موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

فالمتحصل أن ما ذهب إليه المشهور من تنجس بدن الحيوان بالملاقاة وكفاية زوال العين في طهارته هو الصحيح.

بقي الكلام فيما يترتب على هذا النزاع ، فقد يقال كما عن جماعة منهم شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في بحث الأُصول (١) : أن الثمرة تظهر فيما إذا أصابت الحيوان عين من الأعيان النجسة أو المتنجسة ثم لاقى بدنه ماء أو غيره من الأجسام الرطبة كالثوب مع الشك في بقاء العين في الحيوان حال وصول الماء أو الجسم الرطب إليه ، فإنّه إن قلنا بعدم تنجس الحيوان أصلاً فلا يحكم بنجاسة الملاقي للحيوان ، لأن ما علمنا بملاقاته الماء مثلاً إنما هو بدن الحيوان وهو جسم طاهر لا يقبل النجاسة حتى ينجّس الماء أو غيره ، وأما العين النجسة التي أصابت الحيوان على الفرض فملاقاتها الماء غير محرزة للشك في بقائها حال ملاقاتهما. واستصحاب بقائها إلى حال الملاقاة لا يترتب عليه ملاقاة العين النجسة مع الماء ، اللهمّ إلاّ على القول بالأصل المثبت.

وأمّا إذا قلنا بتنجّس الحيوان بالملاقاة وطهارته بزوال العين عنه ، فلا مناص من الحكم بنجاسة الملاقي للحيوان في مفروض الكلام أعني الماء أو الجسم الآخر الرطب وذلك لأن ملاقاة الحيوان مع الماء أو الثوب الرطب مثلاً وجدانية ، وغاية الأمر أنّا نشك في زوال العين عنه. وبعبارة اخرى نشك في طهارته ونجاسته ، ومقتضى استصحاب بقاء النجاسة أو عدم زوال العين عنه أنه باق على نجاسته حال ملاقاتهما وهو يقتضي الحكم بنجاسة الملاقي للحيوان ، هذا.

وفيه : أنّا سواء قلنا بتنجس الحيوان بالملاقاة وطهارته بزوال العين عنه أم قلنا بعدم تنجسه أصلاً ، لا نلتزم بنجاسة الملاقي للحيوان مع الشك في بقاء العين على بدنه وذلك لانقطاع استصحاب النجاسة في الحيوان ، لما تقدّم من دلالة الأخبار على أن الحكم بالنجاسة في الحيوانات ينحصر بصورة العلم بنجاستها ومع الشك لا يحكم عليها بالنجاسة ، لأن مقتضى قوله : « كل شي‌ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه إلاّ أن ترى في منقاره دماً » (٢) نجاسة الماء الذي يشرب منه الطير إذا رأى في منقاره دماً‌

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٢٠.

(٢) الوسائل ١ : ٢٣٠ / أبواب الأسآر ب ٤ ح ٢.

٢٢١

وكذا زوال عين النجاسة أو المتنجِّس عن بواطن الإنسان كفمه وأنفه وأُذنه. فإذا أكل طعاماً نجساً يطهر فمه بمجرّد بلعه. هذا إذا قلنا إن البواطن تتنجس بملاقاة النجاسة ، وكذا جسد الحيوان. ولكن يمكن أن يقال بعدم تنجسهما أصلاً (١) ، وإنّما‌

______________________________________________________

والرؤية وإن كانت موجبة للعلم بالحاسة الخاصة أعني الابصار ، إلاّ أن هذه الخصوصية ملغاة للقطع بعدم الفرق بين العلم الحاصل بالإبصار والعلم الحاصل بغيره ، وعليه فالرواية تدل على نجاسة منقار الطيور والماء الملاقي معه عند العلم بها وأما مع الشك في نجاسته فهو وما لاقاه محكوم بالطهارة ، فهذه الثمرة ساقطة.

نعم ، لا بأس بجعل ما قدمناه ثمرة للنزاع ، وهو ما إذا أصابت الحيوان نجاسة وجفت ولم تزل عنه عينها ثم ذبح فإنّه على القول بعدم تنجس الحيوان أصلاً لا بدّ من الحكم بطهارته ، لأن العين حال رطوبتها لم توجب نجاسته لفرض أن الحيوان لا يتنجّس بها ، وأما بعد ذبحه وخروجه عن كونه حيواناً فلأنه لم تصبه عين رطبة حتى يحكم بنجاسته. وأما على القول بتنجس الحيوان بالملاقاة وطهارته بزوال العين عنه فالحيوان المذبوح محكوم بالنجاسة ولا يكفي زوال العين في طهارته ، لأن كونه مطهراً يختص بالحيوان والمفروض خروجه عن كونه حيواناً ، فلا مناص من تطهيره بالغسل.

ثم إن ما دلّ على إناطة الحكم بالنجاسة بالعلم بها إنما ورد في الطيور ويمكن الحكم بذلك في الفأرة أيضاً ، نظراً إلى قضاء العادة بنجاستها ولو من جهة بولها وبعرها الموجبين لنجاسة محلّهما ، ومعه حكم عليه‌السلام بطهارة الماء الذي وقعت فيه الفأرة إذا خرجت منه حيّة (١) وأما غير الفأرة فإن قطعنا بعدم الفرق بينها وبين سائر الحيوانات فهو ، وإلاّ فيقتصر في الحكم بالطهارة وانقطاع استصحاب النجاسة بمورد النص والفأرة فحسب.

(١) وقع الكلام في أن بواطن الإنسان هل تتنجس بملاقاة النجاسة وتطهر بزوال العين عنها أو أنها لا تقبل النجاسة أصلاً؟ وما يمكن أن يقال في المقام إن البواطن على قسمين : ما دون الحلق وما فوقه.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٤٠ / أبواب الأسآر ب ٩ ح ٤.

٢٢٢

النجس هو العين الموجودة في الباطن ، أو على جسد الحيوان. وعلى هذا فلا وجه لعدّه من المطهِّرات. وهذا الوجه قريب جدّاً (*).

وممّا يترتّب على الوجهين أنه لو كان في فمه شي‌ء من الدم فريقه نجس ما دام الدم موجوداً على الوجه الأول ، فإذا لاقى شيئاً نجّسه ، بخلافه على الوجه الثاني فإن الريق طاهر والنجس هو الدم فقط ، فإن أدخل إصبعه مثلاً في فمه ، ولم يلاق الدم لم ينجس ، وإن لاقى الدم ينجس إذا قلنا بأن ملاقاة النجس في الباطن أيضاً موجبة للتنجس ، وإلاّ فلا ينجس أصلاً إلاّ إذا أخرجه وهو ملوث بالدم.

