موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

عبد الحميد بن سالم العطار أبو جعفر روى عبد الحميد عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام وكان ثقة من أصحابنا الكوفيين » (١). وهذه العبارة وإن صدرت منه عند ترجمة محمد بن عبد الحميد إلاّ أن ظاهر الضمير في قوله « كان ثقة » أنه راجع إلى أبيه وهو عبد الحميد لا إلى ابنه ، ولو لم يكن الضمير ظاهراً في ذلك فلا أقل من إجماله فلا يثبت بذلك وثاقة الرجل ، وبهذا تسقط الرواية عن الاعتبار وتبقى الصحاح المتقدمة الدالة على وجوب الصلاة في الثوب المتنجس من غير معارض ، هذا.

ثم لو سلّمنا المعارضة بين الطائفتين فقد يتوهم أن هناك شاهد جمع بين الطائفتين وهو رواية محمد الحلبي قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول وليس معه ثوب غيره؟ قال : يصلي فيه إذا اضطرّ إليه » (٢) بدعوى أنها تقتضي حمل الصحاح المتقدمة على صورة الاضطرار إلى لبس الثوب المتنجس ، وحمل الطائفة المانعة على صورة التمكن من نزعه.

وهذا الجمع وإن كان لا بأس به صورة إلاّ أنه بحسب الواقع لا يرجع إلى محصل صحيح أمّا أوّلاً : فلأن الرواية ضعيفة من جهة القاسم بن محمد. وأمّا ثانياً : فلأنه لم يثبت أنّ الاضطرار في الرواية أُريد به الاضطرار إلى لبس المتنجس ، لاحتمال أن يراد به الاضطرار إلى الصلاة في الثوب لما قد ارتكز في أذهان المتشرعة من عدم جواز إيقاع الصلاة من دون ثوب ، فهو مضطر إلى الصلاة فيه لوجوبها كذلك بالارتكاز فاضطراره مستند إلى وجوب الصلاة لا أنه مضطر إلى لبسه ، وبما أنه لم يفرض في الرواية عدم تمكن المكلّف من الغسل ، فلا محالة يتمكن من الصلاة في الثوب الطاهر بغسله ولا يكون مضطراً إلى إيقاع الصلاة في الثوب المتنجس.

وأمّا ثالثاً : فلأن الاضطرار لو سلمنا أنه بمعنى الاضطرار إلى لبس المتنجس لا يمكننا حمل الصحاح المتقدمة على صورة الاضطرار ، لأن فيها روايتين صريحتين في عدم إرادتها ، إحداهما : صحيحة علي بن جعفر قال : « سألته عن رجل عريان‌

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٣٩ / ٩٠٦.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٨٥ / أبواب النجاسات ب ٤٥ ح ٧.

٣٦١

وحضرت الصلاة ... إلى أن قال يصلِّي عرياناً » لأنها صريحة في عدم اضطرار الرجل إلى لبس الثوب المتنجس ، وثانيتهما : صحيحة الحلبي سأل أبا عبد الله عن الرجل يكون له الثوب الواحد فيه بول لا يقدر على غسله لأنها فرضت أن الرجل غير قادر على غسله فلا بد من قدرته على نزعه وإلاّ لكان الأولى والأنسب أن يقول : ولا يقدر على نزعه ، فهي أيضاً صريحة في عدم الاضطرار إلى لبس المتنجس وإن كانت في الصراحة دون الصحيحة المتقدمة. ونظيرها صحيحة عبد الرحمن فليراجع.

وأمّا ما عن الشيخ قدس‌سره من الجمع بين الطائفتين بحمل الصلاة في الصحاح المتقدِّمة على صلاة الجنائز (١) ، وحمل الدم في صحيحة علي بن جعفر على الدم المعفو عنه (٢) فيدفعه : أنه على خلاف ظواهر الصحاح فلا موجب للمصير إليه وعليه فالطائفتان متعارضتان ، بل من أظهر موارد المعارضة فلا مناص من علاجها. وقد مر أن للطائفة الأُولى مرجحاً داخلياً وهو صحتها وكونها أكثر عدداً ، وللثانية مرجحاً خارجياً وهو عمل الأصحاب على طبقها إلاّ أنهما غير صالحين للمرجحية. أما عمل الأصحاب على طبق الرواية فلوضوح أن عملهم ليس من مرجحات المتعارضين على ما قرّرناه في محلِّه (٣) ولا سيما في المقام حيث إنهم كما عملوا بالطائفة الثانية كذلك عملوا بالطائفة المتقدمة ، غاية الأمر أن العامل بالثانية أكثر من العامل بالسابقة. وأما صحة الرواية وأكثريتها عدداً فلأن الطائفة الثانية بعد البناء على اعتبارها حجة معتبرة فهي والطائفة السابقة متساويتان فلا اعتبار بوصف الصحة ولا بكثرة أحدهما عدداً.

فالصحيح في وجه المعالجة أن يقال : إن لكل من الطائفتين نصاً وظهوراً ، ومقتضى الجمع العرفي بينهما أن نرفع اليد عن ظاهر كل منهما بنص الأُخرى على ما هو الضابط الكلي في علاج المعارضة بين الدليلين ، حيث يقدم ما هو أقوى دلالة على الآخر فالأظهر يتقدّم على الظاهر والنص يتقدّم على الأظهر وهذا جمع عرفي لا تصل معه‌

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٢٤ ذيل الحديث ٨٨٥.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٢٤ ذيل الحديث ٨٨٦.

(٣) مصباح الأُصول ٣ : ٤١٢.

٣٦٢

النوبة إلى الترجيح ، وحيث إنّ الطائفة الثانية صريحة في جواز الصلاة عارياً وظاهرة في تعينها ، فإنّ الإطلاق في صيغ الأمر والجملات الخبرية وسكوت المتكلم عن ذكر العدل في مقام البيان يقتضي التعيين ، والطائفة المتقدمة صريحة في جواز الصلاة في الثوب المتنجس وظاهرة في تعينها ، فنرفع اليد عن ظهور كل منهما بنص الأُخرى لا محالة والنتيجة هي التخيير ، وأنّ المكلّف لا بدّ من أن يأتي بأحدهما فاما أن يصلي في الثوب المتنجس وإما أن يصلي عارياً كما ذهب إليه جمع من المحققين.

