موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

عليهم عليهم‌السلام البيان والتنبيه على نجاسته. وإما أن تثبت من جهة اللغوية فإن الحكم بطهارة العصير بعد تثليثه مع بقاء المحل على نجاسته لغو ظاهر.

وهذه وجوه ثلاثة وهي مختصة بالأواني والآلات وغيرهما مما يصيبه العصير عادة حين طبخه وتثليثه ، ولا يأتي شي‌ء منها في الثوب والبدن.

أمّا السيرة والإجماع ، فلأنهما من الأدلّة اللّبية والقدر المتيقن منهما الأواني والآلات ونظائرهما وهي التي جرت السيرة على عدم التجنب عنها ، ولا يمكن الاستدلال بالأدلّة اللّبية في الزائد على القدر المتيقن منها.

وأمّا سكوت الأخبار في مقام البيان ، فلأنهم عليهم‌السلام إنما كانوا بصدد بيان أن العصير يحل شربه ويحكم بطهارته بذهاب ثلثيه وكذلك آلاته وأوانيه ، ولم يعلم أنهم بصدد بيان أن محل العصير ولو كان كالثوب والبدن أيضاً يطهر بتبعه حتى يتمسك بإطلاق الروايات وسكوتها في مقام البيان.

وأما دليل اللغوية ، فلأنه إنما يتم فيما إذا ورد دليل على ثبوت حكم في مورد بخصوصه وكان ثبوته في ذلك المورد متوقفاً على ثبوت حكم آخر ، فإنّه يلتزم حينئذ بثبوت ذلك الحكم الآخر أيضاً صوناً للكلام عن اللغو ، وهذا كما في الحكم بطهارة العصير المغلي بعد ذهاب ثلثيه فإنّها مع بقاء الآلات والأواني على نجاستهما لغو ظاهر ، فصوناً لكلامهم عليهم‌السلام عن اللغو نلتزم بثبوت الطهارة للأواني والآلات كالعصير. وأما إذا لم يثبت الحكم إلاّ بالإطلاق وكان شموله لفرد من أفراده متوقفاً على التزام حكم آخر ، فلا مسوّغ للتمسك بالإطلاق في ذلك الفرد ما لم يقم دليل على ثبوت الحكم الآخر في نفسه ، وذلك لما ذكرناه في محله من أن الإطلاق إنما يشمل الموارد التي لا يتوقف شموله لها على مئونة زائدة كلحاظ ثبوت اللاّزم وهو الحكم الآخر على الفرض ، ومع توقفه على المئونة أي على لحاظ ثبوت الحكم الآخر لا يشمله الإطلاق في نفسه حتى يقوم دليل خارجي على تلك المئونة الزائدة.

وقد ذكرنا نظيره في الكلام على الأُصول المثبتة ، حيث استدل على اعتبارها بإطلاق أدلة الأُصول ولزوم اللغوية على تقدير عدم ثبوت مثبتاتها ، لأن إطلاق قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » يشمل اليقين السابق الذي لا يترتب عليه‌

١٨١

أثر شرعي في نفسه ، ولا معنى لنقضه إلاّ أن له لازماً له أثر ، وبما أن شموله لذلك الفرد من اليقين لغو إلاّ بالالتزام بجريانه في لازمه والحكم بعدم نقض آثار ذلك اللاّزم فصوناً لكلامه عليه‌السلام عن اللغو لا بدّ من التزام شمول الأدلّة للازمه.

وقد أجبنا عن ذلك هناك بما ذكرناه في المقام ، لأن عدم نقض اليقين الذي لا أثر شرعي له في نفسه ليس بمورد للدليل وإنما يشمله إطلاقه ، والإطلاق لا يشمل إلاّ الموارد التي لا يتوقف شموله لها على لحاظ أمر زائد ، ولو كان لحاظ ثبوت الحكم في لازمه ما دام لم يقم دليل خارجي على لحاظه ، والأمر فيما نحن فيه أيضاً كذلك ، إذ العصير الطارئ على الثوب أو البدن ليس بمورد لدليل بالخصوص ، وإنما يحكم بطهارته بذهاب الثلثين للإطلاق ، وهو لا يشمل الموارد التي يتوقف شموله لها على لحاظ أمر زائد. وعليه فالدليل على طهارة العصير بذهاب ثلثيه قاصر الشمول للقطرة الواقعة على الثوب أو البدن في نفسه حتى يدعى ثبوت الطهارة في لازمه بدليل اللغوية. وهذا بخلاف الأواني والآلات حيث إن طهارة العصير المغلي بذهاب ثلثيه مورد للدليل بالخصوص ، والعصير إنما يكون في الإناء كما أن إغلاءه إنما يكون بآلاته ، ومعه لا بدّ من الالتزام فيهما أيضاً بالطهارة صوناً لكلامهم وحكمهم بطهارة العصير بذهاب الثلثين عن اللغو.

فالمتحصل أنه لا دليل على طهارة البدن والثوب تبعاً لطهارة القطرة الواقعة عليهما أو بجفافها ، ولأجل ذلك استشكل الماتن في الحكم بطهارتهما كما عرفت.

نعم ، يمكن الحكم بطهارة الثوب والبدن أيضاً تبعاً لطهارة العصير المغلي في إنائه بذهاب الثلثين لا تبعاً لطهارة القطرة الواقعة على الثوب والبدن بجفافها أو بذهاب ثلثيها وذلك لما تقدم من أن الأواني والآلات ولباس الطباخ وبدنه ، وغيرها مما يصيبه العصير عادة حين طبخه حتى الملعقة التي بها يحرك العصير والإناء الذي تجعل فيه تلك الملعقة محكومة بالطهارة تبعاً لطهارة العصير ، وذلك لأن نجاسة تلك الأُمور مما يغفل عنه العامّة وهي على تقدير ثبوتها لا بدّ من أن يبين في مقام البيان فسكوتهم عليهم‌السلام عن التعرض لنجاستها في تلك الروايات الواردة في مقام البيان يدل على طهارتها تبعاً. وأما التبعية في الثوب والبدن للقطرة الواقعة عليهما فقد‌

١٨٢

[٣٧٢] مسألة ٢ : إذا كان في الحصرم حبة أو حبتان من العنب فعصر واستهلك لا ينجس ولا يحرم بالغليان أما إذا وقعت تلك الحبّة في القدر من المرق أو غيره فغلى يصير حراماً ونجساً على القول بالنجاسة (١).

[٣٧٣] مسألة ٣ : إذا صبّ العصير الغالي قبل ذهاب ثلثيه في الذي ذهب ثلثاه يشكل طهارته (*) وإن ذهب ثلثا المجموع. نعم لو كان ذلك قبل ذهاب ثلثيه وإن كان ذهابه قريباً فلا بأس به. والفرق أن في الصورة الأُولى ورد العصير النجس على ما صار طاهراً فيكون منجساً له بخلاف الثانية ، فإنّه لم يصر بعد‌

______________________________________________________

عرفت عدم ثبوتها ، كما أن ثوب الطباخ أو بدنه إذا كان بحيث لا يصيبه العصير عادة لم نلتزم بطهارتهما التبعية ، لعدم الدليل عليها وإن أصابتهما قطرة العصير اتفاقاً.

