موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

[٣٥٦] مسألة ١ : كما تطهّر ظاهر الأرض كذلك باطنها المتصل بالظاهر النجس باشراقها عليه ، وجفافه بذلك (١) بخلاف ما إذا كان الباطن فقط نجساً أو لم يكن متصلاً بالظاهر ، بأن يكون بينهما فصل بهواء أو بمقدار طاهر (٢)

______________________________________________________

ومن هنا يظهر أن إشراق الشمس على المتنجِّس بواسطة الأجسام الشفافة كالبلور والزجاج وبعض الأحجار الكريمة كالدر لا يكفي في الطهارة ، لعدم صدق الإصابة معها ، فالحاجز على إطلاقه مانع عن التطهير بالشمس.

(١) قد يقال بعدم طهارة الباطن باشراق الشمس على ظاهر الأرض ، نظراً إلى أن مطهرية الشمس إنما استفدناها من حكمهم عليهم‌السلام بجواز الصلاة على الأرض المتنجسة بعد جفافها بالشمس ، ومن الظاهر أن في جواز الصلاة على الأرض المتنجسة تكفي طهارة الظاهر فحسب فلا يكون ذلك مقتضياً لطهارة الباطن أيضاً. نعم لا محيص من الالتزام بطهارة شي‌ء يسير من الباطن ، فإن الصلاة على بعض الأراضي كالأراضي الرملية يستتبع تبدل أجزائها وقد توجب تبدل الظاهر باطناً وبالعكس ، ففي هذا المقدار لا بدّ من الالتزام بطهارة الباطن دون الزائد عليه.

والصحيح ما أفاده الماتن قدس‌سره لأن جواز الصلاة على الأرض وإن لم يقتض طهارة المقدار الزائد على السطح الظاهر كما ذكر ، إلاّ أن صحيحة زرارة تدلنا على طهارة الباطن أيضاً لقوله فيها : « فهو طاهر » حيث إن الضمير فيه يرجع إلى الشي‌ء المتنجِّس بالبول ونحوه ، ومعناه أن ذلك المتنجِّس إذا جففته الشمس حكم بطهارته ، ومن الظاهر أن الباطن المتصل بالظاهر شي‌ء واحد ، ففي المقدار الذي وصل إليه النجس إذا جف بالشمس حكمنا بطهارته لوحدتهما.

(٢) ومما ذكرناه في التعليقة المتقدِّمة يظهر أن النجس إذا كان هو الباطن فحسب لم يحكم بطهارته باشراق الشمس على ظاهرها ، لأن النجس حينئذ شي‌ء آخر يغاير ظاهرها ، فاشراق الشمس على الظاهر لا يوجب صدق الإصابة والإشراق على باطنه لأنه أمر آخر غير ما تصيبه الشمس ، وكذا الحال فيما إذا لم يكن الباطن متصلاً بالظاهر لتخلل هواء أو مقدار طاهر من الأرض بينهما ، وذلك لأن الباطن والظاهر‌

١٤١

أو لم يجف (١) أو جف بغير الإشراق على الظاهر (٢) أو كان فصل بين تجفيفها للظاهر وتجفيفها للباطن ، كأن يكون أحدهما في يوم والآخر في يوم آخر ، فإنّه لا يطهر في هذه الصور (٣).

[٣٥٧] مسألة ٢ : إذا كانت الأرض أو نحوها جافة وأُريد تطهيرها بالشمس ، يصب عليها الماء الطاهر أو النجس أو غيره (٤) مما يورث الرطوبة فيها حتى تجففها.

______________________________________________________

حينئذ شيئان متعددان ولا موجب لطهارة أحدهما باشراق الشمس على الآخر.

(١) فالطاهر خصوص السطح الظاهر الذي جف بالشمس ، وأما الباطن الباقي على رطوبته فلا ، لاشتراط الجفاف في مطهرية الشمس.

(٢) لأنه يعتبر في الجفاف أن يستند إلى إشراق الشمس وإصابتها ولا يكتفى في الطهارة بمطلق الجفاف.

(٣) حيث إن الباطن إذا جف مقارناً لجفاف السطح الظاهر صدق أنهما شي‌ء واحد جف باشراق الشمس عليه ، وأما إذا حصل بين الجفافين فصل مخل للمقارنة العرفية لأن جفاف الظاهر حقيقة متقدِّم على جفاف الباطن ، إلاّ أنهما متقارنان بالنظر العرفي ما لم يفصل بينهما بكثير كما في ما مثّل به الماتن قدس‌سره فلا يمكن الحكم بطهارة الباطن ، لأنّ إشراق الشمس على ظاهر الأرض في اليوم الآخر لا يعدّ إشراقاً على باطنها ، لتوسّط الجزء الطاهر وهو ظاهر الأرض ، حيث طهر في اليوم السابق على الفرض بينه وبين الباطن ، وهو كتوسط جسم آخر بين ظاهر الأرض وباطنها في المسألة المتقدِّمة. وأما إشراق الشمس على ظاهر الأرض ، في اليوم السابق في المثال فهو أيضاً غير مقتض لطهارة الباطن ، لعدم جفافه حينئذ وإنما يبس في اليوم الآخر.

(٤) كسائر المائعات المورثة للرطوبة ، لما عرفت من اعتبار الجفاف بالشمس وهو لا يتحقّق مع اليبوسة كما مرّ ، وعلى ذلك حملنا قوله عليه‌السلام في صحيحة ابن بزيع : « كيف تطهر بغير الماء ».

١٤٢

[٣٥٨] مسألة ٣ : ألحق بعض العلماء البَيدر الكبير بغير المنقولات وهو مشكل (١).

[٣٥٩] مسألة ٤ : الحصى والتراب والطين والأحجار ونحوها ما دامت واقعة على الأرض هي في حكمها وإن أُخذت منها لحقت بالمنقولات (٢) ، وإن أُعيدت عاد حكمها (٣) وكذا المسمار الثابت في الأرض أو البناء ، ما دام ثابتاً يلحقه الحكم ، وإذا قلع يلحقه حكم المنقول ، وإذا اثبت ثانياً يعود حكمه الأوّل ، وهكذا فيما يشبه ذلك.

______________________________________________________

(١) ولا بأس بهذا الإلحاق لو تمت رواية الحضرمي ، لأنها بإطلاقها أو عمومها تدل على طهارة كل ما أشرقت عليه الشمس ، وقد خرجنا عنها في الأشياء القابلة للانتقال بالإجماع والضرورة. والبَيدر وأمثاله من الظروف الكبيرة التي يصعب نقلها وإن كان من المنقول حقيقة ، إلاّ أنه لا إجماع ولا ضرورة يقتضي خروجه عن إطلاق الرواية. نعم من لا يعتمد عليها لضعفها ، لا يمكنه الحكم بالالتحاق ، لعدم شمول الأخبار له حيث لا يصدق عليه عنوان السطح أو المكان الذي يصلّى فيه أو غيرهما من العناوين الواردة في الأخبار.

