موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

الرواية مجملة ويرجع في غير صورة العلم بنجاسة الدم الموجود في منقار الطيور إلى أصالة الطهارة.

فيندفع بقيام القرينة على تعيّن الأخذ بإطلاق صدر الموثقة وهي ما أشرنا إليه آنفاً من أن تخصيصها بصورة العلم حمل للرواية على المورد النادر ، لأن العلم بنجاسة ما في منقار الطيور قليل الاتفاق غايته وعليه فالأصل في الدماء هو النجاسة.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الدعوى المتقدمة إلاّ أنه مما لا يمكن المساعدة عليه ، لأن صدر الموثقة وإن دلّ على أن الأصل الأولي هو النجاسة في الدماء إلاّ أنه في خصوص موردها وهو منقار الطيور لا في جميع الموارد ، وسرّه أن الموثقة قد دلت بإطلاقها على نجاسة كل دم في نفسه ، وقد خرجنا عن هذا الإطلاق بما دلّ على طهارة بعض الدماء ومنه ما تخلف في الذبيحة بعد الذبح ، كما دلت بإطلاقها على عدم جواز الشرب أو الوضوء من الماء الذي شرب منه الطير وفي منقاره دم وإن احتمل أنه من الدم الطاهر ، فاذا شك في دم أنه من المتخلف أو من غيره لم يمكن التمسك بإطلاقها ، لأنه من التمسك بالمطلق في الشبهات المصداقية وهو ممنوع كما قررناه في محلّه.

وأمّا إذا شكّ في نجاسة ما في منقار الطير من الدم فلا مانع فيه من التمسّك بإطلاقها والحكم بنجاسته ، لما مرّ من أن تخصيصها بصورة العلم غير ممكن لاستلزامه حمل الرواية على المورد النادر ، فكأن الشارع جعل الغلبة أمارة على النجاسة في مورد الموثقة تقديماً للظاهر على الأصل ، لأنّ الغالب في جوارح الطيور مساورة الجيف وعليه فلا أصل لأصالة النجاسة في غير مورد الموثقة ، فلو شككنا في طهارة دم ونجاسته فلا مناص من الحكم بطهارته بمقتضى قاعدة الطهارة. وأمّا إذا شككنا في نجاسته من ناحية عدم خروج المقدار المتعارف من الدم بالذبح فلا مناص من الحكم بنجاسته لاستصحاب عدم خروجه كذلك ، فان مدرك طهارة الدم المتخلف إنما هو السيرة ولا ريب في ثبوتها فيما أحرز خروج المقدار المتعارف من الدم ، وأمّا ثبوتها عند الشك في ذلك فغير محرز ومعه يرجع إلى عموم ما دلّ على نجاسة الدم.

٢١

بالاستصحاب وإن كان لا يخلو عن إشكال (١). ويحتمل التفصيل بين ما إذا كان الشك من جهة احتمال رد النفس فيحكم بالطهارة لأصالة عدم الرد ، وبين ما كان لأجل احتمال كون رأسه على علوّ فيحكم بالنجاسة ، عملاً بأصالة عدم خروج المقدار المتعارف.

[١٩١] مسألة ٨ : إذا خرج من الجرح أو الدّمل شي‌ء أصفر يشك في أنه دم أم لا محكوم بالطهارة وكذا إذا شك من جهة الظلمة أنه دم أم قيح (١) ولا يجب عليه الاستعلام (٢).

[١٩٢] مسألة ٩ : إذا حك جسده فخرجت رطوبة يشك في أنها دم أو ماء أصفر يحكم عليها بالطهارة (٣).

[١٩٣] مسألة ١٠ : الماء الأصفر الذي ينجمد على الجرح عند البرء طاهر (٤) إلاّ إذا علم كونه دماً أو مخلوطاً به ، فإنه نجس (٥) إلاّ إذا استحال جلداً (٦).

