي المسلمين أو من أسواقهم محكوم بالتذكية (١) وإن كانوا ممن يقول بطهارة جلد الميتة بالدبغ.

______________________________________________________

ومنها غير ذلك من الأخبار ، فما حكي عن الشيخ والسيد مما لا وجه له.

وربما نقل عن الشيخ الاستدلال على ما ذهب إليه بأن الإجماع قام على جواز الانتفاع به بعد دباغته ولم يقم إجماع على جوازه قبل الدبغ. وهو استدلال عجيب لبداهة عدم انحصار الدليل بالإجماع ويكفي في الحكم بالجواز إطلاق الروايات كما تقدم. هذا على أن مقتضى أصالة الحل جواز الانتفاع بالجلد قبل دباغته لأنه فعل يشك في حرمته والأصل يقتضي حليته ، ومعه لا يحتاج في الحكم بالجواز إلى دليل فان المتوقف على الدليل إنما هو الحرمة دون الجواز.

وثالثها : أن جلد الحيوان الذي لا يؤكل لحمه هل يستحب التجنب عن استعماله قبل الدبغ؟ ذهب المحقِّق في الشرائع (١) والعلاّمة في محكي القواعد (٢) إلى استحبابه ووافقهما الماتن قدس‌سره وعن المعتبر (٣) والمختلف (٤) كراهة استعماله قبل الدبغ. ولا يمكن المساعدة على شي‌ء من ذلك لعدم دلالة الدليل على كراهة الاستعمال ولا على استحباب التجنب عنه ، لما حكى في المدارك (٥) عن المحقق في المعتبر من أنّا إنما قلنا بالكراهة تفصياً عن شبهة الخلاف ، ومعنى ذلك أن القول بالكراهة أو الاستحباب للاحتياط لا لأنه أمر مستحب أو مكروه في نفسه ، وحيث إن مستند المنع ضعيف فلا موجب للقول بالكراهة أو استحباب التجنّب عن استعماله قبل الدبغ.

(١) وكذا اللحوم والشحوم وذلك للروايات الكثيرة (٦) الدالّة على طهارة اللّحم أو الجلد المأخوذين من أسواق المسلمين أو من أيديهم وإن كانوا معتقدين بطهارة جلد‌

__________________

(١) الشرائع ١ : ٦٨.

(٢) القواعد ١ : ١٩٧ وفيه : يستحب الدبغ فيما لا يؤكل لحمه.

(٣) المعتبر ١ : ٤٦٦.

(٤) المختلف ١ : ٣٤٣ المسألة ٢٦٣.

(٥) المدارك ٢ : ٣٨٨.

(٦) الوسائل ٣ : ٤٩٠ / أبواب النجاسات ب ٥٠ ، ٢٤ : ٧٠ / أبواب الذبائح ب ٢٩.

٢٤٦

[٣٩١] مسألة ٤ : ما عدا الكلب والخنزير من الحيوانات التي لا يؤكل لحمها قابل للتذكية فجلده ولحمه طاهر بعد التذكية (١).

[٣٩٢] مسألة ٥ : يستحب غسل الملاقي في جملة من الموارد مع عدم تنجسه كملاقاة البدن أو الثوب لبول الفرس والبغل والحمار (٢) وملاقاة الفأرة الحيّة‌

______________________________________________________

الميتة بالدبغ. وفي بعضها : « والله إني لأعترض السوق فأشتري بها اللّحم والسمن والجبن والله ما أظن كلهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان » (١) وقد ورد المنع عن السؤال في بعضها (٢) فلا يعتنى معها باحتمال عدم التذكية أو كون الدباغة مطهرة عنده. وهذه المسألة قد تقدّمت في البحث عن نجاسة الميتة مفصّلاً (٣).

وهذا بخلاف اللحوم والجلود المأخوذة من غير المسلمين وأسواقهم لأنه إذا لم يكن هناك أمارة أُخرى على التذكية فمقتضى الاستصحاب عدمها ، إلاّ أن هذا الاستصحاب لا يترتّب عليه الحكم بنجاسة الجلود واللحوم وإنما يترتب عليه حرمة أكلها وعدم جواز الصلاة فيها ، وذلك لأن النجاسة مترتبة على عنوان الميتة واستصحاب عدم التذكية لا يثبت كونها ميتة والتفصيل موكول إلى محلِّه.

(١) مرّت الإشارة إلى ذلك في المسألة الثالثة من مسائل نجاسة البول والغائط فليراجع (٤).

(٢) للأمر بغسلهما من أبوال الدواب الثلاث في جملة من الأخبار (٥) المحمولة على‌

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ١١٩ / أبواب الأطعمة المباحة ب ٦١ ح ٥.

(٢) إسماعيل بن عيسى قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف؟ قال : عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه ». الوسائل ٣ : ٤٩٢ / أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ٧.

