موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

الآثار أو عمومه ، لدلالته على أن المعصية بحدوثها وصرف وجودها كافية في بقاء آثارها إلى الأبد ، وقد لا يقوم دليل على بقاء آثار المعصية بعد ارتفاعها ، لعدم العموم والإطلاق في دليلها بحيث لا يستفاد منه سوى ترتب الأثر على المعصية ما دامت موجودة. ثم إن الآثار المترتبة على المعصية قد تكون تكوينية كاستحقاق العقاب وقد تكون شرعية كوجوب القتل وجواز تقسيم المال ونحوهما.

أمّا القسم الأوّل من المعصية ، فمقتضى إطلاق أو عموم الأدلّة الدالّة على آثارها وإن كان بقاء تلك الآثار وإن ارتفعت المعصية ، إلاّ أنه قد يقوم الدليل على أن المعصية المتحققة كلا معصية وكأنها لم توجد من الابتداء ، ومعه ترتفع الآثار المترتبة على صرف وجودها لا محالة ، وهذا كما في دليل التوبة لدلالته على أن التوبة تمحي السيئة والعصيان وأن التائب من ذنب كمن لا ذنب له ، ومعناه أن المعصية الصادرة كغير الصادرة فلا يبقى مع التوبة شي‌ء من آثار المعصية بوجه.

نعم ، قد يرد مخصص على هذا الدليل ويدلُّ على أن التوبة مثلاً لا توجب ارتفاع المعصية المعينة ، كما ورد في المرتد عن فطرة ودل على أنه لا توبة له وأنها لا تقبل منه فتوبته كعدمها ، ومعه إذا كان لدليل آثارها إطلاق أو عموم فلا مناص من الالتزام ببقائها ، فلا بدّ من النظر إلى الآثار المترتبة على الارتداد لنرى أيها يثبت على المعصية الارتدادية مطلقاً وأيها يثبت عليها ما دامت باقية ، فنقول :

أما استحقاق العقاب والخلود في النار فمقتضى قوله عزّ من قائل ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) (١) أن الخلود في النار إنما هو من الآثار المترتبة على الكفر حال الموت دون من لم يتصف به حينه ، فارتفاع المعصية الكفرية يقتضي الحكم بعدم الخلود في النار ، فإذا أسلم المرتد وتاب ولم يبق على كفره إلى حين موته ارتفع عنه العقاب والخلود. وهذا لا من جهة دليل التوبة حتى يدعى أن توبة المرتد كعدمها لأنه لا تقبل توبته ، بل من جهة القصور في دليل الأثر المترتب‌

__________________

(١) النساء ٤ : ١٨.

٢٠١

على الارتداد ، لاختصاصه بما إذا كان باقياً حال الممات ، ومع القصور في المقتضي لا حاجة إلى التمسّك بدليل التوبة ، لأنه إنما يحتاج إليه في رفع الآثار التي لولاه كانت باقية بحالها.

وأمّا بقية الأحكام المترتبة على الكفر والارتداد كنجاسة بدنه وعدم جواز تزويجه المرأة المسلمة وعدم إرثه من المسلم ونحوها فهي أيضاً كسابقها ، لارتفاعها بارتفاع موضوعها الذي هو الكفر ، لوضوح أن نجاسة اليهود والنصارى مثلاً على تقدير القول بها إنما تترتّب على عنوان اليهودي أو النصراني ونحوهما فإذا أسلم وتاب لم يصدق عليه عنوانهما ، فترتفع نجاسته وغيرها من الآثار المترتبة على عنوانهما ، لقصور أدلتها وعدم شمولها لما بعد إسلامه ، من غير حاجة إلى التشبث بدليل التوبة ليقال إن المرتد لا توبة له.

وأمّا وجوب قتل المرتد وبينونة زوجته وتقسيم أمواله فلا مناص من الالتزام ببقائها وعدم ارتفاعها بتوبته ، وذلك لإطلاق أدلتها فليراجع (١) وإن زال كفره وارتداده بسببها ، فهو مسلم يجب قتله ولا غرابة في ذلك ، لأن المسلم قد يحكم بقتله كما في اللّواط وبعض أقسام الزنا والإفطار في نهار شهر رمضان متعمداً على الشروط والتفاصيل المذكورة في محلها ، هذا كله في الوجه الأول مما يمكن الاستدلال به على المختار.

الوجه الثاني : أنه أنه لا شبهة في أن المرتد بعد ما تاب وأسلم كبقية المسلمين مكلف بالصلاة والصيام ويرث من المسلم ويجوز له تزويج المرأة المسلمة وغيرها من الأحكام ، ولا يمكن التفوه بإنكاره لأنه على خلاف الضرورة من الفقه ، وإن كان ثبوتها في حقِّه قبل إسلامه وتوبته مورد الكلام والنزاع للخلاف في تكليف الكفار بالفروع وعدمه. وعلى ذلك إما أن نلتزم بإسلامه وطهارة بدنه وغيرها من الأحكام المترتبة على بقية المسلمين وهذا هو المدعى ، وإما أن نلتزم بنجاسة بدنه وبقائه على كفره وهذا يستلزم التكليف بما لا يطاق ، لأن من حكم بنجاسته لا يتمكّن من تطهير‌

__________________

(١) الوسائل ٢٨ : ٣٢٣ / أبواب حدّ المرتد ب ١.

٢٠٢

حال الارتداد إلى ورثته ، ولا تسقط هذه الأحكام بالتوبة ، لكن يملك ما اكتسبه‌

______________________________________________________

بدنه فكيف يكلف بالصلاة وغيرها من الأُمور المشروطة بالطهارة ، وهل هذا إلاّ التكليف بما لا يطاق.

ودعوى : أن عجزه عن الامتثال إنما نشأ من سوء الاختيار وقد تقرر في محلِّه أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فلا مانع من تكليف المرتد بالصلاة وغيرها مما يشترط فيه الطهارة.

تندفع : بأن قبح التكليف بما لا يطاق لا يختص على مسلكنا بما إذا لم يستند إلى سوء الاختيار.

وأما ما ربما يقال من أن التكاليف في حقه تسجيلية ولا غرض منها سوى التوصل إلى عقابه ، فهو أيضاً كسابقه مما لا يمكن المساعدة عليه ، لأن الأُمور الخارجة عن الاختيار غير قابلة للبعث نحوها أو الزجر عنها ، فبناء على ما ذكرناه من أن الضرورة تقتضي تكليف المرتد بمثل الصلاة والصيام ونحوهما بعد توبته لا بدّ من الالتزام بأحد أمرين على سبيل منع الخلو :

فامّا أن نلتزم بالتقييد في الأدلّة الدالّة على اعتبار الإسلام والطهارة في مثل الصلاة والتوارث وتزويج المرأة المسلمة بأن لا نعتبرهما في حقه ، فتصح صلاته من دون طهارة وإسلام ويجوز له تزويج المسلمة ويرث من المسلم من دون أن يكون مسلماً.