______________________________________________________

أما البواطن ما دون الحلق فلا ينبغي الإشكال في عدم تنجسها بملاقاة النجاسة ، بل ولا ثمرة للبحث في أنها تتنجس وتطهر بزوال العين عنها أو لا تتنجس من الابتداء للقطع بصحة الصلاة ممن أكل طعاماً متنجساً أو شرب ماء كذلك أو الخمر وهي موجودة في بطنه ، فالنزاع في ذلك لغو لا أثر له. وأما العموم المستفاد من موثقة عمار المتقدِّمة (٢) فهو منصرف عن هذا القسم من البواطن جزماً ولا يتوهم شمولها لغسل البواطن بوجه.

وأما البواطن ما فوق الحلق كباطن الفم والأنف والعين والأُذن ، فان كانت النجاسة الملاقية لها من النجاسات المتكونة في الباطن كملاقاة باطن الأنف بدم الرعاف ، فلا شبهة في عدم تنجسها بذلك لما ورد في موثقة عمار الساباطي قال : « سُئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل يسيل من أنفه الدم ، هل عليه أن يغسل باطنه يعني جوف الأنف؟ فقال : إنما عليه أن يغسل ما ظهر منه » (٣) وهي تخصص العموم المستفاد من موثقة عمار المتقدِّمة ، لأنها تقتضي وجوب الغسل حتى إذا كان الملاقي من البواطن فوق الحلق ، وبهذه الموثقة يرتفع الأمر بالغسل في البواطن المذكورة ، ومع ارتفاعه لا يبقى دليل على نجاسة داخل الأنف وأمثاله من البواطن ، لأن‌

__________________

(*) بل هو بعيد ، نعم هو قريب بالإضافة إلى ما دون الحلق.

(١) المتقدِّمة في ص ٢١٩.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٣٨ / أبواب النجاسات ب ٢٤ ح ٥.

٢٢٣

[٣٨٦] مسألة ١ : إذا شك في كون شي‌ء (*) من الباطن أو الظاهر يحكم ببقائه على النجاسة بعد زوال العين على الوجه الأول (١) من الوجهين ويبنى على طهارته على الوجه الثاني ، لأن الشك عليه يرجع إلى الشك في أصل التنجس.

______________________________________________________

النجاسة إنما تستفاد من الأمر بالغسل كما مر غير مرة.

وإذا كانت النجاسة خارجية ولم تكن من النجاسات المتكونة في الجوف كما إذا استنشق الماء المتنجِّس ، فقد ذكرنا في البحث عن نجاسة البول والغائط (٢) أن الأجزاء الداخلية لا تتنجس بملاقاة النجاسة الخارجية ، إلاّ أن ذلك إنما يتم في القسم الأول من البواطن ، وأما القسم الثاني منها فمقتضى عموم موثقة عمار المتقدِّمة تنجسها بملاقاة النجاسة ، ولم يرد أي مخصص للعموم المستفاد منها بالإضافة إلى النجاسات الخارجية إلاّ أنها تطهر بزوال العين عنها ، وذلك للسيرة الجارية على طهارتها بذلك مؤيدة بروايتين واردتين في طهارة بصاق شارب الخمر ، إحداهما : ما رواه عبد الحميد بن أبي الديلم قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل يشرب الخمر فيبصق فأصاب ثوبي من بصاقه قال : ليس بشي‌ء » (٣) وثانيتهما : رواية الحسن بن موسى الحناط قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يشرب الخمر ثم يمجه من فيه فيصيب ثوبي فقال : لا بأس » (٤) وعليه فهذا القسم من البواطن نظير بدن الحيوان لا أنها لا تتنجّس بالملاقاة أصلاً.

وتظهر ثمرة ذلك فيما إذا وصلت نجاسة إلى فم أحد فإنّه على القول بتنجس البواطن يتنجّس به الفم لا محالة وبه ينجس الريق الموجود فيه فإذا أصاب شيئاً نجّسه ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بعدم تنجسها فان الريق والفم كملاقيهما باقيان على الطهارة.

(١) بل على كلا الوجهين السابقين :

أمّا إذا قلنا بتنجس البواطن وطهارتها بزوال العين عنها فلأجل العلم بنجاسة‌

__________________

(*) المشكوك فيه يحكم بعدم كونه من الباطن ، وعليه فلا أثر للوجهين المذكورين.

(١) شرح العروة ٢ : ٣٩١.

(٢) ، (٣) الوسائل ٣ : ٤٧٣ / أبواب النجاسات ب ٣٩ ح ٢.

٢٢٤

ما يشك في كونه من البواطن ، وإنما الشك في ارتفاع نجاسته بزوال العين عنه ومقتضى الاستصحاب بقاؤه على نجاسته.

وأما إذا قلنا بعدم تنجّس البواطن ، فلأجل الأصل الموضوعي الموجب للحكم بعدم ارتفاع نجاسته حتى يغسل ، وتوضيحه : أن الشك في كون شي‌ء من البواطن قد يكون من جهة الشبهة المفهومية وعدم الاطلاع بسعة مفهوم الباطن وضيقه ، ولا مناص حينئذ من الرجوع إلى مقتضى العموم والإطلاق ، ومقتضى العموم المستفاد من موثقة عمار المتقدِّمة أن كل شي‌ء أصابته النجاسة ينجس ولا ترتفع نجاسته إلاّ بغسلة وخرجنا عن عمومها في البواطن بما دلّ على أنها لا تتنجس بملاقاة النجاسة أصلاً لأنّا نتكلم على هذا البناء ومع إجمال المخصص لدورانه بين الأقل والأكثر يرجع إلى العام في غير المقدار المتيقن من المخصص ، لأنه من الشك في التخصيص الزائد فيندفع بالعموم والإطلاق.

وقد يكون من جهة الشبهة المصداقية ، كما إذا شك لظلمة ونحوها في أن ما أصابته النجاسة من البواطن أو غيرها ، وفي هذه الصورة وإن لم يجز الرجوع إلى العام لأنه من التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية ، إلاّ أن هناك أصلاً موضوعياً ومقتضاه أن المورد المشكوك فيه باق تحت العموم ، وذلك لأن الحكم بعدم التنجس في الدليل المخصص إنما رتب على عنوان الباطن وهو عنوان وجودي ومقتضى الأصل عدمه وأن المشكوك فيه ليس من البواطن لجريان الأصل في الأعدام الأزلية ، وكل ما لم يكن من البواطن لا بدّ من غسله لتنجسه بملاقاة النجاسة وعدم ارتفاعها إلاّ بغسلة.