وبما سردناه في المقام اتضح أن الحكم بطهارة نفس القطرة بجفافها أو بذهاب ثلثيها أيضاً غير تام ، لما مر من أن العصير الطارئ على الثوب أو البدن ليس بمورد لدليل بالخصوص ، وإنما يحكم بطهارته بذهاب الثلثين للإطلاق وهو لا يشمل الموارد التي يتوقّف شموله لها على لحاظ أمر زائد كما في المقام ، لأن المحل بعد ما تنجس بتلك القطرة لم ينفع جفافها أو ذهاب ثلثيها في طهارتها ، بل تتنجّس بنجاسة المحل ولا يمكن الحكم بطهارتها إلاّ بالحكم بطهارة لازمه وهو المحل ، والإطلاق لا يشمل الفرد الذي يتوقّف شموله له على لحاظ أمر زائد كما مر.

(١) والوجه فيه أن ما حكم بحرمته أو بنجاسته أيضاً إذا غلى إنما هو العصير العنبي لا عصير الحصرم أو غيره ، ومع استهلاك حبة أو حبتين من العنب في عصير الحصرم لا يبقى موضوع للحرمة والنجاسة ، بل لا يتوقّف الحكم بالحلية والطهارة على صدقه كما يظهر من كلام الماتن ، بل المدار على عدم صدق العصير العنبي ، لأنه الموضوع للحكم بالحرمة والنجاسة وبانتفائه ينتفي الحكمان ، صدق عليه عصير الحصرم أم لم يصدق.

__________________

(*) بل يقوى عدم طهارته بناء على نجاسة العصير بالغليان.

١٨٣

طاهراً فورد نجس على مثله. هذا ولو صَبّ العصير الذي لم يغل على الذي غلى فالظاهر عدم الاشكال فيه ، ولعل السر فيه أن النجاسة العرضية صارت ذاتية وإن كان الفرق بينه وبين الصورة الاولى لا يخلو عن إشكال ومحتاج إلى التأمّل (١).

______________________________________________________

(١) الصور المذكورة للمسألة في كلام الماتن ثلاث :

الاولى : ما إذا كان عصيران قد صبّ أحدهما في الآخر بعد غليان كل منهما ونجاستهما. ولا ينبغي الإشكال حينئذ في أنه إذا غلى وذهب ثلثا مجموع العصيرين حكم بحليته وطهارته ، لأن المجموع عصير مغلي قد ذهب ثلثاه.

الثانية : ما إذا كان عصيران أحدهما مغلي نجس والآخر طاهر غير مغلي وقد صبّ أحدهما في الآخر ، فهل يحكم بطهارة المجموع إذا غلى وذهب ثلثاه؟ استشكل الماتن في الحكم بطهارته حينئذ ، ولعل منشأ استشكاله أن الأخبار الواردة في طهارة العصير بذهاب ثلثيه بالغليان إنما دلت على أن نجاسته الذاتية المسببة عن الغليان ترتفع بذهاب ثلثيه ، والعصير الطاهر في مفروض الكلام قد طرأت عليه نجاستان : ذاتية بالغليان وعرضية بملاقاته مع العصير المغلي النجس ، ومعه لا يحكم بطهارته إذا غلى وذهب عنه الثلثان ، لعدم دلالة الأخبار على ارتفاع النجاسة العرضية في العصير أيضاً بذلك فهو غير مشمول للروايات ، ونظيره ما إذا تنجس العصير قبل الغليان بشي‌ء من النجاسات الخارجية كالدم والبول وغيرهما حيث لا يحكم بطهارته بذهاب ثلثيه قطعاً.

ولا يمكن قياس المقام بما إذا تنجس العصير بالخمر أو بغيرها ثم انقلب خمراً وبعد ذلك انقلب الخمر خلاًّ ، لأن الحكم بطهارته وارتفاع النجاسة العرضية عنه مستند إلى إطلاق الروايات كما مرّ ولا إطلاق في المقام لاختصاص أخبار المسألة بالنجاسة العينية الحاصلة للعصير بالغليان.

ودعوى : أن النجاسة العرضية بعد ما غلى العصير تندك وتتبدل بالنجاسة الذاتية غير مسموعة ، لأن النجاسة وإن كانت تتبدل بالذاتية إلاّ أن الأخبار الواردة في‌

١٨٤

المسألة لا دلالة لها على ارتفاع تلك النجاسة الذاتية المنقلبة عن العرضية لاختصاصها بارتفاع النجاسة الذاتية المسببة عن الغليان.

هذا ، على أن ذلك لو تمّ في تنجس العصير الطاهر بالعصير النجس جرى مثله حينئذ في تنجس العصير بالنجاسات الخارجية أيضاً من البول والمني وغيرهما ، مع أن النجاسة العرضية الحاصلة بملاقاتها غير مرتفعة بالغليان جزماً ، هذا كله في تقريب الاستشكال في المسألة.

ومقتضى تدقيق النظر أن ذهاب ثلثي المجموع موجب لطهارته ، والوجه فيه أن نجاسة العصير الطاهر في مفروض الكلام أيضاً مستندة إلى الغليان بالارتكاز ، بيان ذلك : أن الغليان لا يطرأ على تمام أجزاء العصير وأطرافه دفعة واحدة لأنه مستحيل عادة أو كالمستحيل ، والقدر المتيقن أنه غير واقع خارجاً ، إذ الغليان في أي مائع عصير أو غيره إنما يتحقق في الأجزاء المتصلة منه بالإناء ثم شيئاً فشيئاً يسري إلى بقية الأجزاء والأطراف ، بل في القدور الكبيرة قد تغلي الأجزاء المتصلة بها من غير أن تنسلب البرودة عن الأجزاء الوسطانية أو الأخيرة تماماً ، وعلى ذلك إذا غلت الأجزاء المتصلة بالإناء من العصير حكم بنجاستها لا محالة لأنها عصير قد غلى ، وإذا تنجست الأجزاء المتصلة به تنجست بقية الأجزاء أيضاً بسببها مع عدم غليانها حالئذ على الفرض ولا إشكال في أن ذهاب الثلثين في مثله موجب للحلية والطهارة في المجموع ، ولا وجه لذلك في الأجزاء غير المغلية إلاّ استناد نجاستها إلى الغليان بواسطة اتصالها بالأجزاء المغلية ، ولا فرق في ذلك بين كون الأجزاء غير المغلية متصلة بالأجزاء المغلية ابتداء وبين كونها متصلة بها بعد ما كانت منفصلة عنها أوّلاً لعدم الفرق بين الاتصال والانفصال كذلك حسب المرتكز عرفاً. نعم هذا يختص بالنجاسة الحاصلة بالغليان ولا يأتي في تنجس العصير بالنجاسات الخارجية من البول والدم ونحوهما.

