موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أنه قال في الرجل إذا باع عصيراً فحبسه السلطان حتى صار خمراً فجعله صاحبه خلاًّ ، فقال : إذا تحول عن اسم الخمر فلا بأس به » (١) وفي بعض الأخبار أن الخلّ المستحصل من الخمر تقتل دواب البطن ويشد الفم (٢) وفي آخر أنه يشد اللثة والعقل (٣).

الثانية : ما دلّ على طهارة الخمر وحليتها فيما إذا انقلبت خلاًّ بالعلاج ، كما عن السرائر نقلاً عن جامع البزنطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أنه سئل عن الخمر تعالج بالملح وغيره لتحول خلاًّ ، قال : لا بأس بمعالجتها ... » (٤) وما رواه عبد العزيز بن المهتدي قال : « كتبت إلى الرضا عليه‌السلام جعلت فداك العصير يصير خمراً فيصب عليه الخلّ وشي‌ء يغيره حتى يصير خلاًّ ، قال : لا بأس به » (٥) وحسنة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن الخمر العتيقة تجعل خلاًّ ، قال : لا بأس » (٦) وذلك لأن قوله تجعل خلاًّ ظاهره جعل الخمر خلاًّ بسبب وعلاج.

الثالثة : الأخبار الواردة في أن الانقلاب بالعلاج لا تترتب عليه الطهارة وهي في قبال الطائفة الثانية : منها : موثقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سئل عن الخمر يجعل فيها الخلّ ، فقال : لا إلاّ ما جاء من قبل نفسه » (٧). ومنها : موثقته الأُخرى قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخمر يصنع فيها الشي‌ء حتى تحمض ، قال : إن كان الذي صنع فيها هو الغالب على ما صنع فيه فلا بأس » (٨). وهاتان الطائفتان متعارضتان ، وحيث إنّ الطائفة الثانية صريحة في طهارة الخلّ المنقلب من الخمر بالعلاج والطائفة الثالثة ظاهرة في نجاسته ، فيتصرف في ظاهر الطائفة الثانية‌

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٣٧١ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣١ ح ٥.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٩٣ / أبواب الأطعمة المباحة ب ٤٥.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٩٣ / أبواب الأطعمة المباحة ب ٤٥.

(٤) الوسائل ٢٥ : ٣٧٢ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣١ ، ح ١١.

(٥) الوسائل ٢٥ : ٣٧٢ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣١ ح ٨.

(٦) الوسائل ٢٥ : ٣٧٠ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣١ ح ١.

(٧) الوسائل ٢٥ : ٣٧١ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣١ ح ٧.

(٨) الوسائل ٣ : ٥٢٥ / أبواب النجاسات ب ٧٧ ح ٤.

١٦١

سواء استهلك أو بقي على حاله (١) ويشترط في طهارة الخمر بالانقلاب عدم وصول نجاسة خارجية إليه فلو وقع فيه حال كونه خمراً شي‌ء من البول أو غيره أو لاقى نجساً لم يطهر بالانقلاب (*) (٢).

______________________________________________________

بحملها على الكراهة. وعلى الجملة إن الأخبار تقتضي حلية الخلّ المستحيل من الخمر بالمعالجة أو بغيرها.

(١) لما عرفت من أن الأخبار الواردة في المقام دلت على طهارة الخلّ وحليته الفعليتين فيما إذا انقلب من الخمر بنفسها أو بالعلاج ، كما أنها بإطلاقها دلت على أنه لا يفرق الحال في ذلك بين أن يكون ما به العلاج مستهلكاً في الخمر وبين ما إذا لم يكن كما إذا القي عليها قطعة ملح أو ملح مدقوق إلاّ أنه لم تضمحل فيها بتمامه ، بل بقي منه مقدار من الخليط كالتراب أو الرمل أو نحوهما ، وهذا يدلنا على أن ما به العلاج في مفروض الكلام لا يمكن أن يكون باقياً على نجاسته ، لأن الطهارة الفعلية لا تجتمع مع نجاسته ، حيث إن ما به العلاج لو كان باقياً على نجاسته لتنجس به الخلّ ولم يمكن الحكم بطهارته بالانقلاب.

(٢) لعلّه بدعوى أن الأخبار المتقدِّمة ناظرة بأجمعها إلى النجاسة الخمرية فحسب وقد دلّت على أنها ترتفع بالانقلاب ولا نظر لها إلى غيرها من النجاسات.

وفيه : أن الخمر من النجاسات العينية وهي غير قابلة لأن تتنجس ثانياً بملاقاة الأعيان النجسة أو المتنجسات ، كما أن نجاستها غير قابلة للاشتداد بالملاقاة ، لأن الغائط مثلاً لا تزيد نجاسته بملاقاة البول أو غيره ، وعليه لو صبّ بول أو نجس آخر على الخمر لم تزد نجاستها عما كانت ثابتة عليها قبل الصبّ وإنما نجاستها هي النجاسة الخمرية فحسب ، ومعه لا مانع من أن تشملها الأخبار ، فإن نجاستها هي النجاسة الخمرية فقط ، هذا.

__________________

(*) الظاهر حصول الطهارة به إذا استهلك النجس ولم يتنجّس الإناء به.

١٦٢

[٣٦٣] مسألة ١ : العنب أو التمر المتنجِّس إذا صار خلاًّ لم يطهر (١). وكذا إذا صار خمراً ثم انقلب خلاًّ (*) (٢).

______________________________________________________

بل الأمر كذلك حتى إذا قلنا بتنجس الخمر بالملاقاة ، وذلك لإطلاق الأخبار حيث دلّت على طهارة الخلّ المنقلب من الخمر مطلقاً ، سواء أصابتها نجاسة خارجية أم لم تصبها ، وذلك لأن ما دلّ على جواز أخذ الخمر لتخليلها غير مقيد بما إذا أُخذت من يد المسلم ، بل مقتضى إطلاقها عدم الفرق في ذلك بين أن يؤخذ من يد المسلم أو الكافر ، ومن الواضح أن الكافر بل مطلق صانع الخمر لا يتحفظ عليها من سائر النجاسات ، بل تصيبها النجاسة عنده ولو من جهة الأواني أو يده النجسة أو المتنجِّسة.

نعم ، هذا فيما إذا لم تصب النجاسة الثانية الإناء ، وإلاّ فالاناء المتنجِّس يكفي في تنجّس الخلّ به بعد انقلابه من الخمر. وما قدمناه من أن مقتضى الأخبار عدم تنجس الخلّ بنجاسة الإناء إنما هو فيما إذا كانت النجاسة العارضة على الإناء مستندة إلى الخمر ، وأما إذا تنجس الإناء بنجاسة أُخرى غيرها فلا دلالة للأخبار على طهارة الخلّ حينئذ.