وربما يورد على الجمع بينهما بذلك بما ذكره شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في مبحث الترتب والواجب التخييري ، من أن الضدين اللذين لا ثالث لهما يستحيل أن يجعل التخيير بينهما (١) لأنه بمعنى طلب أحدهما الراجع إلى طلب الجامع بينهما ، وهذا في موارد المتناقضين والضدين لا ثالث لهما حاصل بطبعه ، إذ المكلف يأتي بأحدهما في نفسه فلا حاجة إلى طلبه لأنه من تحصيل الحاصل المحال ، ولأجل ذلك منع عن الترتب في مثلها ، فان المكلف عند تركه لأحدهما يأتي بالآخر بطبعه فلا مجال للأمر به حينئذ لأنه من تحصيل الحاصل كما عرفت. ويطبّق ذلك على ما نحن فيه بأنّ الصلاة عارياً والصلاة في الثوب المتنجس ضدّان لا ثالث لهما ، حيث إنّ الأخبار في المسألة بعد الفراغ عن وجوب أصل الصلاة وأنه لا بدّ أن يصلِّي لا محالة اختلفت في قيدها ، فدلّت طائفة على أنها مقيّدة بالإتيان بها عارياً ودلّت الأُخرى على أنها مقيّدة بالإتيان بها متستِّراً بالثوب المتنجس ، ومن الظاهر أنّ المصلِّي في مفروض المسألة إما أن يصلِّي عارياً وإما أن يصلي متستراً بالنجس ولا ثالث لهما فالتخيير بينهما أمر غير معقول.

ولكن الصحيح أن التخيير بينهما معقول لا محذور فيه ، وذلك لأن التخيير المدعى ليس هو التخيير بين إتيان الصلاة عارياً أو متستراً ، بل المراد تخيير المكلّف بين أن يصلِّي عارياً مع الإيماء في ركوعه وسجوده قائماً أو قاعداً ، وبين أن يصلِّي في الثوب المتنجس مع الركوع والسجود التامّين الصحيحين ، حيث إنه إذا صلّى عارياً يتعيّن أن‌

__________________

(١) لاحظ فوائد الأُصول ٢ : ٣٧٢ ، ٣ : ٤٤٤.

٣٦٣

[٢٨١] مسألة ٥ : إذا كان عنده ثوبان يعلم بنجاسة أحدهما يكرّر الصلاة (١)

______________________________________________________

يومي في ركوعه وسجوده ، وإذا صلّى متستراً يتعين أن يركع ويسجد بحيث لو صلّى في الثوب المتنجس مع الإيماء في ركوعه أو سجوده أو صلّى عارياً مع الركوع والسجود بطلت صلاته. ومن الواضح أن الصلاة عارياً مومياً في الركوع والسجود والصلاة في الثوب المتنجس مع الركوع والسجود التأمين ضدان لهما ثالث ، حيث له أن يصلِّي عارياً من غير إيماء في ركوعه وسجوده أو في الثوب المتنجس مؤمياً فيهما ومعه لا محذور في الحكم بالتخيير بوجه. نعم ، الأحوط الأولى أن يصلي في الثوب المتنجس لأن الواجب وإن كان تخييرياً حسبما قدمناه من الدليل بناء على تعارض الطائفتين إلاّ أن الأمر بحسب الواقع دائر بين التعيين والتخيير ، إذ الصلاة في الثوب المتنجس تجزئ يقيناً ، لأنها إما متعينة لرجحان أدلتها أو أنها عِدل الواجب التخييري ، وهذا بخلاف الصلاة عارياً لاحتمال أن يكون المتعين وقتئذ هو الصلاة في الثوب المتنجس كما مرّ ، هذا.

بل يستفاد من صحيحة علي بن جعفر المتقدمة أفضلية الصلاة في الثوب المتنجس حيث ورد فيها « صلّى فيه ولم يصل عرياناً » وظاهره مرجوحية الصلاة عارياً ونفي مشروعيتها ، فاذا رفعنا اليد عن ظهورها في نفي المشروعية بما دلّ على مشروعيتها عارياً بقيت مرجوحيتها بحالها ، هذا كله فيما إذا كان له ثوب واحد متنجس.

(١) إذا تمكن المكلف من غسل أحدهما يغسله ويصلي فيه وبه يقطع بفراغ ذمته لأن ما غسله إما كان طاهراً من الابتداء وإما كان نجساً فطهّره بغسله ، وأما إذا لم يتمكّن من غسل شي‌ء منهما فهل يجب عليه أن يكرر الصلاة في المشتبهين كما هو المعروف بينهم أو يصلي عرياناً كما عن ابني إدريس وسعيد؟ والكلام في ذلك تارة من جهة مقتضى القاعدة مع قطع النظر عن الدليل وأُخرى من جهة النص الوارد في المسألة.

أمّا الجهة الاولى : فلا ينبغي الإشكال في أن مقتضى العلم الإجمالي بوجوب الصلاة في أحدهما الإتيان بها في كل واحد من الثوبين تحصيلاً لليقين بفراغ ذمته‌

٣٦٤

والعلم بنجاسة أحدهما غير المعيّن غير مانع عن الحكم بصحة الصلاة الواقعة في الثوب الطاهر منهما ، لعدم الإخلال حينئذ بشي‌ء مما اعتبر في صحة الصلاة شرعاً أو عقلاً ، حيث إن العبادة كما مرّ غير مرّة لا يعتبر في صحتها إلاّ أن يؤتى بها مضافة إلى الله سبحانه نحو إضافة ، ولا كلام في أن المكلف إذا صلّى في أحدهما برجاء أنها المأمور بها في حقه ثم صلّى في الآخر كذلك قطع بأنه أتى بصلاة مضافة إلى الله جلّ شأنه ، فإن ما أتى به من الصلاتين أما طاعة أو انقياد ، ولا يعتبر في صحتها القطع بطهارة ثوبه أو بدنه على سبيل الجزم واليقين حين اشتغاله بها ، بل الطهارة الواقعية والإتيان بها برجاء كونها واقعة في الثوب الطاهر تكفي في صحتها.

فتحصّل أنّ الاحتياط بتكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين غير مخل بقصد التقرب المعتبر في العبادات زائداً على ذواتها. وأما قصد الوجه فلا إخلال به أيضاً بناء على اعتباره وذلك لأن المصلي متمكن من أن يأتي بالمأمور به المردد بينهما بقصد الوجه وصفاً أو غاية ، بأن يأتي بالصلاة المأمور بها بوصف كونها واجبة في حقه أو لوجوبها. نعم ، التكرار إنما يخل بالتمييز إلاّ أنه مما لم يقم على وجوبه دليل عقلي ولا سمعي ، بل الدليل قائم على عدم وجوبه لأنه مما يبتلي به الناس مرات متعددة في كل يوم ، فلو كان مثله واجباً لوجب عليهم عليهم‌السلام البيان ، ولو كانوا بيّنوا وجوبه لوصل إلينا متواتراً أو شبهه ، فعدم الدليل في مثله دليل على عدم الوجوب هذا.