أو نلتزم بالتخصيص فيما دلّ على أن الفطري لا تقبل توبته ، بأن نحمله على عدم قبولها بالإضافة إلى الأحكام الثلاثة المتقدِّمة لا في مثل طهارة بدنه وإرثه وجواز تزويجه المسلمة وغيرها من الأحكام ، لقبول توبته بالإضافة إليها. ومقتضى الفهم العرفي الالتزام بالأخير ، بل لا ينبغي التردد في أنه المتعيّن الصحيح ، لأنه أهون من الأوّل بالارتكاز وإن كانت الصناعة العلمية قد تقتضي العكس.

فتلخص أن المرتد عن فطرة تقبل توبته وإسلامه ظاهراً وواقعاً. نعم دلّت الأخبار المعتبرة على أنه يقتل ويقسّم أمواله وتبين زوجته وتعتد عدّة المتوفّى عنها زوجها (١).

__________________

(١) الوسائل ٢٨ : ٣٢٣ / أبواب حدّ المرتد ب ١.

٢٠٣

بعد التوبة (*) (١). ويصح الرجوع إلى زوجته بعقد جديد حتى قبل خروج العدّة على الأقوى (٢).

______________________________________________________

(١) لأنه كسائر المسلمين فله ما لهم وعليه ما عليهم ، ولعلّ هذا مما لا إشكال فيه وإنما الكلام فيما اكتسبه بعد كفره وقبل أن يتوب بالحيازة أو العمل فهل ينتقل إلى ورثته كغيره مما تملكه قبل الارتداد أو لا ينتقل؟

الصحيح عدم انتقاله إلى ورثته ، لأنه حكم على خلاف القاعدة ولا بدّ من الاقتصار فيه على دلالة الدليل ، وهو إنما دلّ على أنّ أمواله التي يملكها حال الارتداد تنتقل إلى ورثته ، وأمّا ما تملكه بعد ارتداده فلا دليل على انتقاله ، هذا.

وقد يستشكل في الحكم بتملكه بعد توبته بأن الشارع قد ألغى قابليته للتملك ، بل نزّله منزلة الميت في انتقال أمواله إلى ورثته ، فالمعاملة معه كالمعاملة مع الميت وهو غير قابل للتملك بالمعاملة.

ويدفعه إطلاقات أدلة البيع والتجارة والحيازة وغيرها من الأسباب ، لأنها تقتضي الحكم بصحّة الأُمور المذكورة وإن كانت صادرة من المرتد بعد إسلامه ، وهذه المسألة عامة البلوى في عصرنا هذا ، لأنّ المسلم قد ينتمي إلى البهائية أو الشيوعية أو غيرهما من الأديان والعقائد المنتشرة في أرجاء العالم ، وهو بعد ردّته وإن كان يجب قتله وتبين عنه زوجته وتقسم أمواله تاب أم لم يتب ، إلاّ أن المعاملة معه إذا تاب وندم مما يبتلي به الكسبة غالباً ، لأنه إذا لم يكن قابلاً للتملك لم يجز التصرف فيما يؤخذ منه لعدم انتقاله من مالكه ، وإذا كان قابلاً له ولكن قلنا بانتقال ما تملكه إلى ورثته وقعت معاملاته فضولية لا محالة. وأما بناء على ما ذكرناه من أنه قابل للتملك ولا تنتقل أمواله التي اكتسبها بعد توبته إلى ورثته فلا يبقى أي شبهة في معاملاته وضعاً ، وإن كانت في بعض الموارد محرمة تكليفاً بعنوان أنها ترويج للباطل أو غير ذلك من العناوين الثانوية الموجبة لحرمة المعاملة تكليفاً.

(٢) لما تقدّم من أن دليل التوبة بإطلاقه يجعل المعصية المتحققة كغير المتحققة‌

__________________

(*) وكذا ما اكتسبه بعد كفره قبل توبته.

٢٠٤

[٣٨٣] مسألة ٢ : يكفي في الحكم بإسلام الكافر إظهاره الشهادتين وإن لم يعلم موافقة قلبه للسانه (١).

______________________________________________________

فكأنها لم تصدر من المكلف أصلاً وبه ترتفع آثارها مطلقاً ، إلاّ فيما دلّ الدليل على بقائه كوجوب قتل المرتد وغيره من الأحكام الثلاثة المتقدِّمة تخصيصاً في أدلة التوبة بما دلّ على أن توبته كعدمها بالإضافة إلى تلك الأحكام.

وأما غيرها من الآثار المترتبة على الكفر المقارن كالنجاسة وعدم تزويج المرأة المسلمة والخلود في النار ونحوها فقد عرفت أنها ترتفع بارتفاع الكفر والارتداد من غير حاجة إلى التشبث بشي‌ء ، وعلى هذا لا مانع من الرجوع إلى زوجته قبل خروج عدّتها وبعده ، لأنه بعد توبته مسلم وله أن يتزوّج بالمسلمة ، وبما أنها زوجته لم يعتبر انقضاء عدتها في تزويجها ، لأن المرأة إنما تعتد لغير زوجها. نعم لا بدّ في رجوعه من العقد الجديد لحصول البينونة بينهما بالارتداد.

(١) أسلفنا تحقيق الكلام في هذه المسألة سابقاً (١) ولا بأس بتوضيحه أيضاً في المقام. فنقول :

الايمان في لسان الكتاب المجيد هو الاعتقاد القلبي والعرفان ، والإيقان بالتوحيد والنبوّة والمعاد ، ولا يكفي في تحقّقه مجرّد الإظهار باللِّسان ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما بعث لأن يعرف الناس وحدانيته سبحانه ونبوة نفسه والاعتقاد بيوم الجزاء ، والإيمان أمر قلبي لا بدّ من عقد القلب عليه ، وقد تصدّى سبحانه في غير موضع من كتابه لإقامة البرهان على تلك الأُمور ، فبرهن على وحدانيته بقوله ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا ) (٢) وقوله ( إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ) (٣) كما برهن على نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : ( وَإِنْ

__________________

(١) في بحث النجاسات الثامن : الكافر قبل المسألة [١٩٨].

(٢) الأنبياء ٢١ : ٢٢.

