موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

[٢٩٨] مسألة ٢ : الدم الأقل إذا وصل إليه رطوبة من الخارج فصار المجموع بقدر الدرهم أو أزيد لا إشكال في عدم العفو عنه (١) وإن لم يبلغ الدرهم (٢) فان لم يتنجّس بها شي‌ء من المحل بأن لم تتعد عن محل الدم فالظاهر بقاء العفو ، وإن تعدّى عنه ولكن لم يكن المجموع بقدر الدرهم ففيه إشكال والأحوط عدم العفو (*) (٣).

______________________________________________________

(١) لأنّ أدلّة العفو إنما دلت على جواز الصلاة مع النجاسة الدموية الأقل من مقدار الدرهم ، وأما ما كانت بقدره فما زاد فهو خارج عن أدلّة العفو ومقتضى عموم مانعية النجس وجوب إزالته للصلاة.

(٢) للمسألة صورتان : إحداهما : ما إذا وصلت الرطوبة إلى المحل المتنجس من الثوب بالدم وكانت باقية معه حال الصلاة. وثانيتهما : ما إذا وصلت الرطوبة إليه إلاّ أنها ارتفعت حال الصلاة باشراق الشمس ونحوه. ولا مانع من الحكم بصحة الصلاة في كلتا الصورتين ، وذلك أما من ناحية الدم فلأنه أقل من مقدار الدرهم ولم تزد نجاسته عما كانت عليه : إذ المفروض أن الرطوبة إنما وقعت على نفس الموضع المشتمل على الدم ولم يتفش إلى غيره ، نظير ما إذا وقع دم آخر على ذلك المورد المشتمل على الدم ولم يتجاوز عنه إلى غيره حيث لا يتنجس الموضع بذلك زائداً على نجاسته السابقة. وأما من قبل الرطوبة المتنجسة فلجواز حمل النجس في الصلاة كما يأتي في محلِّه (٢) إن شاء الله ، هذا فيما إذا كانت الرطوبة باقية حال الصلاة كما في الصورة الأُولى على الفرض. وأما إذا ارتفعت باليبوسة كما في الصورة الثانية فالأمر أوضح حيث لا تبقى حينئذ سوى نجاسة الدم لارتفاع الرطوبة المتنجسة بيبوستها.

(٣) ما ذكرناه في الحاشية السابقة إنما هو إذا لم تتعد الرطوبة عن المحل المتنجس بالدم ، وأما إذا تجاوزت ولم يكن المجموع بقدر الدرهم فالصحيح وجوب إزالتها وعدم‌

__________________

(*) بل الأظهر ذلك.

(١) في ص ٤٣٦.

٤٢١

[٢٩٩] مسألة ٣ : إذا علم كون الدم أقل من الدرهم ، وشك في أنه من المستثنيات أم لا ، يبنى على العفو (١). وأمّا إذا شك في أنه بقدر‌

______________________________________________________

صحة الصلاة حينئذ ، إذ لا تشمله أدلة العفو لأنها كما مر إنما تدل على العفو عما دون الدرهم من الدم. وأما النجاسة الأُخرى غيره فلا دلالة لها على العفو عنها أبداً. ودعوى أن نجاسة الرطوبة ناشئة من الدم والفرع لا يزيد على أصله ، مندفعة بأن الأحكام الشرعية تعبدية ولا سبيل فيها للرجوع إلى القواعد الاستحسانية بوجه ، ومن المحتمل أن تكون للمتنجس بالدم خصوصية تقتضي بطلان الصلاة فيه فكيف يمكن معه مقايسته بالدم.

(١) لا يبتني حكمه بالعفو في المسألة على جواز التمسك بعموم ما دلّ على العفو عما دون الدرهم من الدم ، نظراً إلى أنه عام وقد خرج عنه دم الحيض وغيره من المستثنيات فاذا شككنا في مورد أنه من الأفراد الخارجة أو مما بقي تحت العموم فنرجع إلى العام ، بل يمكن الحكم بالعفو على القول بعدم الجواز أيضاً كما هو الصحيح وذلك لما هو الأظهر من جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية ، لأن الدم قبل أن يتحقق في الخارج كنّا عالمين من عدمه ومن عدم اتصافه بالحيض ، فاذا علمنا تبدله بالوجود وشككنا في أن اتصافه أيضاً وجد معه أم لم يوجد فنبني على عدم تحققه بالاستصحاب ، لأن الاتصاف أمر حادث مسبوق بالعدم والأصل بقاؤه بحاله ، فهو دم أقل من مقدار الدرهم بالوجدان وليس بدم الحيض مثلاً بالاستصحاب ، فبه يحرز دخوله تحت العموم ومقتضاه العفو عن كل دم أقل من مقدار الدرهم ، هذا.

ثم لو بنينا على عدم جريان الأصل في الأعدام الأزلية فقد يقال والقائل هو المحقق الهمداني قدس‌سره باستصحاب جواز الصلاة في الثوب لأنّ الصلاة فيه قبل أن يطرأ عليه الدم المردد بين كونه مما عفي عنه وما لم يعف عنه كانت جائزة يقيناً والأصل أن الثوب كما كان عليه (١).

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٥٩٦ السطر ١٥.

٤٢٢

وفيه أنه لا مجال للأصل في المقام سواء قلنا بجريان الأصل الموضوعي أم بعدمه. أما مع جريانه وهو استصحاب العدم الأزلي فلوضوح أنه لا مجال للأصل الحكمي معه لأنه حاكم عليه. وأما مع عدم جريانه فلأن جواز الصلاة في الثوب قبل أن يطرأ عليه الدم المردد إنما كان مستنداً إلى طهارته وهي قد ارتفعت لتنجس الثوب على الفرض ، ولا حالة سابقة لجواز الصلاة في الثوب المتنجس حتى نستصحبها.

والعجب منه قدس‌سره حيث لم يقتصر على ذلك وأضاف إليه أنه لو لم تكن له حالة سابقة معلومة أو منع من استصحابها مانع كما لو كان من أطراف الشبهة المحصورة وجبت إزالته لقاعدة الاشتغال.

ويندفع أن في أمثال المقام من الشبهات الموضوعية لا مجال للرجوع إلى قاعدة الاشتغال وإنما يرجع فيها إلى البراءة باعتراف منه قدس‌سره في البحث عن الصلاة في اللباس المشكوك فيه (١). والسر في ذلك أن المانعية كالمحرّمات النفسية انحلالية فتنحل إلى موانع متعدِّدة بتعدّد أفراد موضوعها ، والمانع هو ما يتقيّد المأمور به بعدمه فإذا شككنا في أنّ الصلاة هل تقيد بأن لا تقع في الدم المردّد بين كونه مما عفي عنه أو من دم الحيض ونحوه كان مقتضى البراءة عدم تقيّدها بأن لا تقع في المشكوك فيه ، ومعه لا بدّ من الحكم بصحة الصلاة فيه.