ثم لو سلمنا وجوبه فلا إشكال في أنه ليس في عرض سائر الأجزاء والشرائط وإنما اعتباره في طولها ، حيث يجب الإتيان بالأجزاء والشرائط متميزة عن غيرها فاذا دار الأمر في مثله بين إلغائه وبين الإخلال بسائر الأجزاء والشرائط تعين إلغاؤه فإنه إنما يجب إذا تمكن المكلف من إتيان العمل بأجزائه وشرائطه فعند ذلك يجب أن يؤتى بها متميزة ، دون ما إذا لم يتمكن من إتيان العمل كذلك فإنه لا معنى حينئذ للقول بوجوب الإتيان به متميزاً فلا محالة يسقط اعتباره ، فلا يدور الأمر في شي‌ء من الموارد بين ترك جزء أو شرط وبين الإتيان بالعمل متميزاً والأمر في المقام أيضاً كذلك ، فلا يجب الإتيان بالصلاة عارياً لأجل التحفظ على اعتبار التمييز في أجزاء‌

٣٦٥

الصلاة وشرائطها. فعلى ذلك لا مجال فيما نحن فيه لدعوى ابني إدريس (١) وسعيد (٢) تعيّن الصلاة عارياً نظراً إلى أنّ تكرارها يوجب الإخلال ببعض القيود المعتبرة في المأمور به.

هذا كلّه إذا قلنا إن حرمة الصلاة في المتنجس تشريعية كما هو الصحيح لأن النهي الوارد عن الصلاة فيه إرشاد إلى مانعية النجس وليس نهياً مولوياً ، وعليه فالصلاة في الثوب أو البدن المتنجسين إنما يحرم إذا أتى بها المكلف بقصد أمرها ومضيفاً لها إلى الله لأنه تشريع محرم ، والتشريع لا يتحقق باتيانهما رجاء ومن باب الاحتياط. وأما إذا بنينا على أن الصلاة في النجس محرمة بالذات نظير سائر المحرمات المولوية فهل يجب أن يكرر الصلاة تحصيلاً لموافقة الأمر بالصلاة في الثوب الطاهر وإن استلزم المخالفة القطعية للنهي عن الصلاة في الثوب المتنجس أو تجب عليه الصلاة عرياناً تحصيلاً لموافقة النهي عن الصلاة في النجس وإن استلزم العلم بمخالفة الأمر بالصلاة في الثوب الطاهر أو يصلِّي في أحد المشتبهين مخيراً لأنه موافقة احتمالية من جهة ومخالفة احتمالية من جهة؟

يمكن أن يقال : للمكلف علمان إجماليان في المقام : أحدهما العلم بطهارة أحد الثوبين وثانيهما العلم بنجاسة أحدهما ، والموافقة القطعية للعلم الإجمالي بطهارة أحدهما يتوقف على تكرار الصلاة فيهما ، كما أن الموافقة القطعية للعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما تتوقف على أن لا يصلِّي في شي‌ء من المشتبهين ، وحيث إن المكلّف غير متمكِّن من إحراز الموافقة القطعية لكليهما فلا محالة تقع المزاحمة بين التكليفين في مقام الامتثال وحينئذ لا بدّ من العمل بما هو الأهم منهما إن كان وإلاّ يتخيّر بينهما لا محالة ، فإذا فرضنا أن حرمة الصلاة في النجس أهم بحيث لم يرض الشارع بمخالفتها ولو على نحو الاحتمال يتعين القول بوجوب الصلاة عارياً تحصيلاً لموافقة النهي عن الصلاة في النجس ، وهو وإن استلزم العلم بمخالفة الأمر بالصلاة في الثوب الطاهر إلاّ‌

__________________

(١) السرائر ١ : ١٨٤ ١٨٥.

(٢) الجامع للشرائع : ٢٤.

٣٦٦

أنّ أهمية الحرمة توجب سقوط اشتراط الصلاة بطهارة اللباس فتجب الصلاة عارياً ولا يجوز تكرارها في المشتبهين لاستلزامه مخالفة النهي عن الصلاة في النجس ، ولا يصلِّي في أحدهما مخيراً لئلا تلزم المخالفة الاحتمالية لعدم رضا الشارع بمخالفة الحرمة ولو على نحو الاحتمال. وإذا فرض أن وجوب الصلاة في الثوب الطاهر أهم فلا بد من تكرارها في المشتبهين تحصيلاً للموافقة القطعية للأمر بالصلاة في الثوب الطاهر وليس له أن يصلي عارياً لاستلزامه المخالفة للواجب الأهم ، ولا أن يصلي في أحدهما دون الآخر للزوم المخالفة الاحتمالية ولا يرضى الشارع بمخالفة الواجب ولو على نحو الاحتمال. وأما إذا لم تحرز أهمية أحدهما عن الآخر وكان الحكمان متساويين من جميع الجهات فلا بد من الحكم بالتخيير بينهما هذا.

ولكن الصحيح أن الواجب لو قلنا بحرمة الصلاة في النجس ذاتاً هو الصلاة عارياً دون تكرارها ولا الصلاة في أحد المشتبهين ، وذلك للعلم الخارجي بأن الأجزاء والشرائط المعتبرة في الصلاة لا تزاحم شيئاً من المحرمات والواجبات ، حيث إن لها مراتب متعددة ومع العجز عما هو الواجب في حق المكلف المختار يتنزل إلى ما دونه من المراتب النازلة ، وسرّه أن القدرة المعتبرة في الأجزاء والقيود قدرة شرعية ، فمع توقف إحراز شي‌ء منهما على ترك الواجب أو مخالفة الحرام يسقط عن الوجوب لعدم تمكن المكلف منه شرعاً ، فيتنزل إلى الصلاة فاقدة الشرط أو الجزء فلا مساغ لارتكاب المحرم أو ترك الواجب مقدمة لإتيان شي‌ء من القيود المعتبرة في الصلاة ومن هنا لو علمنا بغصبية أحد الثوبين أو بكونه حريراً لا يمكن الحكم بوجوب الصلاة في كليهما لتحصيل الموافقة القطعية للأمر بالصلاة ، كما لا يمكن الحكم بالتخيير بينهما ، وعليه ففي المقام لا مساغ للحكم بوجوب الصلاة في كلا المشتبهين تحصيلاً لليقين بإتيان الصلاة في الثوب الطاهر ، بل تسقط شرطية التستر حينئذ وتصل النوبة إلى المرتبة الدانية وهي الصلاة فاقدة للتستر هذا.

وإن شئت قلت : إن القدرة المعتبرة في الصلاة في الثوب الطاهر شرعية ، والقدرة المأخوذة في ترك المحرم كالصلاة في النجس عقلية ، وعند تزاحم التكليفين المشروط أحدهما بالقدرة الشرعية يتقدّم ما هو المشروط بالقدرة العقلية على غيره‌

٣٦٧

وإن لم يتمكّن إلاّ من صلاة واحدة يصلِّي في أحدهما ، لا عارياً (١)

______________________________________________________

كما حرّرناه في محلِّه (١) هذا.

والذي يسهّل الخطب أن المبنى فاسد من أساسه ولا موجب للقول بحرمة الصلاة في النجس ذاتاً. هذا كله في الجهة الأُولى.