(٣) المؤمنون ٢٣ : ٩١.

٢٠٥

كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ) (١) وقوله ( فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (٢) وقال في مقام البرهان على المعاد ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (٣) إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على تلك الأُمور ، وكيف كان فهذه الأُمور يعتبر في تحقّقها الاعتقاد والعرفان ولا يكفي فيها مجرد الإظهار باللسان.

وأما الايمان في لسان الأئمة عليهم‌السلام ورواياتهم فهو أخص من الايمان بمصطلح الكتاب وهو ظاهر.

وأما الإسلام فيكفي في تحقّقه مجرّد الاعتراف وإظهار الشهادتين باللسان وإن لم يعتقدهما قلباً ، بأن أظهر خلاف ما أضمره وهو المعبّر عنه بالنفاق ، ويدلُّ على ذلك الأخبار الواردة في أن الإسلام هو إظهار الشهادتين (٤) وأن به حقنت الدماء وعليه جرت المواريث وجاز النكاح (٥) كما ورد ذلك في جملة من الأخبار النبوية أيضاً فراجع (٦) وقوله عزّ من قائل ( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (٧) هذا.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٣ و ٢٤.

(٢) الصافات ٣٧ : ١٥٧.

(٣) يس ٣٦ : ٧٩.

(٤) راجع الوسائل ١ : ١٧ / أبواب مقدمة العبادات ب ١ ح ٩ ، ١٢ ، ١٣ وغيرها من أخبار الباب.

(٥) كما في رواية حمران بن أعين عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث « والإسلام ما ظهر من قول أو فعل وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها وبه حقنت الدماء وعليه جرت المواريث وجاز النكاح ... » المروية في ج ٢ من أُصول الكافي ٢٦ / ٥ والوسائل ١ : ١٩ / أبواب مقدمة العبادات ب ١ ح ١٤.

(٦) كما في صحيح مسلم ج ١ ص ٣٧ / ١ والبخاري ج ١ ص ٨ ، ٩ وكنز العمال ج ١ ص ٢٣.

(٧) الحجرات ٤٩ : ١٤.

٢٠٦

لا مع العلم بالمخالفة (*) (١).

______________________________________________________

مضافاً إلى السيرة القطعية الجارية في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قبول إسلام الكفرة بمجرد إظهارهم للشهادتين مع القطع بعدم كونهم معتقدين بالإسلام حقيقة ، لأن من البعيد جدّاً لو لم يكن مستحيلاً عادة أن يحصل اليقين القلبي للكفرة بمجرّد مشاهدتهم غلبة الإسلام وتقدمه إلاّ في مثل عقيل على ما حكي.

فتلخص أن الإسلام لا يعتبر فيه سوى إظهار الشهادتين ، ولا بأس بتسميته بالايمان بالمعنى الأعم ، وتسمية الإيمان في لسان الكتاب بالايمان بالمعنى الأخص وتسمية الايمان في لسان الأخبار بالإيمان أخص الخاص. هذا كله إذا لم يعلم مخالفة ما أظهره لما أضمره ، وأما إذا علمنا ذلك وأن ما يظهره خلاف ما يعتقده فيأتي عليه الكلام في التعليقة الآتية.

(١) بأن علمنا بقاءه على كفره ، وإنما يظهر الشهادتين لجلب نفع أو دفع ضرر دنيوي فهل يحكم بإسلامه؟ ظاهر المتن عدم كفاية الإظهار حينئذ ، ولكنّا في التعليقة لم نستبعد الكفاية حتى مع العلم بالمخالفة ، فيما إذا كان مظهر الشهادتين جارياً على طبق الإسلام ولم يظهر اعتقاده الخلاف. وتوضيح ذلك : أن إظهار الشهادتين قد يقترن بإظهار الشك والتردد أو بإظهار العلم بخلافهما ، وعدم كفاية الإظهار حينئذ مما لا إشكال فيه ، لأنه ليس إظهاراً للشهادتين وإنما هو إظهار للتردد فيهما أو العلم بخلافهما ، وقد لا يقترن بشي‌ء منهما وهذا هو الذي لم نستبعد كفايته في الحكم بإسلام مظهر الشهادتين.

ويدلُّ على ذلك إطلاقات الأخبار الدالّة على أن إظهار الشهادتين هو الذي تحقن به الدماء وعليه تجري المواريث ويجوز النكاح (٢) والسيرة القطعية الجارية على الحكم بإسلام المظهر لهما ولو مع العلم بالخلاف ، لمعاملة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع‌

__________________

(*) لا تبعد الكفاية معه أيضاً إذا كان المظهر للشهادتين جارياً على طبق الإسلام.

(١) كما تقدّم في ص ٢٠٦.

٢٠٧

[٣٨٤] مسألة ٣ : الأقوى قبول إسلام الصبي المميز إذا كان عن بصيرة (١).

______________________________________________________

مثل أبي سفيان وغيره من بعض أصحابه معاملة الإسلام ، لاظهارهم الشهادتين مع العلم بعدم إيمانهم بالله طرفة عين وإنما أسلموا بداعي الملك والرياسة ، كيف وقد أخبر الله سبحانه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفاق جماعة معينة عنده من المسلمين مع التصريح بإسلامهم ، حيث قال عزّ من قائل ( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ) (١).

فتحصل أن الظاهر كفاية إظهار الشهادتين في الحكم بإسلام مظهرهما ولو مع العلم بالمخالفة ، ما لم يبرز جحده أو تردده.

(١) فان الصغير قد يكون أذكى وأفهم من الكبار ، ولا ينبغي الإشكال في قبول إسلامه والحكم بطهارته وغيرها من الأحكام المترتبة على المسلمين ، وذلك لإطلاق ما دلّ على طهارة من أظهر الشهادتين واعترف بالمعاد ، أو ما دلّ على جواز تزويجه المسلمة وغير ذلك من الأحكام ، ولا شبهة في صدق المسلم على ولد الكافر حينئذ إذ لا نعني بالمسلم إلاّ من اعترف بالوحدانية والنبوة والمعاد. اللهمّ إلاّ أن يكون غير مدرك ولا مميز ، لأن تكلمه حينئذ كتكلم بعض الطيور ، وهذا بخلاف المميز الفهيم لأنه قد يكون في أعلى مراتب الايمان.

ولا ينافي إسلامه حديث رفع القلم عن الصبي (٢) لأنه بمعنى رفع الإلزام والمؤاخذة ولا دلالة فيه على رفع إسلامه بوجه.