(٢) والوجه فيه أن المدار في طهارة المتنجِّس بالشمس إنما هو صدق عنوان السطح أو المكان أو الموضع عليه ، ففي أي زمان صدق عليه شي‌ء من العناوين المذكورة حكم بطهارته ، كما أنه إذا لم يصدق عليه شي‌ء منها لم يحكم بطهارته والحصاة التي هي من أجزاء الأرض أو الرمل إذا كانت واقعة على الأرض صدق عليها عنوان المكان أو الموضع بتبع الأرض فيحكم بطهارتها بالإشراق. وإذا أُخذت من الأرض لحقها حكم المنقول ، لعدم صدق العناوين الواردة في الأخبار عليها.

(٣) لما عرفت من أن المدار في طهارة المتنجِّس بالشمس هو صدق شي‌ء من العناوين المتقدِّمة عليه ، فاذا صدق شي‌ء من تلك العناوين بإعادة الحصى إلى الأرض حكم بطهارتها بالإشراق. بل الحال كذلك فيما إذا عرضت لها النجاسة بعد الانفصال لعدم اشتراط الطهارة بالشمس بعروض النجاسة عليها حال اتصالها بالأرض.

١٤٣

[٣٦٠] مسألة ٥ : يشترط في التطهير بالشمس زوال عين النجاسة إن كان لها عين (١).

[٣٦١] مسألة ٦ : إذا شكّ في رطوبة الأرض حين الإشراق ، أو في زوال‌

______________________________________________________

(١) وذلك للارتكاز الشاهد على أن الغرض من الأخبار الواردة في المقام إنما هو تسهيل الأمر على المكلفين ، بجعل إشراق الشمس قائماً مقام الغسل بالماء ، ولا ينبغي الإشكال بحسب الارتكاز في اعتبار زوال العين في الغسل به ، ولا بدّ معه من اعتبار ذلك أيضاً في بدله ، ويصلح هذا الارتكاز لتقييد المطلقات بصورة زوال عين النجس.

هذا على أن النجس إذا لم تكن له عين لدى العرف لكونه عندهم عرضاً وإن كان من الجواهر حقيقة ، كما في البول حيث إن له أجزاء صغيرة وربما يظهر أثره فيما يصيبه إذا تكررت إصابته ، إلاّ أنه عرض بالنظر العرفي فلا عين له ليشترط زوالها أو لا يشترط وهو مورد جملة من الأخبار المتقدِّمة. وأما إذا عد من الجواهر وكانت له عين بنظرهم فلا شبهة في أن وجود النجس حينئذ يمنع عن إصابة الشمس للأرض ، فهو لو كان طاهراً منع عن طهارة الأرض ولم تصدق معه الإصابة ، فكيف بما إذا كان نجساً.

وتوهّم أنّ العين بعد ما وقعت على الأرض عدت من أجزائها فتطهر العين بنفسها حينئذ تبعاً لطهارة الأرض بالإشراق ، فلا عين نجس بعد ذلك حتى يشترط زوالها.

يندفع بأن العين النجسة لا تعد من الأجزاء الأرضية بوجه ، والصحيحة المتضمنة للسطح والمكان غير شاملة للعين النجسة لاختصاصها بالبول.

وأما موثقة عمار المشتملة على « الموضع القذر » فهي وإن كانت مطلقة ولا اختصاص لها بالبول ، وبإطلاقها تعدينا إلى غير البول من النجاسات ، إلاّ أنه لا مناص من تقييدها بالقرينة الخارجية بما إذا لم تكن في الموضع عين النجس والقرينة هو الارتكاز الشاهد على أن اصابة الشمس وإشراقها قائمة مقام الغسل بالماء تسهيلاً للعباد ، ومن الظاهر أن مع عدم زوال العين لا تحصل الطهارة بالماء. وعلى الجملة لا دلالة في شي‌ء من الصحيحة ولا الموثقة على طهارة العين النجسة تبعاً.

١٤٤

العين بعد العلم بوجودها ، أو في حصول الجفاف ، أو في كونه بالشمس أو بغيرها أو بمعونة الغير لا يحكم بالطهارة (١) وإذا شك في حدوث المانع عن الإشراق من ستر ونحوه يبنى على عدمه على إشكال تقدّم نظيره (*) في مطهرية الأرض (٢).

[٣٦٢] مسألة ٧ : الحصير يطهر باشراق الشمس (**) على أحد طرفيه طرفه الآخر (٣) ،

______________________________________________________

(١) للشك في حصول شرطها ، ومعه لا بدّ من الرجوع إلى استصحاب النجاسة السابقة وهو بلا معارض.

(٢) وهو أن استصحاب عدم حدوث المانع لا أثر له في نفسه ، واستصحابه لإثبات إصابة الشمس وإشراقها على الأرض من الأُصول المثبتة ، ومع عدم إحراز الإصابة لا يمكن الحكم بالطهارة ، لأنها كما مرّ مترتبة على إصابة الشمس وإشراقها.

(٣) لأن في الأخبار الواردة في جواز الصلاة على الحصر والبواري عند جفافهما بالشمس على القول بطهارتهما بذلك ما يدل على أن إشراق الشمس على أحد جانبيهما يقتضي طهارة جميع أجزائهما الداخلية والخارجية ، كما في صحيحة علي بن جعفر المروية عن كتابه عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : « سألته عن البواري يبل قصبها بماء قذر أيصلى عليه؟ قال : إذا يبست فلا بأس » (٣).

وموثقة عمار قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البارية يبل قصبها بماء قذر ، هل تجوز الصلاة عليها؟ فقال : إذا جفت فلا بأس بالصلاة عليها » (٤) لأن ظاهر السؤال فيهما أن الماء القذر أصاب جميع أجزاء البارية وأجاب عليه‌السلام بأنها إذا جفت فلا بأس بالصلاة عليها ، ومقتضى مطابقة الجواب للسؤال أن الشمس إذا أصابت أحد جانبي البارية وجففته جازت الصلاة على كلا جانبيها ، فاذا كان جواز الصلاة عليها دليلاً على طهارتها فلا محالة يحكم بطهارة كلا الجانبين باشراق الشمس‌

__________________

(*) وتقدم أن الأظهر عدم الحكم بالطهارة.

(**) تقدم آنفاً أن الأقرب عدم طهارته به.

(٣) ، (٤) الوسائل ٣ : ٤٥٣ / أبواب النجاسات ب ٣٠ ح ٢ ، ٥.