وذلك لأن الموضوع للحكم في الموثقة هو الشي‌ء المعبّر عنه بلفظة « ما » في قوله « ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء » وما لم يثبت أنه من الباطن أيضاً شي‌ء ويصدق أن يقال : إنه مما أصابه ذلك الماء من غير حاجة إلى تجشم إثبات أنه من الظواهر ، هذا كله في النجاسة الخارجية.

وأما النجاسة الداخلية فقد عرفت أنها غير منجسة للبواطن ، فلو شككنا في أن ما أصابته النجاسة الداخلية من الباطن أو الظاهر فلا مناص من الحكم بطهارته بالأصل الموضوعي أو قاعدة الطهارة ، وذلك لأن وجوب الغسل في موثقة عمار الواردة في دم‌

٢٢٥

[٣٨٧] مسألة ٢ : مطبق الشفتين من الباطن وكذا مطبق الجفنين ، فالمناط في الظاهر فيهما ما يظهر منهما بعد التطبيق (١).

______________________________________________________

الرعاف (١) إنما رتب على عنوان الظاهر حيث قال : « وإنما يغسل ظاهره ». وعليه إن قلنا إن الجملة المذكورة متكفلة لحكم إيجابي فقط وهو وجوب غسل الظاهر ، فبما أنه من العناوين الوجودية يمكن أن يحرز عدمه بالاستصحاب لجريانه في الأعدام الأزلية كما مر ، فيقال : الأصل أن المشكوك فيه لم يكن من الظاهر وكل ما لم يكن كذلك لا يتنجّس بالنجاسة الداخلية بمقتضى الموثقة.

وأما إذا بنينا على أن الجملة المذكورة متكفلة لحكمين : إيجابي وسلبي لكلمة « إنما » لأنها من أداة الحصر ، فتدل على وجوب غسل الظاهر وعدم وجوب غسل الباطن فلا يمكننا استصحاب عدم كون المشكوك فيه من الظاهر لأنه يعارض باستصحاب عدم كونه من الباطن فيتساقطان ، إلاّ أنه لا بدّ حينئذ من الرجوع إلى قاعدة الطهارة وهي تقتضي الحكم بطهارة المشكوك يه لا محالة.

(١) أما في الطهارة الحدثية من الغسل والوضوء فلا شك في أن المطبقين من البواطن ولا يجب غسلهما ، ويمكن استفادة ذلك من كلمة « الوجه » لأنها بمعنى ما يواجه الإنسان ومطبق الشفتين أو الجفنين لا يواجه الإنسان وهو ظاهر ، وكذا في غسل الجنابة لقوله : « لو أن رجلاً ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك » (٢) فإنّه يقتضي عدم كون المطبقين من الظاهر لجريان العادة على عدم فتح العينين والشفتين في الارتماس وعند صبّ الماء على الوجه فلا يصل الماء إلى المطبقين ، وقد دلت الرواية على كفايته.

وإنما الكلام في الطهارة الخبثية ، والصحيح أن الأمر فيها أيضاً كذلك ، وهذا لا لموثقة عمّار الواردة في الرعاف ولا لما ورد في الاستنجاء (٣) الدالّتين على أن الواجب‌

__________________

(١) المتقدِّمة في ص ٢٢٣.

(٢) كما في صحيحة زرارة المروية في الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥.

(٣) كما في موثقة عمار المشتملة على قوله : « إنّما عليه أن يغسل ما ظهر منها يعني المقعدة

٢٢٦

الحادي عشر : استبراء الحيوان الجلاّل فإنّه مطهّر لبوله وروثه (١)

______________________________________________________

إنما هو غسل ظاهر الأنف والمقعدة حتى يستشكل شيخنا الأعظم قدس‌سره باختصاصهما بالأنف والمقعدة وأنه لا دليل على التعدي إلى غيرهما (١). على أنهما خاصتان بالنجاسة الداخلية وقد عرفت أنها غير موجبة لتنجس البواطن أصلاً وهي خارجة عن محل الكلام ، لأن البحث في تنجس المطبقين بالنجاسة الخارجية التي بنينا على كونها موجبة لتنجس البواطن وإن كان زوالها موجباً لطهارتها.

بل لجريان السيرة على عدم فتح العينين أو الفم فيما إذا تنجس جميع البدن وأُريد تطهيره بالارتماس في كر ونحوه أو بصبّ الماء على جميع البدن ، كما يظهر ذلك من ملاحظة حال الداخلين في الحمامات وأمثالهم. ويؤيد ذلك الروايتان المتقدمتان الواردتان في طهارة بصاق شارب الخمر ، وهما روايتا عبد الحميد بن أبي الديلم والحسن بن موسى الحنّاط (٢) وذلك لوصول الخمر عادة إلى مطبق الشفتين ، فلو لم يكن مطبقهما من البواطن لتنجس بشربها ولم يكف زوال العين في الحكم بطهارته وبذلك كان يتنجّس البصاق لغلبة إصابته مطبقهما ، وقد تقدّم أن المتنجِّس من غير واسطة منجِّس لما لاقاه ، ومعه لا وجه للحكم بطهارة بصاق شارب الخمر ، وحيث إنه عليه‌السلام حكم بطهارته فيستكشف من ذلك أن مطبق الشفتين من البواطن التي تتنجّس بملاقاة النجاسة الخارجية وإن كانت تطهر بزوال العين عنها ، ومن ذلك يظهر الحال في مطبق الجفنين أيضاً لأن حكمه حكم مطبق الشفتين.

مطهِّريّة استبراء الجلاّل‌

(١) الكلام في هذه المسألة يقع في جهات :

__________________

وليس عليه أن يغسل باطنها » ونحوها من الأخبار المرويّة في الوسائل ١ : ٣٤٧ / أبواب أحكام الخلوة ب ٢٩ ح ٢ وغيره.

(١) كتاب الطهارة : ٣٩١ السطر ١٣ ( بحث المطهرات ومنها : انتقال النجاسة إلى البواطن ).

(٢) المتقدِّمتان في ص ٢٢٤.

٢٢٧

الاولى : يحرم أكل الحيوانات الجلاّلة لصحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا تأكل اللحوم الجلاّلة وإن أصابك من عرقها شي‌ء فاغسله » (١) وغيرها من الأخبار.

الجهة الثانية : أن بول الجلاّلة ومدفوعها محكومان بالنجاسة ، لقوله في حسنة بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (٢) لأنها تدل على ثبوت الملازمة بين كون الحيوان محرم الأكل وكون بوله نجساً ، كما أن مقتضى إطلاقها عدم الفرق في تلك الملازمة بين الحرمة الذاتية وبين كونها عارضة بالجلل أو بغيره ، وبهذا تثبت نجاسة بول الجلاّلة لحرمة أكلها ، فإذا ثبتت نجاسة بولها ثبتت نجاسة مدفوعها لعدم الفصل بينهما بالارتكاز.