نعم ، قد يتوهّم أن مقتضى ما دلّ على أن عمد الصبي خطأ (٣) عدم قبول إسلامه لأنه في حكم الخطأ ولا أثر للأمر الصادر خطأ.

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ١٤.

(٢) الوسائل ١ : ٤٢ / أبواب مقدمة العبادات ب ٤ وغيره من الأبواب المناسبة.

(٣) صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : عمد الصبي وخطؤه واحد. الوسائل ٢٩ : ٤٠٠ / أبواب العاقلة ب ١١ ح ٢.

٢٠٨

ويندفع بأن الحديث لم يثبت إطلاق له ليدل على أن كل ما يصدر عن الصبي من الأفعال الاختيارية فهو بحكم الفعل الصادر خطأ ، بحيث لو قلنا بصحّة عبادات الصبي وتكلم في أثناء الصلاة أو أكل في صيامه متعمداً لم تبطل صلاته وصومه ، لأن التكلّم أو الأكل خطأ غير موجب لبطلانهما ، وهذا للقطع ببطلان الصلاة والصوم في مفروض المثال ، وعليه فالحديث مجمل للقطع بعدم إرادة الإطلاق منه. فلا مناص من حمله على ما ورد في رواية أُخرى من أن عمد الصبي خطأ تحمله العاقلة (١) وهذا لا لقانون الإطلاق والتقييد لعدم التنافي بينهما ، بل للقطع بعدم إرادة الإطلاق منه ومقتضى الجمع العرفي حينئذ ما ذكرناه ، ومعه يختص الحديث بالديات ومدلوله أن القتل الصادر عن الصبي عمداً كالقتل خطأ تثبت فيه الدية على عاقلته ولا يقتص منه.

بل إن الحديث في نفسه ظاهر في الاختصاص بموارد الدية مع قطع النظر عن القرينة الخارجية ، وذلك لأن المفروض في الرواية ثبوت حكم للخطإ غير ما هو ثابت للعمد وأنه يترتب على عمد الصبي أيضاً ، وهذا إنما يكون في موارد الدية فلا حاجة إلى إقامة قرينة خارجية عليه. نعم إذا كان الوارد في الحديث : عمد الصبي كلا عمد احتجنا إلى قيام القرينة على ما ذكرناه من الخارج ، وعلى ذلك فلا مجال لما عن بعضهم من الحكم ببطلان عقد الصبي ومعاملاته ولو بإذن من الولي ، نظراً إلى أن العقد الصادر منه خطأ لا يترتب أثر عليه ، وذلك لما ذكرناه من أن الحديث لم يثبت إطلاقه ليدل على أن كل عمل اختياري يصدر عن الصبي فهو بحكم الخطأ وإنما هو ناظر إلى الدية كما عرفت. وعلى الجملة لا دلالة للحديث على أن الإسلام الصادر عن الصبي بالاختيار خطأ ، فهو مسلم حقيقة لاعترافه بكل ما يعتبر في الإسلام ويترتّب عليه ما كان يترتب على سائر المسلمين من الأحكام وأظهرها الطهارة.

__________________

(١) رواها إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه عليه‌السلام أن عليّاً عليه‌السلام كان يقول عمد الصبيان خطأ يحمل على العاقلة. الوسائل ٢٩ : ٤٠٠ / أبواب العاقلة ب ١١ ح ٣ ، وفي رواية أبي البختري عن جعفر عن أبيه عن علي عليه‌السلام إنه كان يقول في المجنون والمعتوه الذي لا يفيق والصبي الذي لم يبلغ ، عمدهما خطأ تحمله العاقلة وقد رفع عنهما القلم. الوسائل ٢٩ : ٩٠ / أبواب القصاص في النفس ب ٣٦ ح ٢.

٢٠٩

[٣٨٥] مسألة ٤ : لا يجب (*) على المرتد الفطري بعد التوبة تعريض نفسه للقتل ، بل يجوز له الممانعة منه ، وإن وجب قتله على غيره (١).

______________________________________________________

وإن شئت قلت : إن الدليل على نجاسة أولاد الكفار على ما عرفت منحصر بما مرّ من صدق اليهودي أو النصراني أو المشرك أو غير ذلك من العناوين المحكومة عليها بالنجاسة على الصبي المميز المعتقد بما يعتقد به أبواه ، ويحكم بنجاسة غير المميز بعدم القول بالفصل ، ومن الظاهر أن المميز المعترف بالإسلام لا يصدق عليه شي‌ء من تلك العناوين. فالمقتضي للنجاسة قاصر الشمول له في نفسه فهو بعد إظهاره الشهادتين محكوم بالطهارة قُبِل إسلامه أم لم يقبل. نعم غير الطهارة من أحكام المسلمين كجواز تزويجه المرأة المسلمة وغيره يتوقف على قبول إسلامه كما مر ، هذا كلّه في إسلام ولد الكافر.

وأمّا إذا ارتد ولد المسلم وأنكر الإسلام فهل يحكم بنجاسته وغيرها من أحكام الارتداد عن فطرة؟ التحقيق أن يفصّل في المقام بالحكم بنجاسته لصدق أنه يهودي أو نصراني حسب اعترافه بهما ، دون وجوب قتله وتقسيم أمواله وبينونة زوجته وذلك لحديث رفع القلم (٢) الدال على عدم إلزام الصبي بشي‌ء من التكاليف حتى يحتلم فلا اعتداد بفعله وقوله قبل البلوغ ولا يحكم عليه بشي‌ء من الأحكام المذكورة حتى يشب ، فاذا بلغ ورجع في أوّل بلوغه فهو ، وإلاّ فيحكم بوجوب قتله وغيره من الأحكام المتقدِّمة ، فحاله قبل الاحتلام حال المرتد عن ملة في قبول توبته وعدم ترتّب الأحكام المتقدِّمة عليه. وأما الحكم بنجاسته فهو في الحقيقة إلزام لسائر المكلفين بالتجنّب عنه ، لا أنه إلزام للصبي حتى يحكم بارتفاعه بالحديث. وعلى الجملة الأحكام الثلاثة المتقدِّمة غير ثابتة على الصبي. نعم لا بأس بتأديبه كغيره من المعاصي والمنكرات.

(١) قد يفرض الكلام قبل ثبوت الارتداد عند الحاكم وأُخرى بعد ثبوته :

__________________

(*) لا يبعد الوجوب بعد حكم الحاكم بلزوم قتله.

(١) قدّمنا مصدره في ص ٢٠٨.

٢١٠

التاسع : التبعية وهي في موارد :

أحدها : تبعية فضلات الكافر المتصلة ببدنه كما مرّ (١).

