موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

[٢٧٠] مسألة ٢٩ : إذا كان المصحف للغير ففي جواز تطهيره بغير إذنه إشكال إلاّ إذا كان تركه هتكاً ولم يمكن الاستئذان منه فإنّه حينئذ لا يبعد وجوبه (*) (١).

______________________________________________________

ملكاً للمنجّس وما إذا كان لم يكن ، كما أنه بناء على ضمانه لا يفرق بينهما. نعم ، إنما يفترق حكم المالك عن غيره بالنسبة إلى ضمان النقص الحاصل بالتطهير ، فإنه لا موجب لثبوته في حق المالك إذ لا معنى لضمانه مال نفسه.

ولكن التأمل الصادق يعطي أن الماتن لا نظر له إلى ذلك وإنما يريد نفي الضمان مطلقاً فيما إذا كان المصحف ملكاً للمنجّس ، وذلك من جهة أنه قدس‌سره قد حكم في المسألة السابقة بضمان المنجّس النقص الحاصل بالتطهير فيما إذا كان المصحف لغير من نجّسه ، وهذا الضمان لم يكن يحتمل ثبوته في حق المالك المنجّس لما عرفت ، ولكن كان يتوهم في حقّه ضمان آخر وهو ضمانه للمال المصروف في سبيل تطهيره فنفاه بقوله ولا يضمنه من نجسة إذا لم يكن لغيره ، فهو لا يريد بذلك ثبوت هذا الضمان فيما إذا كان المصحف لغير المنجّس ، بل إن تخصيصه الحكم بما إذا لم يكن المصحف لغيره من جهة أنّ الضمان المتوهم في حق المالك المنجّس ليس إلاّ هذا القسم من الضمان.

(١) بقاء المصحف على نجاسته إما أن يكون هتكاً للمصحف وإما أن لا يكون وعلى كلا التقديرين إما أن يكون الاستئذان من مالك المصحف ممكناً وإما أن لا يكون ، وعلى تقدير إمكانه إما أن يكون المالك بحيث لو استأذن منه أذن أو أزال النجاسة بنفسه وإما أن لا يكون كذلك فلا يأذن لتطهيره ولا أنه يزيلها بنفسه لعدم مبالاته بالدين أو عدم ثبوت النجاسة عنده باخبار المخبر. فان كان بقاء المصحف على نجاسته هتكاً لحرمته ، فإن أمكن الاستئذان من مالكه وكان يأذن على تقدير الاستئذان منه أو أزالها بنفسه فلا إشكال في عدم جواز تطهيره قبل أن يأذن المالك وذلك لحرمة التصرف في مال الغير من دون إذنه ، ولا تزاحم بين وجوب الإزالة‌

__________________

(*) الظاهر انّه لا إشكال في الوجوب إذا كان الترك هتكاً كما هو المفروض.

٣٠١

وحرمة التصرّف في مال الغير فان امتثالهما أمر ممكن فيجب العمل بكليهما ، وهو إنما يتحقّق بالاستئذان من المالك والإزالة بعد إذنه.

هذا فيما إذا لم يتخلّل بين الاستئذان وإذن المالك مدة معتد بها بحيث يلزم من بقاء المصحف على نجاسته في تلك المدّة مهانته وهتكه ، وأما إذا كان الاستئذان غير ممكن أو أمكن إلاّ أن بقاء المصحف على النجاسة في المدة المتخللة بين الاذن والاستئذان كان موجباً لهتكه ، فلا محالة يقع التزاحم بين حرمة التصرف في مال الغير من غير إذنه وبين وجوب إزالة النجاسة عن الكتاب ، وحيث إن وجوب الإزالة أهم في هذه الصورة لأنّ المصحف أعظم الكتب السماوية ومتكفل لسعادة البشر وهو الأساس للدين الحنيف ولا يرضى الشارع بانتهاكه ، فنستكشف بذلك إذنه في تطهيره ، ومع إذن المالك الحقيقي في التصرّف في مال أحد لا يعبأ بإذن المالك المجازي وعدمه.

ونظيره ما إذا أذن المالك في تطهير المصحف ولم يرض بذلك مالك الماء ، فلا بدّ حينئذ من التصرف في الماء باستعماله في تطهير الكتاب ، لاستكشاف إذن المالك الحقيقي حيث إن تركه يستلزم انتهاك حرمة الكتاب. وأما إذا لم يكن بقاء الكتاب على النجاسة موجباً لهتكه كما إذا كان متنجساً بمثل الماء المتنجس مثلاً فان كان الاستئذان ممكناً حينئذ وكان المالك بحيث يأذن لو استأذن فلا كلام في حرمة الإزالة قبل إذن المالك لإمكان امتثال كلا الحكمين. وليست الإزالة بأولى في هذه الصورة منها في صورة استلزام تركها الهتك ، وقد عرفت عدم جواز الإزالة حينئذ من دون إذن المالك. وإذا لم يمكن الاستئذان من المالك أو أمكن إلاّ أن المالك بحيث لا يأذن لو استأذن يقع التزاحم بين حرمة التصرف في مال الغير من دون إذنه ووجوب الإزالة ولم يثبت أن الثاني أقوى بحسب الملاك بل الأول هو الأقوى ولا أقل من أنه محتمل الأهمية دون الآخر فيتقدم على وجوب الإزالة ، وذلك لأن التصرف في مال أحد يتوقف على إذنه أو على إذن المالك الحقيقي وكلاهما مفقود في المقام. نعم ، لا بأس بإرشاد المالك وقتئذ من باب الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر ، بل ولا مانع عن ضربه وإجباره على تطهير المصحف إذا أمكن وأما التصرّف في ماله من دون إذنه فلا.

٣٠٢

[٢٧١] مسألة ٣٠ : يجب إزالة النجاسة عن المأكول وعن ظروف الأكل والشرب إذا استلزم استعمالها تنجّس المأكول والمشروب (١).

[٢٧٢] مسألة ٣١ : الأحوط ترك الانتفاع بالأعيان النّجسة (٢) خصوصاً‌

______________________________________________________

ثم إنّ ما ذكرناه آنفاً من وجوب تطهير المصحف ولو من غير إذن مالكه إذا كان بقاؤه على نجاسته موجباً لانتهاك حرمات الله سبحانه ، إنما يختص بجواز التصرف فحسب ، فلزوم الهتك من بقاء المصحف على النجاسة إنما يرفع الحرمة التكليفية عن التصرّف في مصحف الغير من دون إذنه ، وأما الأحكام الوضعية المترتبة على التصرف فيه كضمان النقص الحاصل بتطهيره فلا يرتفع بذلك حيث لا تزاحم بين الحكم بضمان المباشر للنقص وعدم جواز هتك الكتاب أعني ترك تطهيره.