(٣) شرح العروة ٢ : ٤٥٢.

(٤) شرح العروة ٢ : ٤٠٩.

(٥) حسنة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن أبوال الدواب والبغال والحمير فقال : اغسله ، فان لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كله ، فان شككت فانضحه » وغيرها من الأخبار المروية في الوسائل ٣ : ٤٠٧ / أبواب النجاسات ب ٩ ح ٥ وغيره.

٢٤٧

مع الرطوبة مع ظهور أثرها (١) والمصافحة مع الناصبي بلا رطوبة (٢). ويستحب النضح أي الرش بالماء في موارد ، كملاقاة الكلب (٣).

______________________________________________________

الاستحباب جمعاً بينها وبين ما دلّ بصراحته على عدم وجوب الغسل من أبوالها. ويمكن المناقشة في ذلك بأن الأخبار الدالّة على نجاسة الأبوال المذكورة بالأمر بغسلها محمولة على التقيّة لذهاب جم غفير من العامّة (١) إلى نجاسة البول من الحيوانات المكروه لحمها ، ومعه لا يبقى أي دليل على الحكم بالاستحباب.

(١) كما ورد في صحيحة علي بن جعفر قال : « سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء فتمشي على الثياب أيصلّى فيها؟ قال : اغسل ما رأيت من أثرها ، وما لم تره أنضحه بالماء » (٢) وحملت على الاستحباب لجملة من الأخبار المعتبرة الدالّة على طهارتها وعدم وجوب الغسل من أثرها.

(٢) لخبر خالد القلانسي قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ألقى الذمي فيصافحني ، قال : امسحها بالتراب أو الحائط ، قلت : فالناصب؟ قال : اغسلها » (٣) المحمول على الاستحباب لعدم سراية النجس مع الجفاف كما هو مفروض الرواية ، فإنّه لولاه لم يكن وجه لقوله : « امسحها بالتراب وبالحائط » لتعيّن الغسل حينئذ ، وبما أن الرواية ضعيفة بعلي بن معمر فالحكم بالاستحباب يبتني على التسامح في أدلة السنن.

(٣) ورد ذلك في صحيحة البقباق قال : « قال أبو عبد الله عليه‌السلام إذا أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله ، وإن مسه جافاً فاصبب عليه الماء ... » (٤) وفي‌

__________________

(١) قدّمنا أقوالهم في ذلك في شرح العروة ٢ : ٥٧ ، ٣٨٥.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٦٠ / أبواب النجاسات ب ٣٣ ح ٢.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٢٠ / أبواب النجاسات ب ١٤ ح ٤.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٤١ / أبواب النجاسات ب ٢٦ ح ٢.

٢٤٨

والخنزير (١) والكافر بلا رطوبة (٢) وعرق الجنب من الحلال (٣) وملاقاة ما شك في ملاقاته لبول الفرس والبغل والحمار (٤) ،

______________________________________________________

حديث الأربعمائة : « تنزهوا عن قرب الكلاب فمن أصاب الكلب وهو رطب فليغسله وإن كان جافّاً فلينضح ثوبه بالماء » (١) ونحوها غيرها ، وحيث أن ملاقاة النجس مع الجفاف غير موجبة للسراية ، ووجوب الصبّ أو النضح خلاف المقطوع به حمل الأمر بهما في الأخبار على الاستحباب.

(١) ففي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال : إن كان دخل في صلاته فليمض ، فان لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه إلاّ أن يكون فيه أثر فيغسله » (٢) وغير ذلك من الأخبار.

(٢) كما ورد في مصححة الحلبي قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في ثوب المجوسي؟ فقال : يرش بالماء » (٣) المحمولة على الاستحباب إذا لم يعلم ملاقاته الثوب عن رطوبة ، وحيث إن المجوسي لا خصوصية له فيتعدّى عنه إلى غيره من أصناف الكفار.

(٣) لموثقة أبي بصير قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن القميص يعرق فيه الرجل وهو جنب حتى يبتل القميص؟ فقال : لا بأس وإن أحب أن يرشه بالماء فليفعل » (٤).

(٤) لقوله عليه‌السلام في حسنة محمّد بن مسلم المتقدِّمة : « فإن شككت فانضحه ».

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤١٧ / أبواب النجاسات ب ١٢ ح ١١.

(٢) الوسائل ٣ : ٤١٧ / أبواب النجاسات ب ١٣ ح ١.

(٣) الوسائل ٣ : ٥١٩ / أبواب النجاسات ب ٧٣ ح ٣.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٤٦ / أبواب النجاسات ب ٢٧ ح ٨.