(١) لما تقدّم من أنّ النجاسة في المتنجسات قائمة بالجسم وليست قائمة بعناوينها فلا ترتفع بصيرورة العنب خلاًّ ، ونصوص الانقلاب مختصة بالخمر فلا دليل على مطهريته في المتنجسات.

(٢) لأنّ الانقلاب حسبما يستفاد من رواياته إنما يوجب ارتفاع النجاسة الخمرية فحسب ، هذا.

ولكن الصحيح أن العنب أو التمر أو غيرهما إذا صار خمراً ثم انقلب خلاًّ طهر ، وذلك لما أشرنا إليه من أن النجاسة العرضية في مثل العنب ونظائره تتبدل بالنجاسة الذاتية عند صيرورته خمراً ، والخمر غير قابلة لأنّ تعرضها النجاسة العرضية كما أن نجاستها‌

__________________

(*) الظاهر أنه يطهر بذلك بشرط إخراجه حال خمريته عن ظرفه المتنجِّس سابقاً.

١٦٣

[٣٦٤] مسألة ٢ : إذا صبّ في الخمر ما يزيل سكره لم يطهر وبقي على حرمته (١)

______________________________________________________

لا تقبل الاشتداد. إذن ليست هناك نجاسة أُخرى غير النجاسة الخمرية ومع انقلاب الخمر خلاًّ يشملها الأخبار المتقدِّمة ، وبذلك يحكم بزوال نجاستها.

بل ذكرنا أن مقتضى إطلاق الروايات هو الحكم بالطهارة مع الانقلاب وإن قلنا بتنجس الخمر بالملاقاة ، نعم يشترط في الحكم بالطهارة أن يفرغ بعد صيرورته خمراً من إنائه إلى إناء آخر ليتحقّق الانقلاب خلاًّ في ذلك الإناء ، لأنه لو بقي في إنائه السابق لتنجس به بعد الانقلاب ، فان ذلك الإناء متنجِّس بالخلّ المتنجِّس قبل أن يصير خمراً ، وقد تقدم أن الأخبار الواردة في المقام ناظرة إلى ارتفاع النجاسة الخمرية بالانقلاب دون النجاسة المستندة إلى غيرها.

(١) هنا مسألتان ربما تشتبه إحداهما بالأُخرى :

المسألة الاولى : أن مطهرية الانقلاب هل تختص بما إذا انقلبت الخمر خلاًّ أو تعم ما إذا انقلبت شيئاً آخر من الماء أو مائع طاهر آخر؟

الثاني هو الصحيح ، وذلك لموثقة عبيد بن زرارة : « إذا تحوّل عن اسم الخمر فلا بأس به » (١) وصحيحة علي بن جعفر المروية عن كتابه : « إذا ذهب سكره فلا بأس » (٢) لدلالتهما على أن المناط في الحكم بطهارة الخمر إنما هو زوال سكرها أو تحولها عن اسمها ، سواء استند ذلك إلى انقلابها خلاًّ أم استند إلى انقلابها شيئاً آخر ، هذا.

وربّما يقال : إن الظاهر عدم عملهم بظاهر الروايتين وأن بناءهم على الاختصاص وهذا هو الذي يقتضي ظاهر كلامهم في المقام. ولا يمكن المساعدة على ذلك بوجه حيث لم يظهر أن المشهور ذهبوا إلى الاختصاص ، لأن ظاهر كلماتهم كظاهر عبارة الماتن هو التعميم ، ويشهد على ذلك أمران :

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٣٧١ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣١ ح ٥ ، والمتقدِّمة في ص ١٦٠.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٣٧١ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣١ ح ١٠ ، والمتقدِّمة في ص ١٦٠.

١٦٤

أحدهما : أنهم ذكروا أن من أقسام المطهرات الانقلاب ثم مثّلوا له بقولهم : كالخمر ينقلب خلاًّ. وهذه قرينة على أن مطهرية الانقلاب غير مختصة عندهم بما إذا انقلبت الخمر خلاًّ وإنما هو مطهر على كبرويته وإطلاقه ، ومن موارد صغرياتها انقلاب الخمر خلاًّ ، فقولهم : كالخمر ينقلب خلاًّ تمثيل تبعي ، لوروده في الأخبار لأنه الغالب في انقلاب الخمر ، لا من جهة أن مطهرية الانقلاب مختصة بذلك ، بل يأتي أن الانقلاب مطهر في جميع الأعيان النجسة ولا تختص مطهريته بالنجاسة الخمرية فليلاحظ.

وثانيهما : ملاحظة ذيل كلام الماتن قدس‌سره حيث قال : « الانقلاب غير الاستحالة » ، إذ لا تتبدل فيه الحقيقة النوعية بخلافها ، ولذا لا تطهر المتنجسات به وتطهر بها. حيث ظهر من تفريعه أن الانقلاب لا تترتب عليه الطهارة في المتنجسات لما سنذكره في المسألة الخامسة إن شاء الله (١) ، وإنما هو مطهر في الأعيان النجسة من دون أن تختص مطهريته بالنجاسة الخمرية فضلاً عن اختصاصها بانقلاب الخمر خلاًّ ، فالانقلاب على ذلك من أقسام المطهرات من دون حاجة في ذلك إلى الأخبار وإنما احتجنا إليها في خصوص انقلاب الخمر خلاًّ من جهة نجاسة إنائها حال خمريتها وهي موجبة لتنجسها بعد انقلابها خلاًّ ، هذا كله في هذه المسألة.

المسألة الثانية : أن الخمر إذا صبّ فيها مقدار من الماء أو غيره حتى زال سكرها من دون أن تنقلب خلاًّ أو ماء أو غيرهما كما في المسألة المتقدِّمة بل استهلكت فيما صبّ فيها أو امتزجت معه وحصلت منهما طبيعة ثالثة ، فهل تطهر بذلك أو لا؟

حكم الماتن بنجاستها ، وهو كما أفاده قدس‌سره لأن ما القي في الخمر من ماء أو غيره يتنجّس بمجرّد ملاقاتهما ، فإذا زال عن الخمر إسكارها فلا محالة يتنجّس به ، سواء بقي بحاله كما إذا استهلكت الخمر في الماء أم لم يبق كذلك كما إذا تبدّلا حقيقة ثالثة وذلك لأن النجاسة في الأشياء المتنجسة غير طارئة على عناوينها وإنما تترتّب على أجسامها كما مر وهي باقية بحالها بعد صيرورتهما طبيعة ثالثة ، فزوال العنوان في‌

__________________

(١) في ص ١٦٨.