١٤٥

وأما إذا كانت الأرض التي تحته نجسة فلا تطهر بتبعيته وإن جفت بعد كونها رطبة (١) ، وكذا إذا كان تحته حصير آخر إلاّ إذا خيط به على وجه يعدان معاً شيئاً واحداً (٢) ، وأما الجدار المتنجِّس إذا أشرقت الشمس على أحد جانبيه فلا يبعد طهارة جانبه الآخر إذا جفّ به (٣) وإن كان لا يخلو عن اشكال (٤) وأما إذا أشرقت على جانبه الآخر أيضاً فلا إشكال.

______________________________________________________

على أحدهما.

(١) وذلك لأنها جسم آخر ، والشمس إنما أصابت الحصير دون الأرض ، وقد اشترطنا في التطهير بها إصابتها على المتنجِّس والمفروض عدمها في المقام.

(٢) لعين ما عرفته آنفاً.

(٣) لأن الضمير في قوله عليه‌السلام « وهو طاهر » الوارد في صحيحة زرارة راجع إلى السطح أو المكان ، وقد دلّ على طهارتهما باشراق الشمس عليهما وتجفيفهما ومقتضى إطلاقه عدم اختصاص الطهارة بجانب منهما دون جانب ، وبذلك يحكم على طهارة السطح أو المكان بتمامهما إذا جفا بالشمس.

(٤) ومنشأ الإشكال في المقام دعوى أن إطلاق الصحيحة ينصرف إلى خصوص السطح الذي تشرق الشمس عليه ، وكذا أجزاؤه الداخلية غير القابلة لأن تصيبها وأما الجانب الآخر القابل لاشراق الشمس عليه في نفسه من غير أن يكون تابعاً لشي‌ء آخر فلا يشمله إطلاقها. إلاّ أن دعوى الانصراف مما لا شاهد له ، وإطلاق الصحيحة يقتضي طهارة السطح أو المكان بأوّله وآخره وظاهره وباطنه.

وبما ذكرناه يتضح أن الماتن لماذا خص الاستشكال في طهارة الجانب الآخر بالجدار ولم يستشكل في طهارة الجانب الآخر في الحصير ، وتوضيح الفارق بينهما : أن الحكم بالطهارة في الطرف الآخر في الجدار على تقدير نجاسته وجفافه بيبوسة الطرف الذي أشرقت عليه الشمس إنما هو بإطلاق الصحيحة المتقدِّمة ، ومن ثمة استشكل في ذلك بدعوى الانصراف إلى الأجزاء غير القابلة لاشراق الشمس عليها في نفسها ، وأما الحكم بطهارة الجانب الآخر في الحصير فهو مستند إلى الروايتين‌

١٤٦

الرابع : الاستحالة (١).

______________________________________________________

المتقدِّمتين ، نظراً إلى أن مفروض سؤالهما وصول النجاسة إلى جميع أجزاء البارية وجوانبها ، كما أن مقتضى جوابه عليه‌السلام طهارة جميع تلك الأجزاء والجوانب بإشراق الشمس على بعضها ، فالاستدلال على طهارة الجانب الآخر في الحصير ليس هو بالإطلاق ليستشكل عليه بدعوى الانصراف.

نعم ، هذا كله إنما هو فيما إذا قلنا بطهارة البواري بالشمس ، ولكنّا منعنا عن دلالة الأخبار على طهارتها وقلنا إن مدلولها جواز الصلاة فيها على تقدير يبوستها وهو لا يقتضي الطهارة فليلاحظ.

مطهِّريّة الاستحالة‌

(١) عدّوا الاستحالة من المطهرات وعنوا بها تبدل جسم بجسم آخر مباين للأوّل في صورتهما النوعية عرفاً وإن لم تكن بينهما مغايرة عقلاً ، وتوضيحه :

أن التبدل قد يفرض في الأوصاف الشخصية أو الصنفية مع بقاء الحقيقة النوعية بحالها وذلك كتبدل القطن ثوباً أو الثوب قطناً ، فان التبدل حينئذ في الأوصاف مع بقاء القطن على حقيقته ، لوضوح أن القطن لا يخرج عن حقيقته وكونه قطناً بجعله ثوباً أو الثوب بجعله قطناً ، بل هو هو حقيقة وإنما تغيرت حالاته بالتبدل من القوة إلى الضعف أو من الشدة إلى الرخاء أو العكس ، لتماسك أجزائه حال كونه ثوباً ، وتفللها وعدم تماسكها عند كونه قطناً ، وهذه التبدلات خارجة عن الاستحالة المعدة من المطهرات. ومنها تبدل الحنطة دقيقاً أو خبزاً لأن حقيقة الحنطة باقية بحالها في كلتا الصورتين ، وإنما التبدل في صفاتها من القوة والتماسك وعدم كونها مطبوخة ، إلى غيرها من الصِّفات ، والجامع هو التبدّل في الأوصاف الشخصية أو الصنفية.

وقد يفرض التبدل في الصورة النوعية كما إذا تبدلت الصورة بصورة نوعية أُخرى مغايرة للأُولى عرفاً ، وهذه الصورة هي المراد بالاستحالة في كلماتهم ، بلا فرق في ذلك بين أن تكون الصورتان متغايرتين بالنظر العقلي أيضاً ، كما في تبدل الجماد أو النبات‌

١٤٧

حيواناً أو تبدل الحيوان جماداً ، كالكلب الواقع في المملحة إذا صار ملحاً أو الميتة أكلها حيوان وصارت نطفة وصارت النطفة بعد تحولاتها حيواناً مثلاً ، وبين ما إذا لم تكن بينهما مغايرة عقلاً وإن كانتا متغايرتين عرفاً ، وذلك كالخمر إذا تبدلت بالخل كما يأتي بيانه في التكلم على الانقلاب إن شاء الله. وحيث إن الأحكام الشرعية غير مبتنية على الإنظار العقلية والفلسفية ، كان الحكم بالطهارة في موارد الاستحالة منوطاً بالتبدل لدى العرف وإن لم يكن تبدل في الصورة النوعية عقلاً.