الثاني : تبعية ولد الكافر (*) له في الإسلام أباً كان أو جدّاً ، أو امّاً أو جدّة (٢).

______________________________________________________

أما الصورة الاولى : فلا ينبغي التردد في حرمة تعريض المرتد نفسه إلى القتل بإظهاره عند الحاكم أو بغيره لوجوب حفظ النفس عن القتل ، بل له رد الشاهدين وإنكار شهادتهما أو الفرار قبل إقامة الدعوى عند الحاكم ، على أنه إظهار للمعصية وفضاحة لنفسه وهو حرام.

وأما الصورة الثانية : فلا يبعد فيها أن يقال بوجوب تعريض المرتد نفسه إلى القتل لوجوب تنفيذ حكم الحاكم الشرعي وحرمة الفرار عنه ، لأن رد حكمه بالفعل أو القول رد للأئمة عليهم‌السلام وهو رد لله سبحانه ، هذا.

والظاهر أن نظر الماتن إلى الصورة الاولى أعني التعريض قبل ثبوت الارتداد عند الحاكم ، لعدم اختصاص وجوب القتل بالحاكم حيث لا يتوقّف على حكمه ، بل يجوز ذلك لجميع المسلمين إذا تمكنوا من قتله ولم يترتب عليه مفسدة ، وإنما ينجر الأمر إلى إقامة الدعوى عند الحاكم في بعض الموارد والأحيان ، فمراده قدس‌سره أن المرتد لا يجب أن يعرّض نفسه للقتل ويسلمها للمسلمين بمجرّد الارتداد ليقتلوه.

مطهِّريّة التبعية وهي في موارد‌

(١) لأن نجاسة فضلاته كطهارتها إنما هي من جهة التبعية لبدنه ولأجل إضافتها إليه ، فاذا أسلم انقطعت إضافتها إلى الكافر وتبدلت بالإضافة إلى المسلم ، فلا يصدق بعد إسلامه أن الشعر شعر كافر أو الوسخ وسخه ، بل يقال إنه شعر مسلم ووسخه كما تقدّم.

(٢) وهي القاعدة المعروفة بتبعية الولد لأشرف الأبوين ، وليس مدركهم في تلك‌

__________________

(*) بشرط أن لا يكون الولد مظهراً للكفر مع تمييزه ، وكذا الحال في تبعية الأسير للمسلم الذي أسره.

٢١١

الثالث : تبعية الأسير للمسلم الذي أسره (١) إذا كان غير بالغ (٢) ولم يكن معه أبوه أو جده (٣).

______________________________________________________

القاعدة رواية حفص قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل من أهل الحرب إذا أسلم في دار الحرب فظهر عليهم المسلمون بعد ذلك؟ فقال : إسلامه إسلام لنفسه ولولده الصغار وهم أحرار وماله (١) ومتاعه ورقيقه له ، فأما الولد الكبار فهم في‌ء للمسلمين إلاّ أن يكونوا أسلموا قبل ذلك ... » (٢) لكي يرد عدم شمولها للجدّ والجدّة لاختصاصها بالأب أو الأبوين. على أنها ضعيفة السند بقاسم بن محمد وعلي ابن محمد القاساني الضعيف لرواية الصفار عنه فليراجع ترجمته (٣).

بل المدرك في ذلك كما أشرنا إليه سابقاً أنه لا دليل على نجاسة ولد الكافر غير الإجماع ، وعدم القول بالفصل بين المميز المظهر للكفر وغيره ، ولا إجماع على نجاسة ولد الكافر إذا أسلم أحد أبويه أو جده أو غير ذلك من الأُصول ، فدليل النجاسة قاصر الشمول للمقام رأساً ، لا أن طهارة ولد الكافر مستندة إلى دليل رافع لنجاسته.

(١) وذلك لأن دليل النجاسة قاصر الشمول له في نفسه ، حيث إن الدليل على نجاسة ولد الكافر منحصر بالإجماع وعدم الفصل القطعي بين المظهر للكفر وغيره ومن الواضح عدم تحقق الإجماع على نجاسته إذا كان أسيراً للمسلم مع الشروط الثلاثة الآتية ، لذهاب المشهور إلى طهارته ، فالمقتضي للنجاسة قاصر في نفسه وهو كاف في الحكم بطهارته.

(٢) لأنّ الأسير البالغ موضوع مستقل ويصدق عليه عنوان اليهودي والنصراني وغيرهما من العناوين الموجبة لنجاسته.

(٣) وإلاّ تبعهما في نجاستهما ولم يمكن الحكم بطهارته بالتبعية ، للإجماع القطعي على‌

__________________

(١) في الوسائل « وولده » بدل « وماله ».

(٢) الوسائل ١٥ : ١١٦ / أبواب جهاد العدو ب ٤٣ ح ١.

(٣) معجم رجال الحديث ١٣ : ١٥٩.

٢١٢

الرابع : تبعية ظرف الخمر له بانقلابه خلاًّ (١).

الخامس : آلات تغسيل الميت من السدة ، والثوب الذي يغسله فيه ، ويد الغاسل دون ثيابه ، بل الأولى والأحوط الاقتصار على يد الغاسل (٢).

______________________________________________________

نجاسة ولد الكافر كما مر ، هذا وقد ذكرنا في التعليقة شرطاً ثالثاً في الحكم بطهارته وهو أن لا يكون مظهراً للكفر وإلاّ انطبق عليه عنوان اليهودي أو غيره من العناوين الموجبة لنجاسته.

(١) لما أسلفنا (١) في التكلم على الانقلاب من أن أواني الخمر لو كانت باقية على نجاستها بعد الانقلاب لكان الحكم بطهارة الخمر بالانقلاب لغواً ظاهراً ، هذا.

وقد نسب إلى بعض المتقدمين من المعاصرين اختصاص الطهارة التبعية بالأجزاء الملاصقة من الإناء بالخمر ، وأما الأجزاء الفوقانية المتنجسة بالخمر قبل الانقلاب حيث إن بالانقلاب تقل كميتها فلا مقتضي لطهارتها تبعاً إذ لا يلزم من بقائها على نجاستها أيّ محذور ، ولا يكون الحكم بطهارة الخمر بالانقلاب لغواً بوجه ، ومن هنا حكم بلزوم كسر الإناء أو ثقبه من تحته حتى يخرج الخلّ من تلك الثقبة ، فإن إخراجه بقلب الإناء يستلزم تنجس الخلّ بملاقاة الأجزاء الفوقانية.