١٦٥

المتنجِّسات لا يؤثر في طهارتها ، ولم يقم دليل على أن الخمر إذا استهلكت فيما صبّ فيها أو امتزجت معه حتى حصلت منهما طبيعة ثالثة ارتفعت نجاستها ، فإن الأخبار المتقدِّمة إنما تدل على طهارتها بالانقلاب إما بنفسها وإما بالعلاج ، والاستهلاك والامتزاج ليسا من انقلاب الخمر في نفسها ولا من الانقلاب بالعلاج.

وتوضيح ذلك : أن الانقلاب إنما لم نلتزم بكونه موجباً للطهارة في نفسه نظراً إلى أن نجاسة الإناء الناشئة من الخمر الموجودة فيه قبل الانقلاب تقتضي نجاستها بعد انقلابها خلاًّ ، ومن هنا احتجنا إلى الروايات الواردة في المسألة وببركتها قلنا بطهارة الإناء وقتئذ بالتبع ، فلو لا نجاسة الإناء لم نحتج في الحكم بمطهرية الانقلاب إلى النصوص ، ومن هنا لو اكتفينا بحرمة الخمر ولم نلتزم بنجاستها كما هو أحد القولين في المسألة ، وفرضنا أنها تحوّلت إلى شي‌ء آخر وإن لم تنقلب خلاًّ لم نتردد في الحكم بزوال حرمتها ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بنجاستها كما هو الصحيح حيث لا يمكننا الحكم بزوال نجاستها بالانقلاب إلاّ مع التشبث بذيل النصوص كما اتضح ، وهذه النصوص لا دلالة لها على طهارة الخمر وإنائها عند استهلاكها أو امتزاجها بما يصب فيها ، وإنما تختص بصورة الانقلاب.

وعلى الجملة : إنّ القاعدة تقتضي الحكم بعدم طهارة الخمر في مفروض الكلام ويؤكِّدها عدّة روايات :

منها : رواية عمر بن حنظلة قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما ترى في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته ويذهب سكره؟ فقال : لا والله ولا قطرة قطرت في حب إلاّ أهريق ذلك الحب » (١) لأن القطرة تستهلك في حب من الماء ، كما أن الماء المصبوب في قدح من المسكر يمتزج معه ، فلو كان استهلاكه أو امتزاجه بشي‌ء آخر موجباً لطهارته لم يكن وجه للحكم بإهراق الحب والمنع عن‌

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٣٤١ / أبواب الأشربة المحرمة ب ١٨ ح ١ ، ٣٥٩ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٢٦ ح ٢.

١٦٦

[٣٦٥] مسألة ٣ : بخار البول أو الماء المتنجِّس طاهر فلا بأس بما يتقاطر من سقف الحمّام إلاّ مع العلم بنجاسة السقف (١).

______________________________________________________

شرب ما في القدح.

ومنها : رواية زكريّا بن آدم قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيها لحم كثير ومرق كثير ، قال فقال : يهراق المرق أو يطعمه أهل الذِّمّة ... » (١) مع أن القطرة مستهلكة في المرق الكثير لا محالة.

ومنها : رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : « ما يبل الميل ينجس حبّا من ماء ، يقولها ثلاثاً » (٢) فقد اتضح من جميع ما تلوناه في المقام أن الخمر في مفروض المسألة باقية على نجاستها ولا تشملها أخبار الانقلاب كما مر ، وأن في المقام مسألتين اختلطت إحداهما بالأُخرى ، والظاهر أن الثانية هي مراد الماتن قدس‌سره ولا نظر له إلى المسألة الأُولى ولا أنه بصدد التعرض لحكمها.

(١) تقدّمت هذه المسألة في أوائل الكتاب (٣) وذكرنا هناك أن ذلك من الاستحالة والتبدل في الصورة النوعية والحقيقة ، إذ البخار غير البول وغير الماء المتنجِّس لدى العرف وهما أمران متغايران ، ولا يقاسان بالغبار والتراب لأنّ العرف يرى الغبار عين التراب ، وإنما يصعد الهواء للطافته وصغره لا لأنه أمر آخر غير التراب. ومن هنا يصح عرفاً أن يقال عند نزول الغبار إنه ينزل التراب ، وأما البخار فلا يقال إنه ماء فاذا استحال البول أو الماء المتنجِّس بخاراً حكم بطهارته. فلو انقلب البخار ماء فهو ماء جديد قد تكوّن من البخار المحكوم بطهارته ، فلا مناص من الحكم بطهارته‌

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٣٥٨ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٢٦ ح ١ ، ٣ : ٤٧٠ / أبواب النجاسات ب ٣٨ ح ٨.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٣٤٤ / أبوا الأشربة المحرمة ب ٢٠ ح ٢ ، ٣ : ٤٧٠ / أبواب النجاسات ب ٣٨ ح ٦.

(٣) في ص ١٤٧ ١٤٩.

١٦٧

[٣٦٦] مسألة ٤ : إذا وقعت قطرة خمر في حب خل واستهلكت فيه ، لم يطهر وتنجّس الخلّ إلاّ إذا علم انقلابها (*) خلاًّ بمجرد الوقوع فيه (١).

[٣٦٧] مسألة ٥ : الانقلاب غير الاستحالة إذ لا تتبدل فيه الحقيقة النوعية بخلافها ، ولذا لا تطهر المتنجسات به وتطهر بها (٢).

______________________________________________________

لوضوح أنه ماء آخر غير الماء الأوّل المتبدِّل بالبخار ، وهذا في بخار البول أظهر منه في الماء المتنجِّس ، لأنّ الغافل قد يتوهّم أن الماء الحاصل بالبخار هو الماء السابق بعينه وإنما تبدّل مكانه ، ولكن هذا التوهّم لا يجري في بخار البول لأنّ الماء المتكوّن منه ماء صاف خال من الأجزاء البولية فكيف يتوهّم أنه البول السابق بعينه ، لأن حاله حال الماء المتحصل من الرمان أو غيره ، حيث إن الماء المصعد منه ماء صاف لا يتوهّم أنه الماء السابق قبل تبخيره.