ثم إن الحرمة العرضية إنما تستتبع نجاسة البول والخرء فيما إذا كانت ثابتة على نوع المكلفين كما هو الحال في الجلل ، وأما الحرمة العرضية الثابتة لشخص دون شخص أو لطائفة دون أُخرى فهي لا تستلزم نجاسة البول والخرء ، وذلك لوضوح أن حرمة أكل لحم الشاة على المريض لاضراره مثلاً لا تستتبع نجاسة بول الشاة وخرئها كما لا تستتبعها حرمة أكلها لغيره ، وكذا الأغنام المملوكة لملاّكها لأنها محرّمة الأكل على من لم يأذن له المالك إلاّ أن أمثال تلك الحرمة العرضية لا تستلزم نجاسة بولها وروثها فالمدار في الحكم بنجاسة بول الحيوان وخرئه إنما هو حرمة لحمه على نوع المكلّفين كما أن الأمر كذلك في الملازمة بين حلية أكل لحم الحيوان وطهارة بوله وروثه ، لأن حلية الأكل العارضة لبعض دون بعض غير مستتبعة للحكم بطهارة بول الحيوان وروثه ، كما إذا اضطر أحد إلى أكل لحم السباع أو احتاج إليه للتداوي ، فالمدار في الطرفين على كون الحكم ثابتاً للنوع هذا ، وقد سبق بعض الكلام في ذلك في التكلم على نجاسة البول وعرق الإبل الجلاّلة ، فليراجع (٣).

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٢٣ / أبواب النجاسات ب ١٥ ح ١.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٠٥ / أبواب النجاسات ب ٨ ح ٢.

(٣) شرح العروة ٢ : ٣٨١ ، ٣ : ١٤٣.

٢٢٨

والمراد بالجلاّل مطلق ما يؤكل لحمه من الحيوانات المعتادة بتغذي العذرة (١)

______________________________________________________

(١) هذه هي الجهة الثالثة من الكلام وهي في بيان مفهوم الجلل ، والتحقيق أن الجلل لا يختص بحيوان دون حيوان بل يعم كل حيوان يتغذى بعذرة الإنسان. وما في بعض كتب اللغة من تفسير الجلاّلة بالبقرة تتبع النجاسات (١) فالظاهر أنه تفسير بالمثال ، وذلك لإطلاق الجلاّلة في بعض الأخبار المعتبرة على الإبل (٢) بل قد أُطلقت على غيرها من الحيوانات كالدجاجة والبطة والشاة وغيرها على ما في بعض الأخبار الواردة في استبراء الحيوانات الجلاّلة (٣).

نعم ، لا بدّ من تخصيص الجلاّلة بالحيوان الذي يأكل العذرة فلا يعم أكل سائر الأعيان النجسة ، لأنّ الأسد والهرّة وغيرهما من السباع يأكل الميتة ولا يصح إطلاق الجلاّلة عليهما. ثم على تقدير الشك في ذلك فلا مناص من الأخذ بالمقدار المتيقن وهو الأقل وفي المقدار الزائد يرجع إلى عموم العام ، وذلك لأن الجلاّل محلل الأكل في ذاته ومقتضى إطلاق ما دلّ على حليته حليته مطلقاً ، وإنما خرجنا عن ذلك في خصوص آكل العذرة للقطع بجلله ، فاذا شككنا في صدق الجلل بأكل غيرها من الأعيان النجسة فلا بد من مراجعة إطلاق ما دلّ على حليته ، كما هو الحال في موارد إجمال المخصص لدورانه بين الأقل والأكثر.

وأمّا مرسلة موسى بن أكيل عن أبي جعفر عليه‌السلام « في شاة شربت بولاً ثم ذبحت قال فقال : يغسل ما في جوفها ثم لا بأس به ، وكذلك إذا اعتلفت بالعذرة ما لم‌

__________________

(١) كما في لسان العرب ١١ : ١١٩ وأقرب الموارد ١ : ١٣٣.

(٢) ورد ذلك في حسنة حفص بن البختري المروية في الوسائل ٣ : ٤٢٣ / أبواب النجاسات ب ١٥ ح ٢.

(٣) كما في رواية السكوني عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : الدجاجة الجلاّلة لا يؤكل لحمها حتى تقيد ثلاثة أيام ، والبطة الجلاّلة بخمسة أيام ، والشاة الجلاّلة عشرة أيام ، والبقرة الجلاّلة عشرين يوماً والناقة الجلاّلة أربعين يوماً » الوسائل ٢٤ : ١٦٦ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٢٨ ح ١ وغيره من الأخبار.

٢٢٩

وهي غائط الإنسان ، والمراد من الاستبراء منعه من ذلك واغتذاؤه بالعلف الطاهر حتى يزول عنه اسم الجلل ، والأحوط مع زوال الاسم مضي المدّة المنصوصة في كل حيوان بهذا التفصيل (١) :

______________________________________________________

تكن جلاّلة ، والجلاّلة التي تكون ذلك غذاها » (١) فلا يمكن الاستدلال بها من جهتين : الاولى : ضعف سندها بالإرسال. الثانية : عدم دلالتها على أن الجلل هو التغذي بعذرة الإنسان فحسب لعدم تقيد العذرة في الرواية بشي‌ء. ودعوى انصرافها إلى عذرة الإنسان مندفعة ، بأنها اسم لكل رجيع نتن ولا اختصاص لها بمدفوع الإنسان بوجه ، بل قد أُطلقت في بعض الأخبار على رجيع الكلب والسنور (٢) فالرواية غير قابلة للاعتماد عليها بوجه. وإنما خصصنا الجلل بالتغذي بعذرة الإنسان خاصة نظراً إلى عدم معهودية أكل الحيوان غيرها من عذرة الكلب والهرة ونحوهما ، وإنما المشاهد أكله عذرة الإنسان فالجلل مختص به ، وعلى تقدير الشك في سعته وضيقه كان المرجع إطلاق ما دلّ على حلية أكل لحم المحلل في ذاته كما تقدم.

(١) هذه هي الجهة الرابعة من الجهات التي يتكلم عنها في المقام وهي في بيان ما يحصل به الاستبراء عن الجلل وبه ترتفع نجاسة البول والرجيع ، بناء على نجاستهما في مطلق الحيوان المحرم أكله ولو عرضاً ، أو ما يرتفع به خصوص حرمة الأكل إذا منعنا عن نجاستهما في المحرم بالعرض.