وأمّا الجهة الثانية ففي حسنة صفوان بن يحيى عن أبي الحسن عليه‌السلام « أنه كتب إليه يسأله عن الرجل معه ثوبان فأصاب أحدهما بول ولم يدر أيّهما هو وحضرت الصلاة وخاف فوتها وليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال : يصلِّي فيهما جميعاً » (٢) وقد مر أن تكرار الصلاة في المشتبهين هو المطابق للقاعدة ، فما ذهب إليه ابنا إدريس وسعيد من وجوب الصلاة عارياً عند اشتباه الثوب الطاهر بغيره اجتهاد في مقابل النص الصريح. ولعل صاحب السرائر إنما ترك العمل على طبق الحسنة من جهة عدم اعتبار الخبر الواحد عنده كما هو أصله ومسلكه. وأما مرسلة الشيخ قدس‌سره : « روي أنه يتركهما ويصلِّي عرياناً » (٣) فهي ضعيفة بإرسالها ولم يعمل المشهور على طبقها حتى يتوهّم انجبار ضعفها بعملهم ، فاذن لا يمكننا الاعتماد عليها بوجه ، هذا كله فيما إذا تمكن من تكرار الصلاة في المشتبهين.

(١) إذا لم يتمكّن إلاّ من صلاة واحدة لضيق الوقت أو لغيره من الأعذار فهل يصلي في أحدهما أو يصلِّي عارياً أو يتخيّر بينهما؟ فان قلنا بوجوب الصلاة في الثوب النجس عند دوران الأمر بين الصلاة فيه والصلاة عارياً كما قلنا به ، حسبما استفدناه من الأخبار الواردة في تلك المسألة من أن شرطية التستر أقوى من مانعية النجاسة في الصلاة ، فلا بدّ في المقام من الحكم بوجوب الصلاة في أحد المشتبهين ، لأن شرطية التستر إذا كانت أهم من مانعية النجس ومتقدمة عليها عند العلم به فتتقدم عليها عند الشك في النجاسة بالأولوية القطعية ، لوضوح أن الصلاة إذا وجبت مع العلم بمقارنتها‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٣٥٨.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٢٥ ح ٨٨٧. الفقيه ١ : ١٦١ ح ٧٥٧.

(٣) المبسوط ١ : ٣٩.

٣٦٨

لوجود ما هو مانع في طبعه فلا محالة تكون واجبة عند احتمال مقارنتها له بطريق أولى.

وإن شئت قلت : إن تقديم الصلاة في الثوب النجس على الصلاة عارياً إنما هو من جهة أهمية الركوع والسجود عند الشارع من شرطية طهارة الثوب في الصلاة حسبما يستفاد من الأخبار لما مرّ من أنه إذا صلّى عارياً يومي في ركوعه وسجوده ، فاذا اقتضت أهمية الركوع والسجود تعين الصلاة في الثوب المعلوم نجاسته فتقتضي أهميتهما وجوبها في الثوب المحتمل نجاسته بالأولوية القطعية كما مرّ.

وأما إن قلنا في تلك المسألة بوجوب الصلاة عارياً فهل يجب القول به فيما نحن فيه أو لا بد في المقام من الحكم بوجوب الصلاة في أحد المشتبهين؟ الظاهر أنه لا علاقة بين المسألتين لأنّا لو قلنا هناك بوجوب الصلاة عارياً فإنما نلتزم به للنصوص ، وهي إنما وردت في مورد دوران الأمر بين الصلاة عارياً والصلاة في الثوب المعلوم نجاسته ولا مسوغ للتعدِّي عن موردها إلى ما إذا كان الثوب مشكوك النجاسة ، وذلك للفرق بين الصورتين حيث إن المكلف في مورد النصوص غير متمكن من الصلاة في الثوب الطاهر لانحصار ثوبه بما يعلم بنجاسته ، وأما من كان عنده ثوبان يعلم بنجاسة أحدهما فهو متمكن من الإتيان بالصلاة في الثوب الطاهر يقيناً لطهارة أحد المشتبهين على الفرض ، وغاية الأمر لا يتمكن من تمييزه وتشخيص أن الصلاة الواقعة في الثوب الطاهر أيّ منهما.

فالمتعين أن يصلِّي في أحد المشتبهين فيما نحن فيه ولا يمكنه الصلاة عارياً لأنه يوجب القطع بكونها فاقدة لشرطها ، وهذا بخلاف الصلاة في أحد المشتبهين لأنّ غاية ما يترتّب عليها احتمال اقترانها بالنجاسة ، ومع دوران الأمر بين الموافقة الاحتمالية والمخالفة القطعية لا إشكال في أن الاولى أولى ، وهي متقدمة على المخالفة القطعية عند العقل لاستقلاله بعدم جواز المخالفة القطعية مع التمكن من الموافقة الاحتمالية ولا يرى المكلّف مخيّراً بينهما ، فالمتيقن هو الصلاة في أحد المشتبهين مع سعة الوقت وضيقه. نعم لو كنّا اعتمدنا في تلك المسألة على أن مانعية النجاسة أهم من شرطية التستر في الصلاة لأمكن التعدي إلى ما نحن فيه إلاّ أن الأمر ليس كذلك كما عرفت.

٣٦٩

والأحوط القضاء (*) خارج الوقت في الآخر أيضاً إن أمكن وإلاّ عارياً (١).

______________________________________________________

(١) ما سردناه في المسألة المتقدِّمة إنما هو بالإضافة إلى وظيفة المكلّف في الوقت وهل يجب عليه القضاء خارج الوقت لعدم إحراز امتثال الواجب في وقته ، لجواز أن يكون ما أتى به من الصلاة واقعة في الثوب النجس ومن هنا احتاط الماتن بالقضاء خارج الوقت في الثوب الآخر إن أمكن وإلاّ فعارياً أو لا يجب؟ التحقيق عدم وجوبه وذلك لأنّ القضاء إنما هو بأمر جديد ، وموضوعه فوت الفريضة في وقتها ولم يتحقّق هذا في المقام ، فانّ الواجب على المكلّف في ظرفه لم يكن سوى الإتيان بالصلاة في أحد المشتبهين ، لاستقلال العقل بلزوم الموافقة الاحتمالية والتنزّل إلى الامتثال الإجمالي عند عدم التمكن من الموافقة القطعية للمأمور به ، وحيث إن المكلف أتى به في ظرفه فنقطع بعدم فوت الواجب عنه في وقته. نعم ، لو كان وجوب القضاء متفرعاً على ترك الواجب الواقعي ثبت ذلك بالاستصحاب أو بغيره من المنجّزات ولا محالة لزم الحكم بوجوب القضاء في المسألة ، ولكن الأمر ليس كذلك.

هذا ولو شككنا في ذلك ولم ندر في النتيجة أن الفوت يصدق مع الإتيان بما هو الواجب في وقته أو لا يصدق نحكم بعدم وجوب القضاء أيضاً لأنه مورد للبراءة وهو ظاهر.