وبعبارة اخرى أن المورد قد جمع بين الشبهة الموضوعية ودوران الأمر بين الأقل والأكثر وفيه جهتان ، وذلك للعلم بتقييد الصلاة بعدة قيود عدمية كالعلم بتقييدها بأن لا تقع في البول والمني وغيرهما ونشك في أنها زائداً على ذلك هل تقيّدت بأن لا تقع في الدم المشكوك فيه ، فيرجع إلى البراءة عن الزائد كما هو الحال في غيره من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر. فالمتحصل أن المرجع في المسألة هو البراءة إذا بنينا على عدم جريان الأصل في الأعدام الأزلية نعم لو كان المشكوك فيه من أطراف العلم الإجمالي لم تجر فيه أصالة البراءة للمعارضة.

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ١٢٨ السطر ٩.

٤٢٣

الدرهم أو أقل فالأحوط عدم العفو (*) (١)

______________________________________________________

(١) وهذا لا لعموم ما دلّ على مانعية النجس في الصلاة لأنه من التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، للعلم بتخصيصه والتردد في أن المشكوك فيه هل ينطبق عليه عنوان المخصص أو لا ينطبق ، بل العفو وعدمه في مورد الكلام يبتنيان على ملاحظة أن الدم الذي تجب إزالته وهو مانع عن الصلاة مقيد بعنوان وجودي أعني كونه بمقدار الدرهم وما زاد ، أو أنه مقيد بعنوان عدمي أعني عدم كونه أقل من مقدار الدرهم. فعلى الأول يجري استصحاب عدم كون الدم بقدر الدرهم فما زاد وذلك لاستصحاب العدم الأزلي ، حيث إن الدم قبل أن يتحقق في الخارج كنّا قاطعين من عدمه وعدم اتصافه بمقدار الدرهم فما زاد فاذا علمنا بوجوده وشككنا في تحقق اتصافه معه فالأصل عدم تحقق الاتصاف ، فهو دم بالوجدان وليس بمقدار الدرهم بالاستصحاب فيدخل بذلك تحت العموم ويعفى عنه في الصلاة. وأما على الثاني فمقتضى الاستصحاب الجاري في العدم الأزلي عدم اتصافه بالقلّة ، حيث إنه قبل وجوده كنّا عالمين من عدمه وعدم اتصافه بالقلة فاذا شككنا في تحققه بعد العلم بذاته نبني على عدمه بالاستصحاب ، وبضم الوجدان إلى الأصل نحرز دخوله تحت العموم ومانعيته فتجب إزالته.

والأخبار الواردة في المقام (٢) وإن كانت مختلفة حيث يستفاد من بعضها أن المانع هو الدم بمقدار الدرهم فما زاد كما في رواية الجعفي « وإن كان أكثر من قدر الدرهم » وصحيحة ابن أبي يعفور « إلاّ أن يكون مقدار الدرهم ». ويستفاد من بعضها الآخر أن المانع هو الدم الذي لا يكون أقل من قدر الدرهم كما في حسنة محمد بن مسلم « وما كان أقل من ذلك فليس بشي‌ء » ورواية الجعفي في قوله : « إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة » فإنّ ظاهرهما أنّ المانع ما لا يكون أقل من قدر الدرهم إلاّ أن‌

__________________

(١) بل هو الأظهر.

(٢) المتقدِّمة في ص ٤٠٣.

٤٢٤

إلاّ أن يكون مسبوقاً بالأقلية وشك في زيادته (١).

[٣٠٠] مسألة ٤ : المتنجس بالدم ليس كالدم في العفو عنه إذا كان أقل من الدرهم (٢)

______________________________________________________

مقتضى كلماتهم هو الأخير حيث ذكروا : أن ما دون الدرهم يعفى عنه ... فاستثنوا الدم الأقل من قدر الدرهم عن مانعية النجس ، وعليه فيكون المانع هو الدم المقيد بأن لا يكون أقل من ذلك وهو وصف عدمي ، وهذا غير بعيد ، بل يمكن استظهاره من الأخبار أيضاً نظراً إلى أنها وردت تخصيصاً لعموم مانعية النجاسة أو تقييداً لإطلاقها بالدم الأقل من مقدار الدرهم ، فإذا كان الخارج هو الدم الأقل فلا محالة يكون المانع هو ما لا يكون أقل من ذلك المقدار ، والاستظهار موكول إلى نظر الفقيه فكلما استظهر أن الدم المانع عن الصلاة مقيد بقيد عدمي فلا محالة يمكن إحراز ذلك القيد باستصحاب العدم الأزلي ويحكم على الدم المشكوك فيه بوجوب الإزالة وعدم العفو كما في المتن ، وإذا استظهر أنه مقيد بقيد وجودي فلا يمكن إحرازه بالاستصحاب بل هو يجري في عدمه ويحكم على الدم المشكوك فيه بالعفو وعدم وجوب إزالته. وأما إذا شك في ذلك ولم يستظهر أنه مقيد بهذا أو بذاك فلا يبقى للأصل الموضوعي مجال وتصل النوبة إلى البراءة عن تقيد الصلاة بعدم وقوعها في الدم المشكوك فيه ، وبها يثبت العفو ، وفي النتيجة لا يتحصّل فرق بين هذه المسألة والمسألة المتقدِّمة.

(١) كما إذا كان الدم يطرأ على الثوب بالتقطير فإنّ القطرة الأُولى حينئذ أقل من مقدار الدرهم قطعاً ، فاذا زيدت عليه قطرات وشككنا في أنها بلغت مقدار الدرهم أم لم يبلغه يجري استصحاب كونه أقل من الدرهم أو عدم زيادته.

(٢) لاختصاص الأدلة بالدم. نعم قد يقال : المتنجس بالدم إنما تستند نجاسته إليه فاذا لم يكن الدم مقتضياً لبطلان الصلاة فكيف يقتضيه المتنجس به فان الفرع لا يزيد على أصله. وفيه : أن ذلك قاعدة استحسانية ولا سبيل للرجوع إليها في الأحكام التعبّدية كما مرّ عن قريب.

٤٢٥

[٣٠١] مسألة ٥ : الدم الأقل إذا أُزيل عينه فالظاهر بقاء حكمه (١).