[١٩٤] مسألة ١١ : الدم المراق في الأمراق حال غليانها نجس منجّس وإن‌

______________________________________________________

(١) لأصالة الطهارة أو لاستصحاب عدم كونه دماً ، وكذا الحال فيما إذا شك من جهة الظلمة أنّه دم أم قيح.

(٢) لعدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية وإن أمكن بسهولة.

(٣) لأصالة الطهارة أو أصالة عدم كونه دماً ، لأنّ الأصل يجري في الأعدام الأزلية كما يجري في غيرها.

(٤) إمّا للأصل الموضوعي وهو أصالة عدم كونه دماً ، أو لأصالة الطهارة.

(٥) وإن كان منجمداً لأنّ الانجماد ليس من أحد المطهرات.

(٦) فيحكم بطهارته لتبدّل الموضوع بالاستحالة كما يأتي في محلّه.

__________________

(*) أظهره الحكم بالنجاسة فيما إذا كان الشك ناشئاً من الشك في خروج الدم بالمقدار المعتاد.

٢٢

كان قليلاً مستهلكاً ، والقول بطهارته بالنار لرواية ضعيفة ، ضعيف (١).

______________________________________________________

(١) هذه المسألة أجنبية عما نحن بصدده وهو نجاسة الدم ، وكان من حقها أن تؤخر إلى بحث المطهرات ويتكلم هناك في أن النار هل هي مطهرة للدم كما ذهب إليه بعض الأصحاب ، ولكنّا نتعرض لها في المقام على وجه الاختصار تبعاً للماتن قدس‌سره فقد ادعى بعضهم أن النار من جملة المطهرات ، وما يمكن أن يستدل به على مطهريتها جملة من الأخبار :

منها : مرسلة ابن أبي عمير عن الصادق عليه‌السلام « في عجين عجن وخبز ثم علم أنّ الماء كانت فيه ميتة ، قال : لا بأس ، أكلت النار ما فيه » (١).

وفيه أوّلاً : أن الرواية مرسلة ، ودعوى أن مراسيل ابن أبي عمير كمسانيده مندفعة بما مرّ غير مرّة من أنّه لا اعتبار بالمراسيل مطلقاً كان مرسلها ابن أبي عمير ونظراءه أم غيره.

وثانياً : أنّ الظاهر من جوابه عليه‌السلام « لا بأس أكلت النار ما فيه » أن السؤال في الرواية لم يكن عن مطهرية النار وعدمها وإلاّ لكان المتعين أن يجيب عليه‌السلام بأن النار مطهرة أو ليست بمطهرة كما أجاب بذلك في صحيحة الحسن بن محبوب قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ثم يجصّص به المسجد أيسجد عليه؟ فكتب إليَّ بخطّه : أنّ الماء والنار قد طهّراه » (٢) ، بل الظاهر أنّ السؤال فيها إنما هو عن حلية الخبز وحرمته نظراً إلى اشتمال ماء العجين على الأجزاء الدقيقة من الميتة لأنه المناسب لقوله : « لا بأس أكلت النار ما فيه » وعلى هذا لا مناص من حمل الميتة على ميتة ما لا نفس له لطهارتها.

ومنها : ما عن أحمد بن محمد بن عبد الله بن زبير عن جده قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البئر تقع فيها الفأرة أو غيرها من الدواب فتموت فيعجن من مائها‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٥ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١٨.

(٢) الوسائل ٣ : ٥٢٧ / أبواب النجاسات ب ٨١ ح ١.

٢٣

أ يؤكل ذلك الخبز؟ قال : إذا أصابته النار فلا بأس بأكله » (١) ، وهذه الرواية مضافاً إلى ضعف سندها ولو من جهة أحمد بن محمد بن عبد الله بن زبير حيث إن الرجل لم يوجد له ذكر في الرجال بل قد نص بجهالته فليراجع (٢) قاصرة الدلالة على المقصود ، لأنّ الاستدلال بها على مطهرية النار يتوقف على القول بانفعال ماء البئر بملاقاة النجس ، وقد قدمنا في محله أن ماء البئر معتصم بمادته واستدللنا على ذلك بعدة من الأخبار فلتكن منها هذه الرواية ، وعليه فالغرض من نفي البأس عن أكله معلقاً بإصابة النار للخبز إنما هو دفع الاستقذار المتوهم في الماء نظراً إلى ملاقاته الميتة. فكأنّ إصابة النار تذهب بالتوهّم المذكور.