(١) وجوب الإزالة عن المأكول والمشروب وإن لم يكن خلافياً عندهم ، إلاّ أن وجوبها شرطي وليست بواجب نفسي ، لوضوح أن غسل المأكول عند تنجسه إذا لم يرد أكله ليس بواجب في الشريعة المقدسة ، وإنما يجب إذا أُريد أكله ، وكذلك الحال في ظروف الأكل والشرب ، وذلك لأنه لا دليل عليه عدا حرمة أكل المتنجس وشربه المستفادة مما ورد في مثل اللحم المتنجس وأنه يغسل ويؤكل (١) ، وما ورد في مثل المياه وغيرها من المائعات المتنجسة وأنها تهراق ولا ينتفع بها فيما يشترط فيه الطهارة (٢) وما ورد في السمن والزيت ونحوهما من أنها إذا تنجست لا يجوز استعمالها فيما يعتبر فيه الطهارة (٣) وغير ذلك من المتنجسات. وعليه فيكون تطهير الأواني أو المأكول والمشروب واجباً شرطياً كما مر.

(٢) ذكرنا في بحث المكاسب المحرمة أن مقتضى القاعدة الأولية جواز الانتفاع‌

__________________

(١) الوسائل ٢٤ : ١٩٦ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٤٤ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ١٥١ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ٢ ، ١٠ ، ١٤ ، وكذا في ٢٤ : ١٩٦ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٤٤ ح ١.

(٣) الوسائل ١٧ : ٩٧ / أبواب ما يكتسب به ب ٦ ح ١ ٦.

٣٠٣

الميتة ، بل والمتنجسة إذا لم تقبل التطهير إلاّ ما جرت السيرة عليه من الانتفاع بالعذرات وغيرها للتسميد والاستصباح بالدهن المتنجِّس. لكن الأقوى جواز الانتفاع بالجميع حتى الميتة مطلقاً في غير ما يشترط فيه الطهارة. نعم ، لا يجوز‌

______________________________________________________

بالأعيان النّجسة فيما لا يشترط فيه الطهارة فضلاً عن المتنجسات كبل الثوب أو الحناء وتنظيف البدن والألبسة عن القذارات حتى يتطهّرا بعد ذلك بالماء الطاهر وغيرهما ، وذلك لأنه لم يرد دليل على المنع عن ذلك إلاّ في رواية تحف العقول حيث دلّت على المنع عن جميع التقلبات في النجس الشامل للذاتي والعرضي (١) ولكنّا ذكرنا هناك أن الرواية غير قابلة للاعتماد عليها فلا دليل على حرمة الانتفاع بالأعيان النجسة فضلاً عن المتنجسة. نعم ، ورد المنع عن الانتفاع ببعض الأعيان النجسة كما في الخمر والمسكر حيث نهي عن الانتفاع بهما في غير صورة الضرورة (٢) وفي بعض الأخبار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نزل تحريم الخمر خرج وقعد في المسجد ثم دعا بآنيتهم التي كانوا ينبذون فيها فأكفاها كلها (٣) إلاّ أن النهي عن ذلك غير مستند إلى نجاسة الخمر حيث لم ينه عنها بعنوان أنها نجسة ، بل لو كانت الخمر طاهرة أيضاً كنّا نلتزم بحرمة انتفاعاتها للنص. فالمتحصل أن مقتضى القاعدة جواز الانتفاع بالأعيان النجسة والمتنجسة في غير موارد دلالة الدليل على حرمته.

__________________

(١) حيث قال : « أو شي‌ء من وجوه النجس ، فهذا كله حرام ومحرم لأن ذلك كله منهي عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلب فيه ، فجميع تقلبه في ذلك حرام » الوسائل ١٧ : ٨٤ / أبواب ما يكتسب به ب ٢ ح ١ ، تحف العقول : ٣٣٣.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٣٤٩ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٢١ ح ١ ٥ ، ب ٣٤ ح ١ ، ٢ ، ٤ ، ٥ ، والوجه في دلالتها على المدعى : أن الانتفاع بالخمر والمسكر لو لم يكن محرماً لم يكن للمنع عن الاكتحال بهما ولا لتحريم الخمر وحفظها وغرسها وعصرها ولا لغير ذلك مما ذكر في الروايات وجه صحيح لعدم حرمة جميع منافعها على الفرض ، فيستكشف بذلك أن الانتفاع بهما على إطلاقه محرّم في الشريعة المقدسة.

(٣) رواها علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبي الجارود كما في الوسائل ٢٥ : ٢٨١ / أبواب الأشربة المحرمة ب ١ ح ٥.

٣٠٤

بيعها للاستعمال المحرّم وفي بعضها لا يجوز بيعه مطلقاً كالميتة والعذرات (*) (١).

______________________________________________________

(١) إنّ مقتضى القاعدة جواز بيع النجاسات والمتنجسات وضعاً وتكليفاً على ما تقتضيه إطلاقات أدلّة البيع وصحته ولم يثبت تقييدها بغير النجس أو المتنجس. وأما الشهرة والإجماعات المنقولة ورواية تحف العقول المستدل بها على عدم جواز بيعهما بحسب الوضع أو التكليف ، فقد ذكرنا في محلِّه أنها ضعيفة ولا مسوّغ للاعتماد عليها لعدم حجية الشهرة ولا الإجماعات المنقولة ولا رواية التحف (٢). هذا كله بحسب القاعدة وأمّا بحسب الأخبار فلا بد من النظر إلى أن الأعيان النجسة أيّها ممنوع بيعها فنقول : دلّت جملة من الأخبار على أن الخمر قد ألغى الشارع ماليّتها ومنع عن بيعها وشرائها ، لا بما أنها نجسة بل لأجل مبغوضيتها وفسادها (٣) بحيث لو أتلفها أحد لم يحكم بضمانه إلاّ إذا كانت الخمر لأهل الذمّة ، كما أنّ الأخبار وردت في النهي عن بيع الكلب بما له من الأقسام سوى الصيود ، وفي بعضها أنّ ثمنه سحت (٤) ، وكذا ورد النهي عن بيع الخنزير والميتة في غير واحد من الأخبار (٥) وهذه الموارد هي التي نلتزم بحرمة البيع فيها.

وأمّا غيرها من الأعيان النجسة فلم يثبت المنع عن بيعها حتى العذرة ، لأنّ الأخبار الواردة في حرمة بيعها وأن ثمنها سحت ضعيفة السند ، على أنها معارضة بما دلّ على عدم البأس بثمن العذرة (٦) ، وعليه فلا وجه لما صنعه الماتن قدس‌سره حيث عطف العذرة على الميتة. وأما بيع النجاسات أو المتنجسات بقصد استعمالها في‌

__________________

(*) لا يبعد جواز بيع العذرة للانتفاع بها منفعة محلّلة ، نعم الكلب غير الصيود وكذا الخنزير والخمر والميتة لا يجوز بيعها بحال.

(١) مصباح الفقاهة ١ : ١٧٤.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢٢٤ / أبواب ما يكتسب به ب ٥٥ ح ٣ ٧.

(٣) الوسائل ١٧ : ١١٨ / أبواب ما يكتسب به ب ١٤ ح ١ ٨.