ذكر الماتن قدس‌سره أن المدار في ذلك على زوال اسم الجلل ، وهذا هو الوجيه لأن الموضوع في الحكم بحرمة الأكل أو هي ونجاسة البول والرجيع هو الجلل ، وبما أن الحكم يتبع موضوعه بحسب الحدوث والبقاء فمع ارتفاعه لا يحتمل بقاء الأحكام المترتبة عليه ، ولا يصغي معه إلى استصحاب بقاء الأحكام المترتبة على الحيوان حال‌

__________________

(١) الوسائل ٢٤ : ١٦٠ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٢٤ ح ٢.

(٢) عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب أيعيد صلاته؟ قال : إن كان لم يعلم فلا يعيد » الوسائل ٣ : ٤٧٥ / أبواب النجاسات ب ٤٠ ح ٥.

٢٣٠

الجلل إذ لا مجرى للاستصحاب بعد ارتفاع موضوعه. على أنه من الاستصحاب في الشبهة الحكمية وهو ممنوع كما مر غير مرة.

وأمّا ما عن المشهور من أن الاستبراء إنما يحصل بمضي المدة المنصوصة في الروايات وإن بقي عنوان الجلل بعد انقضائها فهو على تقدير صحّة النسبة وهي مستبعدة مندفع بوجهين :

أحدهما : أن الأخبار المحددة للاستبراء كلها ضعاف ، لأنها بين مرسلة ومرفوعة وضعيفة الاسناد فلا اعتبار لها بوجه.

وثانيهما : أن المرتكز في الأذهان من تحديد حرمة الأكل أو نجاسة الخرء والبول بتلك المدة المنصوصة في الأخبار ، أن الحرمة أو النجاسة محددتان بتلك المدة بعد زوال عنوان الجلل ، بمعنى أن الإبل الجلاّلة مثلاً بعد ما زال عنها اسم الجلل لا يحكم بحلية لحمها وطهارة بولها وروثها إلاّ بعد أربعين يوماً كما في الخبر لا أن الأحكام المترتبة على الإبل الجلاّلة ترتفع بعد المدة المنصوصة وإن بقي عنوان جللها ، وقد ذكرنا نظير ذلك في مثل الأمر الوارد بغسل الثوب المتنجِّس بالبول مرتين أو بصبّ الماء على البدن كذلك (١) وما ورد في الاستنجاء من المسح بثلاثة أحجار (٢) حيث قلنا إن ظاهرها كفاية الحد بعد زوال النجاسة عن المحل ، لا أن مجرد الغسل أو الصبّ أو المسح بالأحجار كاف في الحكم بالطهارة ولو بقيت العين بحالها. نعم لا يشترط ارتفاع الموضوع قبل الغسل أو الصبّ أو قبل انقضاء المدة المنصوصة في المقام ، بل يكفي ارتفاعه وزواله ولو مع الغسل أو أخويه ، فانقضاء المدة المنصوصة في الأخبار غير كاف في الحكم بحلية اللحم أو بطهارة الخرء والبول وإن بقي موضوعهما وهو عنوان الجلل.

نعم ، لو تمّت الأخبار الواردة بحسب السند لأمكن القول بأن طهارة مدفوعي‌

__________________

(١) راجع صحيحة البزنطي وغيرها مما ورد في الوسائل ٣ : ٣٩٦ / أبواب النجاسات ب ١ ح ٧ وغيره.

(٢) الوسائل ١ : ٣٤٨ / أبواب أحكام الخلوة ب ٣٠.

٢٣١

الجلاّلات وحلِّيّة لحمها متوقفتان على انقضاء المدّة المنصوصة بعد زوال عنوانها وهو الجلل ، لأنه تحديد تعبّدي فلا يحكم بارتفاع أحكامها بزوال جللها قبل المدّة المنصوصة في الأخبار ، ومع عدم تماميّة سندها كما مرّ لا مناص من حملها على الندب بناء على التسامح في أدلّة السنن.

ومن المحتمل القريب أن يكون ما ذكرناه هو المراد مما ذكره الشهيد الثاني قدس‌سره وغيره من اعتبار أكثر الأمرين من المقدر وما يزول به اسم الجلل بأن يقال إن نظره من ذلك إلى أن انقضاء المدة المنصوصة مع بقاء الجلل غير موجب لارتفاع الأحكام المترتبة عليه ، وذلك لأن ظاهر التحديد إرادة مضي المدّة المنصوصة بعد زوال عنوان الجلل.

وأما ما ربما يظهر من كلام صاحب الجواهر قدس‌سره من الأخذ بالمقدار المنصوص عليه إلاّ مع العلم ببقاء صدق الجلل ، فان انقضاء المدة غير موجب لحلِّيّة الحيوان وطهارة بوله وروثه (١) فلعلّه أيضاً ناظر إلى ما قدمناه بمعنى أنه لا يريد بذلك أن التحديد بالمقدرات المنصوصة تحديد ظاهري وأن المقدرات حجة في مقام الشك والجهل ، بل لعلّ مقصوده أن المقدرات وإن كانت تحديدات واقعية إلاّ أن التمسك بإطلاقها إنما يصحّ في موردين : أحدهما : ما إذا علم زوال اسم الجلل وعنوانه قبل انقضاء المدة المنصوصة في الأخبار. وثانيهما : ما إذا شك في زواله بانقضاء المدّة المقدرة وهو الغالب في أهل القرى والبوادي وغير المطلعين باللغة العربية ، حيث إن أكثرهم غير عالمين بزوال الجلل لجهلهم بمفهومه وأما مع العلم ببقاء عنوان الجلل فلا يمكن الحكم بحليته وطهارة بوله وروثه بمجرد انقضاء المدة المقدرة ، لما تقدم من أن المتفاهم العرفي في أمثال التحديدات الواردة في المقام هو التحديد بعد زوال الموضوع وارتفاعه ولو كان ارتفاعه مقارناً لانقضاء المدة كما مر ، وبهذا يحصل التوافق بين كلمات الشهيد وصاحب الجواهر وما ذكره الماتن ( قدس الله أسرارهم ) إلاّ أن هذا كله مبني على تمامية الأخبار الواردة في التحديد وقد مرّ أنها ضعيفة السند والدلالة. فالصحيح ما‌

__________________

(١) الجواهر ٣٦ : ٢٧٦.

٢٣٢

اخترناه تبعاً للماتن قدس‌سره.

فالى هنا تحصل أن مفهوم الجلل كبقية المفاهيم العرفية لا بدّ في تعيينه من الرجوع إلى العرف ، ولا اعتبار بشي‌ء مما ذكروه في تعريفه من أنه يحصل بالتغذي بالعذرة يوماً وليلة أو بظهور النتن في لحمه وجلده أو بصيرورة العذرة جزءاً من بدنه ، بل إنما هو عرفي لا بدّ من الرجوع إليه ، فإن علمنا بحدوثه أو بارتفاعه فهو ، وإذا شككنا في حدوثه أو في بقائه فلا بد من الرجوع إلى ما تقتضيه القواعد المقررة وقتئذ ، وهي قد تقتضي الرجوع إلى عموم الدليل أو إطلاقه وقد تقتضي الرجوع إلى الاستصحاب.