ويدفعه : أن طهارة الأجزاء الفوقانية في الإناء وإن لم تكن لازمة لطهارة الخمر بالانقلاب ، إلاّ أن السيرة العملية كافية في الحكم بطهارتها ، لأن سيرتهم في عصر الأئمة عليهم‌السلام وما بعده لم تجر على أخذ الخلّ بكسر ظرفه أو ثقبه على الكيفية المتقدِّمة ، وإنما كانوا يأخذونه من ظروفه أخذ الماء أو غيره من المائعات عن محلِّها.

(٢) للسيرة القطعية الجارية على عدم غسل السدة والثوب الذي يغسل فيه الميت بعد التغسيل ، وكذلك غيره مما يستعمل فيه من الكيس ويد الغاسل ونحوهما ، فان الثوب يحتاج في تطهيره إلى العصر ولم يعهد عصر ثوب الميت بعد التغسيل ، فطهارته تبعية مستندة إلى طهارة الميت. نعم الأشياء التي لم تجر العادة على إصابة الماء لها حال التغسيل كثوب الغاسل مثلاً لا وجه للحكم بطهارتها بالتبع.

__________________

(١) في ص ١٦٠ ، الخصوصية الاولى.

٢١٣

السادس : تبعية أطراف البئر والدلو والعدة ، وثياب النازح على القول بنجاسة البئر (١) لكن المختار عدم تنجسه بما عدا التغيّر ، ومعه أيضاً يشكل جريان حكم التبعية (٢).

______________________________________________________

(١) لا يخفى أن السيرة وإن كانت جارية على عدم غسل الدلو وأطراف البئر وغيرهما مما يصيبه الماء بالنزح عادة ولا سبيل إلى إنكارها بوجه ، إلاّ أنها من باب السالبة بانتفاء موضوعها ، لأن ماء البئر لا ينفعل بملاقاة النجس حتى تتنجس أطرافها والآلات المستعملة في النزح بسببه ويحتاج في الحكم بطهارتها التبعية إلى الاستدلال بالسيرة ، والنزح أمر مستحب أو أنه واجب تعبدي من غير أن يكون مستنداً إلى انفعال ماء البئر بملاقاة النجس ، فأطراف البئر أو الدلو ونحوهما لا تتنجس إلاّ بالتغيّر ، ولا دليل حينئذ على الطهارة التبعية في تلك الأُمور التي يصيبها الماء عند النزح ، لأن التغيّر في البئر أمر قد يتفق ولا مجال لدعوى السيرة فيه ، كيف وهو من الندرة بمكان لم نشاهده طيلة عمرنا ، وإحراز السيرة فيما هذا شأنه مما لا سبيل إليه.

(٢) والوجه في ذلك ليس هو استناد طهارة البئر حينئذ إلى زوال التغيّر لا إلى النزح ، لأن الطهارة في مفروض الكلام وإن كانت مستندة إلى زوال التغيّر لقوله عليه‌السلام في صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع : « فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه » (١) والنزح مقدّمة له ، ومن هنا ذكرنا أن زوال التغيّر إذا نشأ من إلقاء عاصم عليه أيضاً كفى في تطهيره من غير حاجة إلى النزح ، إلاّ أنه لا فرق في الحكم بالطهارة التبعية وعدمه بين استناد الطهارة إلى النزح واستنادها إلى زوال التغيّر ، فإن السيرة إن كانت جارية على عدم غسل الحبل والدلو وأطراف البئر ونحوها فلا مناص من الالتزام بطهارتها بالتبع ، سواء استندت طهارة البئر إلى زوال التغيّر أم إلى النزح ، وإن لم تجر السيرة على ذلك فلا مناص من الالتزام بنجاستها ، استندت طهارة البئر إلى النزح أو إلى زوال التغيّر.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٢ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٦.

٢١٤

السابع : تبعية الآلات المعمولة في طبخ العصير على القول بنجاسته فإنّها تطهر تبعاً له بعد ذهاب الثلثين (١).

الثامن : يد الغاسل وآلات (*) الغسل في تطهير النجاسات (٢) وبقية الغسالة الباقية في المحل بعد انفصالها (٣).

التاسع : تبعية ما يجعل (**) مع العنب أو التمر للتخليل كالخيار والباذنجان ونحوهما كالخشب والعود ، فإنّها تنجس تبعاً له عند غليانه على القول بها وتطهر تبعاً له بعد صيرورته خلاًّ (٤).

______________________________________________________

بل الوجه فيما أفاده أن النجاسة بعد ما ثبتت تحتاج إزالتها إلى غسلها أو إلى دليل يقتضي زوالها من غير غسل ، والأول مفروض العدم في الدلو وأشباهه والثاني غير متحقق لانحصار دليل الطهارة بالسيرة وهي غير محرزة لقلة الابتلاء بتغيّر البئر كما مر ، فأدلّة لزوم الغسل في المتنجسات محكمة ومقتضى تلك الأدلّة عدم طهارة الدلو ونظائره من غير غسل.

(١) للسيرة المحققة ، ولأن الحكم بطهارته من غير طهارة الإناء المطبوخ فيه العصير لغو ظاهر كما عرفت في أواني الخمر المنقلبة خلاًّ.

(٢) لا دليل على طهارتهما التبعية بوجه ، وإنما لا يحتاجان إلى الغسل بعد تطهير المتنجسات لانغسالهما حال غسلها وتطهيرها ، فكما أن المتنجِّس يطهر بغسله كذلك اليد والظرف يطهران به ، لا أنهما يطهران بتبع طهارة المتنجِّس من غير غسلهما.

(٣) والأمر وإن كان كما أفاده ، إلاّ أن طهارة بقية الغسالة لا تستند إلى الطهارة بالتبع ، بل عدم نجاستها من باب السالبة بانتفاء موضوعها ، لأن الغسالة في الغسلة المتعقبة بطهارة المحل طاهرة كما بيّناه في محله.

(٤) إثبات الطهارة لما يجعل مع العنب أو التمر للتخليل من الصعوبة بمكان ودون‌

__________________

(*) الحكم بطهارتها إنما هو لأجل غسلها بالتبع ، وأما بقية الغسالة فقد مرّ أنها طاهرة في نفسها.

(**) في تبعيته في الطهارة إشكال بل منع ، والذي يسهل الخطب ما مرّ من أن العصير لا ينجس بالغليان.