ثم إن الدليل على مطهرية الاستحالة هو أن بالاستحالة يتحقق موضوع جديد غير الموضوع المحكوم بنجاسته ، لأنه انعدم وزال والمستحال إليه موضوع آخر ، فلا بد من ملاحظة أن ذلك الموضوع المستحال إليه هل ثبتت طهارته بدليل اجتهادي أو لم تثبت طهارته كذلك؟ فعلى الأول لا مناص من الحكم بطهارته بعين ذلك الدليل ، كما إذا استحال شاة أو إنساناً أو جماداً أو غير ذلك من الموضوعات الثابتة طهارتها بالدليل. كما أنه على الثاني يحكم بطهارة المستحال إليه أيضاً لقاعدة الطهارة ، وذلك لفرض أنه مشكوك الحكم ولم تثبت نجاسته ولا طهارته بدليل. ونجاسته قبل الاستحالة قد ارتفعت بارتفاع موضوعها ولا معنى لبقاء الحكم عند انعدام موضوعه بحيث لو قلنا بنجاسته كما إذا كان المستحال إليه من الأعيان النجسة فهي حكم جديد غير النجاسة الثابتة عليه قبل استحالته ، وربما تختلف آثارهما كما إذا استحال الماء المتنجِّس بولاً لما لا يؤكل لحمه ، إذ النجاسة في الماء المتنجِّس ترتفع بالغسل مرة. وأما بول ما لا يؤكل لحمه أو الإنسان على الخلاف فلا تزول نجاسته إلاّ بغسلة مرتين إما مطلقاً أو في خصوص الثوب والجسد.

فالمتحصل : أن النجاسة في موارد الاستحالة ترتفع بانعدام موضوعها ، وأن المستحال إليه موضوع آخر لا ندري بطهارته ونجاسته فلا مناص من الحكم بطهارته لقاعدة الطهارة.

ومما ذكرناه اتضح أن عد الاستحالة من المطهرات لا يخلو عن تسامح ظاهر ، حيث إن الاستحالة موجبة لانعدام موضوع النجس أو المتنجِّس عرفاً لا أنها موجبة لطهارته مع بقاء الموضوع بحاله ، ولعل نظرهم ( قدس الله أسرارهم ) إلى أن الطهارة‌

١٤٨

وهي تبدّل حقيقة الشي‌ء وصورته النوعية إلى صورة أُخرى ، فإنّها تطهّر النّجس (١) ، بل المتنجِّس كالعذرة تصير تراباً ، والخشبة المتنجِّسة إذا صارت رماداً ، والبول أو الماء المتنجِّس بخاراً ، والكلب ملحاً ، وهكذا كالنطفة تصير حيواناً ، والطعام النجس جزءاً من الحيوان (٢) ،

______________________________________________________

ثابتة مع الاستحالة لا أنها رافعة لها (١).

(١) لما عرفت من أن المستحال إليه إذا كان من الأشياء التي ثبتت طهارتها بشي‌ء من الأدلّة الاجتهادية حكم بطهارة العين المستحيلة بعين ذلك الدليل ، لأنه موضوع جديد وهو من جملة الأفراد التي قامت الأدلّة على طهارته ، والموضوع السابق المحكوم بالنجاسة قد ارتفع بالاستحالة. وإذا كان المستحال إليه مما يشك في طهارته ونجاسته في الشريعة المقدسة ولم يقم دليل على طهارته أيضاً حكم بطهارته لقاعدة الطهارة ، وتوضيحه :

أنّ النجاسة في الأعيان النجسة إنما ترتبت على الصور النوعية وعناوينها الخاصّة فالدم مثلاً بعنوان أنه دم نجس ، كما أن العذرة بعنوانها محكومة بالنجاسة ، ومع تبدل الصورة النوعية وزوال العناوين الخاصة ترتفع نجاستها لانعدام موضوعها ، ولم تترتّب النجاسة في الأعيان النجسة على مادة مشتركة بين المستحال منه والمستحال إليه ، أو على عنوان الجسم مثلاً ليدعى بقاء نجاستها بعد استحالتها وتبدلها بصورة نوعية اخرى لبقاء موضوعها ، هذا كله في الأعيان النجسة.

(٢) لما قدّمناه في استحالة الأعيان النجسة ، هذا ولكن قد يقال كما نقله شيخنا الأنصاري قدس‌سره بالفرق بين استحالة نجس العين والمتنجِّس ، بالحكم بعدم كونها مطهرة في المتنجسات (٢) وأظن أن أول من أبداه هو الفاضل الهندي (٣) نظراً إلى أن الاستحالة في الأعيان النجسة موجبة لانعدام موضوع الحكم كما مر ، وهذا بخلاف‌

__________________

(١) أي للنجاسة.

(٢) كتاب الطهارة : ٣٨٤ السطر ٢٨ في المطهرات ومنها : النار ما أحالته رماداً.

(٣) كشف اللثام ١ : ٤٧٠.

١٤٩

الاستحالة في المتنجِّس حيث إن النجاسة بالملاقاة لم تترتب على المتنجسات بعناوينها الخاصة من الثوب والقطن والماء وغيرها لعدم مدخلية شي‌ء من تلك العناوين في الحكم بالنجاسة بالملاقاة ، بل النجاسة فيها تترتب على عنوان غير زائل بالاستحالة وهو الجسم أو الشي‌ء كما في موثقة عمار : « ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء ... » (١) أي كل شي‌ء أصابه المتنجِّس بلا مدخلية شي‌ء من الخصوصيات الفردية أو الصنفية فيه ، ومن الواضح أن الجسمية أو الشيئية صادقتان بعد الاستحالة أيضاً ، حيث إن الرماد أو الدخان مثلاً جسم أو شي‌ء ، ومع بقاء الموضوع وعدم ارتفاعه يحكم بنجاسته حسب الأدلّة الدالّة على أن الجسم أو الشي‌ء يتنجّس بالملاقاة ، ثم إن الشي‌ء وإن كان يشمل الجواهر والأعراض إلاّ أن العرض لما لم يكن قابلاً للإصابة والملاقاة كانت الإصابة في الموثقة قرينة على اختصاص الشي‌ء بالجواهر ، وكيف كان الاستحالة غير موجبة للطهارة في المتنجسات ، هذا.

ولقد أطال شيخنا الأنصاري قدس‌سره الكلام في الجواب عن ذلك وذكر بتلخيص وتوضيح منّا : أن النجاسة لم يعلم كونها في المتنجسات محمولة على الصورة الجنسية والجسم ، وإن اشتهر في كلماتهم أن كل جسم لاقى نجساً مع رطوبة أحدهما ينجس ، إلاّ أن قولهم هذا ليس مدلولاً لدليل من آية أو رواية وإنما هو قاعدة مستنبطة من الأدلّة الخاصة الواردة في الموارد المعينة من الثوب والبدن والماء ونحوها فهي تشير إلى تلك العناوين المشخصة ويؤول معناها إلى أن الماء إذا لاقى نجساً ينجس ، والثوب إذا لاقى ... وهكذا. فاذن للصور والعناوين الخاصة دخالة في الحكم بالنجاسة وإذا زالت بسبب الاستحالة زال عنها حكمها كما هو الحال في الأعيان النجسة كما مرّ ، هذا.

إلاّ أن ما أفاده قدس‌سره لا يفي بدفع الشبهة ، وذلك لما عرفت من أن النجاسة والانفعال إنما رتبا على عنوان الجسم أو الشي‌ء كما ورد في موثقة عمار ، فقولهم : إن كل جسم لاقى نجساً مع رطوبة أحدهما ينجس ، هو الصحيح وهو مضمون الموثقة ، ولم‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٢ / أبواب النجاسات ب ٤ ح ١.

