موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

بل إذا كان موضع النجس واحداً وأمكن تطهير بعضه لا يسقط الميسور (١) بل إذا لم يمكن التطهير لكن أمكن إزالة العين وجبت (*) (٢)

______________________________________________________

وثانيهما عنوان كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، فان كل واحد منهما عنوان مستقل في المنع عن الصلاة حتى لو فرضنا طهارة دم الهرّة أو غيرها مما لا يؤكل لحمه ، كما إذا ذبحت وقلنا بطهارة الدم المتخلِّف فيما لا يؤكل لحمه على خلاف في ذلك مرّ في محلِّه (٢).

وثانيهما : تعدد العنوان واتحاده من حيث النجاسة فحسب ، كما إذا أصاب موضعاً من بدنه دم وأصاب موضعاً آخر دم وبول ، فإن الأول متنجس بعنوان واحد والثاني بعنوانين. فان كان نظر الماتن قدس‌سره إلى الاتحاد والتعدّد بالمعنى الأوّل فما أفاده متين ، لأنّ الاضطرار إلى الصلاة في النجس الجامع بين ما له عنوان واحد وما له عنوانان لا يستلزمه سقوط النهي والمانعية عن الآخر لعدم الاضطرار إليه ، فلو صلّى فيه مع الاختيار بطلت صلاته. وأما إذا كان نظره إلى الاتحاد والتعدد بالمعنى الأخير فالصحيح هو التخيير فيه بناء على ما قدّمناه من أن المورد من صغريات باب التعارض ، لأنّ المانعية لم تترتب على عنوان الدم أو البول ونحوهما وإنما ترتبت على عنوان النجس ، والنجس نجس استند إلى أمر واحد أو إلى أُمور متعددة فلا فرق بين متحد العنوان ومتعدِّده من هذه الجهة. نعم ، بناء على أن المقام من صغريات التزاحم كان متعدد العنوان متعين الإزالة لاحتمال كونها أهم.

(١) اتضح الوجه في ذلك مما بيّناه في الحواشي المتقدمة ، فإن المانعية انحلالية والمكلف غير مضطر إلى الصلاة فيما لم يطهر بعضه لتمكنه من غسل نصف الموضع النجس مثلاً ، فيتعين غسل المقدار المتمكن منه بحيث لو صلّى فيه من دون تطهير بعضه بطلت صلاته.

(٢) فان قلنا إنّ حمل النجس مانع مستقل في الصلاة كما أن نجاسة البدن والثوب‌

__________________

(*) على الأحوط الأولى.

(١) في ص ١٣.

٣٨١

بل إذا كانت محتاجة إلى تعدّد الغسل وتمكّن من غسلة واحدة فالأحوط عدم تركها (*) (١) لأنها توجب خفة النجاسة إلاّ أن يستلزم خلاف الاحتياط من جهة أُخرى ، بأن استلزم وصول الغسالة إلى المحل الطاهر (٢)

______________________________________________________

مانعة فلا ينبغي الشك في وجوب إزالة العين حينئذ ، لأنه مضطر إلى الصلاة في النجس ، وبه سقطت مانعية النجاسة في حقه ولا اضطرار له إلى حمل النجس حتى ترتفع مانعية الحمل أيضاً. وأما إذا قلنا بعدم مانعية حمل النجس في الصلاة كما هو غير بعيد فعلى ما سلكناه من إدراج المورد تحت كبرى التعارض لا يفرق في الحكم بصحة الصلاة حينئذ بين إزالة العين وعدمها لأنه مضطر إلى الصلاة في النجس ، وحمل النجاسة لا أثر له على الفرض ، وأما بناء على درج المسألة في كبرى التزاحم فبما أنّا نحتمل أن تكون الصلاة في النجس من دون عين النجاسة أهم منها معها ، فلا محالة يتعيّن إزالة العين لاحتمال الأهمية.

(١) فعلى ما سلكناه من أن هذه المسائل بأجمعها من صغريات كبرى التعارض لا يفرق في الحكم بصحة الصلاة حينئذ بين غسل المتنجس مرّة وعدمه ، لأنّ المانعية مترتبة على عنوان النجس ولا فرق في المانعية بين الشديدة والخفيفة. وأما بناء على أنها من باب التزاحم فحيث يحتمل أن تكون الصلاة في النجس الأخف أهم منها في الأشد ، فلا مناص من غسل المتنجس مرة واحدة ليحصل بذلك تخفيف في نجاسته.

(٢) لما ذكرناه في محلِّه (٢) من أنّ غير الغسالة التي يتعقبها طهارة المحل ماء قليل محكوم بالنجاسة لملاقاته المحل ، كما أنه منجّس لكل ما لاقاه سواء انفصل عن المحل أم لم ينفصل ، فاذا استلزم الغسل مرّة في النجاسة المحتاجة إلى تعدد الغسل وصول الغسالة إلى شي‌ء من المواضع الطاهرة لم يجز غسله لعدم جواز تكثير النجاسة وإضافتها. ودعوى أنّ الغسالة إنما يحكم بنجاستها بعد الانفصال ، وأما ما دامت في المحل فهي طاهرة ولا يوجب مرورها على المواضع الطاهرة ازدياد النجاسة وتكثيرها‌

__________________

(*) لا بأس بتركه.

(١) شرح العروة ٢ : ٣١٠.

٣٨٢

[٢٨٦] مسألة ١٠ : إذا كان عنده مقدار من الماء لا يكفي إلاّ لرفع الحدث أو لرفع الخبث من الثوب أو البدن تعين رفع الخبث (*) ويتيمم بدلاً عن الوضوء أو الغسل ، والأولى أن يستعمل في إزالة الخبث أولاً ثم التيمم ليتحقق عدم الوجدان حينه.

______________________________________________________

مندفعة بأنّ الغسالة لو كانت طاهرة ما دامت في المحل فما هو الموجب في نجاستها بعد الانفصال ، وهل الانفصال من المنجسات في الشريعة المقدسة ، وقد أوضحنا الكلام في ذلك في محله بما لا مزيد عليه فليراجع.