ومنها : ما رواه الكليني والشيخ عن زكريا بن آدم قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير ومرق كثير ، قال : يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة أو الكلب ، واللّحم اغسله وكله ، قلت : فإنه قطر فيه الدم ، قال : الدم تأكله النار إن شاء الله ... » (٣) وفيها مع ضعف سندها بابن المبارك أن قوله : « الدم تأكله النار » إنما يناسب السؤال عن حلية أكل الدم الواقع في المرق ، ومن هنا أجاب عليه‌السلام عن حكم الدم ولم يجب عن طهارة المرق ونجاسته ، إذ لو كان السؤال عن طهارته بالنار وعدمها لكان المتعين أن يجيب بأن النار مطهّرة أو ليست بمطهّرة كما قدّمناه في الجواب عن الرواية الأُولى ، ومعه لا مناص من حمل الدم على الدم الطاهر وانّه وإن كان يحرم أكله ، إلاّ أنه لا مانع من أكل المرق واللحم إذا انعدم الدم الموجود فيهما بالنار أو استهلك في ضمنهما. وكيف كان فلا دلالة للرواية على أن الدم الواقع في المرق كان من القسم النجس ولا على مطهرية النار بوجه.

ومنها : ما عن سعيد الأعرج قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قدر فيها‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٥ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١٧.

(٢) راجع تنقيح المقال ١ : ٨٨.

(٣) الكافي ٦ : ٤٢٢ ح ١. التهذيب ١ : ٢٧٩ / ٨٢٠. الوسائل ٣ : ٤٧٠ / أبواب النجاسات ب ٣٨ ح ٨.

٢٤

[١٩٥] مسألة ١٢ : إذا غرز إبرة أو أدخل سكيناً في بدنه أو بدن حيوان ، فان لم يعلم ملاقاته للدم في الباطن فطاهر (١) وإن علم ملاقاته ، لكنه خرج نظيفاً فالأحوط الاجتناب عنه (١) (٢).

______________________________________________________

جزور وقع فيها قدر أوقية من دم أيؤكل؟ قال : نعم فان النار تأكل الدم » (٢).

ومنها : ما عن علي بن جعفر في كتابه عن أخيه قال : « سألته عن قدر فيها ألف رطل ماء يطبخ فيها لحم وقع فيها أوقية دم هل يصلح أكله؟ فقال : إذا طبخ فكل فلا بأس » (٣).

ويتوجّه على هاتين الروايتين ما أوردناه على الأخبار المتقدِّمة من أنّ السؤال والجواب فيهما ناظران إلى حلية الدم المذكور وحرمته لا إلى طهارة الدم بالنار. ومع الإغماض عن ذلك كله وفرض أن الأخبار المتقدمة ناظرة إلى كل من النجاسة والحرمة تقع المعارضة بينها وبين ما دلّ على عدم جواز التوضؤ بالماء الذي قطرت فيه قطرة من الدم مطلقاً سواء طبخ أم لم يطبخ ، وهو صحيحة علي بن جعفر عن أخيه قال : « وسألته عن رجل رعف وهو يتوضأ فتقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال : لا » (٤) فتتعارضان في الدم المطبوخ وبعد تساقطهما يرجع إلى استصحاب نجاسة الماء قبل طبخ الدم. نعم ، هذا إنما يتم على مسلك من يرى جريان الاستصحاب في الأحكام ، وأما على مسلكنا من عدم جريانه في الأحكام الكلية الإلهية فلا مناص من الرجوع إلى قاعدة الطهارة بعد تساقطهما. والذي يسهل الخطب عدم تمامية الأخبار المتقدمة كما مر.