الثالثة : ما إذا كان عصيران مغليان أحدهما طاهر بالتثليث والآخر نجس لعدم تثليثه وقد صبّ أحدهما في الآخر فهل يحكم بطهارة المجموع إذا ذهب ثلثاه؟

١٨٥

[٣٧٤] مسألة ٤ : إذا ذهب ثلثا العصير من غير غليان لا ينجس إذا غلى بعد ذلك (*) (١).

______________________________________________________

التحقيق عدم طهارته بذلك ، لأن العصير بعد ما طهر بتثليثه لو عرضته نجاسة خارجية لم تطهر بإذهاب ثلثيه ثانياً ، لأن النصوص الواردة في المقام إنما تدل على أن ذهاب ثلثي العصير يطهره من النجاسة الحاصلة بغليانه ولا يكاد يستفاد منها كونه مطهراً له مطلقاً ولو بعد ذهاب ثلثيه مرة أو أكثر ، وبما أن العصير النجس في مفروض الكلام أوجب تنجس العصير الطاهر بالتثليث فلا يمكن الحكم بارتفاع نجاسته العرضية بتثليثه ثانياً وإن كانت نجاسة الطاهر أيضاً مستندة إلى الغليان ، والفرق بين هذه الصورة والصورة الثانية مما لا يكاد يخفى ، لأن العصير الطاهر في الصورة الثانية لم يذهب ثلثاه ، فاذا تنجس بالنجاسة المستندة إلى الغليان حكم بارتفاعها بتثليثه. وأما في الصورة الثالثة فقد فرضنا أن العصير كان نجساً وطهرناه بتثليثه ، ومعه لم يقم دليل على أنه إذا تنجس ثانياً ترتفع نجاسته بالتثليث ، هذا.

ولا يخفى أن ذلك كله يبتني على القول بنجاسة العصير بالغليان ، وقد منعناه في التكلم على نجاسته وطهارته وذكرنا أن الغليان إنما يسبب الحرمة دون النجاسة. وعليه فلا ينبغي الإشكال في حلِّيّة العصير في جميع الصور الثلاث : أما في الأُوليين فظاهر. وأما في الثالثة فلأن ذهاب الثلثين عن العصير قد أوجب الحكم بحلية شربه فإذا امتزج مع ما يحرم شربه وغلى مجموعهما ثانياً حكم بحلِّيّته بالتثليث ، لأن حلِّيّة الحلال لا تنقلب إلى الحرمة إذا زالت عن الممتزج به بإذهاب الثلثين ثانياً.

(١) ذهاب ثلثي العصير بعد ما وضع على النار وقبل أن يغلي قد يفرض مع تبدل العصير وخروجه عن كونه عصيراً ، كما إذا كان من الغلظة والثخونة بحيث ينقلب دبساً بمجرد وضعه على النار وقبل أن يغلي ، ولا شبهة حينئذ في أنه إذا غلى بعد ذلك لم يحكم بحرمته ولا بنجاسته ، لأنهما حكمان مترتبان على غليان العصير وواضح أن‌

__________________

(*) إذا صدق عليه العصير ترتب عليه ما يترتب على غليانه من الحرمة أو هي مع النجاسة على القول بها ، ولا أثر لذهاب ثلثيه قبل الغليان.

١٨٦

[٣٧٥] مسألة ٥ : العصير التمري أو الزبيبي لا يحرم ولا ينجس بالغليان على الأقوى ، بل مناط الحرمة والنجاسة فيهما هو الإسكار (١).

[٣٧٦] مسألة ٦ : إذا شك في الغليان يبنى على عدمه (٢) كما أنه لو شك في ذهاب الثلثين يبنى على عدمه (٣).

[٣٧٧] مسألة ٧ : إذا شك في أنه حصرم أو عنب يبنى على أنه حصرم (٤).

[٣٧٨] مسألة ٨ : لا بأس بجعل الباذنجان (*) أو الخيار أو نحو ذلك في الحب مع ما جعل فيه من العنب أو التمر أو الزبيب ليصير خلاًّ أو بعد ذلك قبل أن يصير‌

______________________________________________________

الدبس غير العصير ، إلاّ أن هذه الصورة خارجة عن محط كلام الماتن ، لأن ظاهره إرادة بقاء العصير بحاله لا خروجه عن كونه عصيراً.

وقد يفرض مع بقاء العصير على كونه عصيراً وفي هذه الصورة إذا غلى بعد ما ذهب ثلثاه لا مانع من الحكم بحرمته بل بنجاسته أيضاً على تقدير القول بها لإطلاق الروايات ودلالتها على أن غليان العصير سبب لحرمته ونجاسته ، تقدّم عليه ذهاب ثلثيه أم لم يتقدّم ، ولم يقم دليل على أن ذهاب ثلثي العصير قبل غليانه يوجب سقوطه عن قابلية الاتصاف بالحرمة والنجاسة وإن غلى بعد ذلك ، وإنما الدليل دلّ على أن ذهابهما يرفع الحرمة والنجاسة بعد الغليان. وأما ذهابهما قبله فلا يترتّب عليه أثر بوجه ، وعليه لا يحكم بحلِّيّته وطهارته إلاّ أن يذهب ثلثاه ثانياً.

(١) تكلّمنا على ذلك في مبحث النجاسات (٢) فليراجع ، ويأتي منّا في المسألة العاشرة أيضاً أن العصير التمري أو غيره لا بأس به ما دام غير مسكر فانتظره.

(٢) لاستصحاب عدمه ، لأنه أمر حادث مسبوق بالعدم.

(٣) للاستصحاب.

(٤) لاستصحاب بقاء صفته وهي الحصرمية وعدم تبدلها بالعنبية.

__________________

(*) هذا فيما إذا لم نقل بنجاسة العصير بالغليان وإلاّ ففيه بأس.

(١) شرح العروة ٣ : ١١٤.

١٨٧

خلاًّ ، وإن كان بعد غليانه أو قبله وعلم بحصوله بعد ذلك (١).

[٣٧٩] مسألة ٩ : إذا زالت حموضة الخلّ العنبي (٢) وصار مثل الماء لا بأس به ، إلاّ إذا غلى (*) فإنّه لا بدّ حينئذ من ذهاب ثلثيه أو انقلابه خلاًّ ثانياً (٣).