(١) لأن الغسل والوضوء يشترط في وجوبهما التمكن من استعمال الماء شرعاً ، فان المراد من عدم الوجدان في الآية المباركة ليس هو عدم الوجدان واقعاً ، وإنما المراد به عدم التمكن من استعماله ولو شرعاً بقرينة ذكر المريض ، حيث إن الغالب فيه عدم التمكن من استعمال الماء لا عدم وجدانه حقيقة. نعم ، لو كان اكتفي في الآية المباركة بذكر المسافر أمكن حمل عدم الوجدان على حقيقته لأن المسافر في الصحاري قد لا يجد الماء حقيقة. وإطلاق ما دلّ على وجوب غسل الثوب أو البدن يقتضي وجوبه ولو مع عدم كفاية الماء للغسل والوضوء ، وهذا معجّز مولوي ولا يتمكن المكلف معه من استعماله في الوضوء أو الغسل ، وبما أن الطهارة لها بدل فتنتقل وظيفته إلى التيمم وبذلك يتمكّن من تحصيل الطهارة من الخبث والحدث ، وهذا بخلاف ما إذا صرف الماء في الطهارة من الحدث فإنه لا بدّ أن يصلِّي حينئذ فاقداً للطهارة من الخبث حيث لا بدل لها.

وذكر شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في بحث الترتب أن المشروط بالقدرة العقلية يتقدم على ما اشترطت القدرة فيه شرعاً (٢) وبما أن القدرة المأخوذة في الوضوء شرعية بخلاف الأمر بغسل الثوب أو البدن لأنه مشروط بالقدرة العقلية ، فلا محالة‌

__________________

(*) على الأحوط الأولى ، ولو تمكن من جمع غسالة الوضوء أو الغسل في إناء ونحوه ورفع الخبث به تعيّن ذلك.

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٧٢.

٣٨٣

يتعيّن رفع الخبث في مفروض المسألة والتيمم بدلاً عن الغسل أو الوضوء هذا.

والصحيح أن المكلف مخيّر بينهما لأن المسألة مندرجة في باب التعارض ، فلو كنّا نحن والأمر بالوضوء وغسل الثوب أو البدن المتنجسين لقلنا بسقوط الأمر عن الصلاة لعجز المكلف من الصلاة بقيودها وشرائطها ، إلاّ أنّ الدليل قام على أنّ الصلاة لا تسقط بحال ، وعلمنا أن لها مراتب ، فمع عدم التمكن من الصلاة مع الطهارة المائية ينتقل إلى الصلاة مع الطهارة الترابية ، كما أن مع عدم التمكن من الصلاة مع طهارة الثوب أو البدن ينتقل الأمر إلى الصلاة عارياً أو في البدن والثوب المتنجسين ، وعليه فلنا علم إجمالي بوجوب الصلاة مع الوضوء في الثوب والبدن المتنجسين أو الصلاة مع التيمم في البدن والثوب الطاهرين فالأمر دائر بينهما ، واحتمال التعين في كل منهما مندفع بالبراءة فيتخيّر المكلف بينهما.

نعم ، إذا تمكن من الجمع بينهما بأن يجمع الماء المستعمل في الغسل أو الوضوء ثم يستعمله في رفع الخبث وجب إلاّ أن ذلك خارج عما نحن فيه لكفاية الماء حينئذ لكل من رفع الحدث والخبث.

هذا كلّه بناء على أن المقام من موارد المعارضة ، ولو تنزلنا على ذلك وبنينا على أنه من موارد التزاحم فالأمر أيضاً كذلك ، لأنّ الأمر بالطهارة المائية وإن كان قد اشترطت فيها القدرة شرعاً ، وهب أنّ المشروط بالقدرة العقلية متقدم على ما اشترطت فيه القدرة شرعاً ، إلاّ أنّ الأمر بتطهير الثوب والبدن كالأمر بالطهارة من الحدث اشترطت فيه القدرة شرعاً ، فإنّ الأمر بالطهارة من الحدث أو الخبث ليس من الأوامر النفسية ، ولا أن الطهارتين من الواجبات الاستقلالية ، وإنما الأمر بهما إرشاد إلى اشتراطهما في الصلاة ، وكما أنّ الصلاة المشروطة بالوضوء لها بدل وهو الصلاة مع التيمم ، كذلك الصلاة المشروطة بطهارة الثوب والبدن فان بدلها الصلاة عارياً أو في الثوب والبدن المتنجسين ، والقدرة في كل منهما شرط شرعي. نعم ، لا بدل للشرط في نفسه أعني طهارة الثوب والبدن إلاّ أن الأمر بالشرط لما لم يكن أمراً نفسياً وكان إرشاداً إلى تقييد المشروط به كان المعتبر لحاظ نفس المشروط وأن له بدلاً أو لا بدل له لأنه الواجب النفسي دون شرطه. واحتمال الأهمية في الصلاة‌

٣٨٤

[٢٨٧] مسألة ١١ : إذا صلّى مع النجاسة اضطراراً لا يجب عليه الإعادة (*) (١) بعد التمكّن من التطهير. نعم ، لو حصل التمكّن في أثناء الصلاة‌

______________________________________________________

متوضئاً مع الثوب أو البدن المتنجسين وإن كان موجوداً لا محالة ، إلاّ أنه لا يقتضي الترجيح في غير المتزاحمين المشروطين بالقدرة العقلية ، وذلك لأنّ الخطاب فيهما لما كان مطلقاً كان استكشاف اشتمالهما على الملاك حتى حال تزاحمهما من إطلاق الخطابين بمكان من الوضوح ، وحيث إنهما واجبان فيكون احتمال الأهمية في أحدهما مرجحاً له.

وهذا بخلاف المشروطين بالقدرة الشرعية وذلك لأنه لا إطلاق في خطابهما حتى يشمل صورة تزاحمهما لتقييد كل منهما بالقدرة عليه ، فلا مجال فيهما لاستكشاف اشتمالهما على الملاك ، بل المقتضي والملاك إنما هو لأحدهما ، إذ لا قدرة إلاّ لأحدهما ولا ندري أن ما يحتمل أهميته هو المشتمل على الملاك أو غيره فلم يثبت وجوب ما يحتمل أهميته وملاكه حتى يتقدّم على غيره. نعم ، على تقدير وجوبه وملاكه نعلم بأهميته ولكن من أخبرنا بوجوبه واشتماله على الملاك ، ومن الجائز أن يكون الواجب والمشتمل على الملاك هو ما لا يحتمل أهميته.

والنتيجة أن المكلف يتخيّر بين تحصيل الطهارة من الحدث وبين تحصيل الطهارة من الخبث. نعم ، الأحوط أن يستعمل الماء في تطهير بدنه أو ثوبه إذ به يحصل القطع بالفراغ ، إما لأجل أنه المتعين حينئذ كما ذكروه وإما لأنه أحد عدلي الواجب التخييري ، كما أن الأحوط أن يستعمله في إزالة الخبث أوّلاً ثم يتيمم حتى يصدق عليه فاقد الماء حال تيممه.