وتفصيل الكلام في المقام : أن الشك في حدوث الجلل قد يكون من جهة الشبهة المفهومية وقد يكون من جهة الشبهة الموضوعية ، فان شككنا في حدوثه من جهة الشبهة المفهومية للجهل بمفهوم الجلل ، وأنه يتحقق بالتغذي بالعذرة يوماً وليلة أو بثلاثة أيام مثلاً ، فلا يمكن الرجوع حينئذ إلى الاستصحاب الحكمي للجهل بموضوعه ، ولا إلى الاستصحاب الموضوعي إذ لا شك لنا في شي‌ء من الموجودات الخارجية ، فلا بد معه من الرجوع إلى عموم أو إطلاق الدليل الذي دلّ على حلية لحم الدجاج أو الشاة مثلاً وطهارة بولهما ومدفوعهما ، لأن ما دلّ على حرمة لحم الجلاّل أو نجاسة بوله وروثه من المخصصات المنفصلة لدليل الحلية والطهارة ، وقد بيّنا في محله أن إجمال المخصص المنفصل لا يسري إلى العام ، بل يؤخذ بالمقدار المتيقن منه للعلم بقيام حجة أقوى فيه على خلاف العموم ، وفي المقدار الزائد يرجع إلى عموم الدليل أو إطلاقه ، لأنه حجّة في مدلوله ما دام لم يقم على خلافه حجّة أقوى ، وحيث لا حجّة على خلافه في المقدار الزائد فيكون عموم العام أو إطلاقه هو المحكّم فيه (١).

وأما إذا كانت الشبهة مصداقية للعلم بمفهوم الجلل والشك في بعض الأُمور الخارجية ، كما إذا علمنا أن الجلل يتحقق بالتغذي ثلاثة أيام أو أربعة مثلاً وشككنا في أن التغذّي هل كان ثلاثة أيام أو أربعة أم لم يكن ، فلا يمكن الرجوع فيها إلى عموم الدليل بناء على عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية كما هو الصحيح ، ولا‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ١٨١.

٢٣٣

مناص حينئذ من الرجوع إلى استصحاب عدم حدوث الجلل وبه يحكم بحلية لحمه وطهارة بوله وروثه.

وإذا كان الشك في بقائه بعد العلم بالحدوث فهو أيضاً يتصور على قسمين : إذ قد تكون الشبهة مفهومية كما إذا شك في بقائه للجهل بمفهوم الجلل وأنه هل يزول بالاستبراء ثلاثة أيام أو بغير ذلك. نعم هذا لا يتحقّق إلاّ إذا بنينا على أن استبراء الجلل إنما هو بزوال اسمه عرفاً ، وأما إذا عملنا بالأخبار الواردة في تحديده فلا يتصور للجهل شبهة مفهومية بحسب البقاء للعلم ببقائه إلى انقضاء المدّة المقدّرة. نعم تتحقّق فيه الشبهة المصداقية كما يأتي عن قريب.

وعلى الجملة إذا شك في بقائه للشبهة المفهومية لا بدّ في غير المقدار المتيقن فيه من الرجوع إلى العموم أو الإطلاق لا الاستصحاب ، لما مرّ غير مرة من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات المفهومية. على أن الشبهة حكمية ولا يجري فيها الاستصحاب ، بل لو قطعنا النظر عن هاتين الجهتين أيضاً لا بدّ من الرجوع إلى العموم أو الإطلاق دون الاستصحاب ، وذلك لما بنينا عليه في محله من أن الأمر إذا دار بين التمسك بالعموم أو استصحاب حكم المخصص تعيّن الأخذ بالعموم من غير فرق في ذلك بين كون الزمان مأخوذاً على وجه التقييد حتى لا يمكن جريان الاستصحاب في غير المقدار المتيقن في نفسه ، أو يكون مأخوذاً على وجه الظرفية حتى يمكن جريان الاستصحاب فيه في نفسه ، إذ العموم والإطلاق محكّمان في كلتا الصورتين كان المورد قابلاً للاستصحاب أم لم يكن (١).

ثم على تقدير التنزل والبناء على أن المورد حينئذ كما أنه ليس بمورد لاستصحاب حكم المخصص ليس بمورد للتمسك بالعموم والإطلاق أيضاً كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره في التنبيه الذي عقده لبيان هذا الأمر في الاستصحاب (٢) حيث ذكر أن المورد قد لا يكون مورداً لشي‌ء من العموم والاستصحاب ، لا بدّ من الرجوع فيه إلى‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٢١٦.

(٢) كفاية الأُصول : ٤٢٤ التنبيه الثالث عشر.

٢٣٤

في الإبل إلى أربعين يوماً (١) وفي البقر إلى ثلاثين (*) (٢)

______________________________________________________

قاعدة الحل وهي تقتضي طهارة بول الحيوان وروثه ، لأن كل ما حل أكل لحمه حكم بطهارة بوله ومدفوعه.

ثم لو ناقشنا في ذلك أيضاً بدعوى أن طهارة الروث والبول مترتبة على الحيوان الذي من شأنه وطبعه أن يكون محلل الأكل لا المحلل الفعلي بالقاعدة ، ومن الظاهر أن أصالة الحل لا تثبت الحلية الشأنية وإنما تقتضي الحلية الفعلية في ظرف الشك فحسب ، تصل النوبة إلى قاعدة الطهارة في بوله وروثه. فعلى جميع تلك التقادير لا بدّ من الحكم بحلية لحم الحيوان وطهارة بوله وروثه.

وأمّا إذا شككنا في بقاء الجلل من جهة الشبهة الموضوعية ، كما إذا كان الجلل معلوماً بمفهومه وعلمنا أنه يرتفع بترك تغذي العذرة ثلاثة أيام مثلاً ، أو اعتمدنا على الروايات المتقدِّمة وبنينا على أن الجلل يزول باستبراء الحيوان أربعون يوماً مثلاً وشككنا في أن التغذي هل كان بتلك المدة أو أقل ، فلا مجال حينئذ للتمسّك بالعام لأنه من الشبهة المصداقية فلا بد من الرجوع إلى استصحاب بقاء الجلل ، وبه يحكم بنجاسة بوله وروثه كما يحكم بحرمة لحمه.