(١) القطرة الخمرية الواقعة في حب خل لو فرضنا تبدلها خلاًّ قبل ملاقاتهما ، كما إذا تبدّلت بفرض غير واقع بمجرد أن أصابها الهواء الكائن في السطح الظاهر من الخلّ فلا ينبغي التردّد في بقاء الخلّ على طهارته ، لأنه إنّما يلاقي جسماً طاهراً ، إلاّ أنّ في هذه الصورة لا يصدق وقوع الخمر في الخلّ ، لعدم بقائها على خمريتها حال الوقوع وكونها خمراً قبل ذلك لا يترتّب عليه أثر.

وأما إذا فرضنا انقلابها خلاًّ بعد ملاقاتهما ولو بآن دقي حكمي ، فالخلّ محكوم بالانفعال لأنه لاقى خمراً على الفرض. والأخبار المتقدِّمة إنما دلّت على طهارة الخمر فيما إذا انقلبت خلاًّ بنفسها أو بالعلاج لا فيما إذا لاقت خلاًّ ثم تبدّلت إليه ، وعليه فلا موقع للاستثناء الواقع في كلام الماتن قدس‌سره بل الصحيح هو الحكم بنجاسة الخلّ في مفروض المسألة مطلقاً.

(٢) الانقلاب والاستحالة متحدان حقيقة بحسب اللغة ، فإن الحول والقلب بمعنى ،

__________________

(*) بل حتى إذا علم ذلك.

١٦٨

فيقال قلبه قلباً : حوّله عن وجهه ، ولم ترد الاستحالة في شي‌ء من الأخبار ليتكلم في مفهومها ، وإنما حكمنا بالطهارة معها لانعدام موضوع النجاسة وارتفاع حكمه. نعم بين الاستحالة والانقلاب فرق في مصطلح الفقهاء وقد تصدى الماتن قدس‌سره لبيان الفارق بينهما بحسب الاصطلاح ، وتوضيح ما أفاده :

أنّ النجاسة في الأعيان كما تقدّم مترتبة على عناوينها الخاصّة من البول والخمر والدم وهكذا ، فالخمر بما هي خمر نجسة لا بما أنها جسم مثلاً وهكذا الحال في غيرها من الأعيان ، وهو معنى قولهم : الأحكام تتبع الأسماء بمعنى أنها تدور مدار العناوين المأخوذة في موضوعاتها ، فاذا زال عنها عنوانها زال حكمها لا محالة ، فيحكم بعدم نجاسة الخمر وعدم حرمتها إذا سلب عنها عنوانها واتصفت بعنوان آخر ، فلا يعتبر في زوال النجاسة أو الحرمة زوال الخمر وانعدامها بذاتها أو انعدام البول كذلك أو غيرهما.

ومن هنا يظهر أن استصحاب النجاسة عند زوال عنوان النجس بالانقلاب من الأغلاط التي لا نتمكن من تصحيحها ، فإن النجاسة كحرمة المسكر الجامد كالبنج فكما أنه إذا زال عنها إسكاره ارتفعت حرمته لكونها مترتبة على البنج المسكر ، كذلك الحال في المقام فهل يمكن استصحاب حرمته حينئذ؟ وهذا بخلاف المتنجسات لعدم ترتب النجاسة فيها على عناوينها وإنما ترتبت على ذواتها ، فهي متنجسة بما أنها جسم فلا ترتفع نجاستها بزوال عناوينها لبقاء الجسمية بمرتبتها النازلة ، بل يتوقف زوال حكمها على انعدام ذواتها وتبدل صورتها الجسمية بجسم آخر ، كما إذا تبدل النبات المتنجِّس حيواناً ، فإنّ الصورة الجسمية في أحدهما غير الصورة في الآخر وحيث إن ارتفاع النجاسة في الأعيان النجسة لا يحتاج إلى تبدل الذات بل يكفي فيه تبدل العنوان على خلاف المتنجِّسات ، فاصطلح الفقهاء ( قدس الله أسرارهم ) في زوال العنوان بالانقلاب كما اصطلحوا في زوال الذات والحقيقة بالاستحالة ، تمييزاً بينهما وبياناً للفارق بين النجاسات والمتنجسات ، لا من جهة أن الانقلاب غير الاستحالة حقيقة لما عرفت من أنهما شي‌ء واحد.

١٦٩

[٣٦٨] مسألة ٦ : إذا تنجس العصير بالخمر ثم انقلب خمراً وبعد ذلك انقلب الخمر خلاًّ ، لا يبعد طهارته لأنّ النجاسة العرضية صارت ذاتية بصيرورته خمراً ، لأنها هي النجاسة الخمرية ، بخلاف ما إذا تنجس (*) العصير بسائر النجاسات فان الانقلاب إلى الخمر لا يزيلها ولا يصيّرها ذاتية ، فأثرها باق بعد الانقلاب أيضاً (١).

______________________________________________________

وإن شئنا عكسنا الأمر وعبّرنا عن زوال الذات بالانقلاب وعن تبدل العناوين بالاستحالة وقلنا : انقلاب الحقائق والذوات واستحالة العناوين وتحولاتها من المطهرات ، فإنّه صحيح وإن كان على خلاف الاصطلاح ، ولا بأس بما اصطلحوا عليه تمييزاً بين القسمين المتقدمين ، وعلى ذلك اتضح عدم اختصاص مطهرية الانقلاب بالخمر فإنّه مطهر في مطلق النجاسات العينية المترتبة على العناوين والأسماء ، فان أحكامها ترتفع بزوال عناوينها وهو الانقلاب ، كما أنه لا يترتّب عليه أثر في المتنجسات فإن زوال العنوان غير مؤثر في ارتفاع أحكامها لترتبها على ذواتها. اللهمّ إلاّ أن تتبدّل صورتها الجسمية بصورة جسمية اخرى كما مرّ وهو الاستحالة بحسب الاصطلاح.

(١) لا غبار فيما أفاده قدس‌سره بناء على ما ذكرناه من أن نجاسة العنب أو العصير أو غيرهما بسبب الملاقاة غير مانعة عن طهارة الخمر الحاصلة منه بانقلابها خلاًّ ، لاندكاك نجاستها العرضية في نجاستها الذاتية ، فإن العرف لا يرى في مثلها نجاستين بأن تكون إحداهما عرضية قائمة بجسمها وثانيتهما ذاتية قائمة بعنوانها ، بل تقدم أنّا لو سلمنا اشتمالها على نجاستين أيضاً التزمنا بالطهارة ، لإطلاقات الأخبار وشمولها لما إذا كانت الخمر متنجسة أيضاً ، ولعل هذا هو الغالب في الخمور لتنجسها حال كونها عصيراً أو خلا بيد صنّاعها مسلماً كان أو غيره ، لبعد تحفظهم على عدم‌

__________________

(*) مرّ حكم ذلك آنفاً.