______________________________________________________

(١) لا موجب للحكم بطهارة الخلّ في مفروض المسألة بناء على نجاسة العصير بالغليان لأن العصير وإن كان يحكم بطهارته وحليته بالانقلاب خلاًّ أو بتثليثه ، إلاّ أن الباذنجان المجعول فيه الذي تنجس بالعصير بعد غليانه باق على نجاسته ، لعدم ورود مطهر شرعي عليه وعدم الدليل على طهارته بالتبع ، وهو يوجب تنجّس العصير ثانياً بعد تثليثه أو انقلابه خلاًّ. نعم الأواني وحب التمر وغيرهما مما يتقوّم به الخلّ والعصير أو جرت العادة على جعله فيه محكومة بالطهارة تبعاً ، لأنه المتيقن من الأخبار الدالّة على طهارة العصير بالتثليث دون ما لا مدخلية له في الخلّ والعصير ولم تجر العادة على جعله فيهما. والذي يسهل الخطب أنّا لم نلتزم بنجاسة العصير بالغليان وإنما هو سبب لحرمته فحسب ، ومعه لا إشكال في الحكم بحلية الخلّ مع جعل الباذنجان أو الخيار فيه لأنهما حينئذ من ملاقي الحرام دون النجس ، وملاقي الحرام ليس بحرام.

(٢) قيد الخلّ بالعنبي احترازاً عن الزبيبي والتمري لعدم حرمتهما بالغليان.

(٣) في المقام مسألتان : إحداهما : أن العصير العنبي إذا غلى هل ينحصر تطهيره بتثليثه أو أنه يطهر بانقلابه خلاًّ أيضاً؟ وهذه المسألة وإن كانت أجنبية عن المقام إلاّ أنّا نتعرض لها تبعاً حيث أشار الماتن في طي كلامه إلى طهارة العصير المغلي بالانقلاب. وثانيتهما : أن الخلّ العنبي إذا زالت حموضته وصار ماء مضافاً فهل ينجس بالغليان؟

أمّا المسألة الأُولى : فقد يقال : بعدم الانحصار وطهارة العصير بانقلابه خلاًّ ويستدل عليه بوجوه :

__________________

(*) بل وإن غلى ، إذ لا أثر لغليان الخلّ الفاسد.

١٨٨

الأوّل : الإجماع القطعي على أن انقلاب العصير المغلي خلاًّ كانقلاب الخمر خلاًّ موجب لطهارته. وفيه : أن تحصيل الإجماع التعبدي في المسألة كبقية المسائل من الصعوبة بمكان ، ولعلّه مما لا سبيل إليه.

الثاني : الأولوية القطعية ، بتقريب أن الانقلاب خلاًّ إذا كان موجباً للطهارة في الخمر فهو موجب لها في العصير المغلي بالأولوية ، لوضوح أن الخمر أشد نجاسة من العصير. وفي هذه الدعوى ما لا يخفى على الفطن لأنها قياس. على أنه في غير محله لأنه مع الفارق ، حيث إن الخمر من النجاسات العينية والنجاسة فيها قائمة بالعنوان كعنوان الكلب والبول والخمر فاذا زال بالانقلاب ارتفع حكمه لا محالة ، ومن ثمة قلنا إن الطهارة في انقلاب الخمر خلاًّ حكم على القاعدة ولا حاجة فيها إلى التمسك بالأخبار ، وإنما مسّت الحاجة إليها من جهة نجاسة الإناء الموجبة لتنجس الخمر بعد انقلابها خلاًّ ، فلولاها لم نحكم بطهارة الخمر حينئذ ، وهذا بخلاف العصير فإن النجاسة فيه بالغليان إنما ترتّبت على ذاته وجسمه ولم يتعلّق على اسمه وعنوانه وعليه فقياس العصير بالخمر مع الفارق لبقاء متعلق الحكم في الأول دون الثاني.

الثالث : صحيحة معاوية : « خمر لا تشربه » (١) حيث دلت على أن العصير بعد غليانه خمر ، وهو تنزيل له منزلتها من جميع الجهات والآثار ، وحيث إن الخمر تطهر بانقلابها خلاًّ فلا مناص من أن يكون العصير أيضاً كذلك.

ويرد عليه أوّلاً : أن لفظة خمر غير موجودة على طريق الكليني قدس‌سره كما تقدّم (٢).

وثانياً : أنها ظاهرة على تقدير وجود اللفظة في أن العصير منزّل منزلة الخمر من حيث حرمته ، حيث قال : « خمر لا تشربه » لأنه فرق بيّن بين أن يقال : خمر فلا تشربه ، وبين أن يقال : خمر لا تشربه ، فان ظاهر الأول عموم التنزيل لمكان « فاء » الظاهرة في التفريع ، لدلالتها على أن حرمة الشرب أمر متفرع على التنزيل لا‌

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٢٩٣ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٧ ح ٤.

(٢) في المسألة [٢٠٢].

١٨٩

أن التنزيل خاص بحرمة الشرب ، والثاني ظاهر في إرادة التنزيل من حيث حرمة الشرب فحسب.

وثالثاً : هب أنها دلت على تنزيل العصير منزلة الخمر مطلقاً ، إلاّ أنه ينصرف إلى أظهر الخواص والآثار وهي في الخمر ليست إلاّ حرمة الشرب والنجاسة ، وأما طهارتها بالانقلاب خلاًّ فهي من الآثار غير الظاهرة التي لا ينصرف إليها التنزيل بوجه.

والصحيح أن يستدل على ذلك بالأخبار الواردة في طهارة الخلّ وجواز شربه وأوصافه وآثاره كما دلّ على أنه مما لا بدّ منه في البيوت ، وأنه ما أفقر بيت فيه خل (١) وغير ذلك من الآثار ، وذلك لأن الخلّ لا يتحقّق إلاّ بعد نشيش العصير وغليانه بنفسه ، وقد دلّت الروايات على حليته مع أنه غلى قبل الانقلاب. بل الحرمة بالنشيش آكد من الحرمة بالغليان بالنار أو غيرها ، ومقتضى الأخبار المذكورة طهارة الخلّ الحاصل بالنشيش فضلاً عن الحاصل بالغليان بالأسباب ، ومعه لا حاجة إلى الاستدلال بشي‌ء من الوجوه المتقدِّمة. هذا كله في المسألة الأُولى.

أمّا المسألة الثانية : أعني نجاسة الخلّ الذي ذهبت حموضته وحرمته بالغليان ، فقد ذهب الماتن إلى نجاسته وحرمته إذا غلى إلاّ أن يذهب ثلثاه أو ينقلب خلاًّ ثانياً.

ولا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأنّ الموضوع للحكم بالحرمة أو هي مع النجاسة هو الغليان على نحو صرف الوجود المنطبق على أوّل الوجودات ، ومعه إذا تحقّق الغليان أوّلاً ، ثم طهر بذهاب الثلثين أو التخليل فالغليان الثانوي لا يترتّب عليه أثر من الحرمة والنجاسة حتى نحتاج في تطهيره وتحليله إلى ذهاب الثلثين أو التخليل هذا في العصير. وكذلك الحال في الخلّ لعدم حرمته ونجاسته بالغليان حيث سبقه الغليان مرّة وترتبت عليه الحرمة والنجاسة وزالتا بانقلابه خلاًّ. إذن فالوجود الثاني من الغليان لا يؤثر شيئاً منهما وإنما هو باق على حليته وطهارته غلى أم لم يغل ، هذا‌

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٨٥ / أبواب الأطعمة المباحة ب ٤٣ ، ٤٤ ، ٤٥ ، ٣٧٠ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٣١.