٢١٥

العاشر من المطهرات : زوال عين النجاسة أو المتنجِّس عن جسد الحيوان غير الإنسان بأيّ وجه كان ، سواء كان بمزيل ، أو من قبل نفسه ، فمنقار الدجاجة إذا تلوث بالعذرة يطهر بزوال عينها وجفاف رطوبتها ، وكذا ظهر الدابة المجروح إذا زال دمه بأي وجه ، وكذا ولد الحيوانات الملوث بالدم عند التولد ، إلى غير ذلك (١).

______________________________________________________

إثباتها خرط القتاد ، حيث لا دليل على الطهارة التبعية فيه بعد العلم بتنجسه بالعصير بناء على القول بنجاسته بالغليان إذ الحكم بطهارته يحتاج إلى الغسل أو إلى دليل دلّ على طهارته التبعية من غير غسل ، وكلا الأمرين مفقود في المقام ، فماذا أوجب طهارته بعد طهارة العصير بالتثليث. وكذلك الحال فيما يجعل في العصير للتخليل فيصير خمراً ثم ينقلب خلاًّ كما قد يتفق في بعض البيوت ، لأنه بعد ما تنجس بالخمر يحتاج زوال النجاسة عنه إلى دليل.

نعم ، إذا كان الشي‌ء المجعول فيه مما يعد علاجاً للتخليل كالملح ، أو كان أمراً عاديا في العصير كالعودة في العنب والنواة في التمر ، حكم بطهارته التبعية ، للأخبار الدالّة على طهارة الخمر المنقلبة خلاًّ بالعلاج وجريان السيرة على طهارته ، هذا والذي يسهل الخطب في مفروض المسألة أنّا لا نلتزم بنجاسة العصير بالغليان كما تقدمت الإشارة إليه سابقاً (١).

مطهِّريّة زوال العين‌

(١) المشهور طهارة بدن الحيوان غير الآدمي بزوال العين عنه ، ويستدل عليه بالسيرة المستمرة من الخلف والسلف على عدم التحرّز من الهرّة ونظائرها مما يعلم عادة بمباشرتها للنجس أو المتنجِّس عادة وعدم ورود أيّ مطهر عليها.

__________________

(١) في ص ١٨٨.

٢١٦

وبما دلّ على طهارة سؤر الهرّة (١) مع العلم بنجاسة فمها عادة لأكل الفأرة أو الميتة أو شربها المائع المتنجِّس وغير ذلك من الأسباب الموجبة لنجاسة فمها ، فلا وجه لطهارة سؤرها سوى طهارة الهرة بزوال العين عنها ، وبما دلّ على طهارة الماء الذي وقعت فيه الفأرة وخرجت حيّة (٢) مع العلم بنجاسة موضع بولها وبعرها ، وبما دلّ على طهارة الماء الذي شرب منه باز أو صقر أو عقاب إذا لم يرَ في منقارها دم (٣) مع العلم العادي بنجاسة منقارها بملاقاته الدم أو الميتة أو غيرهما من النجاسات ، لأنها من جوارح الطيور فلو لم يكن زوال العين مطهراً لمنقارها لم يكن موجب للحكم بطهارة الماء في مفروض الخبر. فهذا كله يدلنا على أن زوال العين مطهر لبدن الحيوان من دون حاجة إلى غسلها ، هذا وفي المسألة احتمالات أُخر :

أحدها : ما احتمله شيخنا الهمداني قدس‌سره بل مال إليه من استناد الطهارة في سؤر الحيوانات الواردة في الروايات إلى ما نفى عنه البعد في محله من عدم سراية النجاسة من المتنجِّس الجامد الخالي عن العين إلى ملاقياته ، إذ مع البناء على ذلك لا يمكن استفادة طهارة الحيوان من الأدلّة المتقدِّمة بزوال العين عنه ، لأنها دلّت على طهارة الماء الملاقي لتلك الحيوانات فحسب وهي لا تنافي بقاءها على نجاستها لاحتمال استنادها إلى عدم تنجيس المتنجسات ، ومقتضى إطلاق ما دلّ على لزوم الغسل في المتنجسات بقاء النجاسة في الحيوانات المذكورة بحالها إلى أن يغسل (٤).

وتظهر ثمرة الخلاف في الصلاة في جلدها أو صوفها المتخذين منها بعد زوال عين النجس ، لأنها بناء على هذا الاحتمال غير جائزة ما لم يرد عليهما مطهر شرعي ، وأما على القول بطهارتها بزوال العين عنها فلا مانع من الصلاة في جلدها أو صوفها لطهارتهما بزوال العين عنهما.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢٧ / أبواب الأسآر ب ٢.

(٢) الوسائل ١ : ٢٣٨ / أبواب الأسآر ب ٩.

(٣) راجع موثقة عمار الوسائل ١ : ٢٣٠ / أبواب الأسآر ب ٤ ح ٢.

(٤) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٦٤٠ السطر ٦.

٢١٧

ثانيها : أن الأخبار المتقدِّمة إنما وردت للدلالة على سقوط استصحاب النجاسة وعدم جريانه في الحيوان غير الآدمي تخصيصاً في أدلته من غير أن تدل على طهارة الحيوان بزوال العين عنه ، وذلك لأنه عليه‌السلام قد علّق نفي البأس عما شرب منه باز أو صقر أو عقاب على ما إذا لم يرَ في منقارها دم ، ومقتضى ذلك أن يكون الحكم بنجاسة بدن الحيوان مختصاً بصورة رؤية النجاسة على بدنه ، ومع عدم رؤيتها وإحساسها لا يجري فيه استصحاب النجاسة ولا يحكم بنجاسته ولا بكونه منجساً لملاقياته ، لاحتمال أن يرد مطهر عليه كشربه من بحر أو نهر أو كر ماء أو إصابة المطر له ، ومن هنا نسب إلى النهاية اختصاص الحكم بطهارة بدن الحيوان بعد زوال العين عنه بما إذا احتمل ورود مطهر عليه (١) فالمدار على ذلك في الحكم بطهارة بدن الحيوان هو احتمال ورود المطهر عليه. وعن بعضهم اعتبار ذلك في الحكم بطهارة بدن الحيوان من باب الاحتياط (٢).

ثالثها : أن الوجه في طهارة سؤر الحيوانات المتقدِّمة عدم تنجسها بشي‌ء ، لا أنها تتنجّس وتطهر بزوال العين عنها ، وذلك لعدم عموم أو إطلاق يدلنا على نجاسة كل جسم لاقى نجساً ، وقولهم : كل ما لاقى نجساً ينجس ، لم يرد في لسان أي دليل ، وإنما عمومه أمر متصيد من ملاحظة الأخبار الواردة في موارد خاصة لعدم احتمال خصوصية في تلك الموارد ، ومع عدم دلالة الدليل عليه لا يمكننا الحكم بنجاسة بدن الحيوان بالملاقاة وإنما النجس هو العين الموجودة عليه. وهذا هو الذي استقربه الماتن قدس‌سره وقال : وعلى هذا فلا وجه لعد زوال العين من المطهرات.