١٧٠

[٣٦٩] مسألة ٧ : تفرق الأجزاء بالاستهلاك غير الاستحالة ولذا لو وقع مقدار من الدم في الكر واستهلك فيه يحكم بطهارته ، لكن لو أخرج الدم من الماء بآلة من الآلات المعدة لمثل ذلك عاد إلى النجاسة ، بخلاف الاستحالة فإنّه إذا صار البول بخاراً ثم ماء لا يحكم بنجاسته ، لأنه صار حقيقة أُخرى (١).

______________________________________________________

تنجسها من سائر الجهات ، إذ الخمّار لا يبالي بأمثال ذلك.

وأما بناء على ما سلكه الماتن قدس‌سره من اعتبار الطهارة في التمر أو العنب أو غيرهما مما يصطنع منه الخمر ، وأن نجاسته قبل صيرورته خمراً مانعة عن طهارة الخمر الحاصلة منه بالانقلاب ، فيشكل الفرق بين تنجسه بالنجاسة الخمرية وتنجسه بسائر النجاسات والمتنجِّسات ، وذلك لإمكان أن يقال : إن العنب أو التمر أو غيرهما إذا تنجس بالخمر ثم صار خمراً منع ذلك عن طهارتها بالانقلاب ، لاشتمال الخمر حينئذ على نجاستين : عرضية وهي تقوم بجسمها كما هو الحال في بقية المتنجِّسات وذاتية قائمة بعنوانها ، والأخبار إنما تقتضي زوال نجاستها الذاتية القائمة بعنوانها بالانقلاب وأما نجاستها العرضية فهي باقية بحالها لعدم ارتفاع موضوعها بالانقلاب.

وعلى الجملة لا نرى وجهاً صحيحاً للتفصيل بين التنجس بالخمر والتنجس بغيرها ، فإما أن نلتزم بالطهارة بالانقلاب في كليهما لما ذكرناه ، وإما أن نلتزم بعدم حصول الطهارة في كليهما لما ذكره قدس‌سره.

(١) وذلك لأن الاستهلاك من الهلاك وهو بمعنى انعدام الشي‌ء بتمامه انعداماً عرفياً وزوال حيثية الوجود عنه من غير أن يبقى منه شي‌ء ظاهراً وإن كان باقياً حقيقة والاستحالة عبارة عن زوال الحقيقة والصورة النوعية وحدوث حقيقة أُخرى ، وإن كانت المادة المشتركة بينهما باقية بحالها ، فان الوجود في موارد الاستحالة هو الوجود الأوّل وإنما التبدّل في مراتبه ، بمعنى أن الهيولى كانت متحققة وموجودة بالصورة المرتفعة ثم صارت موجودة بالصورة النوعية الأُخرى ، والمادة المشتركة خلعت صورة ولبست صورة أُخرى بحيث يصح أن يقال : إن هذا مشيراً به إلى موجود‌

١٧١

نعم لو فرض صدق البول عليه يحكم بنجاسته بعد ما صار ماء. ومن ذلك يظهر حال عرق بعض الأعيان النجسة أو المحرمة ، مثل عرق لحم الخنزير ، أو عرق العذرة ، أو نحوهما ، فإنّه إن صدق عليه الاسم السابق وكان فيه آثار ذلك الشي‌ء وخواصه يحكم بنجاسته أو حرمته ، وإن لم يصدق عليه ذلك الاسم ، بل عدّ حقيقة أُخرى ذات أثر وخاصية اخرى ، يكون طاهراً وحلالاً. وأما نجاسة عرق الخمر فمن جهة أنه مسكر مائع ، وكل مسكر نجس.

______________________________________________________

خارجي كان كذا ثم صار كذا كما تقدّم (١) في قوله تعالى ( أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ).

وتظهر الثمرة فيما إذا استهلكت قطرة دم في ماء كثير ثم أخذناها من الماء بالآلات المعدّة للتجزية ، فإنّها محكومة بالنجاسة حينئذ لأنها عين القطرة السابقة ، غاية الأمر أنها لم تكن محسوسة لتفرق أجزائها مع بقائها حقيقة من غير أن تتبدل حقيقتها وصورتها فاذا اجتمعت وظهرت على الحس حكم بنجاستها لا محالة ، وهذا بخلاف ما إذا استحالت القطرة تراباً ثم بدواء أو غيره صيّرنا التراب دماً ، فإنّه حينئذ دم جديد غير الدم السابق لأنه قد انعدم بصورته وحقيقته ولا يحكم بنجاسته ، لاختصاص النجاسة بدم الحيوان الذي له نفس سائلة ، والدم المتكوِّن بعد الاستحالة دم مخلوق الساعة ولا دليل على نجاسته.

ثم إن الأنسب في المثال ما ذكرناه دون ما مثّل به الماتن قدس‌سره وذلك لأنه مثّل في الاستحالة بما لا يعود إلى الشي‌ء السابق ، لوضوح أن الماء الحاصل من البخار غير البول الذي استحال بخاراً ، ومن المناسب أن يمثّل بما يعود إلى الشيئية السابقة بعد الاستحالة والاستهلاك ، ويحكم عليه في أحدهما بالطهارة وفي الآخر بالنجاسة ، ولا مثال له سوى الدم كما مثّلنا به. وأما بخار الماء المتنجِّس إذا صار ماء فهو أيضاً غير‌

__________________

(١) في ص ١٥٦.

١٧٢

[٣٧٠] مسألة ٨ : إذا شك في الانقلاب بقي على النجاسة (١).

السادس : ذهاب الثّلثين في العصير العنبي على القول بنجاسته بالغليان لكن قد عرفت أن المختار عدم نجاسته ، وإن كان الأحوط الاجتناب عنه فعلى المختار فائدة ذهاب الثلثين تظهر بالنسبة إلى الحرمة ، وأما بالنسبة إلى النجاسة فتفيد عدم الاشكال لمن أراد الاحتياط ، ولا فرق بين أن يكون الذهاب بالنار أو بالشمس أو بالهواء (١) ، كما لا فرق في الغليان الموجب للنجاسة على القول بها بين المذكورات ، كما أن في الحرمة بالغليان التي لا إشكال فيها والحلية بعد الذهاب كذلك ، أي لا فرق بين المذكورات (٢) ،

______________________________________________________

صالح للمثال ، لأن البخار وإن كان يعود إلى الشيئية السابقة وهي الماء إلاّ أنه لا يتم في الاستهلاك ، لأنّا لو فصّلنا أجزاء المتنجِّس من الماء الكثير بعد فرض استهلاكه فيه لم نحكم بنجاستها لطهارتها بالكثير كما لا يحكم بنجاستها في فرض استحالتها ، ومعه لا يبقى فرق بين الاستحالة والاستهلاك فالصحيح في المثال ما ذكرناه.