(١) للمسألة صور :

الاولى : أن يعتقد تمكنه من الصلاة مع طهارة الثوب والبدن إلى آخر الوقت.

الثانية : أن يعتقد عدم تمكنه منها إلى آخر الوقت.

__________________

(*) ولا سيما إذا كان الاضطرار لأجل التقية ، وكذا الحال في المسألة الآتية.

٣٨٥

الثالثة : أن يشك في ارتفاع اضطراره إلى آخر الوقت وعدمه إلاّ أنه شرع في صلاته باستصحاب بقاء اضطراره إلى آخر الوقت.

أمّا الصورة الاولى فلا شبهة فيها في وجوب الإعادة لأن الأمر إنما تعلق بالطبيعة الواقعة بين المبدأ والمنتهى ، والمكلف لم يضطر إلى إيقاع تلك الطبيعة في الثوب أو البدن المتنجسين ، وإنما اضطر إلى إتيان فرد من أفرادها مع النجس فلم يتعلق الاضطرار بترك المأمور به ، ومعه لا موجب لتوهم إجزاء ما أتى به عن الوظيفة الواقعية بوجه بل لا مسوّغ معه للبدار لاعتقاده التمكن من المأمور به إلى آخر الوقت. وهذه الصورة خارجة عن محط كلام الماتن قدس‌سره.

وأمّا الصورة الثانية والثالثة فهما محل البحث في المقام وقد وقع الكلام فيهما في أنه إذا دخل في الصلاة باعتقاد عدم ارتفاع اضطراره إلى آخر الوقت أو باستصحاب بقائه ثم انكشف تمكنه من الصلاة المأمور بها في وقتها فهل تجب عليه الإعادة أو لا تجب؟ قد يكون الاضطرار إلى الصلاة مع النجاسة مستنداً إلى التقية ، ولا ينبغي الإشكال حينئذ في عدم وجوب الإعادة بعد التمكّن من التطهير ، لأن المأتي به تقية كالمأمور به الواقعي على ما يأتي في محلِّه (١). وقد يستند الاضطرار إلى أمر آخر كعدم وجدانه الماء مثلاً ، والصحيح حينئذ أيضاً عدم وجوب الإعادة لحديث لا تعاد ، لما مرّ من أن مقتضاه عدم وجوب الإعادة على من صلّى في النجس للاضطرار معتقداً عدم تمكنه من المأمور به إلى آخر الوقت حيث إنه من مصاديق الجاهل بالاشتراط ، والمراد بالطهور في الحديث هو الطهارة من الحدث ، فلا عموم فيها يشمل الطهارة من الخبث ولا أنها مجملة للقرينة المتقدِّمة فراجع.

نعم ، القاعدة تقتضي وجوب الإعادة في المسألة حيث إنها تقتضي عدم كفاية الإتيان بالمأمور به الظاهري فضلاً عن المأمور به التخيلي عن المأمور به الواقعي ، وإلى ذلك نظرنا في الطبعة الاولى من تعليقاتنا حيث استظهرنا وجوب الإعادة في المسألة ولكن مقتضى حديث لا تعاد عدم الإعادة كما مرّ.

__________________

(١) ذيل المسألة [٥٢٧].

٣٨٦

استأنف في سعة الوقت (١) والأحوط الإتمام والإعادة.

[٢٨٨] مسألة ١٢ : إذا اضطر إلى السجود على محل نجس (٢) لا يجب إعادتها بعد التمكّن من الطاهر.

______________________________________________________

(١) لأنّ الصلاة بأسرها عمل واحد لم يقع في حال الاضطرار وإنما أتى ببعضه في النجس مع التمكن من تطهير ثوبه أو بدنه.

(٢) أو اضطرّ إلى السجدة على ما لا يصح السجود عليه أو على السجدة في موضع مرتفع عن موضع قدميه أربع أصابع ، والكلام في هذه المسألة بعينه الكلام في المسألة السابقة فإن القاعدة تقتضي وجوب الإعادة ومقتضى حديث لا تعاد عدمها كما مرّ.

وقد يقال : إنّ مستند اعتبار الطهارة فيما يسجد عليه إنما هو الإجماع والمتيقن منه ما إذا تمكّن المكلّف من السجود على المحل الطاهر حال الصلاة لأنه الميزان في الاختيار والاضطرار وحيث إن المكلف غير متمكن من السجدة على المحل الطاهر فلا يشمله ما دلّ على اعتبار الطهارة فيما يسجد عليه. وحاصله أن مدرك اعتبار الطهارة فيما يسجد عليه قاصر الشمول للمسألة ، فصحة الصلاة وعدم وجوب إعادتها حينئذ على طبق القاعدة بحيث لو قلنا بوجوب الإعادة في المسألة السابقة أيضاً لا نلتزم بوجوبها في المقام.

وهذا المدعى يتوقف على ثبوت أمرين : أحدهما : أن يكون مدرك اعتبار الطهارة في محل السجود منحصراً بالإجماع المدعى. وثانيهما : أن لا يكون لمعقد الإجماع إطلاق يشمل كلتا حالتي الاضطرار والاختيار حال الصلاة. ولم يثبت شي‌ء منهما ، أما عدم انحصار الدليل بالإجماع المدعى فلصحيحة الحسن بن محبوب ، قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ثم يجصص به المسجد أيسجد عليه؟ فكتب إليَّ بخطه : إن الماء والنار قد طهّراه » (١) فإنها كما أسلفناه‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٥٢٧ / أبواب النجاسات ب ٨١ ح ١. وكذا في ٥ : ٣٥٨ / أبواب ما يسجد عليه ب ١٠ ح ١.

٣٨٧

[٢٨٩] مسألة ١٣ : إذا سجد على الموضع النجس جهلاً أو نسياناً لا يجب عليه الإعادة وإن كانت أحوط (*) (١).

______________________________________________________

في بعض المباحث المتقدمة يقتضي اعتبار الطهارة فيما يسجد عليه لكشفها عن مفروغية اعتبار الطهارة فيه عند السائل وارتكازه في ذهنه ، وقد قرّره عليه‌السلام على هذا الاعتقاد والارتكاز ، حيث أجابه بأن النار والماء قد طهّراه ، فمدرك اعتبار الطهارة فيما يسجد عليه غير منحصر بالإجماع.