______________________________________________________

(١) وهذا لا لاستصحاب العفو عنه ليرد أنه من الاستصحاب التعليقي. أو يقال إن المورد من موارد الرجوع إلى العام أعني مانعية النجس في الصلاة لا الاستصحاب مع أن المناقشة في الاستصحاب بأنه من الاستصحاب التعليقي ساقطة ، لأنّا لا نريد به أن الثوب كان بحيث لو صلّى فيه أحد قبل زوال العين عنه لوقعت صلاته صحيحة وأنه الآن كما كان ، وإنما المراد به استصحاب عدم مانعية النجاسة الكائنة في الثوب أو عدم مانعية الثوب حال كون العين موجودة عليه ، فان الصلاة لم تكن مقيّدة بعدم وقوعها في ذلك الثوب قبل زوال العين عنه والأصل أنه الآن كما كان ، ولا تعليق في المانعية أو عدمها بل الحكم بالعفو لوجهين آخرين :

أحدهما : الأولوية القطعية لدى العرف فإنه لا يكاد يشك في أن الدم مع بقاء عينه إذا لم يكن مانعاً عن الصلاة فلا يكون مانعاً عنها بعد زوال عينه بطريق أولى. والسر في ذلك أنّ أدلّة العفو عما دون الدرهم من الدم مما لا دلالة لها حسب المتفاهم العرفي على شرطية وجود الدم في الحكم بصحة الصلاة ، فإنها وردت تخصيصاً في أدلة المانعية فتدل على عدم مانعية الدم الأقل لا على شرطية وجوده ، فاذن الأولوية القطعية ثابتة.

وثانيهما : إطلاقات أدلة العفو ، لأنها تقتضي صحة الصلاة في الدم الأقل مطلقاً سواء أكانت العين باقية أم كانت زائلة ، وذلك فان روايات العفو على قسمين : فمنها ما فرض أن الثوب مشتمل على وجود الدم حال الصلاة وهذا القسم خارج عن مورد الاستدلال في المقام ، ومنها ما فرض اشتمال الثوب على الدم بمدّة قبل الصلاة حتى أنه نسيه فصلّى فيه كما في صحيحة ابن أبي يعفور (١) « عن الرجل يكون في ثوبه نقط الدم فينسى أن يغسله فيصلي ... » وهذا القسم هو الذي نستدل به في المسألة ، حيث إن الصحيحة فرضت وجود النقط في الثوب قبل الصلاة ، ولم يستفصل الإمام ( عليه‌

__________________

(١) المتقدِّمة في ص ٤٠٥.

٤٢٦

[٣٠٢] مسألة ٦ : الدم الأقل إذا وقع عليه دم آخر أقل ولم يتعدّ عنه أو تعدّى وكان المجموع أقل ، لم يزل حكم العفو عنه (١).

[٣٠٣] مسألة ٧ : الدم الغليظ الذي سعته أقل ، عفو وإن كان بحيث لو كان رقيقاً صار بقدره أو أكثر (٢).

[٣٠٤] مسألة ٨ : إذا وقعت نجاسة أُخرى كقطرة من البول مثلاً على الدم الأقل بحيث لم تتعد عنه إلى المحل الطاهر ، ولم يصل إلى الثوب أيضاً ، هل يبقى العفو أم لا؟ إشكال فلا يترك الاحتياط (*) (٣)

______________________________________________________

السلام ) في الجواب بين بقاء العين حال الصلاة وعدمه ، وترك الاستفصال دليل العموم. على أن مقتضى الطبع زوال العين باستمرار الزمان ولو ببعضها ، بل ظاهر الصحيحة زوالها بأجمعها لظهورها في أنّ النقط إنما كانت في ثوبه بمدّة قبل الصلاة حتى نسيها ، ومع الأولوية والإطلاق لا يبقى مجال للاستصحاب.

(١) لإطلاقات الأخبار حيث دلت على العفو عما دون الدرهم من الدم مطلقاً سواء أصابه مرّة أو مرّتين.

(٢) لأن المدار في كون الدم بقدر الدرهم فما زاد على كونه بهذا المقدار بالفعل ، وأما كونه كذلك بالتقدير وأنه لو كان رقيقاً لكان بقدره أو أكثر فغير كاف في الحكم بالمانعية.

(٣) للمسألة صور : الاولى : ما إذا وقعت قطرة من البول مثلاً على غير المحل المتنجس بالدم. ولا إشكال حينئذ في ارتفاع العفو عن الصلاة فيه لأنه يختص بالنجاسة الدموية ولم يثبت في غيرها من النجاسات. الثانية : ما إذا وقعت على نفس الموضع المتنجس من الثوب بالدم ولم يتعد عنه فهل يثبت العفو حينئذ نظراً إلى أن الموضع المتنجس منه لا يتنجس بالبول ثانياً ، نعم يترتب عليه الزائد عن الآثار المترتبة على الدم كغسله مرّتين بالماء القليل مثلاً فهو متنجس بالدم فحسب ، أو لا عفو عنه؟ التحقيق عدم العفو عن مثله لإطلاق ما دلّ على وجوب إزالة النجس‌

__________________

(*) لا بأس بتركه.

٤٢٧

الثالث مما يعفى عنه : ما لا تتم فيه الصلاة (١) من الملابس كالقلنسوة والعرقچين والتكة والجورب والنعل والخاتم والخلخال ونحوها ، بشرط أن لا يكون من الميتة (٢)

______________________________________________________

عن الثوب والبدن ، حيث إنها شاملة للبول في مفروض المسألة وإن لم يكن مؤثراً في تنجيس ما وقع عليه لتنجسه في نفسه.

الثالثة : ما إذا وقعت على نفس الدم الأقل ولم يصل إلى الثوب ولها صورتان : إحداهما : ما إذا يبست القطرة الواقعة حال الصلاة. ولا مانع فيها من الحكم بصحة الصلاة لعدم تنجس الثوب بالبول لأنه إنما وقع على الدم والنجس لا يتنجس ثانياً ، كما لا عين للبول الواقع لارتفاعه ويبوسته ، فليس الثوب حينئذ إلاّ متنجساً بالدم الأقل وهو معفو عنه في الصلاة. وثانيتهما : ما إذا كانت القطرة الواقعة باقية حال الصلاة. والحكم بصحة الصلاة أو بطلانها وقتئذ يبتنيان على جواز حمل النجس في الصلاة وعدمه ، وحيث إنّ التحقيق جوازه فلا بدّ من الحكم بصحة الصلاة في مفروض المسألة. هذا إذا قلنا بعدم تنجس الدم بالبول ، وأما إذا قلنا بتنجسه فصحة الصلاة في كلتا الصورتين أعني صورتي يبوسة البول وعدمها تبتني على جواز حمل النجس ، لأنّ النجاسة الدموية وإن كانت مورداً للعفو إلاّ أن نجاسة البول باقية بحالها ولم يعف عنها في الصلاة.