(١) لأصالة عدم الملاقاة للدم.

(٢) ولعلّ وجهه شمول ما دلّ على نجاسة الدم للدم الداخلي وقد عرفت منعه وأنه‌

__________________

(١) وإن كان الأظهر طهارته كما مرّ.

(٢) الوسائل ٢٤ : ١٩٧ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٤٤ ح ٢ ، ٣.

(٣) الوسائل ٢٤ : ١٩٧ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٤٤ ح ٢ ، ٣.

(٤) الوسائل ١ : ١٥١ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ١ ، وص ١٦١ ب ١٣ ح ١.

٢٥

[١٩٦] مسألة ١٣ : إذا استهلك الدم الخارج من بين الأسنان في ماء الفم فالظاهر طهارته بل جواز بلعه (١). نعم ، لو دخل من الخارج دم في الفم فاستهلك فالأحوط الاجتناب عنه (*) (٢) والأولى غسل الفم بالمضمضة أو نحوها.

[١٩٧] مسألة ١٤ : الدم المنجمد تحت الأظفار أو تحت الجلد من البدن إن لم يستحل وصدق عليه الدم نجس ، فلو انخرق الجلد ووصل الماء إليه تنجس ،

______________________________________________________

لا دليل على نجاسته فلا إشكال في طهارة الإبرة أو السكين في مفروض المسألة ، بل الحال كذلك ولو قلنا بنجاسة الدم وهو في الباطن ، فان المقام حينئذ من موارد ما إذا كان الملاقي من النجاسات الداخلية الباطنية ولا دليل على نجاسة الملاقي حينئذ كما قدّمنا تفصيله في مثل شيشة الاحتقان (٢) ، فليراجع.

(١) لما ذكرناه في المسألة الاولى من أحكام البول والغائط من أنه لا دليل على نجاسة الدم والبول وغيرهما من النجاسات في الجوف فلا يحكم بنجاسة ماء الفم بملاقاة الدم الخارج من بين الأسنان. نعم ، يحرم أكل الدم وإن لم يحكم بنجاسته لكنّه إذا استهلك كما هو المفروض لم يبق ما يقتضي حرمة البلع لانتفاء موضوعها.

(٢) وكأنّه قدس‌سره يريد بذلك التفرقة بين النجاسة الداخلية والخارجية بالحكم بطهارة ماء الفم بملاقاة الأُولى دون الثانية إلاّ أن التفصيل بينهما في غير محله لما ذكرناه في المسألة الاولى من أحكام البول والغائط من أنه لا دليل على تنجس الأجزاء الداخلية بملاقاة شي‌ء من النجاسات الداخلية والخارجية ، ويدلُّ عليه ما رواه عبد الحميد بن أبي الديلم قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل يشرب الخمر فيبصق فأصاب ثوبي من بصاقه؟ قال : ليس بشي‌ء » (٣).

__________________

(*) لا بأس بتركه.

(١) في المسألة [١٦١].

(٢) الوسائل ٣ : ٤٧٣ / أبواب النجاسات ب ٣٩ ح ١.

٢٦

ويشكل معه الوضوء أو الغسل ، فيجب إخراجه إن لم يكن حرج (١) ومعه يجب أن يجعل عليه شيئاً مثل الجبيرة فيتوضأ أو يغتسل (*) (٢). هذا إذا علم أنّه دم منجمد ، وإن احتمل كونه لحماً صار كالدم من جهة الرض كما يكون كذلك غالباً (**) (٣) فهو طاهر.

السادس والسابع : الكلب والخنزير البريان (٤).

______________________________________________________

(١) لوضوح أن الانجماد ليس من أحد المطهرات. نعم ، إذا لم يعلم أنه دم أو كان ولكنه استحال لحماً فلا إشكال في طهارته للاستحالة.

(٢) بل يجب عليه التيمم حينئذ كما يأتي في محلّه (٣).

(٣) بل الغالب أن السواد المترائى تحت الجلد إنما هو من جهة انجماد الدم تحته وكونه من اللحم المرضوض نادر جدّاً.