١٩٠

[٣٨٠] مسألة ١٠ : السيلان وهو عصير التمر أو ما يخرج منه بلا عصر ، لا مانع من جعله في الأمراق ولا يلزم ذهاب ثلثيه كنفس التمر (١).

السابع : الانتقال كانتقال دم الإنسان أو غيره مما له نفس إلى جوف ما لا نفس له كالبق والقمل (٢) ، وكانتقال البول إلى النبات والشجر ونحوهما (٣) ولا بدّ من كونه على وجه لا يسند إلى المنتقل عنه وإلاّ لم يطهر كدم العلق بعد مصّه من الإنسان (٤).

______________________________________________________

كلّه في الخلّ غير الفاسد. وأما الخلّ الفاسد أعني ما زالت عنه حموضته فهو أيضاً كسابقه والغليان الثانوي لا يقتضي حرمته ولا نجاسته.

(١) والوجه في حليته وطهارته أن العصير التمري لا دليل على حرمته أو نجاسته بالغليان ما دام غير مسكر ، وإذا أسكر فهو حرام كما ورد في جملة من الأخبار وفي بعضها : « يا هذا قد أكثرت عليَّ أفيسكر؟ قال : نعم قال : كل مسكر حرام » (١). والروايات الدالّة على حرمة العصير أو نجاسته بالغليان مختصة بالعصير العنبي دون التمري ، فلئن تعدى أحد فإنّما يتعدى إلى الزبيبي أو يحتاط فيه ، وأما التمري أو غيره فالالتزام بحرمته أو نجاسته بالغليان بلا موجب يقتضيه.

مطهِّريّة الانتقال‌

(٢) والمراد به انتقال النجس إلى جسم طاهر وصيرورته جزءاً منه.

(٣) الظاهر أن ذلك من سهو القلم ، لأن المنتقل إلى النبات أو الشجر إنما هو الأجزاء المائية من البول لا الأجزاء البولية بأنفسها ، وهو معدود من الاستحالة وليس من الانتقال في شي‌ء. نعم يمكن أن تنتقل الأجزاء البولية إلى الشجر بجعله فيه مدّة ترسب الأجزاء البولية فيه ، إلاّ أنه لا يحتمل أن يكون مطهراً للبول الموجود في الشجر ، فالأنسب أن يمثل بانتقال الماء المتنجِّس إلى الشجر أو النبات.

(٤) وتفصيل الكلام في ذلك أن النجس كدم الإنسان أو غيره مما له نفس سائلة‌

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٣٥٥ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٢٤ ح ٦.

١٩١

قد ينتقل إلى حيوان طاهر ليس له لحم ولا دم سائل كالبق والقمل ، أو أن له لحماً ولا نفس سائلة له كالسمك على نحو تنقطع إضافته الأولية عن المنتقل عنه ، وتتبدل إلى إضافة ثانوية إلى المنتقل إليه ، بحيث لا يقال إنه دم إنسان مثلاً بل دم بق أو سمكة ونحوها لصيرورته جزءاً من بدنهما بالتحليل ، بحيث لا يمكن إضافته إلى الإنسان إلاّ على سبيل العناية والمجاز ، فالدم وإن كان هو الدم الأوّل بعينه إلاّ أن الإضافة إلى الإنسان في المثال تبدلت بالإضافة إلى البق أو السمكة ، فهو ليس من الاستحالة في شي‌ء ، لأنه يعتبر في الاستحالة تبدل الحقيقة إلى حقيقة أُخرى مغايرة مع الاولى والحقيقة الدموية لم تتبدل بحقيقة أُخرى في المثال بل تبدلت إضافته فحسب ، ولا إشكال حينئذ في الحكم بطهارة ذلك النجس لأنه دم حيوان لا نفس له ، ومقتضى عموم ما دلّ على طهارة دمه أو إطلاقه هو الحكم بطهارته.

وقد ينتقل النجس إلى حيوان طاهر من دون أن تنقطع إضافته الأولية إلى المنتقل عنه ولا يصح إضافته إلى المنتقل إليه ، كما إذا انتقل دم الإنسان إلى بق أو سمكة وقبل أن يصير جزءاً منهما عرفاً شق بطنهما ، فان الدم الخارج حينئذ دم الإنسان ولا يقال إنه دم البق أو غيره ، وجوف السمكة أو البق وقتئذ ليس إلاّ ظرفاً لدم الإنسان ونظيره ما لو أخذ الإنسان دم السمكة في فمه وطبقه فان الدم الخارج من فمه دم سمكة وإنما كان ظرفه فم الإنسان. ومن هذا القبيل الدم الذي يمصّه العلق من الإنسان ولا شبهة حينئذ في نجاسة ذلك الدم لأنه مما له نفس سائلة ، وإنما تبدل مكانه من دون تبدل في حقيقته وإضافته ، فمقتضى عموم ما دلّ على نجاسة دم الإنسان أو إطلاقه هو الحكم بنجاسته.

وثالثة ينتقل النجس إلى حيوان طاهر ولكنه بحيث يصح أن يضاف إلى كل من المنتقل عنه والمنتقل إليه إضافة حقيقية ، لجواز اجتماع الإضافات المتعددة على شي‌ء واحد لعدم التنافي بينها ، والإضافة أمر خفيف المئونة وتصح بأدنى مناسبة ، فترى أن دم الإنسان بعد ما انتقل إلى البق أو السمكة في زمان قريب من الانتقال وإن صار جزءاً منهما ، يصح أن يضاف إلى الإنسان باعتبار أنه منه كما يصح أن يضاف إلى البق نظراً إلى أنه جزء من بدنه ، بل لا يستبعد اجتماع الإضافتين قبل صيرورة الدم جزءاً‌

١٩٢

من البق أو السمكة ، فيضاف إلى الإنسان لأنه منه كما يصح أن يضاف إلى البق لأنه في جسده ، فهل يحكم بطهارة الدم وقتئذ؟

فيه إشكال وكلام ، والذي ينبغي أن يقال : إن نجاسة دم المنتقل عنه وطهارة دم المنتقل إليه إما أن تثبتا بدليل لبي من إجماع أو سيرة ، وإما أن تثبتا بدليل لفظي اجتهادي ، وإما أن تثبت إحداهما باللبي وثانيتهما باللفظي.

فان ثبت كل منهما بالأدلة اللبية فلا إشكال في عدم إمكان اجتماعهما في ذلك المورد لاستحالة اتصاف الشي‌ء الواحد بالنجاسة والطهارة الفعليتين من جهتين ، فالدليلان لا يشملان المورد بوجه فيفرضان كالعدم ، ولا بدّ معه من مراجعة الأصل العملي من قاعدة الطهارة أو استصحاب النجاسة كما يأتي عن قريب.