١٥٠

تترتّب النجاسة على العناوين الخاصّة لبداهة عدم مدخلية الخصوصيات الصنفية من القطن والثوب ونحوهما في الحكم بالانفعال بالملاقاة. وعلى ذلك لا مانع من التمسك بإطلاق الأدلّة الاجتهادية الدالّة على نجاسة الأشياء الملاقية مع النجس برطوبة ، حيث إن مقتضى إطلاقها أن الشي‌ء إذا تنجس تبقى نجاسته إلى الأبد ما لم يطرأ عليه مزيل شرعاً. أو لو ناقشنا في إطلاقها لأمكن التمسّك باستصحاب النجاسة الثابتة عليه قبل استحالته كما سيتضح.

فالصحيح في الجواب أن يقال : إن التمسّك بالإطلاق أو الاستصحاب إنما يتم إذا كان التبدّل في الخصوصيات الشخصية أو الصنفية ، كما إذا بدّلنا الثوب قطناً أو القطن ثوباً أو صارت الحنطة طحيناً أو خبزاً ونحو ذلك ، فإن النجاسة العارضة على تلك الأشياء بملاقاة النجس لا ترتفع عنها بالتبدل في تلك الأوصاف ، فإن الثوب هو القطن حقيقة وإنما يختلفان في وصف التفرق والاتصال ، كما أن الحنطة هو الخبز واقعاً وإنما يفترقان في الطبخ وعدمه ، والنجاسة كما ذكرنا إنما ترتبت على عنوان الشي‌ء أو الجسم وهما صادقان بعد التبدل أيضاً ، بل الشي‌ء قبله هو الشي‌ء بعده بعينه عقلاً وعرفاً ، والتبدل في الأوصاف والأحوال غير مغير للحقيقة بوجه ، ومعه لا مانع من التمسك بالإطلاق أو الاستصحاب لإحراز بقاء الموضوع واتحاد القضية المتيقنة والمشكوك فيها بناء على جريان الاستصحاب في الأحكام إلاّ أن التغيّر في تلك الأوصاف ليس من الاستحالة المبحوث عنها في المقام.

وأما إذا كان التبدل في الأوصاف النوعية كتبدل الثوب المتنجِّس تراباً أو الخشب المتنجِّس رماداً فلا يمكن التمسك حينئذ بالإطلاق أو الاستصحاب لمغايرة أحدهما الآخر ، وارتفاع موضوع الحكم بالنجاسة إما عقلاً وعرفاً وإما عرفاً فحسب. والنجاسة بالملاقاة وإن كانت مترتبة على عنوان الجسم أو الشي‌ء إلاّ أن المتبدل به شي‌ء والمتبدل منه الذي حكم بنجاسته بالملاقاة شي‌ء آخر ، والذي لاقاه النجس هو الشي‌ء السابق دون الجديد ولا يكاد يسري حكم فرد إلى فرد آخر مغاير له.

فالمتحصل : أن بالتبدل في العناوين المنوعة يرتفع الشي‌ء السابق ويزول ويتحقق‌

١٥١

شي‌ء آخر جديد ، فلا مجال معه للتمسك بالإطلاق أو الاستصحاب. فالاستحالة في المتنجسات كالاستحالة في الأعيان النجسة موجبة لانعدام الموضوع السابق وإيجاد موضوع جديد.

ويؤيد ذلك ما جرت عليه سيرة المتدينين من عدم اجتنابهم عن الحيوانات الطاهرة إذا أكلت أو شربت شيئاً متنجِّساً ، فالدجاجة التي أكلت طعاماً قذراً لا يجتنب عن بيضها كما لا يجتنبون عن روث الحيوان المحلّل أو بوله أو خرئه أو لحمه إذا أكل أو شرب شيئاً متنجِّساً ، وليس هذا إلاّ من جهة طهارة المتنجِّس بالاستحالة ، هذا.

وقد يستدل على طهارة المتنجسات بالاستحالة بصحيحة حسن بن محبوب قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ثم يجصص به المسجد أيسجد عليه؟ فكتب إليَّ بخطه : إن الماء والنار قد طهّراه » (١) لأنها تدل على أن مادة الجص وإن كانت تنجست بالعذرة والعظام النجستين للإيقاد بهما عليها ولا سيما مع ما في العظام من الأجزاء الدهنية ، إلاّ أن استحالتها بالنار وصيرورتها جصاً موجبة لطهارتها.

ويمكن المناقشة في هذا الاستدلال بوجوه : الأوّل : أن الرواية إنما تدل على طهارة العذرة والعظام النجستين بالاستحالة ، وليست فيها أية دلالة على كفاية الاستحالة في تطهير المتنجسات ، فان المطهر للجص هو الماء على ما قدّمنا (٢) تفسيرها في التكلم على اعتبار الطهارة في موضع السجود ، وما ذكرناه في تفسير الرواية هناك إن تمّ فهو وإلاّ فالرواية مجملة. وما قيل من أن النار مطهرة بإزالة العين وإعدامها والماء أي المطر مطهر باصابته ، كغيره مما ذكروه في تفسيرها تأويلات لا ظهور للرواية في شي‌ء منها.

الثاني : أن صريح الرواية إسناد الطهارة إلى كل من الماء والنار ، بأن يكون لكل‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٥٢٧ / أبواب النجاسات ب ٨١ ح ١ ، ٥ : ٣٥٨ / أبواب ما يسجد عليه ب ١٠ ح ١.

(٢) في شرح العروة ٣ : ٢٤٣.

١٥٢

وأمّا تبدّل الأوصاف وتفرّق الأجزاء ، فلا اعتبار بهما كالحنطة إذا صارت طحيناً أو عجيناً أو خبزاً ، والحليب إذا صار جبناً (١) وفي صدق الاستحالة على صيرورة الخشب فحماً تأمل (*) وكذا في صيرورة الطين خزفاً أو آجراً (٢)

______________________________________________________

منهما دخل في حصولها ، فما معنى إسناد الطهارة إلى خصوص النار ودعوى أنها مطهّرة بالاستحالة.

الثالث : ما تقدمت الإشارة إليه ويأتي تفصيله من أن طبخ الجص أو التراب أو الحنطة أو غيرها إنما هو من التبدل في الحالات والأوصاف الشخصية أو الصنفية وليس من الاستحالة بوجه ، فالاستدلال بالصحيحة ساقط والصحيح في وجه كون الاستحالة مطهرة في المتنجسات ما ذكرناه.