٢٤٩

وملاقاة الفأرة الحية مع الرطوبة إذا لم يظهر أثرها (١). وما شك في ملاقاته للبول (٢) أو الدم أو المني (٣) وملاقاة الصفرة الخارجة من دبر صاحب البواسير (٤) ومعبد اليهود والنصارى والمجوس إذا أراد أن يصلي فيه (٥). ويستحب المسح‌

______________________________________________________

(١) لقوله عليه‌السلام في صحيحة علي بن جعفر المتقدِّمة : « وما لم تره انضحه بالماء ».

(٢) لصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : « سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن رجل يبول بالليل فيحسب أن البول أصابه فلا يستيقن فهل يجزئه أن يصب على ذكره إذا بال ولا يتنشف؟ قال : يغسل ما استبان أنه أصابه وينضح ما يشك فيه من جسده أو ثيابه ويتنشف قبل أن يتوضأ » (١).

(٣) لحسنة عبد الله بن سنان قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال : إن كان قد علم أنه أصاب ثوبه جنابة أو دم قبل أن يصلي ثم صلّى فيه ولم يغسله فعليه أن يعيد ما صلّى ، وإن كان لم يعلم به فليس عليه إعادة ، وإن كان يرى أنه أصابه شي‌ء فنظر فلم يرَ شيئاً أجزأه أن ينضحه بالماء » (٢).

(٤) لصحيحة البزنطي قال : « سأل الرضا عليه‌السلام رجل وأنا حاضر فقال : إن لي جرحاً في مقعدتي فأتوضأ ثم أستنجي ، ثم أجد بعد ذلك الندى والصفرة تخرج من المقعدة أفأُعيد الوضوء؟ قال : قد أيقنت؟ قال : نعم ، قال : لا ولكن رشّه بالماء ولا تعد الوضوء » (٣) والجرح يعم البواسير وغيرها.

(٥) كما في صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٢٠ / أبواب أحكام الخلوة ب ١١ ح ١ ، ٣ : ٤٦٦ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٢.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٧٥ / أبواب النجاسات ب ٤٠ ح ٣. ثم إن كلمة « دم » في الجواب موجودة في التهذيب [ التهذيب ٢ : ٣٥٩ ] والوسائل وغير موجودة في الكافي [ الكافي ٣ : ٤٠٦ / ٩ ] والوافي ٦ : ١٦٤ فعلى نسختهما لا بدّ من حمل الجنابة على المثال ليطابق الجواب مع السؤال.

(٣) الوسائل ١ : ٢٩٢ / أبواب نواقض الوضوء ب ١٦ ح ٤.

٢٥٠

بالتراب أو بالحائط في موارد : كمصافحة الكافر الكتابي بلا رطوبة (١) ومس الكلب والخنزير بلا رطوبة ، ومس الثعلب والأرنب (٢).

______________________________________________________

عن الصلاة في البيع والكنائس وبيوت المجوس؟ فقال : رش وصلّ » (١) وغيرها من الأخبار (٢) والوارد فيها بيوت المجوس لا معابدهم ومن ثمة عبّر صاحب الوسائل قدس‌سره بباب جواز الصلاة في بيوت المجوس فليلاحظ. وقد أسلفنا بعض الكلام في هذه المسألة عند التكلّم على أحكام النجاسات فليراجع (٣).

(١) كما في رواية القلانسي المتقدِّمة (٤) وقد عرفت الحال فيها.

(٢) هذا وإن اشتهر في كلام جملة منهم كما نقله صاحب الحدائق قدس‌سره (٥) إلحاقاً لهما بسابقهما ، بل عن الشيخ في المبسوط استحبابه في كل نجاسة يابسة أصابت البدن (٦) ، وعن ابن حمزة إيجابه في مس الكلب والخنزير وأخويهما (٧) بل هو ظاهر الطوسي قدس‌سره في نهايته بزيادة الثعلب والأرنب والفأرة والوزغة (٨) وكذا المفيد قدس‌سره بإسقاط الأرنب والثعلب (٩) إلاّ أنه لم يقم دليل على استحباب ذلك فضلاً عن وجوبه ، فالحكم باستحباب التمسّح حينئذ يستند إلى فتوى الأصحاب ولا بأس به بناء على التسامح في أدلّة السنن ، إلاّ أنه على ذلك لا وجه للاقتصار على ما ذكره الماتن قدس‌سره بل لا بدّ من إضافة الفأرة والوزغة بل كل نجاسة يابسة لوجود الفتوى باستحباب التمسّح في مسّها.

__________________

(١) الوسائل ٥ : ١٣٨ / أبواب مكان المصلي ب ١٣ ح ٢.

(٢) الوسائل ٥ : ١٣٨ / أبواب مكان المصلي ب ١٣ ، ١٤.

(٣) شرح العروة ٣ : ١٥٣.

(٤) في ص ٢٤٨ التعليقة (٢).