وأما إذا ثبت أحدهما باللفظي وثبت الآخر باللبي فلا بد من رفع اليد عن عموم الدليل اللفظي أو إطلاقه بقرينة الإجماع مثلاً وحمله على مورد آخر ، هذا فيما علم شمول الإجماع لمورد الاجتماع وإلاّ فيؤخذ بالقدر المتيقن وهو غير مورد الاجتماع ويرجع فيه إلى الدليل اللفظي من إطلاق أو عموم.

وأما إذا ثبت كل منهما بدليل لفظي ، فإن كان أحدهما بالإطلاق والآخر بالوضع والعموم فقد بيّنا في محلِّه (١) أن الدلالة الوضعية متقدمة على الإطلاق ، فالمقدم هو ما ثبت بالوضع والعموم. وإذا كان كلاهما بالإطلاق فلا محالة يتساقطان لأنه مقتضى تعارض المطلقين ويرجع إلى مقتضى الأصل العملي ، ولو ثبت كلاهما بالعموم فهما متعارضان ومعه لا بدّ من الرجوع إلى المرجحات كموافقة الكتاب ومخالفة العامّة إن وجدت ، وإلاّ فيحكم بالتخيير بينهما على ما هو المعروف بينهم.

وأما على مسلكنا فلا مناص من الحكم بتساقطهما والرجوع إلى الأصل العملي وهو استصحاب نجاسة الدم المتيقنة قبل الانتقال وهذا هو المعروف عندهم ، إلاّ أنه يبتني على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية وقد ناقشنا فيه في محله لأنه مبتلى بالمعارض دائماً ، حيث إن استصحاب نجاسة الدم قبل الانتقال معارض باستصحاب عدم جعل النجاسة عليه زائداً على القدر المتيقن وهو الدم ما لم ينتقل‌

__________________

(١) في مصباح الأُصول ٣ : ٣٧٧.

١٩٣

ومعه تصل النوبة إلى قاعدة الطهارة وبها يحكم بطهارة الدم في مفروض الكلام ، هذا كله إذا علمنا حدوث الإضافة الثانوية وعدم انقطاع الإضافة الأولية.

وأما لو شككنا في ذلك فلا يخلو إما أن يعلم بوجود الإضافة الثانوية لصدق أنه دم البق أو البرغوث مثلاً ، ويشك في انقطاع الإضافة الأولية وعدمه ، وإما أن يعلم بقاء الإضافة الأولية لصدق أنه دم الإنسان مثلاً ويشك في حدوث الإضافة الثانوية ، وإما أن يشك في كلتا الإضافتين للشك في صدق دم الإنسان أو البق وعدمه ، وهذه صور ثلاث :

أمّا الصورة الأُولى : فإن كانت الشبهة مفهومية كما إذا كان الشك في سعة مفهوم الدم أي دم الإنسان مثلاً وضيقه من غير أن يشك في حدوث شي‌ء أو ارتفاعه فلا مانع من التمسك بإطلاق ما دلّ على طهارة دم المنتقل إليه أو عمومه. ولا يجري استصحاب بقاء الإضافة الأوّلية ، لما مرّ غير مرّة من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات المفهومية ، لا في الحكم لعدم إحراز موضوعه ولا في الموضوع لعدم الشك في حدوث شي‌ء أو ارتفاعه.

وأمّا إذا كانت الشبهة موضوعية ، كما إذا بنينا على بقاء الإضافة الأولية حال المص والانتقال كما أن الإضافة الثانوية موجودة على ما تأتي الإشارة إليه ، فإنّه على ذلك قد يشك في أن الدم الذي أصاب ثوبه أو بدنه هل أصابه بعد الانتقال ليحكم بطهارته لأنه دم البق أو أنه أصابه حال مصه ليحكم بنجاسته ، فلا مانع من استصحاب بقاء الإضافة الأوّلية ، وبذلك يشمله إطلاق ما دلّ على نجاسة دم المنتقل عنه أو عمومه ولكن يعارضه العموم أو الإطلاق فيما دلّ على طهارة دم المنتقل إليه ويدخل المورد بذلك تحت القسم الثالث من أقسام الانتقال ، وذلك للعلم بصدق كلتا الإضافتين لأجل إحراز أحدهما بالوجدان وثانيهما بالتعبّد ، ولا بدّ حينئذ من ملاحظة أن دلالة دليليهما بالإطلاق أو بالعموم أو أن إحداهما بالعموم والأُخرى بالإطلاق ، إلى آخر ما قدّمناه آنفاً.

لا يقال : إن الاستصحاب الذي هو أصل عملي كيف يعارض الدليل الاجتهادي من عموم أو إطلاق.

١٩٤

[٣٨١] مسألة : إذا وقع البق على جسد الشخص فقتله ، وخرج منه الدم لم يحكم بنجاسته إلاّ إذا علم أنه هو الذي مصّه من جسده بحيث أُسند إليه لا إلى البق فحينئذ يكون كدم العلق (١).

______________________________________________________

لأنه يقال : التعارض حقيقة إنما هو بين دليل طهارة دم المتنقل إليه وبين ما دلّ على نجاسة دم المنتقل عنه ، والاستصحاب إنما يجري في موضوع الدليل القائم على نجاسة دم المنتقل عنه وبه ينقح موضوعه ، وبعد ذلك يشمله عموم ذلك الدليل أو إطلاقه وهو يعارض العموم أو الإطلاق في الدليل القائم على طهارة دم المنتقل إليه.

وأمّا الصورة الثانية : فلا إشكال فيها في الحكم بنجاسة الدم ، بلا فرق في ذلك بين جريان الاستصحاب في عدم حدوث الإضافة الثانوية كما إذا كانت الشبهة موضوعية ، وبين عدم جريانه كما إذا كانت الشبهة مفهومية ، وذلك لعموم ما دلّ على نجاسة دم المنتقل عنه أو إطلاقه حيث لا معارض له ، لعدم جواز التمسك بالإطلاق أو العموم فيما دلّ على طهارة دم المنتقل إليه ، وذلك للشك في موضوعه كما في الشبهات المفهومية ، أو لاستصحاب عدم حدوث الإضافة الثانوية كما في الشبهات الموضوعية ، حيث يحرز به أن الدم ليس بدم البق مثلاً فلا يشمله العموم أو الإطلاق فيما دلّ على طهارة دمه.

وأمّا الصورة الثالثة : فإن كانت الشبهة مفهومية لم يكن فيها مجال لاستصحاب الحكم أو الموضوع في شي‌ء من الإضافتين فيرجع حينئذ إلى قاعدة الطهارة. وأما إذا كانت الشبهة موضوعية فلا مانع من استصحاب بقاء الإضافة الأولية أو استصحاب عدم حدوث الإضافة الثانوية والحكم بنجاسة الدم ، هذا كله في كبرى المسألة ، وأما صغراها فقد أشار إليه الماتن بقوله : إلاّ إذا علم أنه هو الذي مصّه.