(١) العفو في الصلاة عما لا تتم فيه الصلاة في الجملة مما لا خلاف فيه ، بل ادعي عليه الإجماع في كلمات غير واحد من الأصحاب ، كما وردت في ذلك جملة من الأخبار عمدتها موثقة زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « كل ما كان لا تجوز فيه الصلاة وحده فلا بأس بأن يكون عليه الشي‌ء مثل القلنسوة والتكة والجورب » (١).

(٢) لأن موثقة زرارة كما ترى واردة فيما لا تتم فيه الصلاة إذا كان متنجساً بشي‌ء من النجاسات أو المتنجسات كما لعله صريح قوله : « لا بأس بأن يكون عليه الشي‌ء » ‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٥٦ / أبواب النجاسات ب ٣١ ح ١.

٤٢٨

وقد صرّح بذلك أيضاً في خبره قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ قلنسوتي وقعت في بول فأخذتها فوضعتها على رأسي ثم صلّيت ، فقال : لا بأس » (١) فالموثقة تختص بما إذا كان ما لا تتم فيه الصلاة نجساً بالعرض ولا تشمل ما إذا كان نجساً بالذات لكونه ميتة فلا محالة تشمله عموم المنع عن الصلاة في النجس.

نعم هناك روايتان تدلان في نفسهما على عدم الفرق في العفو عما لا تتم الصلاة فيه بين النجس الذاتي والعرضي إحداهما : رواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كل ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه مثل التكة الإبريسم والقلنسوة والخف والزنار يكون في السراويل ويصلي فيه » (٢) وذلك لاشتمالها على ما لم تشتمل عليه الموثقة المتقدمة كالتكة الإبريسم والخف والزنار ، وهي بإطلاقها تعم ما إذا كانت الأُمور المذكورة فيها نجسة بالعرض وما إذا كانت نجسة بالذات ، بل هي بأمثلتها ظاهرة في أنه عليه‌السلام بصدد بيان أن الموانع المقررة للصلاة مختصة بما تتم فيه فلا تكون مانعة فيما لا تتم فيه الصلاة فلا عبرة بكونه من الإبريسم أو الميتة أو غيرهما.

وثانيتهما : موثقة إسماعيل بن الفضل قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن لباس الجلود والخفاف والنعال والصلاة فيها إذا لم تكن من أرض المصلين ، فقال : أما النعال والخفاف فلا بأس بهما » (٣) لعدم استفصالها بين ما إذا كانت الخفاف والنعال نجسة بالعرض وما إذا كانت نجسة بالذات وترك الاستفصال دليل العموم ، بل يأتي أنها صريحة في جواز الصلاة فيما لا تتم فيه الصلاة المأخوذ من أرض غير المصلين المحكوم بعدم تذكيته بمقتضى الاستصحاب فلا يختص الاستثناء بما إذا كان ما لا تتم فيه الصلاة نجساً بالعرض.

ولكن في قبالها صحيحة ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد الله ( عليه‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٥٦ / أبواب النجاسات ب ٣١ ح ٣.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٧٦ / أبواب لباس المصلي ب ١٤ ح ٢.

(٣) الوسائل ٤ : ٤٢٧ / أبواب لباس المصلي ب ٣٨ ح ٣.

٤٢٩

السلام ) في الميتة قال : « لا تصل في شي‌ء منه ولا في شسع » (١) والذي يروي عنه ابن أبي عمير وإن كان غير مذكور في السند إلاّ أنه ينقلها عن غير واحد ، ومثله خارج عن المراسيل حيث إن ظاهره أن الرواية كانت مشهورة وثابتة عنده من غير خلاف ومن هنا ينقلها نقل المسلّمات. وصحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا عليه‌السلام قال : « سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشتري الخف لا يدري أذكي هو أم لا ، ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري أيصلي فيه؟ قال : نعم ، أنا أشتري الخف من السوق ويصنع لي وأصلي فيه وليس عليكم المسألة » (٢) حيث تدل على أنه لو سأل عنه وظهر أنه من الميتة لم يجز له الصلاة فيه ، إذ لو جازت الصلاة فيه حتى مع ظهور كونه من الميتة لم يكن لردعه عليه‌السلام عن المسألة وجه صحيح.

والتعارض بين هاتين الروايتين مع الروايتين السابقتين وإن كان ظاهراً في بادئ النظر إلاّ أنه لا تعارض بينهما حقيقة ، وذلك أما بالإضافة إلى خبر الحلبي فلأنه ضعيف السند بأحمد بن هلال لأنه مرمي بالغلو تارة وبالنصب اخرى ولا يمكن الاعتماد على رواياته كما أسلفناه في بعض المباحث المتقدمة. على أنّا لو أغمضنا عن سنده فدلالته على جواز الصلاة فيما لا تتم فيه الصلاة من الميتة بالإطلاق ولا تعارض بينه وبين الروايتين ، بل مقتضى قانون الإطلاق والتقييد أن يقيد الخبر بصحيحة ابن أبي عمير الناهية عن الصلاة في الميتة ولا في شسع وغيرها مما هو بمضمونها وبهذا تختص الرواية بما لا تتم فيه الصلاة من غير الميتة.

وأما بالإضافة إلى موثقة إسماعيل بن الفضل فلا كلام فيها بحسب السند. وأما بحسب الدلالة فقد يقال : إنها كالرواية السابقة إنما دلت على جواز الصلاة فيما لا تتم الصلاة فيه من الميتة بترك استفصالها وإطلاقها ، ومقتضى قانون الإطلاق والتقييد أن نرفع اليد عن إطلاقها بصحيحتي ابن أبي عمير والبزنطي المتقدِّمتين.

ويبعّده أوّلاً : أنّ السائل قد خص سؤاله بلباس الجلود والخفاف والنعال فلو كان‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٣ / أبواب لباس المصلي ب ١ ح ٢ ، ب ١٤ ح ٦.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٩٢ / أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ٦.

٤٣٠

أراد منها النجس بالعرض لم يكن وجه لتخصيصه السؤال بها لوضوح عدم انحصار المتنجس بالمذكورات ، وهذه قرينة على أن سؤاله إنما كان من جهة نجاستها بالذات أو من جهة عدم تذكيتها لأنها كانت في أرض غير المصلين أي المسلمين والأصل في الجلود عدم التذكية فلا تصح فيها الصلاة إلاّ أن تقوم أمارة على التذكية من يد المسلمين وسوقهم أو غيرهما من الأمارات.