(٥) الحدائق ٥ : ٣٩٧.

(٦) المبسوط ١ : ٣٨.

(٧) الوسيلة : ٧٧.

(٨) النهاية : ٥٢.

(٩) المقنعة : ٧٠.

٢٥١

فصل

[ في طرق ثبوت التطهير ]

إذا علم نجاسة شي‌ء يحكم ببقائها ما لم يثبت تطهيره ، وطريق الثبوت أُمور : الأوّل : العلم الوجداني (١) الثاني : شهادة العدلين بالتطهير أو بسبب الطهارة ، وإن لم يكن مطهراً عندهما أو عند أحدهما ، كما إذا أخبرا بنزول المطر على الماء النجس بمقدار لا يكفي عندهما (٢)

______________________________________________________

فصل‌

(١) لأنه حجّة بذاته وهو أقوى الحجج والطرق.

(٢) لا شبهة في حجِّيّة البيِّنة في الشريعة المقدّسة على ما بيّنّاه مفصّلاً في مباحث المياه وعند البحث عمّا تثبت به النجاسة فليراجع (١) وإنما الكلام في أن البيِّنة إذا قامت على طهارة شي‌ء معلوم النجاسة سابقاً هل يترتب أثر عليها أو لا أثر لها؟

الثاني هو الصحيح ، وذلك لأن الطهارة ليست أمراً قابلاً للاحساس بإحدى الحواس ، وإنما هي حكم حدسي نظري ولا معنى للشهادة فيه ، لأنها إنما تعتبر في الأُمور المحسوسة فحسب ، فعلى ذلك ترجع الشهادة بالطهارة إلى الشهادة بالسبب كإصابة المطر أو الاتصال بالكر وغيرهما من الأسباب المحسوسة للطهارة ، وهذا إنما يفيد فيما إذا كان السبب متحداً عند الشاهد والمشهود عنده ، كما لو اعتقدا كفاية مجرد الاتصال بالكر في التطهير لأن السبب يثبت بذلك لدى المشهود عنده ولا مناص له من الحكم بالطهارة على طبقه.

وأما إذا اختلف السبب عندهما كما إذا اعتقد الشاهد كفاية الاتصال بالكر في التطهير وبنى المشهود عنده على عدم كفايته فلا أثر للشهادة حينئذ ، لاحتمال استناد‌

__________________

(١) شرح العروة ٢ : ٢٦٠ ، ٣ : ١٥٥.

٢٥٢

في التطهير مع كونه كافياً عنده ، أو أخبرا بغسل الشي‌ء بما يعتقدان أنه مضاف وهو عالم بأنه ماء مطلق ، وهكذا. الثالث : إخبار ذي اليد وإن لم يكن عادلاً (١). الرابع : غيبة المسلم (٢) على التفصيل الذي سبق. الخامس : إخبار الوكيل (*) في التطهير بطهارته (٣).

______________________________________________________

الشاهد في شهادته هذه إلى ما لا أثر له عند من يشهد له ومعه لا بدّ من الرجوع إلى استصحاب نجاسته السابقة. وعلى الجملة حال الشهادة على المسبب حال الشهادة على السبب وليس لها أثر زائد عليه.

(١) لقيام السيرة القطعية على المعاملة مع الأشياء المعلومة نجاستها السابقة معاملة الأشياء الطاهرة لدى الشك إذا أخبر ذو اليد بطهارتها.

(٢) كما تقدّم (٢) وعرفت تفصيل الكلام فيه.

(٣) للسيرة الجارية على اتباع قول الوكيل فيما وكل فيه كالطهارة فيما وكل لتطهيره ، وهذا لا بما أنه إخبار الوكيل بل بما أنه من مصاديق الكبرى المتقدِّمة أعني أخبار ذي اليد عما تحت استيلائه ، لأن المراد به ليس هو المالك للعين فقط وإنما يراد به مطلق من كان المال تحت يده واستيلائه سواء أكان مالكاً لعينه أم لمنفعته أو للانتفاع به ، أو كان المال وديعة عنده كما في المقام.

نعم ، قد ادعوا الإجماع في العقود والإيقاعات على اعتبار إخباره بما أنه وكيل بحيث لو أخبر عن بيعه أو تطليقة أو غيرهما من الأُمور الاعتبارية اعتمد على إخباره وثبت به البيع والطلاق ، وهو من فروع القاعدة المتصيدة : من ملك شيئاً ملك الإقرار به ، إلاّ أن ذلك يختص بالأُمور الاعتبارية دون الأُمور التكوينية كالغسل والتطهير ، إذ لم يقم فيها دليل على اعتبار قوله بما أنه وكيل وإنما يعتبر لأنه ذو اليد. وتظهر ثمرة ذلك فيما إذا لم يكن المال تحت يد الوكيل لأن إخباره حينئذ عن طهارة ما وكل لتطهيره لم يقم دليل على اعتباره.