ثم إنه بناء على القول بوجوب القضاء في المسألة فلا إشكال في أن القضاء في الثوب الآخر يولد القطع بإتيان الصلاة في الثوب الطاهر في الوقت أو في خارجه للقطع بطهارة أحدهما ، وأما القضاء عارياً فلم نقف له على وجه صحيح ، حيث إن وجوب القضاء ليس على الفور والمضايقة وإنما هو واجب موسع ، ومعه كان الواجب على المكلف أن يصبر إلى أن يتمكن من الصلاة في الثوب الطاهر ولو بعد سنين متمادية ، فلا وجه للحكم حينئذ بوجوب الصلاة عليه عارياً. اللهمّ إلاّ أن نقول‌

__________________

(*) وإن كان الأظهر عدم وجوبه في الفرض ، وعلى تقدير وجوبه لا تصل النوبة إلى الصلاة عارياً إلاّ مع لزوم التعجيل في القضاء.

٣٧٠

[٢٨٢] مسألة ٦ : إذا كان عنده مع الثوبين المشتبهين ثوب طاهر لا يجوز (*) أن يصلِّي فيهما بالتكرار. بل يصلي فيه (١). نعم ، لو كان له غرض عقلائي في عدم الصلاة فيه لا بأس بها فيهما مكرّراً (٢).

______________________________________________________

بالمضايقة والفور في وجوب القضاء حيث يتعيّن القضاء حينئذ عارياً إن لم يتمكّن من الصلاة في الثوب الآخر.

(١) تبتني هذه المسألة على القول بعدم جواز الاحتياط مع التمكّن من الامتثال التفصيلي عند استلزامه التكرار ، وعمدة الوجه في ذلك أن الاحتياط يوجب الإخلال بالجزم بالنيّة المعتبرة حال العمل لعدم علم المكلف عند الاحتياط بأن ما يأتي به امتثال للتكليف المتوجه إليه وأنه مما ينطبق عليه المأمور به ، ولكنّا أسلفنا في محلِّه (٢) أن العبادة لا تمتاز عن غيرها إلاّ باعتبار إتيانها مضافة إلى المولى سبحانه نحو إضافة ، وأما الجزم بالنية فلم يقم على اعتباره في العبادات دليل. نعم الاحتياط إنما يخل بالتمييز إلاّ أنه أيضاً كسابقه مما لا دليل عليه ، وبما أن المكلف يأتي بكلتا الصلاتين مضافة بهما إلى الله فلا مناص من الحكم بصحة الصلاة والالتزام بأن الامتثال الإجمالي كالتفصيلي مطلقا.

(٢) العبادة إنما يعتبر في صحتها أن يؤتى بها بداع قربي إلهي ، وأما خصوصياتها الفردية من حيث الزمان والمكان وغيرهما فهي موكولة إلى اختيار المكلفين وللمكلف أن يختار أية خصوصية يريدها بلا فرق في ذلك بين استناد اختياره الخصوصيات الفردية إلى داع عقلائي وعدمه ، كما إذا اختار الصلاة في مكان مشمس بلا داع عقلائي في نظره فان صلاته محكومة بالصحة حيث أتى بها بقصد القربة والامتثال ، هذا بحسب خصوصيات الأفراد العرضية أو الطولية. وكذلك الحال في المقام فإنّ العبادة بعد ما كانت صادرة بداعي القربة فلا محالة يحكم بصحتها ، سواء‌

__________________

(*) على الأحوط ، والأظهر جوازها فيهما.

(١) في مصباح الأُصول ٢ : ٨٣.

٣٧١

[٢٨٣] مسألة ٧ : إذا كان أطراف الشبهة ثلاثة يكفي تكرار الصلاة في اثنين سواء علم بنجاسة واحد وبطهارة الاثنين ، أو علم بنجاسة واحد وشك في نجاسة الآخرين ، أو في نجاسة أحدهما ، لأن الزائد على المعلوم محكوم بالطهارة ، وإن لم يكن مميزاً ، وإن علم في الفرض بنجاسة الاثنين يجب التكرار بإتيان الثلاث ، وإن علم بنجاسة الاثنين في أربع يكفي الثلاث والمعيار كما تقدّم سابقاً التكرار إلى حد يعلم وقوع أحدها في الطاهر (١).

[٢٨٤] مسألة ٨ : إذا كان كل من بدنه وثوبه نجساً ، ولم يكن له من الماء إلاّ ما يكفي أحدهما فلا يبعد التخيير والأحوط تطهير البدن (٢)

______________________________________________________

أكان اختياره الامتثال الإجمالي أو التفصيلي بداع عقلائي أم لم يكن. وعلى الجملة لا يعتبر في صحة الصلاة في الثوبين المشتبهين أن يكون اختيار هذا النوع من الامتثال مستنداً إلى داع عقلائي ، بل اللاّزم أن يكون أصل العبادة بداع إلهي والخصوصيات الفردية موكولة إلى اختيار المكلفين.

(١) والضابط أن يزيد عدد المأتي به على عدد المعلوم بالإجمال بواحد ، فإنه بذلك يقطع بإتيان الصلاة في الثوب الطاهر أو بغيره مما يعتبر في صحتها من أجزاء الصلاة وشرائطها.

(٢) لعلّ الوجه في احتياطه قدس‌سره بتطهير البدن والصلاة في الثوب المتنجس أن الثوب خارج عن المصلي ومغاير معه ، وهذا بخلاف بدنه لأنه عضوه بل هو هو بعينه لتركبه منه ومن غيره من أعضائه ، ومع هذه الخصوصية يحتمل وجوب إزالة النجاسة عن البدن بخصوصه فالأحوط اختيارها ، هذا من جهة الحكم التكليفي. وأما من جهة الحكم الوضعي فمع عدم التمكن من التكرار كان الأحوط أن يغسل الثوب إذ معه يقطع بصحة الصلاة ، وأما إذا غسل البدن فمعه يحتمل الصلاة عارياً بحسب الواقع وإن كان الأقوى عدم وجوبها كما مرّ فلا يحصل الجزم بصحة الصلاة في الثوب المتنجس.

٣٧٢

ثم إنّ هذه المسألة وغيرها مما يذكره الماتن في المقام وما يتعرض له في بحث الصلاة من دوران الأمر بين الإتيان بجزء أو جزء آخر أو بين شرط وشرط آخر أو عدم مانع وعدم مانع آخر أو بين شرط وجزء وهكذا ، كلها من واد واحد وهي عند المشهور بأجمعها من باب التزاحم ، لوجوب كل واحد من الأمرين في نفسه وعدم تمكن المكلف من امتثالهما معاً بحيث لو قدر عليهما وجبا في حقه وللعجز عن امتثالهما وقعت المزاحمة بينهما ، ومن هنا رجعوا في تمييز ما هو المتعين منهما إلى مرجحات باب التزاحم كالترجيح بالأهمية واحتمالها وبالأسبقية بالوجود.