(١) لاستصحاب بقاء العنوان وعدم زواله.

مطهِّريّة ذهاب الثّلثين‌

(٢) مرّ تفصيل هذه الفروع في مبحث النجاسات (٢) وذكرنا أن الغليان مطلقاً يوجب حرمة العصير بل ونجاسته أيضاً على تقدير القول بها بلا فرق في ذلك بين استناد الغليان إلى نفسه واستناده إلى النار أو الشمس أو غيرهما ، ودفعنا التفصيل بين الغليان بنفسه وهو المعبّر عنه بالنشيش والغليان بسبب النار أو غيرها ، بالقول بالحرمة والنجاسة على الأوّل وبالحرمة فحسب على الثاني ، بما لا مزيد عليه. نعم‌

__________________

(*) قد مرّ الإشكال في ذهاب الثلثين بغير النار [ في المسألة ٢٠٢ ].

(١) في المسألة [٢٠٢].

١٧٣

وتقدير الثلث والثلثين إما بالوزن (*) أو بالكيل أو بالمساحة (١).

______________________________________________________

ذكرنا أن المطهّر أو المحلّل إنما هو خصوص ذهاب الثلثين بالطبخ وهو لا يكون إلاّ بالنار ، فذهابهما بنفسه أو بحرارة الشمس أو غيرهما مما لا يترتب عليه الحكم بالطهارة والحلية ، فليراجع.

(١) ذكر صاحب الجواهر قدس‌سره : أن المعتبر إنما هو صدق ذهاب الثلثين من دون فرق بين الوزن والكيل والمساحة وإن كان الأحوط الأولين أي الوزن والكيل بل قيل هو الوزن (٢). وتبعه الماتن في المقام ، ونقول في توضيح المسألة :

إنّ المساحة والكيل أمران متحدان وهما طريقان إلى تعيين كم خاص ولا اختلاف بينهما. وأما الوزن فهو أمر يغاير الكيل والمساحة والنسبة بينه وبينهما عموم مطلق. والتحديد بمثلهما أمر لا محصل له لحصول الأخص وهو الكيل والمساحة في المقام قبل الأعم وهو الوزن دائماً ، ويعتبر في التحديد بشيئين أن تكون النسبة بينهما عموماً من وجه بحيث قد يتحقق هذا دون ذاك وقد يتحقق ذاك دون هذا ، على ما سبقت الإشارة إليه عند تحديد الكر بالوزن والمساحة ، حيث قلنا إن النسبة بين سبعة وعشرين شبراً وبين الوزن عموم من وجه ولا مانع من تحديد الكر بهما ، وهذا بخلاف ستة وثلاثين أو ثلاثة وأربعين إلاّ ثمن شبر فان الوزن حاصل قبلهما ، والأمر في المقام كذلك ، فان بقاء الثلث أو ذهاب الثلثين بحسب المساحة والكم الخارجي يتحقق قبل ذهابهما أو قبل بقاء الثلث بحسب الوزن ، وسرّه أن أوزان الأشياء المتحدة بحسب الكم الخارجي تختلف باختلافها ، فترى أن الخشبة والحديد المتحدين بحسب الأبعاد الثلاثة مختلفان وزناً إذ الحديد أثقل من الخشب ، وكذا الذهب والحديد المتوافقين بحسب الكم الخارجي فإنّ الذهب أثقل الفلزات ، وهكذا كم خاص من الماء الصافي والعصير ، لأنّ العصير لاشتماله على المواد السكرية والأرضية أثقل ، فإذا غلى كل منهما‌

__________________

(*) لا عبرة به ، وإنما العبرة بالكيل والمساحة ، ويرجع أحدهما إلى الآخر.

(١) الجواهر ٦ : ٢٩٢.

١٧٤

وذهب ثلثاهما بحسب الكم كان الثلث الباقي من العصير أثقل من الثلث الباقي من الماء ، لكثافة الأوّل من جهة ذهاب الأجزاء المائية وبقاء المواد الأرضية والسكرية وخفّة الثاني لصفائه. وعليه فذهاب الثلثين وزناً يتأخر دائماً عن ذهابهما كيلاً ومساحة ، ومع كون النسبة بين الوزن والكم أي المساحة والكيل عموماً مطلقاً لا يمكن تحديد الحرمة أو هي مع النجاسة بهما بل لا بدّ من تحديدها بأحدهما.

وهل المدار على الذهاب وزناً أو على الذهاب كماً؟ لا بدّ في ذلك من النظر إلى الروايات لنرى أن المستفاد منها أيّ شي‌ء.

والكلام في تحقيق ذلك يقع في مقامين : أحدهما : فيما تقتضيه الأدلّة الاجتهادية. وثانيهما : فيما يقتضيه الأصل العملي.

أمّا المقام الأوّل : فقد يقال إن المعتبر هو الوزن ويستدل عليه بوجهين :

أحدهما : أن جملة من الأخبار الواردة في العصير دلّت على أنه إذا غلى حرم أو نجس أيضاً ، وهي بإطلاقها تقتضي بقاء حرمته أو نجاسته مطلقاً ذهب ثلثاه أم لم يذهبا. منها : رواية حماد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « سألته عن شرب العصير ، قال : تشرب ما لم يغل فاذا غلى فلا تشربه ... » (١) ومنها : حسنته عنه عليه‌السلام قال : « لا يحرم العصير حتى يغلي » (٢) ومنها : موثقة ذريح قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إذا نش العصير أو غلى حرم » (٣)

وفي قبال هذه الروايات جملة أُخرى دلت على أن الحرمة والنجاسة تزولان بذهاب ثلثي العصير وبقاء ثلثه ، وفي بعضها « أن ثلثيه للشيطان وثلثه لآدم عليه‌السلام » (٤) وهي تخصّص المطلقات المتقدِّمة بما إذا لم يذهب ثلثاه ، ولكنّها مجملة لإجمال المراد بالثلث والثلثين ، للشك في أن المراد منهما خصوص الوزني أو الكمِّي ومقتضى القاعدة في المخصصات المجملة المنفصلة الأخذ بالمقدار المتيقّن والرجوع في الزائد المشكوك فيه إلى العام ، والذي نتيقن بإرادته في المقام هو الوزني الذي يحصل‌

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) الوسائل ٢٥ : ٢٨٧ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٣ ح ٤.