__________________

(*) في ثبوت الطهارة باخباره إذا لم يكن الشي‌ء في يده إشكال بل منع.

(١) في ص ٢٣٨.

٢٥٣

السادس : غسل مسلم له بعنوان التطهير (١) وإن لم يعلم أنه غسله على الوجه الشرعي أم لا حملاً لفعله على الصحّة. السابع : إخبار العدل الواحد عند بعضهم لكنّه مشكل (*) (٢).

[٣٩٣] مسألة ١ : إذا تعارض البيِّنتان أو إخبار صاحبي اليد في التطهير وعدمه تساقطا ويحكم ببقاء النجاسة (٣) وإذا تعارض البيِّنة مع أحد الطرق المتقدِّمة ما عدا العلم الوجداني تقدّم البيِّنة (٤).

______________________________________________________

(١) كما إذا شاهدنا غسله ، وذلك حملاً لفعله على الصحة كما هو الحال في جميع الأفعال القابلة للاتصاف بالصحّة مرّة وبالفساد اخرى من العبادات والمعاملات.

(٢) بل لا إشكال في حجيته لأن السيرة الجارية على اعتباره في الأحكام هي التي تقتضي اعتباره في الموضوعات. وأما ما قد يتوهّم من أن رواية مسعدة بن صدقة (٢) رادعة عن السيرة في الموضوعات الخارجية ، فيدفعه أن الرواية غير صالحة للرادعية بوجه لضعفها بحسب الدلالة والسند على ما بيّناه في مباحث المياه (٣).

(٣) لأنّ أدلّة الاعتبار لا تشملهما معاً لاستلزامه الجمع بين المتضادين أو المتناقضين ، ولا لأحدهما دون الآخر لأنه من غير مرجح فأدلّة اعتبار الطرق والأمارات تختص بصورة عدم ابتلائها بالمعارض ، هذا في البيِّنتين وإخبار صاحبي اليد وكذا الحال في إخبار العدلين أو أحدهما مع غيبة المسلم أو غسله.

(٤) لأنها أقوى الأمارات والحجج عدا العلم فتتقدّم على غيرها. نعم يتقدّم عليها الإقرار على ما يستفاد من الأخبار الواردة في القضاء ، ولقد أسلفنا جملة من الكلام على ذلك في مباحث المياه فليراجع (٤).

__________________

(*) مرّ أنه لا يبعد ثبوت الطهارة باخبار العدل الواحد بل مطلق الثقة.

(١) الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

(٢) شرح العروة ٢ : ٢٦١.

(٣) شرح العروة ٢ : ٢٦٩ المسألة [١٣٠].

٢٥٤

[٣٩٤] مسألة ٢ : إذا علم بنجاسة شيئين فقامت البينة على تطهير أحدهما غير المعيّن ، أو المعيّن واشتبه عنده أو طهّر هو أحدهما ثم اشتبه عليه حكم عليهما بالنجاسة عملاً بالاستصحاب بل يحكم بنجاسة ملاقي كل منهما (١).

______________________________________________________

(١) لما اخترناه في مباحث الأُصول من أن العلم الإجمالي بنفسه غير منجز ولا مانع من جريان الأُصول في أطرافه في نفسه ، وإنما المانع عن ذلك لزوم الترخيص في المخالفة القطعية على تقدير جريانها في أطرافه ، فمتى لم يلزم من جريانها محذور المخالفة القطعية جرت في أطرافه (١) ، والحال في المقام كذلك لأن استصحاب النجاسة في كل من الطرفين لا يستلزم الترخيص في المخالفة العملية إذ المعلوم بالإجمال طهارة أحدهما غير المعيّن ولا معنى للمخالفة العملية في مثلها. إذن لا مانع عن جريان الاستصحاب في الطرفين والحكم بنجاسة ملاقي أي منهما ، وإن قلنا بعدم النجاسة في ملاقي بعض أطراف الشبهة وذلك لجريان استصحاب النجاسة في المقام ، هذا.

ولقد التزم شيخنا الأنصاري قدس‌سره بذلك في مباحث القطع وذكر أن المخالفة الالتزامية غير مانعة عن جريان الأُصول في الأطراف (٢) ، ولكنه قدس‌سره منع عن جريان الاستصحاب فيها في مباحث الاستصحاب (٣) وهذا لا لأجل المحذور المتقدم ليختص بما إذا لزم من جريانه الترخيص في المخالفة العملية ، بل من جهة لزوم المناقضة بين الصدر والذيل في قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة « ولا تنقض اليقين أبداً بالشك وإنما تنقضه بيقين آخر » (٤) حيث منع عن نقض اليقين بالشك في صدره وأمر بنقض اليقين باليقين في ذيله ، فان الشك في صدره واليقين في ذيله مطلقان فإطلاق الشك يشمل البدوي والمقرون بالعلم الإجمالي ، كما أن إطلاق اليقين يشمل اليقين الإجمالي والتفصيلي ، وهذان الإطلاقان لا يمكن التحفّظ عليهما في‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٣٤٧.