إلاّ أنّ الصحيح أنّ الموارد المذكورة خارجة عن كبرى التزاحم ومندرجة في التعارض. بيان ذلك : أنّ الميزان في تعارض الدليلين تكاذبهما وتنافيهما في مقام الجعل والتشريع مع قطع النظر عن مرحلة الفعلية والامتثال ، بأن يستحيل جعلهما وتشريعهما لاستلزامه التعبد بالضدين أو النقيضين في مورد واحد كما دلّ على وجوب القصر في من سافر أربعة فراسخ ولم يرد الرجوع ليومه وما دلّ على وجوب التمام فيه ، وذلك للقطع بعدم وجوب صلاة واحدة في يوم واحد قصراً وإتماماً ، وكما دلّ على إباحة شي‌ء وما دلّ على وجوبه أو على عدم إباحته ، فإن تشريع مثلهما مستلزم للجمع بين الضدين أو النقيضين والتعبد بهما أمر غير معقول ، فصدق كل منهما يدل على كذب الآخر ولو بالالتزام. وهذا هو الميزان الكلي في تعارض الدليلين بلا فرق في ذلك بين القول بتبعيّة الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد في متعلقاتها أو في جعلها كما التزم به العدلية والقول بعدم تبعيتها لهما ، لأنّا قلنا بذلك أم لم نقل يستحيل الجمع بين الضدّين أو النقيضين بحسب الجعل والتشريع ، فما عن صاحب الكفاية قدس‌سره من أن ميزان التعارض أن لا يكون لكلا الحكمين مقتض وملاك بل كان المقتضي لأحدهما (١) فما لا وجه له ، لما مر من أن القول بوجود الملاك في الأحكام وعدمه أجنبيان عن بابي المعارضة والمزاحمة ، بل المدار في التعارض عدم إمكان الجمع بين الحكمين في مرحلة الجعل والتشريع كما مرّ ، هذا.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٥٥.

٣٧٣

على أنّ العلم بالملاك وأنه واحد أو متعدد يحتاج إلى علم الغيب المختص بأهله وليس لنا إلى إحرازه سبيل ، إلاّ أن يستكشف وجوده من الأحكام نفسها ، ومعه كيف يمكن إحراز أنه واحد أو متعدد مع الكلام في تعدد الحكم ووحدته.

أما المتزاحمان فلا مانع من جعل كل منهما على نحو القضية الحقيقية ، فإن الأحكام الشرعية مشروطة بالقدرة عقلاً أو من جهة اقتضاء نفس الخطاب ذلك من غير أن يكون للقضية نظر إلى ثبوت موضوعها وهو القادر وعدمه ، فأي مانع معه من أن يجعل على ذمّة المكلّف وجوب الصلاة في وقت معين إذا قدر عليها ويجعل على ذمته أيضاً وجوب الإزالة أو غيرها على تقدير القدرة عليها ، حيث لا تكاذب بين الجعلين بوجه ولا ينفي أحدهما الآخر أبداً ، بل لا مانع من أن تتكفلهما آيتان صريحتان من الكتاب أو غيره من الأدلة مقطوعة الدلالة والسند ، ولا يقال حينئذ إن الكتاب اشتمل على حكمين متكاذبين.

نعم التنافي بين المتزاحمين إنما هو في مقام الفعلية والامتثال ، لعجز المكلف عن امتثال كلا التكليفين في زمان واحد ، حيث إنّ له قدرة واحدة فأمّا أن يعملها في هذا أو يعملها في ذاك ، فالأخذ بأحد الحكمين في المتزاحمين يقتضي ارتفاع موضوع الحكم الآخر وشرطه ، لأنه إذا صرف قدرته في أحدهما فلا قدرة له لامتثال التكليف الآخر ، وهذا بخلاف الأخذ بأحد المتعارضين لأن الأخذ بأحدهما يقتضي عدم ثبوت الحكم الآخر ، حيث يدل على عدم صدوره لتكاذبهما بحسب مرحلة الجعل والتشريع مع بقاء موضوعه بحاله.

إذا عرفت ما هو الميزان في كل من التعارض والتزاحم فنقول : التزاحم على ما بيّناه في بحث الترتب وغيره إنما يتحقق بين تكليفين استقلاليين لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما في الامتثال ، ومقتضى القاعدة حينئذ عدم وجوب امتثالهما معاً ، وأما امتثال أحدهما فحيث إنه متمكن منه فيجب عليه ، إذ لا موجب لسقوط التكليف عن كليهما. نعم ، لا بدّ في تشخيص أن ما يجب امتثاله أيّ من المتزاحمين من مراجعة المرجحات المقرّرة في محلِّها ، بلا فرق في ذلك بين كونهما وجوبيين أو تحريميين أو‌

٣٧٤

بالاختلاف. وأما إذا كان التكليف واحداً متعلقاً بعمل ذي أجزاء وشروط وجودية أو عدمية ، ودار الأمر فيه بين ترك جزء أو جزء آخر أو بين شرط وشرط آخر أو الإتيان بمانع أو بمانع آخر ، فلا تأتي فيه كبرى التزاحم بل هو في مثله أمر غير معقول وذلك فان المركب من جزء وشرط فعل واحد ارتباطي ، بمعنى أن ما دلّ على وجوب كل واحد من الأجزاء والشرائط إرشاد إلى جزئية الجزء أو شرطية الشرط ومعناهما أنّ الركوع مثلاً واجب مقيداً بما إذا تعقبه السجود وهما واجبان مقيدان بتعقب الجزء الثالث ، وجمعها واجب مقيد بتعقبه بالجزء الرابع وهكذا إلى آخر الأجزاء والشرائط ومعه إذا لم يتمكّن المكلّف من جزئين أو شرطين منها معاً سقط عنه الأمر المتعلق بالمركّب لتعذر جزئه أو شرطه ، فان التكليف ارتباطي ووجوب كل من الأجزاء والشرائط مقيد بوجود الآخر كما مرّ.

نعم الدليل القطعي قام في خصوص الصلاة على وجوب الإتيان بما تمكن المكلف من أجزائها وشرائطها ، وأنه إذا تعذرت منها مرتبة تعينت مرتبة اخرى من مراتبها وذلك للإجماع القطعي والقاعدة المتصيدة من أن الصلاة لا تسقط بحال المستفادة مما ورد في المستحاضة من أنها لا تدع الصلاة على حال (١) للقطع بعدم خصوصية للمستحاضة في ذلك ، إلاّ أنه تكليف جديد وهذا الأمر الجديد إما أنه تعلق بالأجزاء المقيّدة بالاستقبال مثلاً أو بالمقيّدة بالاستقرار والطمأنينة ، فيما إذا دار أمر المكلف بين الصلاة إلى القبلة فاقدة للاستقرار وبين الصلاة معه إلى غير القبلة ، للقطع بعدم وجوبهما معاً فوجوب كل منهما يكذّب وجوب الآخر ، وهذا هو التعارض كما عرفت فلا بد حينئذ من ملاحظة أدلّة ذينك الجزئين أو الشرطين فان كان دليل أحدهما لفظياً دون الآخر فيتقدّم ما كان دليله كذلك على غيره بإطلاقه ، فإنّ الأدلّة اللبية يقتصر فيها على المقدار المتيقن.