وأما إطلاق معقد إجماعهم فلأن وزان اشتراط الطهارة فيما يسجد عليه وزان اشتراطها في الثوب والبدن ، فكما أن الثاني مطلق يشمل كلتا حالتي الاختيار والاضطرار فكذلك الحال في سابقه فإطلاق اشتراطهم يعم كلتا الصورتين قطعاً. والسر في دعوى القطع بالإطلاق أنّا لا نحتمل فقيهاً بل ولا متفقهاً يفتي بجواز السجدة على المحل النجس بمجرد عدم تمكن المصلي من السجدة على المحل الطاهر حال الصلاة مع القطع بتمكنه منها بعد الصلاة ، وليس هذا إلاّ لأجل أن اشتراط الطهارة فيما يسجد عليه يعم حالتي الاختيار والاضطرار حال الصلاة. وعلى الجملة حال هذه المسألة حال المسألة المتقدمة بعينها. على أن لنا أن نعكس الأمر بأن نلتزم بعدم وجوب الإعادة في المسألة المتقدمة لحديث لا تعاد ، ونلتزم بوجوبها في هذه المسألة ، حيث إنه سجد على المحل النجس ولم يأت بالمأمور به ، ونمنع عن التمسّك بالحديث بدعوى أنه يقتضي وجوب الإعادة ، إذ الإخلال بالسجود مما يعاد منه الصلاة ، وتفصيل الكلام في ذلك واندفاع هذه الشبهة يأتي في الحاشية الآتية.

(١) السجدة على المحل النجس أو على ما لا تصح السجدة عليه كالمأكول أو على الموضع المرتفع عن موضع القدم بأربع أصابع قد تكون في سجدة واحدة دون كلتيهما ، سواء أكانت في ركعة واحدة أو في ركعتين أو في الجميع بأن سجد في جميع ركعاته مرّة‌

__________________

(*) إذا كان السجود على الموضع النجس في سجدة واحدة من ركعة أو أكثر فالاحتياط بالإعادة ضعيف جدّاً.

٣٨٨

على المحل الطاهر وأُخرى على النجس مثلاً ، وقد تكون في كلتا السجدتين.

أمّا في السجدة الواحدة فلا يحتمل فيها وجوب الإعادة ، فإن غاية ما يتوهم أن اعتبار الطهارة في المسجد يقتضي أن تكون السجدة على المحل النجس كعدمها فكأنه لم يأت بالسجدة الواحدة في ركعة أو في جميع الركعات ، ومع ذلك فهو غير موجب لبطلان الصلاة لأنه ليس بأزيد من عدم الإتيان بها نسياناً ، فإن الصلاة لا تبطل بترك السجدة الواحدة إذا لم يكن عن عمد واختيار ، وذلك تخصيص في حديث لا تعاد حيث إنه يقتضي الإعادة بالإخلال بالسجدة الواحدة.

وأما الصورة الثانية فالتحقيق أيضاً عدم وجوب الإعادة فيها لحديث لا تعاد ، بيان ذلك : أن السجود والركوع وغيرهما من الألفاظ المستعملة في الأخبار مما لم يتصرّف فيه الشارع بوجه وإنما هي على معناها اللغوي. نعم ، تصرف فيما أمر به بإضافة شرط أو شرطين وهكذا ، ومن هنا لا يجوز للمكلّف السجود في الصلاة على ما لا تصح السجدة عليه بدعوى أنه ليس من السجدة الزائدة في المكتوبة ، لعدم كونها مشتملة على قيودها وشرائطها ، وليس ذلك إلاّ من جهة أن المراد بالسجدة إنما هو معناها لغة كما هو المراد منها عند إطلاقها ، فإذا عرفت ذلك فنقول :

إنّ ظاهر الحديث إرادة ذات السجدة من لفظة السجود لأنه معناها اللغوي لا السجود المأمور به المشتمل على جميع قيوده وأجزائه ، فمقتضى الحديث وجوب الإعادة بالإخلال بذات السجود بأن لم يأت به أصلاً ، وأما إذا أتى به فاقداً لبعض ما يعتبر في صحته فلا يشمله الحديث ولا يوجب الإعادة من جهته ، وحيث إنه أتى بذات السجدة وأوجد معناها لغة وإنما أخل بالمأمور به من جهة الجهل أو النسيان في مفروض المسألة فأيّ مانع من الحكم بعدم وجوب الإعادة فيها بمقتضى الحديث ، فلا يكون وقوعه في النجس جهلاً أو نسياناً موجباً لإعادتها.

وقد يقال : إن لازم هذا الكلام عدم وجوب إعادة السجدة إذا علم بوقوعها على الموضع النجس بعد ما رفع رأسه من سجدته وإن كان متمكناً من السجدة على المحل الطاهر.

٣٨٩

فصل

فيما يعفى عنه في الصلاة

وهو أُمور : الأوّل : دم الجروح والقروح ما لم تبرأ (١)

______________________________________________________

ويندفع : بأنه يشترط في التمسك بحديث لا تعاد كون الفائت مما لا يمكن تداركه بأن لم يتمكن من تصحيح الصلاة إلاّ بإعادتها ، وفي مفروض المثال يمكن أن يتدارك السجدة لعدم فوت محلها ، ونظيره ما لو علم بوقوع كلتا السجدتين على الموضع النجس أو على ما لا تصح السجدة عليه بعد ما رفع رأسه من السجدة الثانية مع التمكن من السجدة على المحل الطاهر ، إلاّ أنه تصحح السجدة الأُولى بالحديث لمضي محلها وعدم كونها قابلة للتدارك ويأتي بالسجدة الأخيرة ثانياً لبقاء محلها. وعلى الجملة لا مانع من نفي وجوب الإعادة في مفروض المسألة بحديث لا تعاد. وبهذا ظهر أن نسيان النجاسة في الثوب أو البدن وإن كان موجباً لبطلان الصلاة إلاّ أن حكم نسيان النجاسة في محل السجود حكم الجهل بالنجاسة هناك.

فصل

فيما يعفى عنه في الصلاة‌

(١) العفو في الصلاة عن دم القروح والجروح في الجملة مما لا خلاف فيه ، وإنما اختلفت كلماتهم في اعتبار المشقّة والسيلان بأن لا يكون فترة تتيسر فيها الصلاة من دونه في موضوع حكمهم بالعفو ، فعن ظاهر الصدوق (١) وصريح جملة من المتأخِّرين عدم اعتبار شي‌ء منهما. وفي كلمات جماعة منهم المحقق (٢) قدس‌سره اعتبارهما معاً ، وعليه فالعفو عن الدمين في الصلاة لا يحتاج إلى رواية لأنه مقتضى‌

__________________

(١) الفقيه ١ : ٤٣ / ذيل الحديث ١٦٧.

(٢) المعتبر ١ : ٤٢٩.