(١) ما أفاده قدس‌سره من الحكم بنجاسة الدم على تقدير العلم ببقاء الإضافة الأوّلية وعدم صدق دم البق عليه وإن كان متيناً ، إلاّ أن الكلام في تحقق المعلق عليه وصدق ذلك التقدير ، والصحيح عدم تحققه وذلك :

أمّا أوّلاً فلأن البق والبرغوث من الحيوانات التي ليس لها دم حسب خلقتها‌

١٩٥

الثامن : الإسلام وهو مطهر لبدن الكافر ورطوباته المتصلة به (١)

______________________________________________________

وتكونها ، والدم المضاف إليهما أعني ما يقال له إنه دم البق ويحكم بعدم البأس به وإن كثر وتفاحش هو الدم الذي يمصّه من الإنسان أو غيره ، فما يمصّه هو دم البق حقيقة لا أنه دم الإنسان مثلاً ، وعليه فالمقام من صغريات القسم الأول من أقسام الانتقال وهو ما علم انقطاع الإضافة الأولية فيه وتبدلها بالإضافة الثانوية ، فلا بدّ من الحكم بطهارته حينئذ.

وأمّا ثانياً فلأنا لو تنزلنا عن ذلك وفرضنا الإضافة الأولية غير محرزة الانقطاع عنه ، فلا محالة يدخل المقام تحت الصورة الاولى من صور الشك المتقدِّمة ، وهي ما إذا علمنا بحدوث الإضافة الثانوية جزماً وشككنا في بقاء الإضافة الأولية وانقطاعها وقد مر أن الشبهة حينئذ إذا كانت مفهومية لا يجري الاستصحاب في بقاء الإضافة الأولية ويجري إذا كانت الشبهة خارجية ، وبه تقع المعارضة بين العموم أو الإطلاق في كل من دليلي دم المنتقل عنه والمنتقل إليه ، فيتساقطان ويرجع إلى قاعدة الطهارة لأن دلالة كل منهما في المقام بالإطلاق.

وأمّا ثالثاً فلأنا لو تنزلنا عن ذلك أيضاً وسلمنا بقاء الإضافة الأوّلية حال المص والانتقال كما أن الإضافة الثانوية موجودة ، فهو مورد لكلتا الإضافتين ، لعدم التنافي بينهما فتندرج مسألتنا هذه في القسم الثالث من أقسام الانتقال للعلم بكلتا الإضافتين وقد تقدّم أن دليلي المنتقل عنه والمنتقل إليه إذا كانت دلالتهما بالإطلاق لا بدّ من الحكم بتساقطهما والرجوع إلى الأصل العملي ، وبما أن نجاسة دم الإنسان وطهارة دم البق مثلاً إنما ثبتتا بالإطلاق فيتساقطان ويرجع إلى قاعدة الطهارة لا محالة.

مطهِّريّة الإسلام‌

(١) لأن بالإسلام يتبدل عنوان الكافر وموضوعه فيحكم بطهارته ، كما هو الحال في بقية الأعيان النجسة ، لأن الخمر أو غيرها من الأعيان النجسة إذا زال عنوانها زال عنها حكمها.

١٩٦

من بصاقه وعرقه ونخامته والوسخ الكائن على بدنه (١).

وأمّا النجاسة الخارجية التي زالت عينها ففي طهارته منها إشكال (٢) وإن كان هو الأقوى (*). نعم ثيابه التي لاقاها حال الكفر مع الرطوبة لا تطهر على الأحوط‌

______________________________________________________

(١) لا ينبغي الارتياب في طهارة فضلات الكافر المتصلة ببدنه من شعره وبصاقه ونخامته وعرقه وغيرها ، لأن نجاستها إنما كانت تبعية لنجاسة بدنه ، لأن الشعر مثلاً بما أنه شعر الكافر نجس ولم يدل دليل على نجاسة الأُمور المذكورة في أنفسها ، فإذا حكمنا بطهارة بدنه بالإسلام زالت النجاسة التبعية فيها لا محالة ، إذ الشعر بقاء ليس بشعر كافر وإن كان شعر كافر حدوثاً.

كما لا ينبغي الشك في عدم طهارة الأشياء الخارجية التي تنجست بملاقاة الكافر قبل الإسلام كالأواني والفرش وغيرهما مما لاقاه الكافر برطوبة ، كما هو الحال في بقية النجاسات ، حيث إن النجس إذا لاقى شيئاً خارجياً ثم استحال وحكم بطهارته لم يوجب ذلك طهارة الملاقي بوجه ، والوجه فيه أن الأُمور الخارجية ليست نجاستها نجاسة تبعية لبدن الكافر أو يده مثلاً ، وإنما حكم بنجاستها لملاقاتها مع النجس فلا وجه لطهارتها بطهارته وهذا واضح ، وإنما الاشكال والكلام في موردين آخرين :

أحدهما : أن بدن الكافر لو أصابته نجاسة قبل إسلامه ثم زالت عنه عينها فهل يحكم بطهارته وتزول عنه النجاسة العرضية أيضاً بإسلامه كما تزول النجاسة الكفرية به ، فلا يجب على الكافر غسل بدنه بعد ذلك ، أو أن النجاسة العرضية لا تزول بالإسلام؟ وثانيهما : ثيابه التي لاقاها حال كفره ، ويأتي التعرّض لهما في التعليقتين الآتيتين ، فليلاحظ.

(٢) قد يقال : إن إسلام الكافر يقتضي الحكم بطهارته من جميع الجهات ولا تختص مطهريته بالنجاسة الكفرية ، ويستدل عليه بالسيرة وبخلو السنة عن الأمر بتطهير بدنه بعد إسلامه ، مع أن الغالب ملاقاة الكافر بشي‌ء من النجاسات حال كفره.

__________________

(*) في القوة إشكال ، والأحوط عدم الطهارة.

١٩٧

بل هو الأقوى فيما لم يكن على بدنه فعلاً (١).

[٣٨٢] مسألة ١ : لا فرق في الكافر بين الأصلي والمرتد الملي ، بل الفطري‌

______________________________________________________

بل من المستحيل عادة أن لا يلاقيه شي‌ء من المتنجسات ، وبهذا يستكشف أن الإسلام كما يوجب ارتفاع النجاسة الذاتية عن الكافر كذلك يوجب ارتفاع النجاسات العرضية عنه ، وهذا هو الذي قواه الماتن قدس‌سره.

ولا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأن المقدار الثابت من طهارة الكافر بالإسلام إنما هو طهارته من النجاسة الكفرية فقط ، وزوال النجاسات العرضية عنه بذلك يحتاج إلى دليل. وأما عدم أمرهم عليهم‌السلام بتطهير بدنه بعد إسلامه فهو مما لا دلالة له على المدعى ، وذلك أما في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلاحتمال أن يكون عدم أمر الكفار بتطهير أبدانهم بعد الإسلام مستنداً إلى عدم تشريع النجاسات وأحكامها للتدرج في تشريع الأحكام الشرعية.