(٢) فرائد الأُصول ١ : ٣٠.

(٣) فرائد الأُصول ٢ : ٧٤٣.

(٤) الوسائل ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١.

٢٥٥

أطراف العلم الإجمالي ، لأن مقتضى إطلاق الصدر جريان الاستصحاب في كلا الطرفين ومقتضى إطلاق الذيل عدم جريانه في أحدهما وبهذا تصبح الصحيحة مجملة. وعلى الجملة أن جريان الاستصحاب في أطراف الشبهة وإن كان لا اشكال فيه بحسب الثبوت إلاّ أنه غير ممكن بحسب الإثبات فالمانع إثباتي وهو لزوم المناقضة بين الصدر والذيل.

ولقد وافقه شيخنا الأُستاذ قدس‌سره على هذا المدعى وإن لم يرتض برهانه حيث أجاب عما استدل به قدس‌سره بما ذكره صاحب الكفاية من أن دليل اعتبار الاستصحاب غير منحصر بتلك الصحيحة المشتملة على الذيل ، فهب أنها مجملة إلاّ أن الأخبار التي لا تشتمل على هذا الذيل مطلقة وهي شاملة لكل من الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي ، لوضوح أن إجمال أي دليل لا يسري إلى الآخر (١) هذا.

على أن ظاهر اليقين الوارد في ذيل الصحيحة خصوص اليقين التفصيلي ، وذلك لأن ظاهر الذيل جواز نقض اليقين الأول باليقين الثاني المتعلق بما تعلق به اليقين الأول لا نقضه بمطلق اليقين وإن كان متعلقاً بشي‌ء آخر ، ومن الضروري أن اليقين في موارد العلم الإجمالي لا يتعلق بما تعلق به اليقين السابق أعني اليقين بنجاسة كلا الإناءين مثلاً ، إذ لا يقين بطهارة هذا وذاك وإنما اليقين تعلق بطهارة أحدهما ، فمتعلق اليقين الثاني في موارد العلم الإجمالي أمر آخر غير ما تعلق به اليقين السابق عليه ومعه لا محذور في استصحاب نجاستهما والمانع الإثباتي لا تحقق له. وإنما لا نلتزم بجريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي للمانع الثبوتي وتقريبه :

أن الاستصحاب أصل إحرازي تنزيلي ، ومعنى ذلك أن الشارع في مورد الاستصحاب قد نزّل المكلف منزلة العالم تعبداً وإن كان شاكاً وجداناً ، ومن البيّن أن جعل المكلف عالماً بنجاسة كل من الإناءين بالتعبد مع العلم الوجداني بطهارة أحدهما أمر غير معقول ، لأنه تعبد على خلاف المعلوم بالوجدان ، وهذا يختص‌

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٠ ٢٣ ، كفاية الأُصول : ٤٣٢.

٢٥٦

بالأصل التنزيلي ولا يجري في غيره من الأُصول المثبتة للتكليف في أطراف العلم الإجمالي كأصالة الاحتياط عند العلم بجواز النظر إلى إحدى المرأتين ، لأنه لا مانع من الحكم بعدم جواز النظر إليهما من باب الاحتياط وإن علمنا بجواز النظر إلى إحداهما وسرّه أن الشارع لم يفرض المكلف عالماً بعدم جواز النظر واقعاً ، هذا كله فيما إذا قامت البينة على طهارة أحد الإناءين أو علمنا بطهارته من غير تعيين.

وأما إذا قامت البينة على طهارة أحدهما المعيّن أو علمنا بطهارته ثم اشتبه بغيره فقد بنى على عدم جريان الاستصحاب في الطرفين ، وذكر في وجهه زائداً على المناقشة المتقدِّمة وجهاً آخر وهو أن اليقين بالنجاسة في أحدهما المعيّن حال قيام البيِّنة على طهارته أو العلم بها قد انقطع وزال وسقط فيه الاستصحاب عن الاعتبار لتبدّل اليقين بالنجاسة باليقين بطهارته ، فاذا اشتبه بالآخر لم يمكن استصحاب النجاسة في شي‌ء منهما ، وذلك لاشتباه ما انقطعت فيه الحالة السابقة بغيره ، فالطرفان كلاهما من الشبهات المصداقية لحرمة نقض اليقين بالشك ولا يمكن التمسك فيها بالعموم أو الإطلاق.