٣٩٠

قاعدة نفي العسر والحرج نظير صاحب السلس والبطن ، فكما أن القاعدة تقتضي عدم اعتبار الطهارة في حقهما من غير حاجة إلى رواية فكذلك الحال في المقام وإن كان يمكن التفرقة بين المسألتين ، نظراً إلى أن مقتضى القاعدة الأولية سقوط الصلاة عن صاحب السلس والبطن لعدم تمكنهما من الطهارة ولا صلاة إلاّ بطهور ، كما التزموا بذلك في فاقد الطهورين ، فلولا الأخبار الواردة في المسألة لالتزمنا بعدم تكليفهما بالصلاة ، وهذا بخلاف ما نحن فيه لأن المكلف واجد فيه للطهارة من الحدث فلا مقتضي لسقوط الصلاة في حقه ، وغاية الأمر أن ثوبه أو بدنه متنجس وحيث إن في تطهيره مشقّة وعسراً فنحكم بسقوط اشتراط الطهارة من الخبث في صلاته من غير حاجة إلى رواية كما مرّ ، بل ولا يختص ذلك بدم القروح والجروح لوضوح أن النجاسات بأجمعها كذلك ويرتفع الأمر بغسلها عند المشقّة والحرج ، فأية خصوصية لدم القروح والجروح وما المقتضي لتخصيصه بالذكر في المسألة؟

ومن هنا لا بدّ من التصرّف في كلماتهم ولو بحمل المشقّة الظاهرة في الفعلية على المشقّة النوعية ، فإنّ القاعدة تختص بالمشقة الشخصية ولا تعم النوعية ، وبهذا يحصل نوع خصوصية للدمين حيث إن المشقة النوعية توجب رفع مانعيتهما في الصلاة. وهل الأمر كذلك وأن المشقّة توجب الحكم بالعفو عنهما؟ يأتي عليها الكلام بعد تحقيق المسألة إن شاء الله. فالمتبع هو الأخبار فلا بد من ملاحظتها لنرى أنها هل تدل على اعتبار السيلان والمشقّة الفعلية في العفو عن دم القروح والجروح ، أو أنها إنما تدل على أنهما ما لم تبرءا يعفى عنهما في الصلاة سواء أسال دمهما أم لم يسل ، فالمعتبر أن لا ينقطع الدم لبرئهما؟

والأخبار في المسألة مستفيضة منها : موثقة أبي بصير قال : « دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام وهو يصلي فقال لي قائدي : إن في ثوبه دماً ، فلما انصرف قلت له : إن قائدي أخبرني أن بثوبك دماً ، فقال لي : إن بي دماميل ولست أغسل ثوبي حتى تبرأ » (١) وهي كما ترى مطلقة من ناحية السيلان وعدمه ، فإن الغاية في ارتفاع العفو‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٣٣ / أبواب النجاسات ب ٢٢ ح ١.

٣٩١

فيها إنما هي البرء لا انقطاع السيلان ، كما أن إطلاقها يقتضي عدم الفرق بين كون الإزالة ذات مشقة وعدم كونها كذلك.

ومنها : صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « سألته عن الرجل يخرج به القروح فلا تزال تدمي كيف يصلِّي؟ فقال : يصلي وإن كانت الدماء تسيل » (١) فقد دلّت على أنّ دم القروح إذا سال لا يمنع عن الصلاة فكيف بما إذا لم يسل ، ومعناه أنّ السيلان وعدمه على حد سواء ، كما أنها مطلقة من ناحية كون الإزالة حرجية وما إذا لم تكن.

ومنها : الصحيح عن ليث المرادي قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل تكون به الدماميل والقروح فجلده وثيابه مملوة دماً وقيحاً ، وثيابه بمنزلة جلده؟ فقال : يصلي في ثيابه ولا شي‌ء عليه ولا يغسلها » (٢) وإطلاقها من جهتي السيلان وعدمه ولزوم المشقّة وعدم لزومها مما لا يكاد يخفى.

ومنها : موثقة (٣) عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن الدمل يكون بالرجل فينفجر وهو في الصلاة ، قال : يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض ولا يقطع الصلاة » (٤) وهي كسابقتها ظاهرة الإطلاق من الجهتين المذكورتين ، بل الظاهر المستفاد منها أن الحكم بالعفو أمده البرء ، إذ ما لم يبرأ يصدق أنه رجل به الدمل أو غيره من القروح والجروح ، فيكون العفو ملغى بانقطاع الدم وعدم سيلانه المستند إلى البرء ، لا مجرد عدم السيلان مع بقاء الجرح بحاله.

وأما الأخبار المستدل بها على اعتبار المشقة والسيلان فمنها : مرسلة سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا يغسله حتى يبرأ وينقطع الدم » (٥) حيث جعلت الغاية للعفو وعدم‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٣٤ / أبواب النجاسات ب ٢٢ ح ٤.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٣٤ / أبواب النجاسات ب ٢٢ ح ٥.

(٣) كذا عبّروا عنها في كلماتهم مع أن في سندها علي بن خالد فراجع.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٣٥ / أبواب النجاسات ب ٢٢ ح ٨.

(٥) الوسائل ٣ : ٤٣٥ / أبواب النجاسات ب ٢٢ ح ٧.

٣٩٢

وجوب الإزالة انقطاع الدم ووقوفه عن السيلان ، كما أن مفهوم صدرها أن الجرح إذا لم يكن سائلاً لا عفو عنه ويجب غسله.

وفيه أوّلاً : أنّ الرواية ضعيفة بإرسالها ، لأنّ ابن أبي عمير نقلها عن بعض أصحابنا ولا ندري أنه ثقة ، ولعلّه من غير الثقة الذي علمنا برواية ابن أبي عمير عن مثله ولو في بعض الموارد ، فما في بعض العبائر من التعبير عنها بالموثقة مما لا وجه له.

وثانياً : الرواية لا مفهوم لصدرها حيث لم يقل : الجرح إذا سال فلا يغسله ، ليكون مفهومه أنه إذا لم يسل يغسله ولا عفو عنه وإنما قال : « إذا كان بالرجل جرح سائل » ومفهومه إذا لم يكن بالرجل جرح سائل فهو من السالبة بانتفاء موضوعها. نعم ، لو دلّ فإنما يدل عليه مفهوم القيد ، ونحن وإن قلنا بمفهوم الوصف في محله إلاّ أنه إذا لم يكن لإتيانه فائدة بحيث لولا دلالته على مدخلية الوصف في الحكم المترتب على موصوفه أصبح لغواً ظاهراً ، وليس الأمر في المقام كذلك لأنه إنما اتي لفائدة التمهيد والمقدمة لاصابة الدم الثوب التي هي المقصودة بالإفادة في قوله : « فأصاب ثوبه ... » أي سال حتى أصاب ثوبه ، فإنه لو لم يسل لم يصب الثوب طبعاً ، ولا دلالة معه للمفهوم كما أسلفناه في محله.