(٤) الوسائل ١٧ : ٩٣ / أبواب ما يكتسب به ب ٥ ح ٥ ، ٨ ، ٩.

(٥) الوسائل ١٧ : ١٧٥ / أبواب ما يكتسب به ب ٤٠ ح ٢ ، ٣.

٣٠٥

الحرام فان اشترط استعمالها في الجهة المحرمة في ضمن المعاملة والبيع فلا إشكال في فساد الشرط لأنه على خلاف الكتاب والسنة ، وهل يبطل العقد أيضاً بذلك؟ يبتني هذا على القول بإفساد الشرط الفاسد وعدمه وقد قدّمنا الكلام في تلك المسألة في محلِّها (١) ولا نعيد.

وأمّا إذا لم يشترط في ضمن عقد البيع ولكنّا علمنا من الخارج أن المشتري سوف يصرفه في الجهة المحرمة باختياره وإرادته فلا يبطل بذلك البيع ، حيث لا دليل عليه كما لا دليل على حرمته التكليفية وإن كان بيعها مقدمة لارتكاب المشتري الحرام وذلك لأن البائع إنما باعه أمراً يمكن الانتفاع به في كلتا الجهتين أعني الجهة المحللة والمحرّمة ، والمشتري إنما صرفه في الجهة المحرمة بسوء اختياره وإرادته ، وهو نظير بيع السكين ممن نعلم أنه يجرح به أحداً أو يذبح به شاة غيره عدواناً أو يرتكب به أمراً محرماً آخر ما عدا قتل النفس المحترمة ومقدماته ولا إشكال في جوازه.

هذا بل قد صرح أئمتنا ( عليهم أفضل السلام ) في جملة من رواياتهم بجواز بيع التمر ممن يعلم أنه يصنعه خمراً (٢) ، وقد أسندوا ذلك إلى أنفسهم في بعضها (٣) ، وبيّنا في محلِّه أنّ إيجاد المقدّمة المشتركة بين الجهة المحللة والمحرمة لو حرم في الشريعة المقدسة لحرمت جملة كثيرة من الأُمور التي نقطع بحليتها كإجارة الدار مثلاً ، فان لازم ذلك الالتزام بحرمتها مطلقاً للعلم العادي بأن المستأجر يرتكب أمراً محرّماً في الدار ولو بسبّ زوجته أو بكذبه أو بشربه الخمر إلى غير ذلك من المحرّمات مع وضوح جواز إجارة الدار ممن يشرب الخمر وغيره ، وكسوق السيارة أو السفينة ونحوهما للعلم الإجمالي بأنّ بعض ركّابها قصد الفعل الحرام من السعاية أو الظلم أو القمار أو غيرها من المحرمات ولا سيما في بعض البلاد كطهران وبغداد.

__________________

(١) مصباح الفقاهة ٧ : ٣٥١.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢٣٠ / أبواب ما يكتسب به ب ٥٩ ح ٥.

(٣) كما في رواية أبي كهمس وصحيحة رفاعة المرويتين في الوسائل ١٧ : ٢٣٠ / أبواب ما يكتسب به ب ٥٩ ح ٦ ، ٨.

٣٠٦

[٢٧٣] مسألة ٣٢ : كما يحرم الأكل والشرب للشي‌ء النجس كذا يحرم التسبيب لأكل الغير أو شربه (١) وكذا التسبّب لاستعماله (*)

______________________________________________________

(١) التسبيب إلى أكل النجس أو شربه قد يكون مع علم المباشر وإرادته واختياره ، والتسبيب حينئذ مما لا إشكال في جوازه إلاّ من جهة كونه إعانة على الإثم والحرام. وفي حرمة الإعانة على الحرام وعدمها بحث طويل تعرضنا له في محله (٢). وهذه الصورة خارجة عن محط كلام الماتن قدس‌سره حيث إن ظاهره إرادة التسبيب الذي لا يتخلّل بينه وبين فعل المباشر إرادة واختيار ، كما إذا أضاف أحداً وقدّم له طعاماً متنجساً فأكل الضيف النجس لا بإرادته واختياره لجهله بالحال. وعليه فيقع الكلام في التسبيب إلى أكل النجس أو شربه مع عدم صدور الفعل من المباشر بإرادته وعدم تخلل الاختيار بين التسبيب والفعل الصادر من المباشر ، وهل هو حرام أو لا حرمة فيه؟ ثم إنه إذا لم يسبب لأكل النجس أو شربه إلاّ أنه كان عالماً بنجاسة شي‌ء وحرمته ورأى الغير قد عزم على أكله أو شربه جاهلاً بالحال فهل يجب عليه إعلامه؟

إذا كان الحكم الواقعي مما لا يترتّب عليه أثر بالإضافة إلى المباشر الجاهل وكان وجوده وعدمه على حد سواء ، فلا إشكال في عدم حرمة التسبيب حينئذ ولا في عدم وجوب الاعلام ، وهذا كما إذا قدّم لمن أراد الصلاة ثوباً متنجساً فلبسه وصلّى فيه وهو جاهل بنجاسته ، أو رأى أحداً يصلِّي في الثوب المتنجس جاهلاً بنجاسته فإنه لا يجب عليه إعلام المصلِّي بنجاسة ثوبه ، ولا يحرم عليه أن يقدّم الثوب المتنجس إلى من يريد الصلاة فيه ، حيث لا يترتب على نجاسة ثوب المصلي وطهارته أثر إذا كان جاهلاً بالحال ، وصلاته في الثوب المتنجس حينئذ لا تنقص عن الصلاة في الثوب الطاهر بل هما على حد سواء ، وهو نظير ما إذا رأى في ثوب المصلي دماً أقل من الدرهم حيث‌

__________________

(*) لا بأس به إذا كان الشرط أعمّ من الطهارة الواقعية والظاهرية ، كما في اشتراط الصلاة بطهارة الثوب والبدن.

(١) مصباح الفقاهة ١ : ٢٣٠.

٣٠٧

لا ريب في عدم وجوب الاعلام به ، لأنه لا أثر لوجود الدم المذكور وعدمه حتى مع علم المصلِّي به فضلاً عن جهله ، وكذا لا إشكال في جواز التسبيب إلى الصلاة في مثله.

وعلى الجملة أن جواز التسبيب وعدم وجوب الاعلام في هذه الصورة على القاعدة. مضافاً إلى الموثقة الواردة في من أعار رجلاً ثوباً فصلّى فيه وهو لا يصلي فيه (١) حيث دلت على أن الثوب المستعار لا يجب الاعلام بنجاسته للمستعير. والوجه فيه أن صلاة الجاهل في الثوب المتنجس مما لا منقصة له بل هي كصلاته في الثوب الطاهر من غير نقص ، ومن هنا جاز للمعير أن يأتم بالمستعير في صلاته في الثوب المتنجس. ولا يبتني هذا على ما اشتهر من النزاع في أن المدار في الصحة على الصحّة الواقعية أو الصحّة عند الإمام ، لأن ذلك إنما يختص بما إذا كان للواقع أثر مترتّب عليه كما في الجنابة والحدث الأصغر ونحوهما.