(١) لما تقدّم من أنّ التبدّل في الأوصاف كالتفرق والاجتماع لا ربط له بالاستحالة التي هي التبدّل في الصور النوعية بوجه.

(٢) بعد ما تقدّم من أن الاستحالة في المتنجسات كالاستحالة في الأعيان النجسة مطهرة ، وقع الكلام في مثل الخشب المتنجِّس إذا صار فحماً أو الطين خزفاً أو آجراً ، وأن مثله هل هو من التبدل في الصورة النوعية بصورة نوعية اخرى كما اختاره جماعة في مثل الطين إذا صار خزفاً أو آجراً ، ومن هنا قالوا بطهارته بذلك وعليه رتبوا المنع عن التيمّم أو السجدة عليهما نظراً إلى خروجهما بالطبخ عن عنوان الأرض والتراب أو أن الطبخ لا يوجب التبدل بحسب الحقيقة؟

الثاني هو الصحيح ، لأن الخشب والفحم أو الطين والآجر من حقيقة واحدة ، ولا يرى العرف أي مغايرة بين الخزف والآجر وإنما يراهما طيناً مطبوخاً وكذلك الحال في الخشب والفحم ، فالاختلاف بينهما إنما هو في الأوصاف كتماسك الأجزاء وتفرّقها وحالهما حال اللحم والكباب وحال الحنطة والخبز. فمع بقاء الصورة النوعية بحالها لا يمكن الحكم بطهارة الطين والخشب بصيرورتهما خزفاً أو فحماً.

__________________

(*) الظاهر عدم تحقق الاستحالة فيه وفيما بعده.

١٥٣

ومع الشك في الاستحالة لا يحكم بالطهارة (*) (١).

______________________________________________________

(١) الكلام في ذلك يقع في مقامين :

أحدهما : أنه إذا شك في الاستحالة في الأعيان النجسة.

وثانيهما : ما إذا شك في الاستحالة في المتنجسات.

أمّا المقام الأوّل : فحاصل الكلام فيه أن الشبهة قد تكون موضوعية ويكون الشك في الاستحالة مسبباً عن اشتباه الأُمور الخارجية ، وقد تكون الشبهة مفهومية ويكون الشك في الاستحالة ناشئاً عن الشك في سعة المفهوم وضيقه. والأوّل كما إذا وقع كلب في المملحة وشككنا بعد يوم في أنه هل استحال ملحاً أم لم يستحل. والثاني كما إذا صارت العذرة فحماً وشككنا بذلك في استحالتها ، نظراً إلى الشك في أن لفظة العذرة هل وضعت على العذرة غير المحروقة فاذا أُحرقت خرجت عن كونها عذرة ، أو أنها وضعت على الأعم من المحروقة وغيرها فلا يكون الإحراق سبباً لاستحالتها فالشك في سعة المفهوم وضيقه.

أما إذا كانت الشبهة موضوعية فلا مانع من التمسك باستصحاب كون العين النجسة باقية بحالها وعدم صيرورتها ملحاً أو تراباً ، بأن يشار إلى الموضوع الخارجي ويقال إنه كان كلباً أو عذرة سابقاً والأصل أنه الآن كما كان ، لتعلق الشك حينئذ بعين ما تعلق به اليقين واتحاد القضيتين المتيقنة والمشكوك فيها ، وبهذا يترتب عليه جميع الآثار المترتبة على النجس ، هذا.

وقد يقال بعدم جريان الاستصحاب حينئذ ، نظراً إلى أن مع الشك في الاستحالة لا يمكن إحراز بقاء الموضوع في الاستصحاب لعدم العلم بأن الموجود الخارجي كلب أو ملح ، إذ لو كنّا عالمين بكونه كلباً أو عذرة لم يشك في نجاستهما ، بل قلنا بنجاستهما بعين الدليل الاجتهادي الذي فرضناه في المسألة ، ومع الشك في الموضوع لا يبقى للاستصحاب مجال وتنتهي النوبة إلى قاعدة الطهارة لا محالة.

__________________

(*) هذا فيما إذا كانت الشبهة موضوعية ، وأما إذا كانت مفهومية فالأظهر هو الحكم بالطهارة.

١٥٤

وهذه الشبهة من الضعف بمكان ، وذلك لأن المعتبر في الاستصحاب إنما هو اتحاد القضيتين : المتيقنة والمشكوك فيها ، بمعنى كون الشك متعلقاً بعين ما تعلق به اليقين ولا يعتبر الزائد على ذلك في الاستصحاب.

ثم ان الموضوع في القضيتين يختلف باختلاف الموارد ، فقد يكون الموضوع فيهما هو نفس الماهية الكلية أو الشخصية المجردة عن الوجود والعدم بحيث قد تتصف بهذا وقد تتصف بذاك ، كما إذا شككنا في بقاء زيد وعدمه ، حيث إن متعلق اليقين حينئذ هو الماهية الشخصية في الزمان السابق ، ونشك في نفس تلك الماهية في الزمان اللاّحق ، فالقضيتان متحدتان ولا يمكن أن يكون الموضوع في مثله هو الوجود أو العدم ، لأنهما أمران متباينان ومتقابلان تقابل السلب والإيجاب ، فلا يتصف أحدهما بالآخر ليشك في أن الوجود مثلاً هل صار عدماً في الزمان اللاّحق أم لم يصر ، وإنما القابل لذلك هو الماهية كما مرّ ، لإمكان أن تكون الماهية المتصفة بالوجود في الآن السابق متصفة بالعدم في الآن اللاّحق وليس كذلك الوجود والعدم. على أن لازم ذلك عدم جريان الاستصحاب في وجود الشي‌ء أو عدمه إذا شك في بقائه على حالته السابقة ، لعدم إحراز الوجود أو العدم في زمان الشك فيهما.

وقد يكون الموضوع في القضيتين هو الوجود ، كما إذا علمنا بقيام زيد أو طهارة ماء ثم شككنا في بقائه على تلك الحالة وعدمه ، لوضوح أن الموضوع في مثله هو زيد الموجود وبما أنّا كنّا على يقين من قيامه ثم شككنا فيه بعينه فالقضيتان متحدتان.

وثالثة يكون الموضوع في القضيتين هو الهيولى والمادة المشتركة بين الصور النوعية ، كما إذا كنّا على يقين من اتصاف جسم بصورة وشككنا بعد ذلك في أنه هل خلعت تلك الصورة وتلبست بصورة أُخرى أم لم تخلع ، فانّ الموضوع في القضيّتين هو المادة المشتركة فيشار إلى جسم معيّن ويقال : إنه كان متصفاً بصورة نوعية كذا والأصل أنه الآن كما كان. ومقامنا هذا من هذا القبيل فنشير إلى ذلك الموجود الخارجي ونقول إنه كان كلباً سابقاً والآن كما كان ، للعلم بأن المادة المشتركة كانت متصفة بالصورة الكلبية فاذا شك في بقاء هذا الاتصاف يجري استصحاب كونها متصفة بالصورة الكلبية.