وثالثاً : المراد بالانقطاع في ذيلها هو الانقطاع المساوق للبرء فهو عطف توضيح وبيان لقوله حتى يبرأ ، ولم يرد منه الانقطاع المؤقّت بسدّ طريقه بشي‌ء بحيث لو ارتفع لسال ، فإن الغاية إذا كانت هي انقطاعه مع بقاء الجرح بحاله لم يكن لذكر البرء قبل ذلك معنى صحيح ، فان المدار حينئذ على مجرد الانقطاع ولو من غير برء فما معنى ذكر البرء قبله ، فالرواية مطلقة من جهتي المشقة والسيلان ولا دلالة لها على اعتبارهما بوجه.

ومنها : مضمرة سماعة قال : « سألته عن الرجل به الجرح والقرح فلا يستطيع أن يربطه ولا يغسل دمه ، قال : يصلي ولا يغسل ثوبه كل يوم إلاّ مرة ، فإنه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كل ساعة » (١) فان الغسل كل ساعة إنما يكون مع السيلان وعدم الفترة في‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٣٣ / أبواب النجاسات ب ٢٢ ح ٢.

٣٩٣

البين ، إذ معها لا حاجة إلى الغسل كل ساعة.

ويدفعه : أوّلاً : أنّ الرواية مضمرة إذ لم يثبت أن سماعة لا يروي عن غير الإمام عليه‌السلام. وثانياً : ليس عدم الاستطاعة من الغسل كل ساعة علة للعفو وإلاّ لوجب القول بعدم العفو عمن استطاع من غسل ثوبه كذلك ، وللزم حمل موثقة أبي بصير المتقدمة على عدم تمكن الإمام من غسل ثوبه كل ساعة ولا يمكن الالتزام بذلك. على أن غسل الثوب والبدن إنما هو مقدمة للصلاة ولا تجب الصلاة كل ساعة لتجب تحصيل مقدمتها كذلك ، فلا معنى له إلاّ أن يكون حكمة لما دلّت عليه الرواية من عدم وجوب غسل الثوب في كل يوم إلاّ مرّة واحدة ، وقد أتى بها تقريباً للأذهان فمعناه أن المكلف لا يتمكن من غسل ثوبه في كل ساعة من ساعات وجوب الصلاة ، فإذا كان الجرح أو القرح يدميان كل أربع ساعات مثلاً مرة واحدة يصدق أن يقال إنه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كل ساعة من ساعات الصلاة أو إصابة الدم ، وأين هذا من اعتبار استمرار السيلان في العفو كاعتباره في الحائض ، فلا دلالة للرواية على اعتبار السيلان.

نعم يمكن أن يستدل بها على اعتبار المشقة في العفو لقوله عليه‌السلام « فإنه لا يستطيع أن يغسل ... » ويدفعه أن الإمام عليه‌السلام إنما ذكر ذلك لأجل أنه مفروض السؤال ، فإن سماعة إنما سأله عمن به جرح أو قرح لا يستطيع أن يغسله ويربطه ، فكأنه ( سلام الله عليه ) قال : وحيث إن مفروض المسألة عدم تمكن الرجل من الغسل فلا يغسله إلاّ مرة في كل يوم ، لا لأجل اعتباره في العفو. نعم ظاهرها وجوب الغسل مرة في كل يوم وهو أمر آخر يأتي عليه الكلام عن قريب ، حيث وقع الكلام في أنه واجب أو مستحب فلو قوينا استحبابه يزداد ضعف ما توهم من دلالتها على اعتبار المشقة في العفو لدلالتها على عدم وجوب الغسل مطلقاً مع التمكن وعدمه.

ومنها : موثقة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الجرح يكون في مكان لا يقدر على ربطه فيسيل منه الدم والقيح فيصيب ثوبي‌

٣٩٤

فقال : دعه فلا يضرّك أن لا تغسله » (١) بدعوى دلالتها على اعتبار السيلان في العفو. وفيه : أن سيلان الدم إنما ورد في كلام السائل ولم يؤخذ في موضوع الحكم في كلامه عليه‌السلام.

ومنها : صحيحة محمد بن مسلم المروية في السرائر عن كتاب البزنطي قال « قال : إنّ صاحب القرحة التي لا يستطيع صاحبها ربطها ولا حبس دمها يصلي ولا يغسل ثوبه في اليوم أكثر من مرّة » (٢) فإنّ عدم التمكّن من حبس الدم لا يكون إلاّ باستمرار سيلانه ، ولا يضرّها الإضمار لأنّ محمد بن مسلم لا يروي عن غيرهم عليهم‌السلام.

والجواب عنها : أن عدم التمكّن من حبس الدم يصدق على من به جرح يدمي في كل أربع ساعات مثلاً وهو لا يتمكن من حبسه ، وأين هذا من اعتبار استمرار السيلان كما في الحائض ، فلا دلالة للرواية على المدعى. وأما دلالتها على وجوب الغسل مرّة في كل يوم فيأتي عليه الكلام بعيد ذلك.

فالنتيجة : أن دم القروح والجروح يمتاز عن بقية النجاسات بالعفو عنه في الصلاة سال أم لم يسل ، وكانت في إزالته أو في تبديل الثوب المتنجس به مشقة أم لم تكن كثيراً كان أم قليلاً.

ثم إنّ مقتضى صحيحة محمد بن مسلم المروية عن المستطرفات ومضمرة سماعة المتقدِّمتين أن الجريح والقريح يغسلان ثوبهما مرّة في كل يوم ، ولم يلتزم بذلك الأصحاب. نعم مال إليه في الحدائق معترفاً بعدم ذهابهم إليه (٣). والحق معهم وذلك لا لأنّ إعراضهم عن الرواية يسقطها عن الاعتبار ، لما مرّ غير مرّة من أنّ إعراضهم عن رواية لا يكون كاسراً لاعتبارها ، بل من جهة أنّ المسألة كثيرة الابتلاء وقلّ موضع لم يكن هناك مبتلى بالقروح والجروح ، والحكم في مثلها لو كان لذاع واشتهر‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٣٥ أبواب النجاسات ب ٢٢ ح ٦.

(٢) السرائر ٣ : ٥٥٨.

(٣) الحدائق ٥ : ٣٠٤.