وقد ظهر بما سردناه في المقام أن ما أفاده شيخنا الأُستاذ قدس‌سره لو تم فإنّما يتم في الأُصول الإحرازية التنزيلية ولا يجري في سائر الأُصول كأصالة الاحتياط في المثال ، فما ربما يقال من أنه لو تم لشمل الأُصول العملية بأسرها ولا يختص بالاستصحاب مما لا أساس له.

نعم ، لا تسعنا المساعدة على ما أفاده شيخنا الأُستاذ قدس‌سره وذلك لأنه إنما يتم فيما إذا كان اليقين والشك في كلا الطرفين مورداً لاستصحاب واحد بان شملهما شمولاً واحداً ، فان التعبد بالنجاسة في مجموعهما تعبد على خلاف العلم الوجداني بعدم نجاسة أحدهما ، فعلى تقدير أن يكون لنجاسة المجموع أثر شرعي كما إذا فرضنا أن لبسهما معاً محرم في الصلاة لم يمكن الحكم ببقاء النجاسة في مجموعهما باستصحاب واحد لأنه على خلاف ما علمناه بالوجدان. وأما إذا كان كل واحد من اليقين والشك في الطرفين مورداً للاستصحاب مستقلا فلا وجه لما أفاده ، وذلك لأن كل واحد من‌

٢٥٧

الطرفين معلوم النجاسة سابقاً ومشكوك فيه بالفعل وهو مورد للاستصحاب من دون علم وجداني على خلافه ، لأن العلم الإجمالي إنما يتعلق بالجامع دون الأطراف فمرتبة الاستصحاب في كل واحد من الطرفين محفوظة فلا مانع من جريانه فيه ، ولا يضره العلم بمخالفة أحد الاستصحابين للواقع لأن المخالفة الالتزامية غير مانعة عن جريان الأُصول في الأطراف كما مر.

ويترتّب على ما ذكرناه من جريان الاستصحاب في كلا الطرفين أنه إذا لاقى أحدهما شيئاً برطوبة حكم بنجاسته ، إلاّ أن الطرفين إذا كانا ثوباً وكرر الصلاة فيهما صحت صلاته ، وذلك أما في صورة عدم التمكن من الصلاة في الثوب المعلوم طهارته تفصيلاً فواضح. وأما في صورة التمكن منها فلما بيّناه غير مرة من أن الامتثال الإجمالي إنما هو في عرض الامتثال التفصيلي لا في طوله ، ومعه لا مانع من تكرار الصلاة في الثوبين مع التمكن من تحصيل العلم بالطاهر منهما ، هذا كله في صورة العلم الإجمالي بطهارة أحد الطرفين.

وأما إذا علم طهارة أحدهما تفصيلاً أو شهدت البينة بطهارته معيناً ثم اشتبه بغيره فيتوجه على ما أفاده أن الشبهة المصداقية للاستصحاب أو لسائر الأُصول العملية لا مصداق لها بوجه ، لما ذكرناه في محله من أن اليقين والشك من الأُمور الوجدانية التي لا يتطرق عليها الشك والترديد ، إذ لا معنى لتردد الإنسان في أنه متيقن من أمر كذا أو أنه شاك فيه ، وإنما الشبهة المصداقية تتحقق في الأُمور التكوينية ، وبما أن نجاسة كل واحد من الإناءين كانت متيقنة سابقاً ومشكوكة بحسب البقاء فلا مانع من جريان الاستصحاب في كليهما. نعم يحتمل في كل منهما أن يكون هو الذي قد علمنا بطهارته وانقطع باليقين بنجاسته إلاّ أن العلم بالطهارة في أحدهما المعيّن قبل التردد والاشتباه غير مانع عن جريان الاستصحاب بعد الاشتباه ، إذ اليقين على خلاف اليقين السابق إنما يمنع عن الاستصحاب ما دام باقياً وأما لو ارتفع وشك المكلف في بقاء المتيقن فاليقين بالطهارة بوجوده المرتفع بالفعل لا يكون مانعاً عن استصحاب النجاسة.

ونظيره ما إذا علم فسق أحد ثم قطع بعدالته ثم شك في أن قطعه بالعدالة هل كان مطابقاً للواقع أم كان جهلاً مركباً فإنّه يستصحب فسقه لعدم بقاء اليقين بعدالته. وعلى‌

٢٥٨

لكن إذا كانا ثوبين وكرّر الصلاة فيهما صحت (١).

[٣٩٥] مسألة ٣ : إذا شك بعد التطهير وعلمه بالطهارة ، في أنه هل أزال العين أم لا أو أنه طهّره على الوجه الشرعي أم لا ، يبني على الطهارة (*) (٢) إلاّ أن يرى فيه عين النجاسة. ولو رأى فيه نجاسة وشك في أنها هي السابقة أو أُخرى‌

______________________________________________________

الجملة اليقين بالطهارة إنما يمنع عن استصحاب النجاسة على تقدير بقائه لا فيما إذا انعدم وزال كما يأتي في المسألة الآتية إن شاء الله.