١٥٥

ولا نريد أن نقول أنه كلب بالفعل ليقال إنه لو كان كلباً فعلاً لم نحتج إلى الاستصحاب ، بل حكمنا بنجاسته حسب الدليل الاجتهادي ، كما لا نريد أنه ملح كذلك ليقال : إن مع العلم بالاستحالة نعلم بطهارته فلا حاجة أيضاً إلى الأصل ، بل نريد أن نقول إنه كان كلباً سابقاً ولا منافاة بين العلم بالكلبية السابقة وبين الشك في الكلبية فعلاً. بل دعوى العلم بكونه كلباً سابقاً صحيحة حتى مع العلم بالاستحالة الفعلية نظير قوله عزّ من قائل ( أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ) (١) حيث أُطلقت النطفة على الإنسان المستحيل منها فكأنه قال للإنسان : إنك كنت نطفة مع العلم باستحالتها إنساناً. نعم الأثر إنما يترتب على كونه كلباً سابقاً فيما إذا شككنا في الاستحالة دون ما إذا علمنا أن المادة المشتركة قد خلعت الصورة الكلبية وتلبست بصورة نوعية اخرى ، هذا كله في الشبهات الموضوعية.

وأمّا الشبهات المفهومية فلا سبيل فيها إلى الاستصحاب ، لا في ذات الموضوع ولا في الموضوع بوصف كونه موضوعاً ولا في حكمه. مضافاً إلى ما نبهنا عليه غير مرّة من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية الإلهيّة.

أمّا عدم جريانه في ذات الموضوع الخارجي فلأنه وإن تعلق به اليقين إلاّ أنه ليس متعلِّقاً للشك بوجه للعلم بزوال وصف من أوصافه واتصافه بوصف جديد ، حيث لم تكن العذرة مثلاً محروقة فاحترقت ، ومع عدم تعلق الشك به لا يجري فيه الاستصحاب ، لتقوّمه باليقين السابق والشك اللاّحق ولا شك في الموضوع كما عرفت.

وأما عدم جريانه في الموضوع بوصف كونه موضوعاً ، فلأنه عبارة أُخرى عن استصحاب الحكم ، فان الموضوع بوصف كونه موضوعاً لا معنى له سوى ترتب الحكم عليه ، ويتّضح بعد سطر عدم جريان الاستصحاب في الحكم.

وأما عدم جريانه في نفس الحكم فلأنا وإن كنّا عالمين بترتب النجاسة على العذرة سابقاً وقبل إحراقها ونشك في بقائه ، إلاّ أن القضية المتيقنة والمشكوك فيها يعتبر إحراز اتحادهما ، ومع الشك في بقاء الموضوع لا مجال لإحراز الاتحاد ، لاحتمال أن‌

__________________

(١) القيامة ٧٥ : ٣٧.

١٥٦

يكون ما علمنا بنجاسته زائلاً حقيقة ، وأن هذا الموجود الخارجي موضوع جديد لم تتعلّق النجاسة به وإنما ترتبت على العذرة غير المحروقة ، ومع هذا الاحتمال يكون المورد شبهة مصداقية للاستصحاب فلا يمكن التمسك بإطلاق أدلته أو عمومها. وهذا مطلب سيال يأتي في جميع الشبهات المفهومية كما ذكرناه في غير واحد من المباحث منها مبحث المشتقّات حيث قلنا : إن في الشك في مثل مفهوم العالم وإنه يعم ما إذا انقضى عنه التلبس أيضاً لا يجري الاستصحاب في الموضوع لعدم تعلق الشك به ، وإنما نعلم باتصافه بالعلم سابقاً وزواله عنه فعلاً ، ولا يجري في حكمه لأجل الشك في بقاء موضوعه ، ولا يجري في الموضوع بوصف كونه موضوعاً ، لأنه راجع إلى استصحاب الحكم.

نعم ، الشك في الشبهات المفهومية التي منها المقام يرجع إلى التسمية والموضوع له فان الشك في سعته وضيقه ومآله إلى أن كلمة العذرة مثلاً هل وضعت لمطلق العذرة أو للعذرة غير المحروقة ، وكذا الحال في غير المقام ولا أصل يعين السعة أو الضيق ، ومعه لا بدّ في موارد الشك في الاستحالة من الرجوع إلى قاعدة الطهارة وبها يحكم بطهارة الموضوع المشكوك استحالته ، هذا كله في الأعيان.

وأمّا المقام الثاني : وهو الشك في الاستحالة في المتنجسات : فان كانت الشبهة موضوعية كما إذا شككنا في استحالة الخشب المتنجِّس رماداً وعدمها فلا مانع من استصحاب بقاء المادة المشتركة بين الخشب والرماد على حالتها السابقة أعني اتصافها بالجسمية السابقة ، فنشير إلى الموجود الخارجي ونقول إنه كان متصفاً بالجسمية السابقة ونشك في بقائه على ذاك الاتصاف وتبدل الجسم السابق بجسم آخر فنستصحب اتصافه بالجسمية السابقة وعدم زوال الاتصاف به ، وبذلك يحكم بنجاسته.

وهل تعقل الشبهة المفهومية في الاستحالة في المتنجِّسات؟

التحقيق عدم تصوّر الشبهة المفهومية فيها ، وذلك لأن النجاسة في الأعيان النجسة كانت مترتبة على العناوين الخاصة من الدم والعذرة وغيرهما ، ولأجله كنّا قد نتردد‌

١٥٧

في سعة بعض تلك المفاهيم وضيقها ، ونشك في أن العذرة اسم لغير المحروقة أو للأعم منها ومن غيرها وهو المعبّر عنه بالشبهات المفهومية.

وأمّا المتنجِّسات فقد تقدّم أنّ النجاسة بالملاقاة غير مترتبة على العناوين الخاصة من الصوف والقطن وغيرهما ليمكن الشك في سعة بعض المفاهيم وضيقه ، بل إنما ترتبت على عنوان الجسم والشي‌ء ، ولا نشك في سعة مفهومهما ، لوضوح أنهما صادقان على المتنجسات قبل تبدل شي‌ء من أوصافها الشخصية أو النوعية وبعده لأنها جسم أو شي‌ء على كل حال ، فلا يتحقق مورد يشك في سعة المفهوم وضيقة في المتنجسات فاذا شككنا في متنجس أنه استحال أم لم يستحل فهو شبهة موضوعية لا مانع من استصحاب عدم استحالته حينئذ.