٣٩٥

في الثوب أو البدن قليلاً كان أو كثيراً ، أمكن الإزالة أو التبديل بلا مشقّة أم لا (١). نعم يعتبر أن يكون مما فيه مشقة نوعية (٢) فان كان مما لا مشقّة في تطهيره أو تبديله على نوع الناس فالأحوط إزالته أو تبديل الثوب ، وكذا يعتبر أن يكون‌

______________________________________________________

ونفس عدم الاشتهار حينئذ يدل على عدمه ، كما هو الحال في مسألة وجوب الإقامة في الصلاة لأنها مما يبتلى به مرات في كل يوم فكيف لا يشتهر وجوبها لو كانت واجبة ومن هنا رفعنا اليد عما ظاهره وجوب الإقامة وحملناه على الاستحباب. هذا أوّلاً.

وثانياً : لو سلمنا أن المسألة ليست كثيرة الابتلاء فالأمر في الروايتين يدور بين حملهما على الوجوب حتى نقيد بهما المطلقات ، وبين حملهما على الندب ليسلم المطلقات عن القيد والمتعين هو الأخير ، لأنّ بعض المطلقات يأبى عن التقييد بذلك كما في موثقة أبي بصير « ولست أغسل ثوبي حتى تبرأ » وقوله في مرسلة سماعة : « لا يغسله حتى يبرأ وينقطع الدم ». وإباؤهما عن التقييد بالغسل مرّة في كل يوم غير خفي فلا مناص من أن تحملا على استحباب الغسل مرّة في كل يوم.

(١) كل ذلك للإطلاق كما شرحناه في الحاشية المتقدمة بعض الشرح.

(٢) الوجه في ذلك وفيما تعرض له بقوله : « وكذا يعتبر أن يكون الجرح مما يعتد به وله ثبات واستقرار » أن الروايات المتقدمة موردها ذلك ، فإن موثقة أبي بصير إنما وردت في دماميل كانت على بدنه عليه‌السلام والمشقة النوعية في تطهيرها أمر جلي وإن لم تكن فيه مشقة شخصية ، كما إذا تمكن الجريح من تطهير ثوبه بسهولة لحرارة الهواء أو تمكنه من تبديل ثوبه ، كما أنّ الدماميل ليست من الجروح الطفيفة سريعة الزوال. وكذلك الحال في موثقة عبد الرحمن وروايتي سماعة وعمّار فليلاحظ. ومع كون موردها مما فيه مشقة نوعية ودوام لا يمكننا التعدي عنه إلى غيره ، فالجروح الطفيفة التي لا ثبات لها ولا فيها مشقة نوعية تبقى مشمولة لإطلاق ما دلّ على مانعية النجس في الصلاة في غير المقدار الأقل من مقدار الدرهم.

٣٩٦

الجرح مما يعتد به وله ثبات واستقرار فالجروح الجزئية يجب تطهير دمها (١) ، ولا يجب فيما يعفى عنه منعه عن التنجيس (٢) نعم يجب شدّه (١) إذا كان في موضع يتعارف شدّه (٣) ، ولا يختص العفو‌

______________________________________________________

(١) لما قدّمناه في الحاشية السابقة لا للانصراف.

(٢) لإطلاقات الأخبار وعدم اشتمالها على لزوم منعه عن التنجيس مع أنها واردة في مقام البيان ، فلاحظ صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة حيث ترى أنها مع كونها مسوقة لبيان وظيفة المصلي الذي به قروح لا تزال تدمي غير مشتملة على الأمر بمنعها عن التنجيس ، وكذلك غيرها من الأخبار.

(٣) لم يظهر الفرق بين الشد والمنع لأن الشد من أحد طرق المنع عن التنجيس ، فما استدل به على أن ما يعفى عنه في الصلاة لا يجب منعه عن التنجيس هو الدليل على عدم وجوب الشد أيضاً ، فإن الأخبار الواردة في المسألة مع أنها في مقام البيان غير مشتملة على وجوبه. وأما ما في موثقة عبد الرحمن من سؤاله عن الجرح يكون في مكان لا يقدر على ربطه فيسيل منه الدم ... فلا دلالة له على وجوب ربط الجرح وشده ، لأنه إنما ورد في كلام السائل دون الإمام عليه‌السلام وكذلك مضمرة سماعة « فلا يستطيع أن يربطه ولا يغسل دمه » لأنه قضية في واقعة وقعت في كلام السائل ، فليست في شي‌ء من الروايتين أية دلالة على وجوب الشدّ والربط.

نعم ورد في صحيحة محمد بن مسلم المروية عن البزنطي : « أن صاحب القرحة التي لا يستطيع صاحبها ربطها ولا حبس دمها يصلي ولا يغسل ... » وقد أُخذ في موضوع العفو عدم التمكّن من ربط القرحة وشدّها في كلامه عليه‌السلام وقد ذكرنا في محله أن الأصل في القيود أن تكون احترازية ولازمه أن تكون للقيود مدخلية في الحكم إذا لم يؤت بها لإفادة أمر آخر ، وعليه فالصحيحة تدل على وجوب الإزالة وعدم العفو عند القدرة على ربط الجرح وشدّه.

__________________

(١) فيه تأمل بل منع.

٣٩٧

بما في محل الجرح ، فلو تعدى عن البدن إلى اللباس أو إلى أطراف المحل كان معفواً (١) لكن بالمقدار المتعارف في مثل ذلك الجرح ويختلف ذلك باختلافها من حيث الكبر والصغر ، ومن حيث المحل ، فقد يكون في محل لازمه بحسب المتعارف التعدِّي إلى الأطراف كثيراً أو في محل لا يمكن شدّه ، فالمناط المتعارف بحسب ذلك الجرح (٢).

______________________________________________________

ولكن الصحيح أن الصحيحة لا يمكن الاعتماد عليها كما لم يعتمد عليها الماتن قدس‌سره وإلاّ للزم الحكم بوجوب منعه عن التنجيس أيضاً لأنه الغاية المترتبة على الشد ، والسر في ذلك ما تقدم من أن مسألة دم القروح والجروح كثيرة الابتلاء ، والحكم في مثلها لو كان لشاع ولم تنحصر روايته بواحدة أو اثنتين ، فنفس عدم اشتهاره يفيد القطع بعدمه. ولم ينقل وجوبه إلاّ عن بعضهم بل عن الشيخ قدس‌سره الإجماع على عدم وجوب عصب الجرح ومنعه عن التنجيس (١) وهذا يوجب سقوط الصحيحة عن الاعتبار فلا مناص من تأويلها ولو بحمل القيد على وروده تمهيداً لبيان إصابة الدم الثوب. وهذا غير مسألة سقوط الرواية عن الاعتبار بالاعراض كما لعله ظاهر.