(٤) الوسائل ٢٥ : ٢٨٢ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٢.

١٧٥

بعد الكمِّي كما عرفت ، وأما الاكتفاء بخصوص الذهاب الكمي فهو مشكوك فيه فيرجع فيه إلى العمومات والمطلقات الدالّة على بقاء الحرمة والنجاسة حتى يذهب ثلثاه بحسب الوزن.

وثانيهما : الأخبار : منها : ما رواه ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا زاد الطلاء على الثلث أوقية فهو حرام » (١) لدلالتها على أن المراد بالثلث هو الثلث الوزني لمكان قوله : « أوقية » وهي من أسماء الأوزان ، ومنها : ما رواه عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في رجل أخذ عشرة أرطال من عصير العنب فصب عليه عشرين رطلاً ماء ثم طبخهما حتى ذهب منه عشرون رطلاً وبقي عشرة أرطال ، أيصلح شرب تلك العشرة أم لا؟ فقال : ما طبخ على الثلث فهو حلال » (٢) وقد دلت على أن المراد من الثلث والثلثين هو الوزني خاصة. ومنها : رواية عبد الله ابن سنان قال : « العصير إذا طبخ حتى يذهب منه ثلاثة دوانيق ونصف ثم يترك حتى يبرد فقد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه » (٣) هذا.

وفي كلا الوجهين ما لا يخفى أمّا أوّلهما : فلأجل أن الأشياء تختلف بحسب الاعتبار فان في بعضها الاعتبار بالعدد كما في الحيوان والإنسان وغيرهما من المعدودات ، وفي بعضها الآخر بالوزن كما في الحنطة والشعير والأرز وغيرها مما يوزن ، وفي ثالث بالمساحة كما في الأراضي ، والعرف لا يكاد يشك في أن المائعات التي منها الماء والعصير مما يعتبر فيه المساحة ، فإذا قيل العصير يعتبر في حليته وطهارته ذهاب ثلثيه وبقاء ثلثه ، حمل على إرادة الثلثين بحسب المساحة فلا إجمال في المخصص بوجه.

ويدلُّ على ذلك أنهم عليهم‌السلام أطلقوا اعتبار ذهاب الثلثين في حلية العصير من دون أن يخصصوا ذلك بشخص دون شخص ، مع أن أكثر أهل البلاد لا يتمكن من وزن العصير حيث لا ميزان عندهم فكيف بالصحاري والقرى ، وما هذا شأنه لا يناط به الحكم الشرعي من غير أن يبين في شي‌ء من الروايات.

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٢٨٥ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٢ ح ٩.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٢٩٥ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٨ ح ١.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٢٩١ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٥ ح ٧.

١٧٦

وممّا يؤيِّد ذلك ما ورد في بعض الروايات بياناً لكيفية طبخ العصير من قوله عليه‌السلام « ثم تكيله كله فتنظركم الماء ثم تكيل ثلثه » (١) فإنّه كالصريح في أن الاعتبار بالكيل والمساحة. نعم لم نستدل بتلك الرواية في الحكم بحرمة العصير بالغليان للمناقشة فيها سنداً ودلالة فليراجع ما ذكرناه في البحث عن نجاسة العصير وحرمته (٢) هذا كله في الوجه الأوّل من الوجهين السابقين.

وأمّا ثانيهما : وهو الاستدلال بالأخبار ، فلأنّ الرواية الأُولى منها وإن كانت تامّة دلالة إلاّ أنها مرسلة ، لأنّ الكليني قدس‌سره إنما ينقلها عن بعض أصحابنا (٣) فلا يمكن الاعتماد عليها. وأما الرواية الثانية فلأن الوزن فيها إنما ذكر في كلام السائل دون جواب الإمام عليه‌السلام فان كلامه غير مشعر بإرادة الوزن أبداً. وقد عرفت أن إطلاق الثلث أو غيره من المقادير في المائعات منصرف إلى الكيل والمساحة. مضافاً إلى ضعف سندها بعقبة بن خالد ومحمد بن عبد الله بناء على أنه محمد بن عبد الله بن هلال كما هو الظاهر. وأما الرواية الثالثة فلأن الدانق معرب « دانك » بالفارسية ، والمراد به سدس الشي‌ء عند الإطلاق ، وهو من أسماء المقادير بالمساحة فلا دلالة لها على إرادة الوزن. على أن سندها ضعيف من وجوه منها : عدم توثيق منصور بن العباس الواقع في سلسلته فليراجع (٤).

وأمّا المقام الثاني : فقد يقال : إن مقتضى استصحاب حرمة العصير أو نجاسته قبل ذهاب الثلثين عنه هو الحكم بحرمته ونجاسته بعد الغليان وذهاب ثلثيه كما ، وذلك للشك في طهارته وحليته بذلك ، ولا مسوغ لرفع اليد عن اليقين بحرمته ونجاسته حتى يقطع بحليته وطهارته ، وهذا إنما يحصل بذهاب الثلثين وزناً.

وفيه : أن الشبهة مفهومية في المقام للشك فيما يراد من الثلث الباقي أو الثلثين‌

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٢٨٩ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٥ ح ٢.

(٢) في المسألة [٢٠٢].

(٣) الكافي ٦ : ٤٢١ / ٩.

(٤) رجال النجاشي : ٤١٣ / ١١٠٢.

١٧٧

ويثبت بالعلم وبالبينة ، ولا يكفي الظن (١).

______________________________________________________

الذاهبين ، وقد أسلفنا في محلِّه (١) أن استصحاب الحكم لا يجري في أمثال المقام للشك في بقاء موضوعه ، ومع عدم إحراز اتحاد القضيتين المتيقنة والمشكوكة لا يبقى مجال للاستصحاب. كما أنه لا مجال لاستصحاب الموضوع حينئذ لتقوّمه بالشك واليقين ولا شك لنا في المقام في شي‌ء للقطع بزوال الثلثين كمّاً وعدم زوالهما بحسب الوزن ومعه كيف يجري الاستصحاب في الموضوع. على أن الاستصحاب لا يجري في الشبهات الحكمية رأساً ، فاذا شككنا في حرمة العصير وطهارته بعد ذهاب ثلثيه بحسب الكم فلا بدّ من الرجوع إلى أصالتي الحل والبراءة أو أصالة الطهارة.

فالمتلخّص أن الميزان في حلية العصير وطهارته إنما هو زوال ثلثيه بحسب الكم والمساحة.