وثانياً : أن الإمام عليه‌السلام رخّص الصلاة في النعال والخفاف ولم يرخّصها في الجلود ، فلو كان الوجه في ترخيصه هو اشتمال النعال والخفاف على النجاسة العرضية لم يكن فرق بينهما وبين لباس الجلود ، وذلك لأن السائل غير عالم بنجاستها العرضية على الفرض ومع الشك في نجاستها يبني على طهارتها بقاعدة الطهارة من دون تفصيل في ذلك بين لباس الجلود والنعال والخفاف ، فتفصيله عليه‌السلام بينهما أوضح قرينة على أن السؤال إنما كان من جهة الحكم بعدم تذكية النعال والخفاف بمقتضى أصالة عدم التذكية ، فيستفاد من الموثقة أن الميتة إنما تكون مانعة فيما تتم فيه الصلاة دون ما لا تتم فيه. وبما ذكرناه في المقام تكون الموثقة كالصريح ولا تكون دلالتها بالإطلاق حتى يقيد بالصحيحة المتقدمة.

فالصحيح أن يقال : إن الصحيحة والموثقة تختلفان مورداً ولا يرد النفي والإثبات فيهما على محل واحد ومعه لا تعارض بينهما حقيقة. بيان ذلك : أن الميتة كما مرّ غير مرّة هو ما استند موته إلى سبب غير شرعي فهو عنوان وجودي وما لم يذك عنوان عدمي ، وهما وإن كانا متلازمين في الخارج إلاّ أنها مختلفان بحسب المفهوم والعنوان ولاختلافهما كذلك فكّكنا بين آثارهما وأحكامهما وقلنا إن النجاسة مترتبة على الميتة دون ما لم يذك فلا يثبت نجاسة اللحم أو الجلد أو غيرهما باستصحاب عدم تذكيته نعم هما مشتركان في بعض أحكامهما كحرمة الأكل وبطلان الصلاة. واختلاف الأحكام الشرعية باختلاف العناوين غير عزيز ولو كان مصداقها شيئاً واحداً. وقد بيّنا في الكلام على العفو عما دون الدرهم من الدم أن الأثر يختلف باختلاف كون الدم المانع مقيداً بالقيد الوجودي وكونه مقيداً بالقيد العدمي ، مع أن مصداقهما شي‌ء واحد.

فعلى ذلك لا معارضة بين الصحيحة والموثقة لأن الموثقة إنما سيقت بظاهرها لبيان‌

٤٣١

ولا من أجزاء نجس العين كالكلب وأخويه (١).

______________________________________________________

جواز الصلاة فيما شك في تذكيته إذا لم تتم فيه الصلاة فلا تنافي عدم جوازها فيما أُحرز أنه ميتة وغير مذكى وتوضيحه : أن غير المذكى وإن كان قد أُخذ بعنوانه في موضوع الحكم بعدم جواز الصلاة فيه إلاّ أن ذلك فيما تتم فيه الصلاة ، فمع الشك في التذكية يجري استصحاب عدمها وبه يحكم ببطلان الصلاة فيه بلا حاجة إلى إثبات أنه ميتة وأما ما لا تتم فيه الصلاة فلم يؤخذ في موضوع الحكم بعدم جواز الصلاة فيه إلاّ كونه ميتة دون عنوان عدم التذكية ، فإن أحرزنا في مورد أنه ميتة ولم تقع عليه التذكية فيحكم ببطلان الصلاة فيه بمقتضى هذه الصحيحة ، وأما مع الشك في ذلك فلا مانع من الحكم بصحة الصلاة فيه كما هو مفاد الموثقة ، لأن استصحاب عدم التذكية لا يثبت به عنوان الميتة وإن كان مصداقهما حقيقة شيئاً واحداً.

ثم لو أبيت إلاّ عن إطلاق الموثقة وشمولها لما علم كونه ميتة وما شك فيه فلا مناص من تقييدها بهذه الصحيحة الدالة على عدم جواز الصلاة فيما علم كونه ميتة فلا يبقى بذلك تعارض بين الروايتين هذا ، فلو أبيت إلاّ عن اتحاد الميتة وغير المذكى وبنيت على تعارض الروايتين فإن أمكن حمل الصحيحة المانعة عن الصلاة في الميتة على الكراهة فيما لا تتم فيه الصلاة من الميتة فهو ، وأما إذا استبعدنا ذلك فالروايتان متعارضتان ومقتضى القاعدة هو التساقط والرجوع إلى عموم ما دلّ على المنع عن الصلاة في النجس إذ لم يرد عليه تخصيص أو تقييد. والنتيجة إذن ما ذهب إليه الماتن قدس‌سره من اختصاص العفو فيما لا تتم فيه الصلاة بالنجاسة العرضية وعدم شموله للنجس بالذات ، لا تقييد الموثقة بالصحيحة أو بغيرها مما هو بمضمونها لأنه أمر لا موجب له كانت الروايتان متعارضتين أم لم تكن.

(١) قد يُقال باستثناء ما كان من نجس العين عن العفو عما لا تتم فيه الصلاة معللاً بأنه ميتة لأن نجس العين غير قابل للتذكية ، وقد مر أن الصلاة في الميتة باطلة بمقتضى صحيحة ابن أبي عمير المتقدمة. وهذا الاستدلال من الفساد بمكان ، وذلك لعدم اختصاص الكلام بأجزاء الميتة بل البحث فيما يعم الميتة وغيرها ، كما إذا صنع‌

٤٣٢

قلنسوة من شعر الكلب وهو حي أو من شعر خنزير أو مشرك كذلك فإنه من أجزاء نجس العين وليس من الميتة في شي‌ء لأنه من الحي ، بل لو فرضنا أن الحيوان قد مات أيضاً لا يكون شعره من الميتة لما قدّمناه سابقاً من أن الموت إنما يعرض على ما تحلّه الحياة فإذا انقضت حياته يقال إنه ميتة ، وأما ما لا تحلّه الحياة فهو لا يتصف بالموت بوجه فلا تعرضه نجاسته وإن كان نجساً بالذات ، فكونه مانعاً عن الصلاة إنما هو لكونه مما لا يؤكل لحمه ومن النجاسات الذاتية لا لأجل كونه ميتة ، فتعليل عدم جواز الصلاة في أجزاء نجس العين بأنه ميتة تعليل عليل.

فلا مناص من مراجعة الأخبار لنرى أنها تدل على العفو عما لا تتم فيه الصلاة ولو كان من أجزاء نجس العين أو لا تدل؟ وقد مرّ أن عمدة الأخبار الواردة في المسألة موثقة زرارة وهي إنما دلت على العفو عن النجاسة العرضية لقوله عليه‌السلام : « فلا بأس بأن يكون عليه الشي‌ء » ولا دلالة لها على العفو عن النجاسة الذاتية فيما لا تتم فيه الصلاة ، فعموم مانعية النجس في الصلاة محكّم وهو يقضي ببطلان الصلاة في أجزاء نجس العين ولو كان مما لا تتم فيه الصلاة هذا.