وإذا كان كلاهما لفظياً وكانت دلالة أحدهما بالعموم ودلالة الآخر بالإطلاق فما كانت دلالته بالعموم يتقدّم على ما دلالته بالإطلاق ، لأنّ العموم يصلح أن يكون‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.

٣٧٥

قرينة وبياناً للمطلق دون العكس. وإذا كانا متساويين من تلك الجهة فيتساقطان ويتخيّر المكلّف بينهما بمقتضى العلم الإجمالي بوجوب أحدهما ، واندفاع احتمال التعين في أحدهما بالبراءة كما هو الحال في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير. ولا مساغ حينئذ للترجيح بالأهمية إذ الشك فيما هو المجعول الواقعي سواء أكان هو الأهم أم غيره ، ومن هنا ربما تتعارض الإباحة مع الوجوب مع أنه أهم من الإباحة يقيناً.

ثم إنّا لو أغمضنا عن ذلك وبنينا على أن المدار في التعارض وحدة الملاك والمقتضي وعدم اشتمال كلا المتعارضين عليهما ، أيضاً لا تندرج المسألة في كبرى التزاحم وذلك لأن الصور المحتملة في مقام الثبوت ثلاث لا رابع لها ، إذ الجزءان أو الشرطان اللذان دار الأمر بينهما إما أن لا يكون في شي‌ء منهما الملاك ، وإما أن يكون الملاك لكل منهما بحيث لو أتى بالصلاة فاقدة لشي‌ء منهما بطلت ، وإما أن يكون الملاك لأحدهما دون الآخر.

أما الصورة الأُولى فلازمها الحكم بصحة الصلاة الفاقدة لذينك الجزأين أو الشرطين معاً ، إذ لا ملاك ولا مدخلية لهما في الصلاة وهذا خلاف علمنا الإجمالي بوجوبها مقيّدة بهذا أو بذاك. وأما الصورة الثانية فلازمها سقوط الأمر بالصلاة لمدخلية كل من الجزأين أو الشرطين في صحتها بحيث إذا وقعت فاقدة لأحدهما بطلت ، وبما أن المكلف عاجز عن إتيانهما معاً فيسقط عنه الأمر بالصلاة. وهذا أيضاً على خلاف العلم الإجمالي بوجوبها مقيدة بأحدهما ، ومع بطلان القسمين السابقين تتعين الصورة الثالثة وهي أن يكون المقتضي لأحدهما دون الآخر وهو الميزان في تعارض الدليلين عند صاحب الكفاية (١) قدس‌سره فعلى مسلكنا ومسلكه لا بد من اندراج المسألة تحت كبرى التعارض. وهذا بخلاف التزاحم بين التكليفين الاستقلاليين ، إذ لا مانع من اشتمال كل منهما على الملاك وبما أن المكلف غير متمكن من امتثالهما فيسقط التكليف عن أحدهما ويبقى الآخر بحاله.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٥٥.

٣٧٦

والمتحصل أن في تلك المسائل لا سبيل للرجوع إلى مرجحات باب التزاحم. والعجب كلّه عن شيخنا الأُستاذ قدس‌سره حيث ذهب في تلك المسائل إلى الترجيح بتلك المرجحات ولم يدرجها في كبرى التعارض (١) مع أنه ( قدس الله سره ) هو الذي أوضح الفرق بين الكبريين معترضاً على القول بأن الأصل عند الشك في الدليلين المتنافيين هو التعارض أو التزاحم بأنه يشبه القول بأن الأصل في الأشياء هل هي الطهارة أو البطلان في البيع الفضولي (٢) ، فكما لا ربط ولا جامع بين أصالة الطهارة وبطلان البيع الفضولي كذلك لا جامع بين كبرى التعارض والتزاحم. وله قدس‌سره حاشيتان في مسألة ما إذا دار أمر المكلف بين مكانين في أحدهما قادر على القيام ولكن لا يتمكن من الركوع والسجود إلاّ مومئاً ، وفي الآخر لا يتمكّن من القيام إلاّ أنه يتمكن منهما جالساً ولم يسع الوقت للجمع بينهما بالتكرار ، قدّم في إحدى الحاشيتين الركوع والسجود جالساً على القيام مومئاً فيهما (٣) ، وعكس الأمر في الحاشية الثانية فقدّم الصلاة مع القيام مومئاً في ركوعها وسجودها على الصلاة مع الركوع والسجود جالساً حيث قال : « الأحوط أن يختار الأول » (٤) وقد نظر في إحداهما إلى الترجيح بالأهمية لوضوح أهمية الركوع والسجود من القيام ، ونظر في الثانية إلى الترجيح بالأسبقية في الزمان والوجود. ولم يكن شي‌ء من ذلك مترقباً منه قدس‌سره. وتعرض الماتن قدس‌سره للمسألة في بابي القيام والمكان من بحث الصلاة وذهب في كلا الموردين إلى التخيير بينهما (٥).

وعلى الجملة أن إدراج تلك المسائل تحت كبرى المتزاحمين انحراف عن جادّة الصّواب ، بل الصحيح أنها من كبرى التعارض ولا بد فيها من الترجيح بما مر. وما ذكرناه في المقام باب تنفتح منه الأبواب فاغتنمه.

__________________

(١) كتاب الصلاة ٢ : ٧٠.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٥٠٥.

(٣) العروة الوثقى مع حاشية المحقق النائيني ١ : ٢٧٨ السادس.

(٤) العروة الوثقى مع حاشية المحقق النائيني ١ : ٣٠٩.

(٥) في المسألة [١٤٧٧] ، [١٣٤٥].

٣٧٧

وإن كانت نجاسة أحدهما أكثر (١)

______________________________________________________

(١) النهي عن الطبيعة يتصور على وجهين : فإن المفسدة قد تكون قائمة بصرف الوجود كما أن المصلحة قد تكون كذلك بحيث لو وجد فرد من الطبيعة عصياناً أو اضطراراً ونحوهما تحققت المفسدة في الخارج وفات الغرض الداعي إلى النهي ويعبّر عنه بإرادة خلو صفحة الوجود عن المنهي عنه وفي مثله إذا وجد فرد من أفراد الطبيعة سقط عنها النهي ، ولا يكون في الفرد الثاني والثالث وغيرهما أيّ مفسدة ولا يكون مورداً للنهي ، كما إذا نهى السيد عبيده عن أن يدخل عليه أحد لغرض له في ذلك لا يتحصل إلاّ بخلو داره عن الغير فإنه إذا ورد عليه أحد عصياناً أو غفلة ونحوهما فات غرضه وحصلت المفسدة في الدخول ، فلا مانع من أن يدخل عليه شخص آخر بعد ذلك إذ لا نهي ولا مفسدة.