فالمتحصل إلى هنا أن الحكم الواقعي إذا كان ذكريا ومشروطاً بالعلم والالتفات لا يجب فيه الاعلام للجاهل كما لا يحرم التسبيب في مثله ، ولعل هذا مما لا ينبغي الإشكال فيه. وإنما الكلام فيما إذا كان للحكم الواقعي أثر يترتب عليه في نفسه من حيث صحة العمل وبطلانه ومحبوبيته ومبغوضيته وإن كان المباشر معذوراً ظاهراً لجهله ، وهذا كشرب الخمر أو النجس أو أكل الميتة ونحوها فان شرب الخمر مثلاً مبغوض عند الله واقعاً وإن كان شاربها معذوراً لجهله ، فهل يحرم التسبيب في مثله ويجب فيه الاعلام ، فلا يجوز تقديم الخمر إلى الضيف ليشربها جاهلاً بأنها خمر أو لا يحرم التسبيب ولا يجب فيه الإعلام ، أو يفصّل بينهما بالحكم بحرمة التسبيب وعدم وجوب الاعلام؟

وجوه صحيحها الأخير وذلك لعدم قيام الدليل على وجوب الاعلام في أمثال المقام ، حيث لا تنطبق عليه كبرى وجوب النهي عن المنكر لجهل المباشر وعدم صدور الفعل منه منكراً ولا وجوب تبليغ الأحكام الشرعية وإرشاد الجاهلين لأنه‌

__________________

(١) كما في موثقة ابن بكير المروية في الوسائل ٣ : ٤٨٨ / أبواب النجاسات ب ٤٧ ح ٣.

٣٠٨

عالم بالحكم وإنما جهل مورده أو اعتقد طهارته ، ومعه لا يمكن الحكم بوجوب إعلامه بل يمكن الحكم بحرمته فيما إذا لزم منه إلقاء الجاهل في العسر والحرج أو كان موجباً لايذائه. وأما التسبيب إلى أكل النجس أو شربه فالتحقيق حرمته ، وذلك لأن المستفاد من إطلاقات أدلة المحرّمات الموجّهة إلى المكلفين حسب المتفاهم العرفي ، أن انتساب الأفعال المحرّمة إلى موجديها مبغوض مطلقاً سواء كانت النسبة مباشرية أم تسبيبية مثلاً إذا نهى المولى عن الدخول عليه بأن قال لا يدخل عليَّ أحد لغرض له في ذلك فيستفاد منه أن انتساب الدخول إليه وإيجاده مبغوض مطلقاً سواء صدر ذلك على وجه المباشرة أو على وجه التسبيب كما إذا أدخل عليه أحداً بتغريره ، فالانتساب التسبيبي كالمباشري مفوت للغرض والتفويت الحرام.

هذا كلّه مضافاً إلى ما ورد من الأمر باعلام المشتري بنجاسة الزيوت المتنجسة حتى يستصبح بها ، ولا يستعملها فيما يشترط فيه الطهارة حيث قال : « بعه وبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به » (١) فان الاستصباح بالزيت المتنجس ليس بواجب ولا راجح ، فالأمر به في الأخبار المشار إليها إرشاد إلى أنه لا بد وأن يصرف في الجهة المحللة لئلا ينتفع به في المنفعة المحرمة ، لأن للدهن النجس فائدتين : محللة ومحرمة ، فاذا لم يبيّن نجاسته للمشتري فمن الجائز أن يصرفه في الجهة المحرّمة أعني أكله وهو تسبيب من البائع إلى إصدار مبغوض الشارع من المشتري الجاهل بالحال ، فالأمر باعلام نجاسة الدهن للمشتري يدلّنا على حرمة التسبيب إلى الحرام.

ودعوى اختصاص ذلك بالنجاسات ، فإنّ الأخبار إنما دلّت على وجوب الإعلام بنجاسة الزيوت فلا يستفاد منها حرمة التسبيب إلى مطلق المبغوض الواقعي كما في التسبيب إلى أكل الميتة الطاهرة من الجري والمارماهي ونحوهما ، حيث إن أكلها محرّم من دون أن تكون نجسة ، مدفوعة بأنّ المستفاد من إطلاق حرمة الميتة وغيرها من المحرّمات حسب المتفاهم العرفي أنّ مطلق انتساب فعلها إلى المكلف مبغوض‌

__________________

(١) ورد ذلك فيما رواه معاوية بن وهب وبمضمونه روايات أُخر مروية في الوسائل ١٧ : ٩٨ / أبواب ما يكتسب به ب ٦ ح ٤ وغيره.

٣٠٩

حرام ، سواء أكانت النسبة مباشرية أم تسبيبية كما عرفت ، وهذا لا يفرق فيه بين النجس والحرام. فتحصّل أن التسبيب إلى الفعل الحرام فيما إذا كان للواقع أثر مترتب عليه في نفسه حرام.

وبهذا يندفع ما ربما يقال من أن وجود الأمر المحرم إذا كان مبغوضاً من الجميع فكما أنه يقتضي حرمة التسبيب إلى إيجاده كذلك يقتضي وجوب الاعلام به بل يقتضي وجوب الردع عنه ، لأن تركه يؤدي إلى إيجاد المباشر للأمر المبغوض الواقعي فهو مفوّت للغرض والتفويت حرام ، ومعه لا وجه للحكم بحرمة التسبيب دون الحكم بوجوب الاعلام. والوجه في الاندفاع : أنّا لم نستند في الحكم بحرمة التسبيب إلى مبغوضية الفعل في نفسه حتى يورد عليه بتلك المناقشة ، وإنما استندنا فيه إلى ما يستفاد من إطلاق أدلّة المحرّمات حسب المتفاهم العرفي ، لما مرّ من أن العرف يستفيد منها مبغوضية انتساب العمل إلى فاعله بلا تفرقة في ذلك بين الانتساب التسبيبي والمباشري. وهذا مما لا يقتضي الحكم بوجوب الاعلام لأن العمل إذا صدر من موجده بالإرادة والاختيار من دون استناده إلى تسبيب العالم بحرمته فلا انتساب له إلى العالم بوجه ، وقد مرّ أن المحرم هو الانتساب دون مطلق الوجود ، ومع انتفاء الانتساب المباشري والتسبيبي لا موجب لوجوب ردع الفاعل المباشر عن عمله.