على أن الكلب والخنزير مما لا يؤكل لحمه وهو بنفسه جهة مستقلة في المانعية عن الصلاة على ما نطقت به موثقة ابن بكير المتقدِّمة (١) ومن هنا ظهر أنّ موثقة زرارة ولو كانت شاملة لكل من النجاسة الذاتية والعرضية كما إذا كانت الرواية هكذا : كل ما كان لا تجوز فيه الصلاة وحده فلا بأس بأن يكون نجساً أيضاً لم يكن الاعتماد عليها ، لمعارضتها بموثقة ابن بكير ، وحيث إن دلالة الثانية بالعموم لاشتمالها على أداة العموم في قوله : « في كل شي‌ء منه » فلا محالة تتقدم على موثقة زرارة لأن دلالتها بالإطلاق ، أو لو كانت دلالتها أيضاً بالعموم كما هو كذلك لاشتمالها على قوله « كل ما كان » فلا محالة يتساقطان فيرجع إلى عموم ما دلّ على المنع عن الصلاة في النجس ولا تصل النوبة معها إلى البراءة بوجه.

بقي شي‌ء وهو أن الموثقة كما أنها ناظرة إلى عموم مانعية النجس في الصلاة حيث‌

__________________

(١) في ص ٤١٠.

٤٣٣

والمناط عدم إمكان الستر بلا علاج ، فان تعمم أو تحزم بمثل الدستمال مما لا يستر العورة بلا علاج ، لكن يمكن الستر به بشدة بحبل أو بجعله خرقاً لا مانع من الصلاة فيه. وأما مثل العمامة الملفوفة التي تستر العورة إذا فلّت فلا يكون معفواً إلاّ إذا خيطت بعد اللّف بحيث تصير مثل القلنسوة (١).

______________________________________________________

فرضت أن للصلاة مانعاً وهو النجاسة ودلّت على عدم البأس بها فيما لا تتم فيه الصلاة فهل لها نظر إلى أدلّة سائر الموانع أيضاً كما لا يؤكل لحمه والإبريسم بأن تدل على أن الموانع المقررة للصلاة إنما هي في غير ما لا تتم فيه؟

الصحيح أنه لا نظر لها إلى غير مانعية النجس ، لأنها وإن كانت مطلقة أو عامّة إلاّ أن ذيلها وهو قوله : « فلا بأس بأن يكون عليه الشي‌ء » يخصصها أو يقيدها بالمانعية من جهة النجاسة وذلك لأن ما يوجب بأساً في الثوب إنما هو نجاسته لأنها توجب سقوطه عن قابلية الصلاة فيه ، وهذا بخلاف أجزاء ما لا يؤكل لحمه كما إذا كان على الثوب وبَر منه مثلاً فإنه لا يقال إن الثوب مما لا يصح الصلاة فيه بل هو مما تصح فيه الصلاة حتى مع وجود الوبر عليه ، وإنما الوبر بنفسه مما لا تصح الصلاة فيه ، فاذا عرفت ذلك فنقول : الموثقة اشتملت على أن كل ما كان لا تجوز فيه الصلاة وحده فلا بأس بأن يكون عليه الشي‌ء ، وهذا التعبير واللسان لا يناسبهما سوى إرادة النجاسة من الشي‌ء ، لأن اشتمال الثوب على غير النجاسة من موانع الصلاة غير مولد للبأس فيه بخلاف النجاسة كما مر.

(١) صرّح الصدوق في محكي كلامه بجواز الصلاة في العمامة المتنجسة معلّلاً بأنه مما لا تتم فيه الصلاة ونقله عن أبيه (١) ومستنده في ذلك إما رواية الفقه الرضوي : « إن أصاب قلنسوتك أو عمامتك أو التكة أو الجورب أو الخف مني أو بول أو دم أو غائط‌

__________________

(١) نقله العلاّمة عنهما في المختلف ١ : ٣٢٧ المسألة ٢٤٣. قاله الصدوق في الفقيه ١ : ٤٢ ذيل الحديث ١٦٧ ، المقنع : ١٤ ، الهداية : ١٥.

٤٣٤

فلا بأس بالصلاة فيه وذلك أن الصلاة لا تتم في شي‌ء من هذه وحده » (١) وإما موثقة زرارة (٢) وغيرها مما اشتمل على أن ما لا تجوز فيه الصلاة وحده فلا بأس أن يكون عليه الشي‌ء مثل القلنسوة والتكة والجورب.

أمّا رواية الفقه الرضوي فهي ضعيفة سنداً ودلالة. أما بحسب السند فواضح بل لم يثبت كونها رواية فضلاً عن أن تكون حجة شرعية. وأما بحسب الدلالة فلأن العمامة مما تتم فيه الصلاة وحده ، ولعل المراد بها في الرواية هو العمامة الصغيرة التي لا يمكن التستر بها لصغرها أو لخياطتها على نحو صارت كالقلنسوة. ويؤيده التعليل في ذيلها بقوله : « وذلك أن الصلاة لا تتم في شي‌ء من هذه وحده » مع وضوح أن العمامة المتعارفة مما تتم فيه الصلاة.

وأمّا موثقة زرارة وما هو بمضمونها فهي أيضاً قاصرة الدلالة على المدعى ، لأنّ موضوعها الثوب المتنجس وقد دلت على أن نجاسته إنما تكون مانعة فيما إذا تمت الصلاة فيه دون ما لا تتم فيه ، ومن الظاهر أن العمامة المتعارفة في حد ذاتها ثوب تجوز فيه الصلاة سواء لفت على الرأس ليصدق عليه العمامة أم لم تلف بل شد على الوسط ليصدق عليه اسم الإزار والمئزر. وعلى الجملة أن الفل والفك لا يخرجان العمامة عن موضوع اللباس ، وبهذا تفترق عن التكة والجورب ونحوهما حيث لا تتم فيهما الصلاة إلاّ بالعلاج بالخياطة أو غيرها مما يخرجهما عن عنوان التكة والجورب ، إلاّ أن تخاط العمامة على وجه لو انفلت خرجت عما كانت عليه قبل فلها فإنها حينئذ كالقلنسوة وغيرها مما لا تتم فيه الصلاة إلاّ بخروجه عن الموضوع ، نعم العمامة الصغيرة التي لا يمكن التستر بها في الصلاة يعفى عن نجاستها العرضية لا محالة.

ثم إن الظاهر المنصرف إليه مما ورد في الروايات من جواز الصلاة فيما لا تتم فيه الصلاة إنما هو ما لا تتم فيه الصلاة لصغره وعدم كونه قابلاً للتستر به ، وأما ما لا تتم فيه الصلاة لأجل أمر آخر ككونه رقيقاً حاكياً عما تحته فهو خارج عن منصرف‌

__________________

(١) فقه الرضا : ٩٥.

(٢) المتقدِّمة في ص ٤٢٨.

٤٣٥

الرابع : المحمول المتنجس الذي لا تتم فيه الصلاة مثل السكين والدرهم والدينار ونحوها (١).