ومن ذلك الشك في استحالة الخشب فحماً أو التراب آجراً أو خزفاً ، فإنّه مع الشك في تحقق الاستحالة مقتضى الاستصحاب هو الحكم ببقاء الموجود الخارجي على الجسمية السابقة وعدم تبدّله بجسم آخر ، فلا بدّ من الحكم بالنجاسة في تلك الأُمور. نعم الشك في الاستحالة بالإضافة إلى جواز السجدة أو التيمم على التراب من الشبهات المفهومية لا محالة ، لأن جواز السجدة مترتب على عنوان الأرض ونباتها وجواز التيمم مترتب على عنوان التراب أو الأرض ، ومعنى الشك في الاستحالة هو الشك في سعة مفهوم الأرض والتراب وأنهما يشملان ما طبخ منهما وصار آجراً أو خزفاً ، ومع الشك في المفهوم لا يجري فيه الاستصحاب كما عرفت ، ولا بدّ في جواز الأمرين المذكورين من إحراز موضوعيهما.

تنبيه

ربّما عدّوا النار من المطهرات في قبال الاستحالة. وفيه : أنّ النار لم يقم على مطهّريّتها دليل في نفسها ، والأخبار المستدل بها على مطهِّريتها قد قدّمنا الجواب عنها في التكلّم على نجاسة الدم (١) نعم هي سبب للاستحالة وهي المطهرة حقيقة. بل قد‌

__________________

(١) في المسألة [١٩٤].

١٥٨

الخامس : الانقلاب كالخمر ينقلب خلاًّ ، فإنّه يطهر (١) سواء كان بنفسه أو بعلاج كإلقاء شي‌ء من الخلّ أو الملح فيه‌

______________________________________________________

عرفت أن عد الاستحالة من المطهرات أيضاً مبتن على المسامحة ، فيكون إطلاق المطهر على النار مسامحة في مسامحة ، هذا.

وفي بعض المؤلفات : أنّ نجاسة أي نجس إنما هي جائية من قبل المكروبات المتكونة فيه ، فاذا استعرض على النار قتلت الجراثيم والمكروبات بسببها وبذلك تكون النار مطهرة على وجه الإطلاق. ولا يخفى أن التكلم في أمر المكروب أجنبي عما هو وظيفة الفقيه ، لأنه إنما يتعبد بالأدلة والأخبار الواصلتين إليه من قبل الله سبحانه بلسان سفرائه وأوليائه الكرام ، وليس له أن يتجاوز عما وصله ، ولا يوجد فيما بأيدينا من الأخبار ولا غيرها ما يقتضي تبعية النجاسة لما في النجس من المكروب حتى تزول بهلاكه وإحراقه ، فلا بد من مراجعة الأدلّة ليرى أنها هل تدلّ على مطهرية النار أو لا ، وقد عرفت عدم دلالة شي‌ء من الأدلّة الشرعية على ذلك.

مطهِّريّة الانقلاب‌

(١) التحقيق أن الانقلاب من أحد أفراد الاستحالة وصغرياتها ، وإنما أفرده بعضهم بالذِّكر وجعله قسماً من أقسام المطهرات لبعض الخصوصيات الموجودة فيه.

أمّا أنّ الانقلاب هو الاستحالة حقيقة ، فلأن تبدل الخمر خلاًّ وإن لم يكن من التبدل في الصورة النوعية لدى العقل لوحدة حقيقتهما ، بل التبدل تبدل في الأوصاف كالاسكار وعدمه ، إلاّ أنه من التبدل في الصورة النوعية عرفاً ، إذ لا شبهة في تغاير حقيقة الخلّ والخمر لدى العُرف. على أن الحرمة والنجاسة قائمتان في الأعيان النجسة بعناوينها الخاصة من البول والدم ونحوهما ، فاذا زال عنوانها زالت حرمتها ونجاستها وحيث إن الحرمة والنجاسة في الخمر مترتبتان على عنواني الخمر والمسكر الذي هو المقوم للحقيقة الخمرية فبتبدلها خلاًّ يرتفع عنها هذان العنوانان فيحكم بطهارة الخلّ وحلِّيّته.

١٥٩

وأمّا الخصوصية الموجبة لافراد الانقلاب بالذكر فهي جهتان :

الاولى : أن الاستحالة وإن كانت من أقسام المطهرات بالمعنى المتقدم في محله ، إلاّ أنها في تبدل الخمر خلاًّ لا تقتضي الحكم بطهارتها وحليتها ، وذلك لأن الخمر من المائعات وهي تحتاج إلى إناء لا محالة ، وهذا الإناء قد تنجس بالخمر قبل صيرورتها خلاًّ ، فاذا تبدلت خلاًّ فلا محالة يتنجّس بانائها ثانياً ، فإن الاستحالة إنما هي في الخمر لا في الإناء. نعم ، الاستحالة تقتضي ارتفاع نجاسة الخمر وحرمتها الذاتيتين ، إلاّ أنها تبتلي بالنجاسة والحرمة العرضيتين ، وفي النتيجة لا يترتب على استحالة الخمر خلاًّ شي‌ء من الحلية والطهارة الفعليتين ، ومن ثمة نحتاج في الحكم بهما إلى الأخبار الواردة في المقام وهي كافية في إثباتهما ، وذلك لأنها دلت بالدلالة المطابقية على طهارتها وحليتها الفعليتين كما دلت بالدلالة الالتزامية على طهارة إنائها بالتبع ، لعدم إمكان الطهارة والحلية الفعليتين مع بقاء الإناء على نجاسته.

الثانية : أن الاستحالة تقتضي الطهارة والحلية مطلقاً سواء حصلت بنفسها أم بالعلاج ، مع أن انقلاب الخمر خلاًّ إذا كان بالعلاج كما إذا القي في الخمر مقدار ملح من دون أن يندك فيها وتزول عينه لا يوجب الحكم بحليتها وطهارتها ، وذلك لأن الاستحالة إنما هي في الخمر لا فيما عولجت به من ملح أو غيره ، وحيث إن ما به العلاج لاقته الخمر ونجّسته قبل استحالتها فهو يوجب تنجسها بعد استحالتها خلاًّ فلا تحصل لها الطهارة والحلية بالانقلاب ، وهذه أيضاً جهة تحوجنا إلى التشبث بالأخبار وهي قد تكفّلت بطهارة الخمر وحلِّيتها ولو كان بعلاج ، والأخبار على طوائف ثلاث :

الاولى : المطلقات الدالّة على طهارة الخلّ المتبدل من الخمر سواء أكان ذلك بنفسها أم بالعلاج ، كصحيحة علي بن جعفر عن أخيه قال : « سألته عن الخمر يكون أوّله خمراً ثم يصير خلاًّ ، قال : إذا ذهب سكره فلا بأس ... » (١) وموثقة عبيد بن زرارة‌

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٣٧٢ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣١ ح ١٠.

١٦٠