(١) لقد تكلّمنا في اعتبار الأُمور التي ذكرها الماتن قدس‌سره في المقام من العلم والبينة وخبر العدل وإخبار ذي اليد ، في البحث عما يثبت به النجاسة ، مفصّلاً (٢) ولا حاجة إلى إعادته ، كما ذكرنا أن الظن لا اعتداد به شرعاً.

بقي الكلام في أن اعتبار قول ذي اليد في محل الكلام هل يختص بما إذا كان مسلماً عارفاً أو مسلماً ورعاً مؤمناً أو لا يشترط بشي‌ء؟

ورد في موثقة عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام إن كان مسلماً ورعاً مؤمناً فلا بأس أن يشرب ، بعد السؤال عن رجل يأتي بالشراب ويقول هذا مطبوخ على الثّلث (٣) وفي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليهما‌السلام قال : « سألته عن الرجل يصلِّي إلى القبلة لا يوثق به أتى بشراب يزعم أنه على الثلث فيحل شربه؟ قال : لا يصدق إلاّ أن يكون مسلماً عارفاً » (٤).

__________________

(١) في مصباح الأُصول ٣ : ٢٣٤.

(٢) في المسألة [١٢٩] وكذا قبل المسألة [٢١٥].

(٣) الوسائل ٢٥ : ٢٩٤ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٧ ح ٦.

(٤) الوسائل ٢٥ : ٢٩٤ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٧ ح ٧.

١٧٨

وفي خبر العدل الواحد إشكال (١) إلاّ أن يكون (*) في يده ويخبر بطهارته وحليته وحينئذ يقبل قوله وإن لم يكن عادلاً ، إذا لم يكن ممن يستحله (**) قبل ذهاب الثّلثين (٢).

______________________________________________________

ولكن الصحيح عدم اعتبار شي‌ء من ذلك في اعتبار قول ذي اليد ، وذلك لما ورد في صحيحة معاوية بن عمار من قوله : « قلت فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث ولا يستحلّه على النصف يخبرنا أن عنده بختجاً على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه؟ قال : نعم » (٣) حيث إن ظاهر قوله : « ممن لا نعرفه » أنه ممن لا يعرفون وثاقته وعدالته ، ومع هذا أمر بتصديقه في إخباره ، فلا يشترط في اعتبار قول ذي اليد شي‌ء من الإسلام والإيمان والعدالة.

نعم ، لا بدّ في حجية قوله من اشتراط شي‌ء آخر وهو أن لا يكون ممن يشرب العصير قبل تثليثه وإن لم يكن مستحلا له أيضاً ، وذلك لما ورد في صدر الصحيحة من قوله : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيه بالبختج ويقول قد طبخ على الثلث وأنا أعرف أنه يشربه على النصف أفأشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال : لا تشربه » فإنّه يدل على عدم قبول إخبار ذي اليد إذا كان ممن يشرب العصير على النصف ولو كان من أهل المعرفة وغير مستحل له.

(١) بل لا إشكال في اعتباره ، لما ذكرناه غير مرة من عدم التفرقة في حجيته بين الأحكام والموضوعات إلاّ في موارد خاصة كالزنا وموارد الترافع وغيرهما ، بل لا يشترط في اعتباره العدالة أيضاً لكفاية الوثاقة في حجية الخبر.

(٢) مرّ أن حجية قول ذي اليد في خصوص المقام لا يكفي فيها مجرّد عدم استحلاله للعصير قبل تثليثه ، بل يشترط فيها أن يكون ممّن لا يشربه قبل التثليث.

__________________

(*) لا يبعد قبول خبر العدل الواحد وإن لم يكن العصير في يده ، بل لا يبعد قبول قول الثقة وإن لم يكن عدلاً.

(**) ولم يكن ممن يشربه وإن لم يستحله.

(١) الوسائل ٢٥ : ٢٩٣ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٧ ح ٤.

١٧٩

[٣٧١] مسألة ١ : بناء على نجاسة العصير إذا قطرت منه قطرة بعد الغليان على الثوب أو البدن أو غيرهما يطهر بجفافه أو بذهاب (*) ثلثيه بناء على ما ذكرنا من عدم الفرق بين أن يكون بالنار أو بالهواء وعلى هذا فالآلات المستعملة في طبخه تطهر بالجفاف وإن لم يذهب الثلثان مما في القدر ، ولا يحتاج إلى إجراء حكم التبعية ، ولكن لا يخلو عن إشكال من حيث إن المحل إذا تنجس به أوّلاً لا ينفعه جفاف تلك القطرة ، أو ذهاب ثلثيها ، والقدر المتيقن من الطهر بالتبعية المحل المعد للطبخ مثل القدر والآلات ، لا كل محل كالثوب والبدن ونحوهما (١).

______________________________________________________

(١) إذا بنينا على أن المحلل والمطهر على تقدير القول بنجاسة العصير بالغليان إنما هو خصوص ذهاب الثلثين بالنار كما قويناه في البحث عن نجاسة العصير بالغليان (٢) ، فلا إشكال في عدم طهارة الثوب والبدن ولا نفس القطرة الواقعة عليهما بذهاب ثلثيها أو بجفافها لعدم استنادهما إلى النار. وأما إذا قلنا بكفاية مطلق ذهابهما في حليته وطهارته سواء أكان بالنار أم بغيرها ، فهل يحكم بطهارة الثوب والبدن؟ استشكل الماتن في طهارتهما نظراً إلى أن المحل بعد ما تنجس بتلك القطرة لم ينفع ذهاب ثلثيها أو جفافها بوجه ، لأنه لم يقم دليل على طهارة المحل تبعاً لطهارة القطرة الواقعة عليه.

وما أفاده قدس‌سره هو المتين وتوضيحه : أن الطهارة بالتبع إنما ثبتت بأحد أُمور منتفية في الثوب والبدن ، حيث إنها إما أن تثبت من جهة السيرة الخارجية والإجماع القطعيين القائمين على عدم الاجتناب عن العصير ، ومحلّه بعد ذهاب الثلثين لطهارة المحل بتبع طهارته. وإما أن تثبت بالروايات لسكوتها عن التعرض لنجاسة المحل وهي في مقام البيان ، فيستكشف من ذلك طهارته تبعاً ، إذ لو كان نجساً لكان‌

__________________

(*) فيه منع ، نعم القول بطهارته بالتبع لا يخلو عن وجه قوي ، ويسهّل الخطب أنه لا ينجس بالغليان كما مرّ.

(١) شرح العروة ٣ : ١٠٩.

١٨٠