هذه احتمالات ثلاثة وإذا انضمت إلى ما ذهب إليه المشهور من أن الحيوان كغيره يتنجّس بملاقاة النجس إلاّ أن زوال العين عنه مطهر له للسيرة والأخبار المتقدِّمة كانت الوجوه والاحتمالات في المسألة أربعة.

ولا يمكن المساعدة على شي‌ء منها عدا الاحتمال الأخير وهو الذي التزم به المشهور.

__________________

(١) نهاية الأحكام ١ : ٢٣٩.

(٢) حكاه ( دام ظله ) عن المحقق الورع الميرزا محمد تقي الشيرازي قدس‌سره.

٢١٨

أما ما احتمله شيخنا الهمداني قدس‌سره فيدفعه أوّلاً : أن المتنجِّس من غير واسطة على ما قدّمنا في محلِّه (١) منجس لما لاقاه وقد دلتنا على ذلك جملة من الأخبار : منها : قوله عليه‌السلام : « وإن كانت أصابته جنابة فأدخل يده في الماء فلا بأس به ، إن لم يكن أصاب يده شي‌ء من المني » (٢) لأن مفهومه على ما صرح به في الرواية أنه إذا أصاب يده شي‌ء من المني فأدخل يده في الماء ، ففيه بأس.

وثانياً : أن البناء على عدم تنجيس المتنجِّس إنما يقدح في الاستدلال بالأخبار ، وأما السيرة فهي باقية بحالها ، لأن المتشرعة خلفاً عن سلف وفي القرى والأمصار جرت سيرتهم على عدم التجنب عن أبدان الحيوانات وأصوافها وأوبارها وجلودها ، حيث يعاملون معها معاملة الأشياء الطاهرة ، فيلبسونها فيما يشترط فيه الطهارة مع العلم بتنجسها جزماً بدم الولادة حين تولدها من أُمهاتها أو بدم الجرح أو القرح المتكونين في أبدانها ، أو بالمني الخارج منها بالسفاد أو بغير ذلك من الأُمور. والاطمئنان بعدم ملاقاتها للمطهر الشرعي ، لأنها لا تستنجي من البول ولا تسبح في الشطوط ، فهل في قلل الجبال والفلوات نهر أو بحر أو ماء كثير ليحتمل ورودها في تلك المياه ، كيف ولا يوجد في مثل الحجاز شي‌ء من ذلك إلاّ ندرة وإنما يتعيش أهله بمياه الآبار. وأما احتمال اصابة المطر لها ، فيندفع بأن المطر على تقدير إصابته الحيوانات المتنجسة أبدانها فإنّما يصل إلى ظهورها لا إلى بطونها ، فكيف لا يتحرزون عنها ويستعملونها فيما يشترط فيه الطهارة ، فلا وجه له سوى طهارتها بزوال العين عنها.

وأما الاحتمال الثاني فيرده : أن السيرة جرت على عدم غسل الحيوانات مع العلم بنجاستها في زمان ، والعلم عادة بعدم ملاقاتها للمطهر بوجه كما في الحيوانات الأهلية في البيوت ، للقطع بعدم ورود أي مطهر على الهرة من غسلها أو وقوعها في ماء كثير أو إصابة المطر لها ولا سيما في غير أوان المطر ، وعلى ذلك لا يعتبر في الحكم بطهارة‌

__________________

(١) شرح العروة ٣ : ٢٠٤.

(٢) راجع موثقة سماعة المروية في الوسائل ١ : ١٥٤ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ١٠.

٢١٩

الحيوان احتمال ورود المطهر عليه ، إذ لم يعهد من أحد غسل الهرة أو التحرز عن صوف الشاة في الصلاة بدعوى العلم بتنجسها بدم الولادة وعدم ورود مطهّر عليه ، بل لو غسل أحد فم الهرة التي أكلت الفأرة أو شيئاً متنجِّساً عدّ من المجانين عندهم ، وهذا لا يستقيم إلاّ بطهارة الحيوان بمجرد زوال العين عنه ، فلا يمكننا المساعدة على هذا الاحتمال.

إذن يدور الأمر بين الاحتمالين الأخيرين وهما يبتنيان على أن الأدلّة الدالّة على الانفعال بالملاقاة هل فيها عموم أو إطلاق يدلنا على نجاسة كل جسم لاقى نجساً أو لا عموم فيها ، وحيث إن موثقة عمار : « يغسله ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء » (١) يكفي في إثبات العموم ، فلا مناص من أن يلتزم بنجاسة كل جسم لاقى نجساً أو متنجساً ولو كان بدن حيوان غير آدمي.

ثم إن الأمر بالغسل في تلك الروايات وإن كان إرشاداً إلى أمرين : أحدهما : نجاسة ذلك الشي‌ء الذي أُمر بغسله. وثانيهما : أن نجاسته لا ترتفع من دون غسل ، ومقتضى ذلك عدم زوال النجاسة عن الحيوانات المتنجسة إلاّ بغسلها ، إلاّ أنّا علمنا بالأخبار والسيرة المتقدمتين أن نجاسة الحيوان بخصوصه قابلة الارتفاع بزوال العين عنه ، وبذلك نرفع اليد عن حصر المطهر في الغسل في الحيوان ، فهو وإن قلنا بتنجسه بالملاقاة كبقية الأجسام الملاقية للنجس إلاّ أنه يمتاز عن غيره في أن زوال العين عنه كاف في طهارته. فعلى ذلك لو تنجس بدن الحيوان بشي‌ء كالعذرة فجف فيه ولم تزل عنه عينه ثم ذبح لا بدّ في تطهيره من الغسل ، وذلك لأن كفاية زوال العين في التطهير إنما يختص بالحيوان فاذا خرج عن كونه حيواناً لا دليل على كفايته فلا مناص من غسله بالماء. نعم بناء على عدم تنجس الحيوان بالملاقاة لا يحتاج في تطهيره إلى الغسل ، لأن النجاسة حينما أصابته رطبة لم تؤثر في بدنه لأنه حيوان وهو لا يتنجّس بالملاقاة ، وبعد ما خرج عن كونه حيواناً لم تصبه النجاسة الرطبة حتى تنجسه ويحتاج في تطهيره إلى الغسل.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٢ / أبواب الماء المطلق ب ٤ ح ١.

٢٢٠