(٤) أما الكلب فلا إشكال في نجاسته عند الإمامية في الجملة ، والأخبار في نجاسته مستفيضة بل متواترة وقد دلّت عليها بالسنة مختلفة ففي بعضها : « إن الكلب رجس نجس » (٤) وفي آخر : « ان الله لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب » (٥) وفي ثالث : « لا والله إنّه نجس لا والله إنه نجس » (٦) وفي رابع : « إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة‌

__________________

(*) فيه إشكال ، والأظهر أن وظيفته التيمم ، ولا يكون المقام من موارد الوضوء أو الغسل مع الجبيرة كما يأتي.

(**) كون الغالب كذلك غير معلوم.

(١) في المجلد السادس من شرح العروة في أحكام الجبائر.

(٢) كما في صحيحة أبي العباس المروية في الوسائل ١ : ٢٢٦ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٤ وكذا في ٣ : ٤١٣ / أبواب النجاسات ب ١١ ح ١ ، ٤١٥ ب ١٢ ح ٢ ، ٥١٦ ب ٧٠ ح ١.

(٣) كما ورد في موثقة ابن أبي يعفور المروية في الوسائل ١ : ٢٢٠ / أبواب الماء المضاف ب ١١ ح ٥.

(٤) كما في رواية معاوية بن شريح المروية في الوسائل ١ : ٢٢٦ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٦ وكذا في ٣ : ٤١٦ / أبواب النجاسات ب ١٢ ح ٦.

٢٧

فاغسله » (١) وفي خامس : « سألته عن الكلب يشرب من الإناء قال : اغسل الإناء » (٢) إلى غير ذلك من النصوص.

وفي قبالها ما يدل بظاهره على طهارة الكلب ولأجله قد يتوهم حمل الأخبار المتقدِّمة على التنزّه والاستحباب منها : صحيحة ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن الوضوء مما ولغ الكلب فيه والسنور أو شرب منه جمل أو دابّة أو غير ذلك أيتوضّأ منه أو يغتسل؟ قال : نعم إلاّ أن تجد غيره فتنزّه عنه » (٣) وقد حملها الشيخ (٤) على ما إذا كان الماء بالغاً قدر كر مستشهداً له برواية أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام في حديث « ولا تشرب من سؤر الكلب إلاّ أن يكون حوضاً كبيراً يستقى منه » (٥) ونفى المحقق الهمداني قدس‌سره البعد عن حملها عليه ، لقوة احتمال ورودها في مياه الغدران التي تزيد عن الكر غالباً (٦).

والتحقيق أنّه لا مناص من تقييد إطلاق صحيحة ابن مسكان بما دلّ على انفعال الماء القليل بملاقاة الكلب التي منها رواية أبي بصير المتقدمة وذلك لأن النسبة بينهما هي العموم المطلق ، فإن الصحيحة دلت على طهارة الماء الذي باشره الكلب مطلقاً قليلاً كان أم كثير ، والأخبار المتقدمة قد دلت على انفعال الماء القليل بملاقاة الكلب وعليه فمقتضى الصناعة العلمية وقانون الإطلاق والتقييد حمل الصحيحة على ما إذا كان الماء بالغاً قدر كر فهو جمع دلالي وليس من الجمع التبرّعي في شي‌ء كما يظهر من كلام الشيخ وغيره.

__________________

(١) ورد في صحيحة أبي العباس المروية في الوسائل ١ : ٢٢٥ / أبواب الأسآر ب ١ ح ١ وكذا في ٣ : ٤١٤ / أبواب النجاسات ب ١٢ ح ١.

(٢) ورد في صحيحة محمد بن مسلم المروية في الوسائل ١ : ٢٢٥ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٢ ، ٢٢٧ ب ٢ ح ٣.

(٣) الوسائل ١ : ٢٢٨ / أبواب الأسآر ب ٢ ح ٦.