(١) كما اتضح مما سردناه في التعليقة المتقدِّمة.

(٢) لقاعدة الفراغ المعبّر عنها في أمثال المقام بأصالة الصحّة الثابتة بالسيرة القطعية لما قدّمناه في محلِّه من أن الشك إذا كان في عمل الشاك نفسه وكان مقارناً له اعتنى بشكه وإذا كان بعد العمل لم يعتن به لقوله عليه‌السلام « كلّ ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو » (٢) وغيره. وأما إذا شك في العمل الصادر من الغير فلا يعتني به مطلقاً مقارناً كان أم بعده ، وهذا بعينه قاعدة الفراغ.

ثم إن أصالة الصحّة إنما تجري فيما إذا علم تحقّق أصل العمل الجامع بين الصحيح والفاسد وشك في صفته ، كما إذا شك بعد علمه بالطهارة في أنه أورد المتنجِّس على الماء القليل أو أورد الماء عليه ، بناء على اعتبار ورود الماء على المتنجِّس ، وأما إذا شك في أصل إتيانه بالعمل وعدمه فهو ليس بمورد لأصالة الصحّة وقاعدة الفراغ ، كما إذا شك في أنه باع أم لم يبع أو أنه صلّى على الميت أم قرأ الفاتحة عليه حيث لا يمكن الحكم حينئذ بأنه باع أو صلّى على الميت بأصالة الصحة. وهذا بخلاف ما إذا تيقن ببيعه وشك في أنه أوقعه بالعربية أو بغيرها أو علم أصل صلاته وشك في عدد تكبيراتها.

فعلى هذا لا مجال في المقام للتشبث بشي‌ء من أصالة الصحة وقاعدتي الفراغ‌

__________________

(*) إذا كان الشك في زوال العين فالأقرب أنه لا يبني على الطهارة ، ومنه يظهر الحال فيما إذا شك في كون النجاسة سابقة أو طارئة.

(١) الوسائل ٨ : ٢٣٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٣ ح ٣.

٢٥٩

طارئة بنى على أنها طارئة (١).

[٣٩٦] مسألة ٤ : إذا علم بنجاسة شي‌ء وشك في أن لها عيناً أم لا ، له أن يبني على عدم العين فلا يلزم الغسل (*) بمقدار يعلم بزوال العين على تقدير وجودها وإن كان أحوط (٢).

______________________________________________________

والتجاوز ، لأنه بعد علمه بالطهارة إذا شك في بقاء العين وإزالتها أو في عصر الثوب وعدمه فهو في الحقيقة شك في أصل الغسل وعدمه ، لما أسبقناه من أن الغسل متقوم بالعصر وإزالة العين ولا غسل بدونهما. فالأظهر في المقام هو الحكم بالنجاسة كما كتبناه في التعليقة لاستصحاب النجاسة المتيقنة سابقاً ، وقد أشرنا أن اليقين بالطهارة قبل الشك إنما يمنع عن استصحاب النجاسة على تقدير البقاء لا في صورة الارتفاع والزوال ، فاستصحاب بقاء النجاسة مع الشك في أصل الغسل محكّم سواء أكانت العين مانعة عن نفوذ الماء على تقدير بقائها أم لم تكن ، وليست المسألة من موارد القواعد الثلاث حتى تكون حاكمة على الاستصحاب.

(١) بدعوى أن التردّد في أنها عين طارئة يساوق التردد في صحّة التطهير وفساده ، لأنه من المحتمل أن تكون هي العين السابقة إلاّ أن مقتضى قاعدة الفراغ أو أصالة الصحّة صحّة الغسل والتطهير ، وبها يتعيّن أن تكون العين طارئة. وقد ظهر لك مما ذكرناه في التعليقة المتقدِّمة أن الشك في التطهير من جهة الشك في بقاء العين وزوالها شك في تحقق الغسل وعدمه ، ومع الشك في أصل العمل لا مجرى للقواعد الثلاث ويكون المحكّم هو استصحاب نجاسة المغسول وعدم طروء المطهر عليه.

(٢) إن كان الماتن قدس‌سره قد اعتمد فيما أفاده على استصحاب عدم العين في المتنجِّس ، فيدفعه أن استصحاب عدم العين لا يثبت تحقق الغسل بمقدار تزول به العين على تقدير وجودها ، لأنه لازم عقلي لعدم العين في المتنجِّس إذ الغسل يتقوم بإزالة العين فاستصحاب عدمها لإثبات تحقق الغسل بذلك المقدار من أظهر أنحاء الأُصول‌

__________________

(*) بل يلزم ذلك على الأظهر.

٢٦٠