(١) نص على ذلك في جملة من الأخبار : منها خبر مسمع عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام الناقة الجلاّلة لا يؤكل لحمها ولا يشرب لبنها حتى تغذى أربعين يوماً .... » (٢) ومنها : رواية السكوني إن الناقة الجلاّلة لا يؤكل لحمها حتى تقيد أربعين يوماً (٣) ومنها غير ذلك من الأخبار.

(٢) كما في مرفوعة يعقوب بن يزيد (٤) ونحوها خبر مسمع المتقدم على رواية الكافي ورواية يونس (٥) وغيرهما من الأخبار.

__________________

(*) بل الظاهر كفاية العشرين.

(١) الوسائل ٢٤ : ١٦٦ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٢٨ ح ٢.

(٢) الوسائل ٢٤ : ١٦٦ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٢٨ ح ١.

(٣) الوسائل ٢٤ : ١٦٧ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٢٨ ح ٤.

(٤) الوسائل ٢٤ : ١٦٧ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٢٨ ح ٥.

٢٣٥

وفي الغنم إلى عشرة أيام (١) وفي البطة إلى خمسة أو سبعة (٢) وفي الدجاجة إلى ثلاثة أيام (٣) وفي غيرها يكفي زوال الاسم.

الثاني عشر : حجر الاستنجاء على التفصيل الآتي (٤).

الثالث عشر : خروج الدم من الذبيحة بالمقدار المتعارف فإنّه مطهّر لما بقي منه في الجوف (٥).

______________________________________________________

(١) كما في روايات السكوني ومسمع والجوهري ومرفوعة يعقوب بن يزيد (١).

(٢) ورد التحديد بخمسة أيام في روايتي السكوني ومسمع كما ورد سبعة أيام في رواية يونس.

(٣) كما في جملة من الأخبار : منها رواية السكوني ومنها خبر مسمع ومنها غير ذلك من الروايات.

مطهِّريّة حجر الاستنجاء‌

(٤) يأتي عليه الكلام في محلِّه (٢).

مطهِّريّة خروج الدم من الذبيحة بالمقدار المتعارف‌

(٥) إطلاق المطهر على ذلك يبتني على القول بنجاسة الدم في الباطن ، فان خروج المقدار المتعارف من الذبيحة حينئذ مطهر للمقدار المتخلف في الجوف ومزيل لنجاسته ، وأما بناء على عدم نجاسته لاختصاص أدلتها بالدم الخارجي فإطلاق المطهّر على خروج الدم بالمقدار المتعارف بمعنى الدفع لا الرفع ، لأنه إنما يمنع عن الحكم بنجاسة المقدار المتخلف من الدم لا أنه رافع لنجاسته ، حيث لم يكن محكوماً بالنجاسة في زمان حتى يحكم بارتفاعها بسببه ، وإطلاق المطهر بمعنى الدفع أمر لا بأس به وقد‌

__________________

(١) الوسائل ٢٤ : ١٦٦ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٢٨ ح ١ ، ٢ ، ٦ ، ٤.

(٢) ص ٣٥٩ وما بعدها.

٢٣٦

الرابع عشر : نزح المقادير المنصوصة (١) لوقوع النجاسات المخصوصة في البئر على القول بنجاستها ووجوب نزحها.

الخامس عشر : تيمم الميت (٢) بدلاً من الأغسال عند فقد الماء ، فإنّه مطهر لبدنه (*) على الأقوى (٣).

______________________________________________________

وقع نظره في الآية المباركة ( يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢) لأنّ التطهير فيها بمعنى المنع عن عروض ما يقابل الطهارة عليهم ( عليهم أفضل الصلاة ) لا الرفع ، فإنّهم قد خلقوا طاهرين وأنهم المطهرون من الابتداء.

(١) لزوال النجاسة بسببه.

(٢) لعدم وجدان الماء حقيقة أو لعدم التمكّن من استعماله ، لتناثر لحم الميت أو جلده بالتغسيل كما في المجدور والمحروق ، وما ورد من الأمر بصبّ الماء عليه صباً (٣) محمول على صورة عدم تناثر لحمه أو جلده بالتغسيل وصبّ الماء عليه.

(٣) استفادة أن التيمم يكفي في ارتفاع الخبث من أدلة بدلية التيمم عن الغسل في الأموات من الصعوبة بمكان ودون إثباته خرط القتاد ، لأن غاية ما يمكن أن يستفاد من أدلة البدلية أن التيمم في الأموات كالأحياء ينوب عن الاغتسال في رفعه الحدث وأما أنه يرفع الخبث ويطهر بدن الميت أيضاً فهو يحتاج إلى دليل.

نعم ، لو ثبت أن نجاسة بدن الميت متفرعة على حدثه بحيث ترتفع لو ارتفع ، قلنا بطهارة جسده في المقام لارتفاع حدثه بالتيمم وأنى لنا بإثباته ، لأنهما حكمان ثبت كل منهما بدليل ، لوضوح أن وجوب تغسيل الميت حكم ثبت بأدلته ، ونجاسة بدنه حكم على حدة ثبت بدليلها ، ومقتضى إطلاقه عدم ارتفاعها بشي‌ء حتى تغسل بالماء ، ومن هنا استشكلنا في التعليقة وذكرنا أن الأقرب بقاء بدنه على النجاسة ما لم يغسل.

__________________

(*) فيه إشكال والأقرب بقاء بدنه على النجاسة ما لم يغسل.

(١) الأحزاب ٣٣ : ٣٣.

(٢) زيد بن علي عن علي عليه‌السلام « أنه سئل عن رجل يحترق بالنار فأمرهم أن يصبوا عليه الماء صباً وأن يصلى عليه » الوسائل ٢ : ٥١٢ / أبواب غسل الميت ب ١٦ ح ٢.

٢٣٧

السادس عشر : الاستبراء بالخرطات بعد البول ، وبالبول بعد خروج المني ، فإنّه مطهّر لما يخرج منه من الرطوبة المشتبهة ، لكن لا يخفى أن عدّ هذا من المطهرات من باب المسامحة ، وإلاّ ففي الحقيقة مانع عن الحكم بالنجاسة أصلاً.

السابع عشر : زوال التغيّر في الجاري والبئر ، بل مطلق النابع بأيّ وجه كان (١) وفي عدّ هذا منها أيضاً مسامحة ، وإلاّ ففي الحقيقة المطهّر هو الماء الموجود في المادة (٢).

الثامن عشر : غيبة المسلم فإنّها مطهّرة لبدنه أو لباسه أو فرشه أو ظرفه أو غير ذلك ممّا في يده (٣).

______________________________________________________

(١) ولو بإلقاء كر عليه أو بزوال التغيّر عنه بنفسه.