______________________________________________________

الروايات ولا يشمله العفو بوجه. ثم إن هذا كله فيما إذا كان ما لا تتم فيه الصلاة ملبوساً للمصلي فإنه مورد العفو كما مرّ ، وأما إذا لم يكن ملبوساً له وإنما حمله المصلِّي في صلاته فيأتي تحقيق الحال فيه في الحاشية الآتية فلاحظ.

(١) والوجه في استثنائه أن المستفاد من الأخبار الواردة في موارد مختلفة أن الصلاة في النجس غير جائزة وإن كانت هذه الجملة غير واردة في الروايات مؤيداً برواية موسى بن أكيل عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الحديد أنه حلية أهل النار إلى أن قال : لا تجوز الصلاة في شي‌ء من الحديد فإنه نجس ممسوخ » (١) فإن النهي عن ذلك وإن كان محمولاً على الكراهة لما يأتي في محله من جواز الصلاة في الحديد واختصاص المنع بما كان نجساً بالفعل ، إلاّ أن تعليلها المنع بأنه نجس يدل على أن عدم جواز الصلاة في النجس كبرى كلية غير مختصة بمورد دون مورد.

وكيف كان ، فلا إشكال في أن الصلاة في النجس باطلة ، وإنما الكلام فيما ينطبق عليه هذا العنوان أعني عنوان الصلاة في النجس ، فكل مورد صدق ذلك يحكم ببطلان الصلاة فيه. مع أن الصلاة في النجس لا معنى له بظاهره ، إذ الصلاة نظير الأكل والشرب فعل من أفعال المكلفين وللأفعال ظرفان : ظرف زمان وظرف مكان فيصح أن يقال : أكل زيد في يوم كذا أو في مكان كذا أو صلّى في زمان أو مكان كذا ، وليست النجاسة في الثوب والبدن ظرف مكان للصلاة ولا ظرف زمان ، كما أنها ليست ظرفاً لسائر الأفعال ، فكما لا يصح أن يقال زيد أكل في النجس أو شرب فيه إذا كان ثوبه نجساً فكذلك لا يصح أن يقال زيد صلّى في النجس في تلك الحال ، فإسناد الظرفية إلى النجس في أمثال المقام غير صحيح على وجه الحقيقة ، نعم لا بأس بإسنادها إليه على وجه العناية والمجاز فيما إذا كان الفاعل لابساً للنجس بأن يكون الفاعل مظروفاً‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٤١٩ / أبواب لباس المصلي ب ٣٢ ح ٦.

٤٣٦

والنجس ظرفاً له ، فان مثله من العلاقات المصححة لإسناد الظرفية إلى النجس باعتبار أن النجس ظرف للفاعل وإن لم يكن ظرفاً لفعله ، نعم هو ظرف لفعله بواسطة الفاعل بالعناية والمجاز فيقال زيد صلّى أو أكل في النجس مجازاً بمعنى أنه صلّى أو أكل وهو في النجس.

وأمّا إذا لم يكن النجس ظرفاً للمصلي كما أنه ليس بظرف للصلاة وإنما كان موجوداً عنده ومعه كما إذا كان في جيبه فإسناد الظرفية إلى النجس لا يمكن أن يكون إسناداً حقيقياً وهو ظاهر ولا إسناداً مجازياً حيث لا علاقة مرخّصة له فكما لا يصح أن يقال : زيد أكل في النجس إذا كان في جيبه ، كذلك لا يصح أن يقال زيد صلّى في النجس والحال هذه.

نعم قد ورد في بعض الأخبار جواز الصلاة في السيف ما لم تر فيه دماً (١) ، كما ورد في موثقة ابن بكير : « أن الصلاة في وبر كل شي‌ء حرام أكله ، فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شي‌ء منه فاسدة » (٢) مع أن السيف والبول والروث والألبان مما لا يؤكل لحمه أُمور مقارنة للصلاة لا أنها ظرف لها ولا للفاعل ، وقد عرفت أن إسناد الظرفية حينئذ إلى النجس لا يمكن أن يكون حقيقياً ولا إسناداً مجازياً إذ لا علاقة مصححة للتجوز في الإسناد.

ودعوى أن العلاقة المصححة للإسناد في مثله هي أن الوبر والشعر ونحوهما من أجزاء ما لا يؤكل لحمه إنما يقع على ثوب المصلي فيكون ظرفاً للوبر وكأنه جزء من الثوب ، مما لا يرجع إلى محصل وذلك أمّا أوّلاً : فلأن غاية ما هناك أن يكون الثوب ظرفاً لمظروفين : الوبر والصلاة ، وأية علاقة مصححة لإسناد الظرفية في أحد المظروفين إلى المظروف الآخر بأن يكون أحدهما ظرفاً للآخر مع أنهما مظروفان لثالث.

وأما ثانياً : فلأن الوبر أو غيره من أجزاء ما لا يؤكل لحمه لا يلزم أن يقع على‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٤٥٨ / أبواب لباس المصلي ب ٥٧ ح ٢.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ١.

٤٣٧

الثوب دائماً ، بل قد يقع على البدن كما إذا قطرت عليه قطرة من لبنه أو بوله أو وقع عليه شي‌ء من وبره أو صنع من عظمه فصاً لخاتمه وهو في يده ومعه كيف تسند الظرفية إلى تلك الأجزاء مع عدم كونها ظرفاً للفاعل ولا لفعله فلا محيد في أمثال ذلك من رفع اليد عن ظهور كلمة « في » في الظرفية وحملها على معنى « مع » والمقارنة ، وهذا لقيام القرينة على إرادة خلاف ظاهرها وهي عدم إمكان إبقائها على ظاهرها ، كما في رواية السيف وموثقة ابن بكير. وأما إذا لم تقم قرينة على ذلك لإمكان إبقائها على ظاهرها وحملها على ما إذا كان ملبوساً للمصلي فلا مقتضي لرفع اليد عن ظهور لفظة « في » في الظرفية ، فيكون معنى الصلاة في النجس كون النجس ظرفاً لها ، وهذا لا يتحقّق إلاّ بلبسه ، وأمّا إذا لم يلبسه المصلي وإنما كان المتنجس محمولاً عليه في الصلاة فلا يصدق الصلاة في النجس عليه ، ولا قرينة على إرادة المعية من كلمة « في » فالمقتضي لبطلان الصلاة مع المحمول المتنجس قاصر في نفسه ، ولم يكن ذلك داخلاً فيما دلّ على بطلان الصلاة في النجس لنحتاج إلى المخصص.