نعم ، قد نلتزم بوجوب الاعلام أيضاً وهو كما في الموارد الخطيرة التي علمنا من الشارع الاهتمام بها وعدم رضاه بتحقق العمل فيها بوجه أعني موارد النفوس والاعراض ، مثلاً إذا رأينا أحداً حمل بسيفه على مؤمن ليقتله بحسبان كفره وارتداده يجب علينا ردعه وإعلامه بالحال ، وإن كان العمل على تقدير صدوره من مباشرة غير موجب لاستحقاق العقاب لمعذورية الفاعل حسب عقيدته ، إلاّ أن الشارع لا يرضى بقتل المؤمن بوجه. وكذا الحال إذا رأينا صبياً يقتل مسلماً وجب ردعه لما مرّ إلاّ أن وجوب الردع في أمثال ذلك من باب أنه بنفسه مصداق لحفظ النفس المحترمة لا من جهة وجوب الاعلام بالحرام. وكذلك الحال فيما إذا عقد رجل على امرأة نعلم أنها أُخته من الرضاعة حيث يجب علينا ردعه ، وإن لم يكن العمل منه أو منهما صادراً على جهة التحريم لجهلهما واعتمادهما على أصالة عدم العلاقة المحرمة بينهما ، بل‌

٣١٠

فيما يشترط فيه الطهارة ، فلو باع أو أعار شيئاً نجساً قابلاً للتطهير يجب الاعلام بنجاسته ، وأما إذا لم يكن هو السبب في استعماله بأن رأى أن ما يأكله شخص أو يشربه أو يصلِّي فيه نجس ، فلا يجب إعلامه.

[٢٧٤] مسألة ٣٣ : لا يجوز سقي المسكرات للأطفال بل يجب ردعهم (١) وكذا سائر الأعيان النجسة إذا كانت مضرة لهم (٢) بل‌

______________________________________________________

ويترتّب عليه جميع آثار النِّكاح الصحيح لأنه من الوطء بالشبهة ، ولكن العمل بنفسه بما أنه مبغوض وغير مرضي عند الشارع وجب على العالم بذلك الاعلام والردع. ومن ذلك أيضاً منع الصبي عن اللواط أو الزنا وعن شرب المسكرات إلى غير ذلك من الموارد التي نعلم فيها باهتمام الشارع بشي‌ء وعدم رضاه بوقوعه في الخارج بوجه. هذه هي الموارد التي نلتزم فيها بوجوب الاعلام ، وأما في غيرها فلم يقم دليل على وجوب الردع والإعلام وإن كان التسبيب إليه محرماً.

هذا كله في التسبيب إلى المكلفين ، وهل التسبيب إلى المجانين والصبيان أيضاً كذلك لإطلاق أدلّة المحرّمات كما مرّ تقريبه أو لا مانع من التسبيب إلى غير المكلفين؟ الصحيح هو الثاني ، وذلك لأن الشارع كما أنه حرم المحرمات في حق المكلفين كذلك أباحها في حق جماعة آخرين من الصبيان والمجانين ، فالفعل إنما يصدر من غير المكلف على وجه مباح ومن الظاهر أن التسبيب إلى المباح مباح. نعم ، فيما إذا علم الاهتمام من الشارع وأنه لا يرضى بوقوعه كيف ما اتفق يحرم التسبيب بلا إشكال ومن هنا ورد المنع عن سقي المسكر للأطفال (١).

(١) قد ظهر الحال في هذه المسألة مما قدّمناه في سابقتها ، وقد عرفت أن سقي المسكرات للأطفال حرام إلاّ أن ذلك مستند إلى الأخبار والعلم بعدم رضا الشارع بشربها كيف ما اتفق ، وليس من أجل حرمة التسبيب بالإضافة إلى الصبيان.

(٢) وذلك لحرمة الإضرار بالمؤمنين ومن في حكمهم أعني أطفالهم ، فإذا فرضنا أن‌

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٣٠٧ / أبواب الأشربة المحرمة ب ١٠ ح ١ ، ٢ ، ٣ ، ٦.

٣١١

العين النجسة مضرة لهم كما في شرب الأبوال لأنها على ما يقولون من السموم فلا محالة يكون التسبيب إلى شربها أو أكلها إضراراً بهم وهو حرام ، فالتسبيب حينئذ إلى شرب الأعيان النجسة أو أكلها مما لا ينبغي الإشكال في حرمته بلا فرق في ذلك بين الولي وغيره من المسلمين.

وأما الردع والإعلام فأيضاً لا كلام في وجوبهما على الولي ، لأنه مأمور بالتحفظ على الصبي مما يرجع إلى نفسه وماله ، فيجب عليه ردع من يتولى أمره عن شرب العين النجسة وأكلها ، وأما بالإضافة إلى غير الولي فإن كان الضرر المستند إلى شرب النجس أو أكله بالغاً إلى الموت والهلاك أو كان المورد مما اهتم الشارع بعدم تحققه في الخارج كما عرفته في شرب المسكرات فلا إشكال أيضاً في وجوب الردع ، إلاّ أن ذلك وسابقه غير مختصين بالنجاسات لأن الإضرار بالمؤمن ومن في حكمه حرام مطلقاً ، كما أن الردع عما يوجب القتل والهلاك أو ما اهتم الشارع بعدم تحققه في الخارج من الوظائف الواجبة في جميع الموارد ، مثلاً يجب ردع الصبي عن السباحة في المياه التي لو وردها غرق أو عن أكل الطعام المباح الذي لو أكله هلك.

وأما إذا لم يكن الضرر بتلك المرتبة ، كما إذا كان أكل النجس أو شربه مؤدياً إلى وجع الرأس أو حمى يوم ونحوه ولم يكن العمل مما اهتم الشارع بعدم تحققه ، فلم يقم دليل على وجوب الردع والإعلام بالإضافة إلى غير الولي ، لأنّ مجرّد علمه بترتّب ضرر طفيف على شرب الصبي النجس أو أكله لا يوجب الردع في حقه ، وإنما يدخل ذلك في عنوان الإرشاد ولا دليل على وجوبه ، ومعه يكون الردع مجرّد إحسان ولا إشكال في حسنه عقلاً وشرعاً. وإنما يجب على الولي لا لأجل وجوب الردع والإعلام بل لوجوب حفظ الأطفال على الأولياء.

هذا كله فيما إذا كان شرب النجس أو أكله مضراً للأطفال ، وأما إذا لم يكن ضرر في أكله وشربه فلا موجب لحرمة التسبيب حينئذ ، لما عرفت من عدم دلالة الدليل على حرمته في غير المكلفين وإنما استفدنا حرمته بالإضافة إلى المكلفين من إطلاق أدلّة المحرّمات. وأما غير المكلفين من المجانين والصبيان فحيث لا تشمله المطلقات فلا محالة يصدر الفعل منه على الوجه المباح ولا يحرم التسبيب إلى المباح فضلاً عن أن‌

٣١٢

مطلقاً (*). وأما المتنجِّسات فان كان التنجّس من جهة كون أيديهم نجسة (١) فالظاهر عدم البأس به ، وإن كان من جهة تنجس سابق ، فالأقوى جواز التسبب لأكلهم ، وإن كان الأحوط تركه. وأما ردعهم عن الأكل أو الشرب مع عدم التسبب فلا يجب من غير إشكال.

[٢٧٥] مسألة ٣٤ : إذا كان موضع من بيته أو فرشه نجساً فورد عليه ضيف وباشره بالرطوبة المسرية ففي وجوب إعلامه إشكال (٢)

______________________________________________________

يجب فيه الردع والإعلام.