(٢) بمعنى أن اتصاله بالمادة هو المطهر له ، وزوال التغيّر شرط في طهارته فلا يكون زوال التغيّر مطهراً له.

مطهِّريّة غيبة المسلم‌

(٣) عد غيبة المسلم من المطهرات لا يخلو عن تسامح ظاهر ، لأنها طريق يستكشف بها طهارة بدن المسلم وما يتعلق به لدى الشك ، لا أنها مطهرة لبدنه ومتعلقاته ، فالأولى ذكرها في عداد ما تثبت به الطهارة كإخبار ذي اليد وخبر الثقة ونحوهما.

والوجه في الحكم بالطهارة معها استمرار سيرتهم القطعية المتصلة بزمان المعصومين عليهم‌السلام على المعاملة مع المسلمين وألبستهم وظروفهم وغيرها مما يتعلق بهم معاملة الأشياء الطاهرة عند الشك في طهارتها ، مع العلم العادي بتنجسها في زمان لا محالة ، ولا سيما في الجلود واللحوم والسراويل للعلم بتنجسها حين الذبح أو في وقت ما من غير شك ، ومع هذا كله لا يبنون على نجاستها بالاستصحاب وهذا مما لا شبهة فيه. إنما الكلام في أن الحكم بالطهارة وقتئذ وعدم التمسك باستصحاب‌

٢٣٨

الحالة السابقة هل هو من باب تقديم الظاهر على الأصل ، لظهور حال المسلم في التجنب عن شرب النجس وعن الصلاة في غير الطاهر وعن بيع النجس من غير اعلام بنجاسته وهكذا ، أو أن الطهارة حكم تعبدي نظير قاعدة الطهارة من غير ملاحظة حال المسلم وظهوره؟ فعلى الأول يستند عدم جريان الاستصحاب إلى قيام الأمارة على انتقاض الحالة السابقة وخلافها ، كما أنه على الثاني يستند إلى التخصيص في أدلة اعتبار الاستصحاب.

ذهب شيخنا الأنصاري قدس‌سره إلى الأول لظهور حال المسلم في التنزه عن النجاسات ، وقد جعله الشارع أمارة على الطهارة للسيرة وغيرها (١) كما جعل سوق المسلمين أمارة على الذكاة ، وعليه لا يمكن الحكم بطهارة بدن المسلم وتوابعه إلاّ مع عدم العلم بعدم مبالاته بالنجاسة ، إذ لا يستكشف الطهارة بظهور حال المسلم مع القطع بعدم مبالاته بنجاسته. كما أنه يشترط في الحكم بالطهارة بناء على أنها من باب تقديم الظاهر على الأصل علم المسلم بنجاسة ما يستعمله ، لوضوح أنه لا ظهور في التنزه عن النجاسة في استعمالاته مع الجهل بالنجاسة ، وهذا ينحل إلى أمرين :

أحدهما : استعماله الثوب أو غيره فيما يشترط فيه الطهارة.

وثانيهما : العلم بشرطية الطهارة فيما يستعمله ، لأنه لولاهما لم يكن استعماله الخارجي إخباراً عملياً عن طهارة ما يستعمله فلا يكون له ظهور في الطهارة بوجه. نعم العلم بأن المستعمل عالم بالاشتراط غير معتبر في استكشاف الطهارة إذ يكفي احتمال كونه عالماً به ، وذلك لأن حال المسلم ظاهر في كونه عارفاً بما يشترط في أعماله ، ومن هنا لم نستبعد في التعليقة كفاية احتمال العلم أيضاً ، هذا كله بناء على أن الحكم بالطهارة عند الغيبة من باب تقديم الظاهر على الأصل وحمل فعل المسلم على الصحة.

ولا يبعد أن يقال إن الحكم بالطهارة أمر تعبدي كما هو الحال في قاعدة الطهارة من غير أن يلاحظ حال المسلم وظهوره ، وعليه لا يعتبر في الحكم بالطهارة شي‌ء من‌

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٣٨٩ السطر ٣١ ( بحث المطهرات ومنها : الغيبة ).

٢٣٩

الشرائط المتقدِّمة ، ويبتني استكشاف أنه من باب التعبّد على التأمل في أن السيرة الجارية على الحكم بالطهارة في موارد الغيبة خاصة بموارد وجود الشرائط المتقدِّمة أو أنها جارية في جميع الموارد حتى في الفاقد لتلك الشروط؟

والأقرب أنها عامة لجميع موارد الشك في الطهارة وإن لم يكن واجداً للشروط ، وذلك لأن التأمل في سيرة الأئمة عليهم‌السلام وتابعيهم في عصرهم وغيره يعطي عدم اختصاصها بمورد دون مورد ، لأنهم عليهم‌السلام كانوا يساورون أهل الخلاف الموجودين في زمانهم ويدخلون بيوت الفسقة والمرتكبين لأعظم المحرمات ، مع أن العامة لا يلتزمون بنجاسة جملة من الأُمور المعلومة نجاستها عندنا لذهابهم إلى طهارة جلد الميتة بالدباغة (١) وطهارة مخرج البول بالتمسّح على الحائط ونحو ذلك (٢) والفسقة كانوا يشربون الخمور ولا يبالون بإصابة البول وغيره من النجاسات والمتنجسات ولم يسمع تجنبهم عليهم‌السلام عن أمثالهم وعدم مساورتهم أو غسلهم لما يشترونه من الفساق أو أهل الخلاف. وكذلك الحال في المسلمين فتراهم يشترون الفرو مثلاً ممن يغلب في بلاده المخالفون من غير سؤال عن صانعه وأنه من الشيعة أو غيرهم.

وقد نسب إلى الميرزا الشيرازي قدس‌سره أنه كان بانياً في الحكم بالطهارة عند الغيبة على مراعات الشروط المتقدِّمة إلى أن نزل سامراء وشاهد العامة وأوضاعهم فعدل عن ذلك وبنى على عدم اعتبار تلك الشروط ، ومن الظاهر أن أهل الخلاف الذين كانوا يتعيشون في عصرهم عليهم‌السلام إما كانوا أسوأ حالاً منهم في عصرنا أو أنهم مثلهم ، وقد عرفت أن من النجاسات القطعية عندنا ما هو محكوم بالطهارة عندهم ، وكذلك أهل القرى والبوادي لعدم جريان السيرة على التجنب عن مساورتهم والمؤاكلة معهم مع العلم بتنجس ظروفهم أو ألبستهم أو أيديهم في زمان وعدم علمهم بنجاسة جملة من النجاسات والمتنجسات في الشريعة المقدّسة.

__________________

(١) تقدّم نقله في شرح العروة ٢ : ٤٥٥.

(٢) تقدّم نقله في شرح العروة ٢ : ٣٢.

٢٤٠