هذا على أنه يمكن أن يستدل على جواز حمل النجس في الصلاة بموثقة زرارة المتقدمة المشتملة على أن كل ما كان لا تجوز فيه الصلاة وحده فلا بأس بأن يكون عليه الشي‌ء ، فإن موضوعها وإن كان هو الملبوس وقد دلت على أنه قسمان : قسم تتم فيه الصلاة وقسم لا تتم فيه فلا تشمل لمثل السكين المتنجس وغيره مما لا يكون من الملبوس حقيقة ، إلاّ أنها نفت البأس عن الملبوس إذا كان مما لا تتم فيه الصلاة ، ولم تقيد ذلك بلبسه بالفعل في الصلاة ولم يقل لا بأس بلبسه ، وإطلاق نفيها البأس عن الصلاة في المتنجس الذي من شأنه اللبس يشمل ما إذا كان ما لا تتم فيه الصلاة ملبوساً بالفعل في الصلاة وما إذا كان محمولاً فيها ، لأنه ملبوس لُبس أو حُمل فإطلاق الموثقة يدل على جواز حمل المتنجس الذي من شأنه أن يكون ملبوساً في الصلاة ، وبالقطع بعدم الفرق بين مثل القلنسوة والتكة مما من شأنه اللبس وبين مثل السكين المتنجس نتعدّى إلى المحمولات المتنجسة التي ليست من شأنها اللبس ، وذلك فان الملبوس المتنجس إذا لم يكن حمله مانعاً عن الصلاة فحمل غير الملبوس لا يكون مانعاً عنها بالأولوية.

٤٣٨

وأما إذا كان مما تتم فيه الصلاة كما إذا جعل ثوبه المتنجس في جيبه مثلاً ففيه إشكال (*) (١) والأحوط الاجتناب ، وكذا إذا كان من الأعيان النجسة كالميتة والدم وشعر الكلب والخنزير ، فان الأحوط اجتناب (**) حملها في الصلاة (٢).

______________________________________________________

ويؤيده مرسلة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : « كل ما كان على الإنسان أو معه مما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس أن يصلي فيه وإن كان فيه قذر ، مثل القلنسوة والتكة والكمرة والنعل والخفين وما أشبه ذلك » (٣) حيث نفت البأس عن كل متنجس كان مع المصلي مما لا تجوز فيه الصلاة وحده.

(١) مقتضى ما سردناه في الحاشية المتقدمة من قصور الأدلة المانعة عن الصلاة في النجس عن حمله هو الجواز ، نعم لا يمكن الاستدلال عليه بإطلاق الموثقة لاختصاصها بما لا تتم فيه الصلاة ، ولكن العمدة قصور الأدلة المانعة وعدم شمولها للمحمول المتنجس. فبهذا يظهر أنه لا مانع من حمل المتنجس في الصلاة مطلقاً ملبوساً كان أم غيره ، وعلى الأوّل كان مما تتم فيه الصلاة أم مما لا تتم. هذا كلّه فيما إذا كان المحمول متنجساً ولم يكن فيه جهة المنع سوى نجاسته ، وأما إذا كانت فيه جهة أُخرى من المانعية كاشتماله على شي‌ء من أجزاء ما لا يؤكل لحمه من شعر كلب أو خنزير أو جلدهما وغيره ، فلا ينبغي الإشكال في بطلان الصلاة معه لعدم جواز الصلاة في شي‌ء من أجزاء ما لا يؤكل لحمه.

(٢) كما إذا جعل مقداراً من البول أو الغائط أو غيرهما من الأعيان النجسة في قارورة وحملها في الصلاة فهل يحكم ببطلان الصلاة حينئذ؟ الظاهر أن حمل العين النجسة كحمل المتنجس غير موجب لبطلان الصلاة إذ لا يصدق الصلاة في النجس بحملها ، إلاّ أنّ هناك عدّة أخبار استدل بها على عدم جواز حمل العين النجسة في‌

__________________

(*) أظهره الجواز.

(**) لا بأس بتركه في غير الميتة وشعر الكلب والخنزير وسائر أجزائهما ، وأما فيها فالأظهر وجوب الاجتناب عن حملها في الصلاة.

(١) الوسائل ٣ : ٤٥٧ / أبواب النجاسات ب ٣١ ح ٥.

٤٣٩

الصلاة.

منها : ما في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل يمرّ بالمكان فيه العذرة فتهب الريح فتسفي عليه من العذرة فيصيب ثوبه ورأسه يصلي فيه قبل أن يغسله؟ قال : نعم ينفضه ويصلي فلا بأس » (١) بدعوى دلالتها على المنع عن الصلاة مع حمل أجزاء العذرة في الثوب إلاّ أن ينفضه. وفيه : أن الرواية أجنبية عما نحن فيه ، لأن الكلام في حمل العين النجسة في الصلاة لا في الصلاة في النجس ، ومورد الرواية هو الثاني لأن العذرة إذا وقعت على الثوب سواء نفذت في سطحه الداخل أم لم تنفذ فيه يعد جزءاً من الثوب ، ومعه تصدق الصلاة في النجس كما إذا كان متنجساً.

ومنها : ما رواه الصدوق في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه في حديث قال : « سألته عن الرجل يصلي ومعه دبة من جلد الحمار أو بغل ، قال : لا يصلح أن يصلِّي وهي معه إلاّ أن يتخوّف عليها ذهابها فلا بأس أن يصلِّي وهي معه ... » (٢) وروى الشيخ بإسناده مثل ذلك باختلاف يسير ، حيث ورد فيه « سألته عن الرجل صلّى ومعه دبة من جلد حمار وعليه نعل من جلد حمار هل تجزئه صلاته أو عليه إعادة؟ قال : لا يصلح له أن يصلي وهي معه ... » (٣) وكيف كان ، فقد ادعي دلالة الرواية على عدم جواز الصلاة مع حمل الدبّة المتخذة من الميتة.

ويرد على الاستدلال بها وجوه الأوّل : أن كلمة « لا يصلح » غير ظاهرة في المنع التحريمي وإنما ظاهرها الكراهة ، ومعه تدل على مرتبة من المرجوحية في حمل الدبة المذكورة في الصلاة. الثاني : أنها غير مشتملة على ذكر الميتة ، وإنما سئل فيها عن الدبة المتخذة من جلد الحمار ، ولعله لما كان اشتهر في تلك الأزمنة من نجاسة أبوال الحمير‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٤٣ / أبواب النجاسات ب ٢٦ ح ١٢.

(٢) الوسائل ٤ : ٤٦١ / أبواب لباس المصلي ب ٦٠ ح ٢ ، الفقيه ١ : ١٦٤ ح ٧٧٥.

(٣) الوسائل ٤ : ٤٦٢ / أبواب لباس المصلي ب ٦٠ ح ٤ ، التهذيب ٢ : ٣٧٤ ذيل الحديث ١٥٥٣.

٤٤٠