(١) لإطلاقات الأخبار وصراحة بعضها كقوله في موثقة أبي بصير : « ولست أغسل ثوبي حتى تبرأ ».

(٢) فلو تعدى الدم من القرحة الواقعة في بدنه إلى رأسه مثلاً فلا عفو عنه لعدم دلالة الأخبار عليه ، ففي موثقة أبي بصير « ولست أغسل ثوبي ... » والثوب متعارف الإصابة في مثل الدماميل الكائنة في البدن ولا تعرض لها إلى أن الدم لو كان أصاب رأسه مثلاً لم يكن يغسله. نعم ورد في رواية عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سأله عن الدمل يكون بالرجل فينفجر وهو في الصلاة؟ قال : يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض ولا يقطع الصلاة (٢) واستدل بها في الحدائق على جواز تعدية دم‌

__________________

(١) راجع الخلاف ١ : ٢٥٢ المسألة ٢٢٥.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٣٥ / أبواب النجاسات ب ٢٢ ح ٨ ، وتقدّمت في ص ٣٩٢.

٣٩٨

[٢٩٠] مسألة ١ : كما يعفى عن دم الجروح ، كذا يعفى عن القيح المتنجس الخارج معه (١) والدواء المتنجس الموضوع عليه ، والعرق المتّصل به في المتعارف (٢) أما الرطوبة الخارجية إذا وصلت إليه وتعدّت‌

______________________________________________________

القروح والجروح إلى سائر أجزاء البدن والثوب بالاختيار ، حيث دلت على جواز مسح الدم بيده فضلاً عما إذا تعدى إليها بنفسه ، بلا فرق في ذلك بين متعارف الإصابة وغيره (١). ويدفعه : أن الرواية لا دلالة لها على جواز التنجيس بالاختيار ولا على العفو عما لم يتعارف إصابة الدم له. أما عدم دلالتها على جواز التنجيس بالاختيار فلأنها إنما دلت على جواز تنجيس اليد في حال الصلاة وهو حال الاضطرار ، فان مسح الدم بثوبه ينجس الثوب فلا محيص من أن يمسحه بيده لأنه المتعارف في مسح دم القروح والجروح ، والتعدي عن موردها يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه. وأما عدم دلالتها على العفو عما لا تصيبه القروح عادة ، فلأنها لم تدل إلاّ على مسح الدم بيده وهي مما يتعارف إصابته بدم القروح. فالمتحصل أن دم القروح والجروح فيما لم يتعارف إصابته غير مشمول لأدلة العفو إلاّ إذا كان أقل من مقدار الدرهم كما ستعرف.

(١) كما في صحيحة ليث وموثقة عبد الرحمن المتقدِّمتين (٢) بل نلتزم بذلك وإن لم يكن هناك نص ، لأن دم القروح والجروح يلازم القيح غالباً ولا تجد جرحاً سال دمه من دون قيح إلاّ نادراً ولا سيما في الدماميل ، فما دلّ على العفو عن دم الجروح والقروح دلّ على العفو عن القيح المتنجس بالالتزام ، ولا فرق بين الدم والقيح إلاّ في أن الدم نجس معفو عنه في الصلاة والقيح متنجس معفو عنه ، فلو خصّصنا الأخبار المتقدِّمة بالدم غير المقترن بالقيح للزم حملها على المورد النادر وهو ركيك.

(٢) لعين ما قدمناه آنفاً لتلازمه مع الجروح والقروح ، وحملهما على ما لا دواء عليه حمل على مورد نادر. ومنه يظهر الحال في العرق المتصل بهما الجاري على‌

__________________

(١) راجع الحدائق ٥ : ٣٠٥.

(٢) في ص ٣٩٢ ، ٣٩٤.

٣٩٩

إلى الأطراف (١) فالعفو عنها مشكل فيجب غسلها إذا لم يكن فيه حرج.

[٢٩١] مسألة ٢ : إذا تلوثت يده في مقام العلاج يجب غسلها ولا عفو كما أنه كذلك إذا كان الجرح مما لا يتعدى ، فتلوثت أطرافه بالمسح عليها بيده ، أو بالخرقة الملوثتين على خلاف المتعارف (٢).

[٢٩٢] مسألة ٣ : يعفى عن دم البواسير (٣) خارجة كانت أو داخلة وكذا كل قرح أو جرح باطني خرج دمه إلى الظاهر.

______________________________________________________

المواضع الطاهرة لأنه أيضاً أمر غالب الوجود معهما ولا سيما في البلاد الحارة ، فما دلّ على العفو عن نجاستهما يقتضي العفو عن نجاسة العرق المتصل بهما أيضاً بالملازمة.

(١) كما إذا وقعت قطرة من الماء عند شربه على الجرح وسرت منه إلى المواضع الطاهرة فهل يعفى عنها في الصلاة؟ فقد يتوهّم أنّ الدم إذا كان بنفسه معفوّاً عنه في الصلاة فالرطوبة المتنجسة بسببه أيضاً يعفى عنها في الصلاة ، لأنّ الفرع لا يزيد على أصله ، ويندفع بأن هذه القاعدة ونظائرها مما لا يمكن الاعتماد عليه في الأحكام الشرعية ، فإنها قواعد استحسانية لا تنهض حجة في مقابل أدلة مانعية النجاسة فإنها مطلقة ، ولا بد في الخروج عنها من إقامة الدليل ولا دليل على العفو عن الرطوبة المتنجسة بدم القروح والجروح.

(٢) ظهر حكم هذه المسألة مما قدمناه في الحواشي المتقدمة.

(٣) لأنها علة وقروح باطنية في أطراف المقعدة قد تنفجر وتسيل دمها ، في مقابل النواسير التي هي قروح خارجية حوالي المقعدة أو غيرها ، ودم القروح والجروح معفو عنه في الصلاة بلا فرق في ذلك بين الداخلية والخارجية ، فان المدار على صدق أنّ الرجل به جرح أو قرح ولا إشكال في صدق ذلك في البواسير حقيقة ، لصحّة أن يقال أن للمبسور قرحة فلا وجه لتخصيص الجرح بالخارجي. نعم يمكن أن يقال بعدم العفو في بعض القروح الداخلية كما في جرح الكبد والحلق والصدر أعاذنا الله منه ومن نظائره وذلك لأن الدم الخارج منه وإن كان يصدق أنه دم القرحة أو الجرح حقيقة إلاّ أن العفو إنما ثبت لخصوص الدم الذي يصيب الثوب أو البدن عادة ولا يعفى‌

٤٠٠