(١) بان استندت النجاسة إلى أنفسهم كما هو الغالب والدليل على جواز التسبب وعدم وجوب الردع والإعلام حينئذ إنما هو السيرة القطعية المستمرة بين المسلمين. وأما إذا لم تستند النجاسة إلى أنفسهم كالماء المتنجس بسبب آخر ، فقد أفتى الماتن بعدم وجوب الردع حينئذ وهو الصحيح ، إذ لا دليل على حرمة التسبب بالإضافة إلى غير المكلفين لعدم صدور الفعل منهم على الوجه الحرام كما لا دليل على وجوب الإعلام حينئذ ، وإن احتاط الماتن بترك التسبب استحباباً.

(٢) عدم وجوب الردع والإعلام في المسألة مما لا إشكال فيه لعدم الدليل على وجوبهما ، وإنما ثبتت حرمة التسبيب بالإضافة إلى المكلفين ، وعليه فيدور الحكم مدار صدق التسبب وعدمه وليس له ضابط كلي بل يختلف باختلاف الموارد ، مثلاً إذا مدّ الضيف يده الرطبة لأن يأخذ ثيابه فأصابت الحائط المتنجس لا يصح اسناد تنجيس يده إلى المضيّف بالتسبيب لأنه إنما صدر من الضيف ولا تسبب في البين ، والإعلام لا دليل على وجوبه ، وأما إذا وضع المضيّف المنديل المتنجس في الموضع المعدّ للتنشّف ولما غسل الضيف يده تنشّف بذلك المنديل النجس ، فلا محالة يستند تنجس يده إلى المالك المضيّف لأنه الذي وضع المنديل في المحل المعدّ للاستعمال ، فيجب عليه الردع والإعلام لأن سكوته تسبيب إلى النجاسة.

__________________

(*) الظاهر أنّ حكمها حكم المتنجسات.

٣١٣

وإن كان أحوط ، بل لا يخلو عن قوّة (*). وكذا إذا أحضر عنده طعاماً ثم علم بنجاسته (١) بل وكذا إذا كان الطعام للغير وجماعة مشغولون بالأكل فرأى واحد منهم فيه نجاسة ، وإن كان عدم الوجوب في هذه الصورة لا يخلو عن قوّة (٢) لعدم كونه سبباً لأكل الغير بخلاف الصورة السابقة.

[٢٧٦] مسألة ٣٥ : إذا استعار ظرفاً أو فرشاً أو غيرهما من جاره فتنجس عنده هل يجب عليه إعلامه عند الرد؟ فيه إشكال (٣) والأحوط الاعلام بل لا يخلو عن قوّة إذا كان مما يستعمله المالك فيما يشترط فيه الطهارة.

______________________________________________________

(١) لا شبهة في وجوب الردع حينئذ لأن سكوته تسبيب إلى أكل النجس بحسب البقاء وإن لم يكن كذلك حدوثاً ، إلاّ أن حرمة الانتساب التسبيبي بعد ما استفدناها من إطلاق الدليل لا يفرق فيها العقل بين التسبيب بحسب الحدوث والتسبيب بحسب البقاء ، وبهذا تفترق هذه الصورة عن الصورة الآتية.

(٢) لعدم استناد أكل النجس إلى من علم منهم بنجاسة الطعام ، حيث إنه مستند إلى من قدّمه أو إلى أنفسهم إذا لم يقدّمه شخص آخر لهم فلا يترتب على سكوته التسبيب إلى أكل النجس.

(٣) قد ظهر الحال في هذه المسألة مما قدمه الماتن قدس‌سره وقدمناه في المسائل السالفة ، إلاّ أنه أراد بالتعرض لها الإشارة إلى أن حرمة التسبيب إلى الحرام غير مختصة بمالك العين لأنه كما يحرم عليه كذلك يحرم على مالك المنفعة كما في الإجارة أو الانتفاع كما في العارية ، أو على من أُبيح له التصرف من دون أن يكون مالكاً لشي‌ء من العين والمنفعة والانتفاع ، وعلى من استولى على المال غصباً ، وذلك لأن المال إذا تنجس عند هؤلاء ثم أرادوا إرجاعه إلى مالكه أو غيره ولم يبينوا نجاسته كان سكوتهم تسبيباً منهم إلى أكل النجس أو شربه وهو حرام.

__________________

(*) هذا إذا كانت المباشرة بتسبيب منه وإلاّ لم يجب إعلامه.

٣١٤

فصل

[ في الصّلاة في النّجس ]

إذا صلّى في النجس فان كان عن علم وعمد بطلت صلاته (١)

______________________________________________________

فصل

إذا صلّى في النّجس‌

(١) مرّ أن الصلاة يشترط فيها طهارة البدن والثياب إلاّ فيما استثني من طرف النجاسات كالدم الأقل من الدرهم أو من طرف المتنجس كما لا تتم فيه الصلاة. ويدلُّ عليه مضافاً إلى أن المسألة ضرورية ومما لا خلاف فيه ، الأخبار المتضافرة التي ستمر عليك في التكلّم على جهات المسألة إن شاء الله ، وعليه فالكلام إنما يقع في خصوصيات المسألة وجهاتها ولا نتكلم عن أصل اشتراط الصلاة بطهارة الثوب والبدن لعدم الخلاف فيه فنقول :

الصلاة في النجس قد يكون عن علم وعمد وقد لا يكون كذلك ، وعلى الثاني قد تستند صلاته في النجس إلى جهله وقد تستند إلى نسيانه ، وكل من الجهل والنسيان إما أن يتعلّق بموضوع النجس كما إذا لم يدر أن المائع الواقع على ثوبه أو بدنه بول مثلاً أو علم به ثم نسيه وإما أن يتعلق بحكمه بأن لم يدر أن بول ما لا يؤكل لحمه نجس أو يعلم حكمه ثم نسيه ، وإما أن يتعلق بالاشتراط كما يأتي تمثيله. وهذه الصورة في الحقيقة ترجع إلى الجهل بأصل الحكم أو نسيانه.

أما إذا صلّى في النجس عن علم وعمد فلا ينبغي الارتياب في بطلان صلاته لأنّ هذه الصورة هي القدر المتيقن مما دلّ على بطلان الصلاة في النجس ، ويمكن استفادته من منطوق بعض النصوص ومفهوم بعضها الآخر وهذا كما في حسنة عبد الله بن سنان قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال : إن كان قد علم أنه أصاب ثوبه جنابة أو دم قبل أن يصلي ثم صلّى فيه ولم يغسله فعليه أن‌

٣١٥

وكذا إذا كان عن جهل (١) بالنجاسة من حيث الحكم بأن لم يعلم أنّ الشي‌ء الفلاني مثل عرق الجنب من الحرام نجس ، أو عن جهل بشرطية الطهارة للصلاة (١).