وأما في عصر الأئمة عليهم‌السلام والخلفاء فلأجل أن الكافر بعد ما أسلم وإن كان يجري عليه جميع الأحكام الشرعية إلاّ أنه يبين له تلك الأحكام تدريجاً لا دفعة ومن جملتها وجوب غسل البدن والثياب وتطهيرهما ولقد بينوها في رواياتهم بل لعل بعض الكافرين كان يعلم بوجوبه في الإسلام فلا موجب لأمر الكافر بخصوصه ، فإن إطلاق ما دلّ على لزوم الغسل من البول وغيره من النجاسات شامل له ، ومعه يجب على الكافر أن يطهّر بدنه وثيابه من النجاسات العارضة عليهما حال كفره.

(١) لا فرق بين ألبسه الكافر وبين الأواني والفرش وغيرها من الأشياء الخارجية التي لاقاها حال كفره وقد عرفت عدم طهارتها بإسلامه ، مثلاً إذا أسلم في الشتاء لا وجه للحكم بطهارة ثيابه الصيفية لعدم تبعيتها للكافر في نجاستها وكذا الحال في ثيابه التي على بدنه ، هذا وقد يقال بطهارتها بإسلامه لعين ما نقلناه في الاستدلال على طهارة بدنه من النجاسات العرضية من السيرة وخلو السنة عن الأمر بغسل ألبسته بعد الإسلام ، والجواب عنهما هو الجواب.

١٩٨

أيضاً على الأقوى من قبول توبته باطناً وظاهراً أيضاً (١) فتقبل عباداته ويطهر بدنه. نعم يجب قتله إن أمكن وتبين زوجته ، وتعتد عدة الوفاة وتنتقل أمواله الموجودة‌

______________________________________________________

(١) أمّا الأصلي والملي وهو المرتد الذي لم يكن أحد أبويه مسلماً حال انعقاده فهما المتيقن مما دلّ على طهارة الكافر بالإسلام ولا خلاف فيها بينهم.

وأمّا الفطري وهو المرتد الذي انعقد وأحد أبويه أو كلاهما مسلم فيقتل وتبين عنه زوجته وتقسم أمواله ، والمشهور عدم قبول توبته وإسلامه وأنه مخلد في النار كبقية الكفار. وذهب جملة من المحققين إلى قبول توبته وإسلامه واقعاً وظاهراً. وفصّل ثالث في المسألة والتزم بقبول توبته وإسلامه فيما بينه وبين الله سبحانه واقعاً وأنه يعامل معه معاملة المسلمين ، وحكم بعدم قبولهما ظاهراً بالحكم بنجاسته وكفره وغيرهما من الأحكام المترتبة على الكفّار. وعن ابن الجنيد أن الفطري تقبل توبته مطلقاً حتى بالإضافة إلى الأحكام الثلاثة المتقدِّمة ، فلا يقتل بعد توبته ولا تبين زوجته ولا يقسم أمواله (١) إلاّ أنه شاذ لا يعبأ به ، إلى غير ذلك من الأقوال.

والصحيح هو القول الوسط وهو ما نقلناه عن جملة من المحققين ، وذلك لأنه سبحانه واسع رحيم ولا يغلق أبواب رحمته لأحد من مخلوقاته ، فاذا ندم المرتد وتاب حكم بإسلامه واقعاً وظاهراً ، ونسبة عدم قبولهما إلى المشهور غير ثابتة ، ولعلهم أرادوا بذلك عدم ارتفاع الأحكام الثلاثة المتقدِّمة بإسلامه وإن كان مسلماً شرعاً وحقيقة ، ولا غرابة في كون المسلم محكوماً بالقتل في الشريعة المقدسة ، ويدلُّ على ذلك :

أوّلاً : صدق المسلم عليه من دون عناية ، إذ لا نعني بالمسلم إلاّ من أظهر الشهادتين واعترف بالمعاد وبما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمفروض أن المرتد بعد توبته معترف بذلك كله فلا وجه معه للحكم بنجاسته. بل لا دليل على‌

__________________

(١) نقل عنه في المستمسك ٢ : ١٢٠.

١٩٩

هذا المدعى سوى ما ورد في جملة من الأخبار من أن الفطري لا يستتاب وأنه لا توبة له (١) ولا يمكن الاستدلال به على المدعى ، لوضوح أن عدم استتابته لا يقتضي كفره ونجاسته على تقدير توبته ، فلعل عدم استتابته من جهة أن توبته لا يترتب عليها ارتفاع الأحكام الثلاثة الثابتة عليه بالارتداد فلا أثر لتوبته بالإضافة إليها ، وقد تقدم أن عدم ارتفاع الأحكام الثلاثة أعم من الكفر.

وأما ما دلّ على أنه لا توبة له فهو وإن كان قد يتوهم دلالته على كفره ونجاسته لأنه لو كان مسلماً قبلت توبته لا محالة ، إلاّ أنه أيضاً كسابقه ، حيث إن التوبة ليست إلاّ بمعنى إظهار الندم وهو يتحقق من الفطري على الفرض فلا معنى لنفي توبته سوى نفي آثارها ، وعلى ذلك فمعنى إن الفطري لا توبة له : أن القتل وبينونة زوجته وتقسيم أمواله لا يرتفع عنه بتوبته وأن توبته كعدمها من هذه الجهة ، ولا منافاة بين ذلك وبين إسلامه بوجه.

ويمكن حمله على نفي الأعم من الآثار الدنيوية والأُخروية ، وأنه مضافاً إلى قتله وغيره من الأحكام السابقة آنفاً يعاقب بارتداده أيضاً ولا يرتفع عنه العقاب بتوبته لأن ما دلّ على أن التائب من ذنب كمن لا ذنب له وغيره من أدلّة التوبة (٢) لا مانع من أن يخصّص بما دلّ على أن الفطري لا تُقبل توبته ، إلاّ أنه لا يدل على عدم قبول إسلامه بوجه.

وتوضيح ما ذكرناه : أن المعصية الصادرة خارجاً قد يقوم الدليل على أن الآثار المترتبة عليها غير زائلة إلى الأبد وإن زالت المعصية نفسها ، وذلك لإطلاق دليل تلك‌

__________________

(١) صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن المرتد فقال من رغب عن الإسلام وكفر بما انزل على محمد بعد إسلامه فلا توبة له وقد وجب قتله وبانت منه امرأته وقسم ما ترك على ولده » وصحيحة الحسين بن سعيد قال : « قرأت بخط رجل إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام رجل ولد على الإسلام ثم كفر وأشرك وخرج عن الإسلام هل يستتاب أو يقتل ولا يستتاب؟ فكتب عليه‌السلام يقتل ». الوسائل ٢٨ : ٣٢٣ / أبواب حدّ المرتد ب ١ ح ٢ ، ٦.

(٢) الوسائل ١٦ : ٧١ / أبواب جهاد النفس ب ٨٦.

٢٠٠