وقد تكون المفسدة قائمة بمطلق الوجود فيكون النهي حينئذ انحلالياً لا محالة ، وهو وإن كان في مقام الجعل والإنشاء نهياً واحداً إلاّ أنه في الحقيقة ينحل إلى نواهي متعددة لقيام المفسدة بكل واحد واحد من الوجودات والأفراد ، فاذا وجد فرد من الطبيعة لعصيان أو اضطرار فلا يترتب عليه إلاّ سقوط نهيه وتحقق المفسدة القائمة بوجوده ، ولا يحصل به الترخيص في بقية الأفراد لأنها باقية على مبغوضيتها واشتمالها على المفسدة الداعية إلى النهي عن إيجادها ، لأنّ المفسدة القائمة بكل فرد من أفراد الطبيعة تغاير المفسدة القائمة بالفرد الآخر ، وهذا كما في الكذب فإن المفسدة فيه قائمة بمطلق الوجود فاذا ارتكبه في مورد لا يرتفع به النهي عن بقية أفراد الكذب وهذا ظاهر.

وهذا القسم الأخير هو الذي يستفاد من النهي بحسب المتفاهم العرفي فحمله على القسم الأول يحتاج إلى قرينة تقتضيه. فاذا كان هذا حال النواهي النفسية الاستقلالية فلتكن النواهي الضمنية الإرشادية أيضاً كذلك ، فقد يتعلّق النهي فيها بالطبيعة على نحو صرف الوجود ، وإذا وجد فرد من أفرادها سقطت المانعية والحرمة عن الجميع فلا مانع من إيجاد غيره من الأفراد ، وقد يتعلق بالطبيعة على نحو مطلق الوجود‌

٣٧٨

أو أشدّ (١) لا يبعد ترجيحه (*).

______________________________________________________

فيكون النهي انحلالياً ولا يسقط النهي والمانعية بإيجاد فرد من أفرادها بالعصيان أو الاضطرار ، وقد مرّ أن الثاني هو الذي يقتضيه المتفاهم العرفي من النهي والقسم الأول يحتاج إلى دلالة الدليل عليه.

فاذا اضطر المكلف إلى لبس الثوب المتنجس في صلاته فليس له لبس ثوب متنجس آخر بدعوى أن مانعية النجس سقطت بالاضطرار ، وذلك لأن المانعية قائمة بكل فرد من أفراد النجس ولا تسقط عن بقية الأفراد بسقوطها عن فرد للاضطرار إليه ، فلو أتى بفرد آخر زائداً على ما اضطر إليه بطلت صلاته ، وكذلك الحال فيما إذا كان كل من ثوبه وبدنه متنجساً فإنه مع تمكنه من تطهير أحدهما لا يجوز له الصلاة فيهما بل تجب إزالة النجاسة عما يمكنه تطهيره. وكذا إذا كانت نجاسة أحدهما أكثر من نجاسة الآخر يتعين عليه إزالة الأكثر ، لأن الاضطرار إنما هو إلى الصلاة في المتنجس الجامع بين ثوبه وبدنه ولا اضطرار له إلى الصلاة في خصوص ما كانت نجاسته أكثر فإن له أن يكتفي بما كانت نجاسته أقل ، فلو اختار الصلاة فيما نجاسته أكثر بطلت لعدم ارتفاع المانعية عن النجاسة الكثيرة بالاضطرار إلى ما هو الجامع بين القليلة والكثيرة. نعم إذا تمكّن من إزالة النجاسة بمقدار معيّن عن أحدهما كالدرهمين ، يتخيّر بين إزالة النجاسة بمقدارهما عن ثوبه أو بدنه أو بالاختلاف بأن يزيل مقدار درهم من بدنه ومقدار درهم من ثوبه ولعلّه ظاهر.

(١) كما إذا تنجس أحدهما بالدم والآخر بشي‌ء من المتنجسات ، أو تنجس أحدهما بالبول والآخر بالدم ، والبول أشد نجاسة من الدم ، وهل يتعين عليه إزالة الأشد والصلاة في غيره أو يتخير بينهما؟

الثاني هو الصحيح لأنه لا أثر لأشدية النجاسة في المنع عن الصلاة ، لأن المانعية مترتبة على طبيعي النجس ، فخفيفه كشديده وهما في المانعية على حد سواء وإن كان‌

__________________

(*) بل هو الأظهر عند كون أحدهما أكثر.

٣٧٩

[٢٨٥] مسألة ٩ : إذا تنجس موضعان من بدنه أو لباسه ، ولم يمكن إزالتهما فلا يسقط الوجوب ويتخيّر (١) إلاّ مع الدوران بين الأقل والأكثر (٢) أو بين الأخفّ والأشدّ (٣) أو بين متّحد العنوان ومُتعدِّده (٤) فيتعيّن الثاني في الجميع (*)

______________________________________________________

أحدهما أشدّ وجوداً من غيره ، وهذا نظير ما إذا دار أمر المصلِّي بين أن يتكلّم في صلاته قوياً أو يتكلّم ضعيفاً ، حيث يتخيّر بينهما لأنّ قوّة الصوت وضعفه مما لا أثر له من حيث مانعية التكلم أو قاطعيته ، هذا بناء على أن المورد من باب التعارض كما هو الصحيح وأما بناء على أنه من كبرى التزاحم فلا إشكال في أن الأشدية مرجحة ، حيث لا يمكننا دعوى الجزم بتساوي الشديد والخفيف في المانعية عن الصلاة بل نحتمل أن يكون الشديد متعين الإزالة ، واحتمال الأهمية من مرجحات باب التزاحم.

(١) ظهر الوجه في ذلك مما بيّناه آنفاً وقلنا إنّ النهي انحلالي ، والاضطرار إلى فرد من الطبيعة المنهي عنها لا يستتبع سقوط النهي عن بقية الأفراد ، وعليه فيتخيّر بين إزالة هذا الفرد وإزالة الفرد الآخر.

(٢) لما مرّ من أن الاضطرار إلى الصلاة في النجس الجامع بين القليل والكثير غير مسوغ لاختيار الفرد الكثير لعدم اضطراره إليه ، فلو صلّى فيه مع الاختيار بطلت صلاته.

(٣) في تعيّن الأشدّ إشكال ومنع ، لأنّ الأشدّ كالأخفّ من حيث المانعية في الصلاة وهما من تلك الجهة على حد سواء إلاّ بناء على إدراج المسألة في كبرى التزاحم ، فان احتمال الأهمية في الأشدّ من المرجحات حينئذ.

(٤) لاتحاد العنوان وتعدّده موردان : أحدهما : تعدّد العنوان واتحاده من حيث المانعية في الصلاة ، كما إذا أصاب موضعاً من بدنه دم الآدمي أو دم الحيوان المحلل وأصاب موضعاً آخر دم الهرّة أو غيرها مما لا يؤكل لحمه ، فانّ في الأوّل عنواناً واحداً من المانعية وهو عنوان النجاسة ، وفي الثاني عنوانين : أحدهما عنوان النجاسة‌

__________________

(*) على الأحوط الأولى في الدوران بين الأخفّ والأشدّ.

٣٨٠