______________________________________________________

يعيد ما صلّى ... » (٢) ومصححة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب أيعيد صلاته؟ قال : إن كان لم يعلم فلا يعيد » (٣) على أنه يمكن أن يستدل عليه بفحوى ما ورد في بطلان صلاة الناسي في النجس كما تأتي عن قريب ، حيث إن العلم بالنجس متقدماً على الصلاة إذا كان مانعاً عن صحتها فالعلم به مقارناً للصلاة يمنع عن صحتها بطريق أولى.

(١) إذا صلّى في النجس جاهلاً بالحكم أو بالاشتراط فله صورتان : لأن الجهل قد يكون عذراً للمكلف حال جهله كما في الجاهل القاصر ، ومن أظهر مصاديقه المخطئ من المجتهدين ، حيث إن المجتهد إذا فحص عن الدليل على نجاسة بول الخشاشيف مثلاً ولم يظفر بما يدله على طهارته أو نجاسته فبنى على طهارته لقاعدة الطهارة وصلّى في الثوب الذي أصابه بول الخشاف زمناً طويلاً أو قصيراً ثم بعد ذلك ظفر على دليل نجاسته ، أو أنه بنى على عدم اشتراط خلوّ البدن والثياب من الدم الأقل من مقدار الدرهم ولو كان مما لا يؤكل لحمه أو من الميتة ، أو بنى على عدم اشتراط الصلاة بطهارة المحمول فيها ولو كان مما يتم فيه الصلاة اعتماداً في ذلك على أصالة البراءة عن الاشتراط ، ثم وقف على دليله فبنى على اشتراط الصلاة بطهارة المحمول المتنجس إذا كان ثوباً يتم فيه الصلاة ، وعلى اشتراط خلو البدن والثياب عن الدم الأقل من مقدار الدرهم إذا كان من الميتة أو مما لا يؤكل لحمه ، نظراً إلى أن ما دلّ على استثناء الدم الأقل إنما استثناه عن مانعية النجاسة في الصلاة ، وأما المانعية من سائر الجهات ولو من جهة أنه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه أو من الميتة حيث إنهما مانعتان مستقلتان زائداً على مانعية النجاسة فلم يقم دليل على استثنائه فهو جاهل بالحكم‌

__________________

(*) إذا كان الجاهل معذوراً لاجتهاد أو تقليد فالظاهر عدم بطلان الصلاة.

(١) ، (٢) الوسائل ٣ : ٤٧٥ / أبواب النجاسات ب ٤٠ ح ٥.

٣١٦

الواقعي أو بالاشتراط ، إلاّ أن جهله هذا معذّر له لأنه جهل قصوري ، فإنه فحص وعجز عن الوصول إلى الواقع واعتمد على الأُصول المقررة للجاهلين.

وقد لا يكون الجهل عذراً للمكلف لاستناده إلى تقصيره عن السؤال أو عدم فحصة عن الدليل ويعبّر عنه بالجاهل المقصّر. أما إذا صلّى في النجس عن جهل تقصيري غير عذر فالصحيح أن صلاته باطلة وتلزمه إعادتها في الوقت أو خارجه وذلك لأنه مقتضى إطلاق ما دلّ على بطلان الصلاة مع النجس ولا يمنع عن ذلك حديث لا تعاد (١) بناء على اختصاصه بالطهارة الحدثية ، لأن الحديث بإطلاقه وإن كان يشمل المقصّر في نفسه لعدم كون النجاسة الخبثية من الخمسة المستثناة في الحديث ، إلاّ أن هناك مانعاً عن شموله له وهو لزوم تخصيص أدلة المانعية بمن صلّى في النجس عن علم وعمد لما يأتي من عدم شمولها الناسي والجاهل القاصر ، لحديث لا تعاد وهو من التخصيص بالفرد النادر بل غير المتحقق ، حيث إن المكلف إذا علم بنجاسة النجس والتفت إلى اشتراط الصلاة بعدمها في الثوب والبدن لم يعقل أن يقدم على الصلاة فيه إلاّ إذا أراد اللعب والعبث ، كيف ولا يتمشى منه قصد التقرب لعلمه بعدم تعلق الأمر بالصلاة في النجس وعدم كفايتها في مقام الامتثال إلاّ على نحو التشريع الحرام هذا.

ويمكن أن يقال بعدم شمول الحديث للجاهل المقصّر في نفسه مع قطع النظر عن المحذور المتقدم آنفاً وذلك لأن الجاهل المقصر على قسمين : لأنه قد يحتمل بطلان عمله كما يحتمل صحته ومع ذلك لا يسأل عن حكمه وكيفياته ، بل يأتي بالعمل بداعي أنه إن طابق المأمور به الواقعي فهو وإلاّ فهو غير قاصد للامتثال رأساً لعدم مبالاته بالدين ، وقد يكون الجاهل غافلاً عن اعتبار الطهارة في ثوبه وبدنه فلا يشك في صحة عمله بل يأتي بالصلاة في النجس كما يصلي العالم بصحتها.

أما الجاهل المردد في صحة عمله وفساده فلا شك في عدم شمول الحديث له ، لأنّ‌

__________________

(١) وهو ما رواه الصدوق بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود » الوسائل ١ : ٣٧١ / أبواب الوضوء ب ٣ ح ٨ وكذا في ٥ : ٤٧١ / أبواب أفعال الصلاة ب ١ ح ١٤.

٣١٧

الحديث ـ حسب المتفاهم العرفي إنما ينظر إلى حكم العمل بعد وجوده وأنه هل تجب إعادته أو لا تجب ، وهذا إنما يتصوّر فيما إذا كان المكلف غير متردد في صحة عمله حال الامتثال ، وأما إذا كان عالماً ببطلان عمله حال الإتيان به وجداناً أو بحكم العقل ، كما في المقام لاستقلاله على أن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية وأنه لليس للمكلف أن يكتفي بما يشك في صحته ، فهو خارج عن مدلول الحديث حسبما يستفيده العرف من مثله ، فمقتضى أدلة بطلان الصلاة في النجس هو الحكم ببطلان صلاة الجاهل المقصر إذا كان متردداً في صحة عمله وفساده حال العمل. هذا مضافاً إلى أن المسألة لا خلاف فيها بل الحكم بالبطلان حينئذ من ضروريات الفقه.

وأما الجاهل المقصّر الذي لا يتردد في صحة عمله حال اشتغاله فهو وإن كان يشمله الحديث في نفسه ، إلاّ أن قيام الإجماع اليقيني على بطلان عمل الجاهل المقصّر في غير الموردين المشهورين في كلماتهم ، أعني التمام في موضع القصر والإجهار في موضع الإخفات وعكسه يمنعنا عن الحكم بعدم وجوب الإعادة عليه.

ثم إن الحكم بوجوب الإعادة على الجاهل المقصّر لا ينافي استحالة تكليف الغافل بشي‌ء ، لأن توجيه الخطاب إلى الغافل وإن كان غير صحيح إلاّ أن مفروض المسألة أن غفلة الجاهل إنما هي ما دام اشتغاله بعمله ، لأنه يشك في صحته وفساده بعد الفراغ ، وبما أنه التفت إلى عمله في أثناء الوقت ولم يحرز فراغ ذمته عما وجب عليه لزمه الخروج عن عهدة ما اشتغلت به ذمته. واستحالة تكليفه بالواقع حال غفلته لا تقتضي الحكم بكون ما أتى به مجزئ ، لأنّ الإجزاء يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه في المقام ، وحيث إنه لم يأت بالواجب الواقعي وجبت عليه إعادته. وأما إذا انكشف الحال في خارج الوقت فهو وإن لم يكن مكلفاً بالصلاة مع الطهارة في الوقت لفرض غفلته في مجموع الوقت ، إلاّ أنه مع ذلك يجب القضاء عليه لأنه يدور مدار صدق الفوت سواء كان هناك تكليف أو لم يكن كما في النائم ونحوه. والمتلخص أن الجاهل المقصر بكلا قسميه خارج عن مدلول الحديث.

وأما إذا صلّى في النجس عن جهل قصوري معذّر فالتحقيق أنه مشمول لحديث لا تعاد ، وبه يخرج عما تقتضيه أدلة بطلان الصلاة في النجس. والذي يمكن أن يكون‌

٣١٨

مانعاً عن شموله الجاهل القاصر أو قيل بمانعيته أُمور ثلاثة :

الأوّل : ما عن شيخنا الأُستاذ قدس‌سره من أن حديث لا تعاد إنما ينفي الإعادة عن كل مورد قابل لها في نفسه ، بحيث لولا ذلك الحديث لحكم بوجوب الإعادة فيه إلاّ أنّ الشارع رفع الإلزام عنها امتناناً على المكلّفين (١) ، ومن البديهي أن الأمر بالإعادة إنما يتصوّر فيما إذا لم يكن هناك أمر بإتيان المركّب نفسه كما في الناسي ونحوه حيث لا يجب عليه الإتيان بما نسيه ، ففي مثله لا مانع من الحكم بوجوب الإعادة عليه لولا ذلك الحديث. وأما إذا بقي المكلّف على حاله من تكليفه وأمره بالمركب الواقعي فلا معنى في مثله للأمر بالإعادة لأنه مأمور بإتيان نفس المأمور به ، وحيث إن الجاهل القاصر مكلف بنفس الواقع ولم يسقط عنه الأمر بالعمل فلا معنى لأمره بالإعادة ، فإذا لم يكن المورد قابلاً لإيجاب الإعادة لم يكن قابلاً لنفيها عنه. وعليه فالحديث إنما يختص بالناسي ونحوه دون العامد والجاهل مقصراً كان أم قاصراً ، ومعه لا بد من الرجوع إلى المطلقات المانعة عن الصلاة في النجس وهي تقتضي وجوب الإعادة في حقهم.

والجواب عن ذلك : أنّ الجاهل وإن كان مكلّفاً بالإتيان بالمركّب واقعاً ، إلاّ أنه محدود بما إذا أمكنه التدارك ولم يتجاوز عن محلِّه ، وأما إذا تجاوز عن محلِّه فأيّ مانع من الأمر بالإعادة عليه ، مثلاً إذا كان بانياً على عدم وجوب السورة في الصلاة إلاّ أنه علم بالوجوب وهو في أثناء الصلاة فبنى على وجوبها فإنه إن كان لم يدخل في الركوع فهو مكلف بإتيان نفس المأمور به أعني السورة في المثال ولا مجال معه لإيجاب الإعادة في حقه ، وأما إذا علم به بعد الركوع فلا يمكنه تداركها لتجاوزه عن محلها وحينئذ إما أن تبطل صلاته فتجب عليه إعادتها ، وأما أن تصح فلا تجب إعادتها. وبهذا ظهر أن الجاهل بعد ما لم يتمكن من تدارك العمل قابل لإيجاب الإعادة في حقه ونفيها كما هو الحال في الناسي بعينه.

الثاني : أنّا وإن كنّا نلتزم بحكومة الحديث على أدلة الأجزاء والشرائط لأنه ناظر‌

__________________

(١) كتاب الصلاة ٢ : ١٩٤.

٣١٩

إليها ومبيّن لمقدار دلالتها ، حيث دلّ على أن الإخلال بشي‌ء منهما إذا لم يكن عن علم أو جهل تقصيري لا يقتضي البطلان ، إلاّ أنه لا يمكن أن يكون حاكماً على حسنة عبد الله بن سنان المتقدِّمة (١) التي دلّت على وجوب الإعادة في من علم بإصابة الجنابة أو الدم ثوبه قبل الصلاة ثم صلّى فيه وذلك لوحدة لسانهما ، لأنّ لسان الحسنة إثبات الإعادة بقوله : « فعليه أن يعيد » كما أن لسان الحديث نفي الإعادة بقوله « لا تعاد » فمورد النفي والإثبات واحد كما أن لسان يعيد ولا تعاد لسانان متنافيان ، فهما من المتعارضين والنسبة بينهما إما هي العموم المطلق نظراً إلى أن الحديث ينفي الإعادة مطلقاً والحسنة تثبتها في خصوص العالم بموضوع النجاسة قبل الصلاة ، فتخصص الحديث ولأجلها يحكم بوجوب الإعادة على الجاهل القاصر لعلمه بموضوع النجاسة وإنما لا يعلم حكمها أو لا يعلم الاشتراط ، وإما أنّ النسبة هي العموم من وجه لاختصاص الحديث بغير العالم المتعمد فالحديث يقتضي وجوب الإعادة في من علم بموضوع النجاسة وحكمها والحسنة لا تعارضه ، كما أن الحسنة تنفي الإعادة بمفهومها ممن جهل بموضوع النجاسة وحكمها والحديث لا يعارضها ، وإنما يتعارضان في من علم بموضوع النجاسة وجهل بحكمها لأن الحسنة تثبت الإعادة فيه والحديث ينفيها ومع المعارضة والتساقط لا بد من الرجوع إلى إطلاقات أدلة المانعية وهي تقتضي بطلان الصلاة في النجس ووجوب الإعادة فيما نحن فيه.

والجواب عن ذلك : أن وزان الحسنة وزان غيرها من أدلة الأجزاء والشرائط والحديث كما أنه حاكم على تلك الأدلة كذلك له الحكومة على الحسنة ، والوجه فيه ما ذكرناه غير مرة من أن الأمر بالإعادة إرشاد إلى الجزئية أو الشرطية أو المانعية ، كما أن نفيها إرشاد وحكاية عن عدم الجزئية والشرطية والمانعية ، وليست الأوامر الواردة في بيان الأجزاء والشرائط ظاهرة في الأمر المولوي ، وعليه فالأمر بالإعادة في الحسنة إرشاد إلى شرطية طهارة الثوب والبدن ، أو إلى مانعية نجاستهما في الصلاة كما هو الحال في غيرها مما دلّ على جزئية شي‌ء أو شرطيته ، إما بالأمر بالإعادة‌

__________________

(١) في ص ٣١٥.

٣٢٠