(٤) راجع التهذيب ١ : ٢٢٦ / ذيل الحديث ٦٤٩.

(٥) الوسائل ١ : ٢٢٦ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٧.

(٦) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٥٤٤ السطر ٣٦.

٢٨

ثم لو سلمنا أنّ الصحيحة واردة في خصوص القليل فغاية ما يستفاد منها عدم انفعال الماء القليل بالملاقاة ، وهي إذن من الأدلة الدالة على اعتصام الماء القليل وقد عرفت الجواب عنها في محلّها (١) ، ولا تنافي بينها وبين الأخبار الدالة على نجاسة الكلب بوجه.

هذا وقد نسب إلى الصدوق قدس‌سره القول بطهارة كلب الصيد حيث حكي عنه : أنّ من أصاب ثوبه كلب جاف فعليه أن يرشه بالماء ، وإن كان رطباً فعليه أن يغسله ، وإن كان كلب صيد فان كان جافاً فليس عليه شي‌ء وإن كان رطباً فعليه أن يرشه بالماء (٢).

وتدفعه النصوص المتقدِّمة الظاهرة في نجاسة الكلب على وجه الإطلاق مضافاً إلى حسنة محمد بن مسلم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الكلب السلوقي قال : إذا مسسته فاغسل يدك » (٣) فإنّها ظاهرة في نجاسة الكلب السلوقي بخصوصه.

هذا كلّه في الكلب ، وأما الخنزير فنجاسته أيضاً مورد التسالم بين الأصحاب ، وتدل عليها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال : إن كان دخل في صلاته فليمض ، وإن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه ، إلاّ ان يكون فيه أثر فيغسله ، قال : وسألته عن خنزير يشرب من إناء كيف يصنع به؟ قال : يغسل سبع مرات » (٤) وغيرها من الأخبار. وأما ما في بعض الروايات مما ظاهره طهارة شعر الخنزير أو جلده فيأتي الجواب عنه عن قريب إن شاء الله.

__________________

(١) راجع شرح العروة ٢ : ١٢٠.

(٢) راجع الجواهر ٥ : ٣٦٧.

(٣) الوسائل ١ : ٢٧٤ / أبواب نواقض الوضوء ب ١١ ح ١ ، وكذا في ٣ : ٤١٦ / أبواب النجاسات ب ١٢ ح ٩.

(٤) الوسائل ٣ : ٤١٧ / أبواب النجاسات ب ١٣ ح ١ ، وورد قطعة منها في ١ : ٢٢٥ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٢.

٢٩

دون البحري منهما (١)

______________________________________________________

(١) قد ذهب المشهور إلى طهارة الكلب والخنزير البحريين وخالفهم في ذلك الحلي قدس‌سره والتزم بنجاسة البحري منهما أيضاً بدعوى صدق عنوانهما على البحريين كالبريين (١) ، إلاّ أن ما ذهب إليه المشهور هو الصحيح وذلك لأن الكلب والخنزير البحريين إن كانا خارجين عن حقيقتهما واقعاً ، وقد سمّيا بهما لمشابهتهما للبريين في بعض الجهات والآثار كما هو الظاهر ، لوضوح أن البحر لا يوجد فيه ما يكون كلباً أو خنزيراً حقيقة ، فلو وجد فإنما يوجد فيه ما هو من أقسام السمك ، وقد يعبّر عنه بأحد أسماء الحيوانات البرية لمجرد مشابهته إياها في رأسه أو بدنه أو في غيرهما من أجزائه وآثاره ، ومنه إنسان البحر كما يقولون أو بقر البحر كما شاهدناه ، فإنه من الأسماك من غير أن يكون بقراً حقيقة وإنما سمي به لضخامته وكبر رأسه ، ومن هذا الباب إطلاق الأسد على العنكبوت حيث يقال له أسد الذباب ، لأنه يفترس الذباب كما يفترس الأسد سائر الحيوانات ، وكذا إطلاقه على التمساح فيقال : إنه أسد البحر لأنّه أشجع الحيوانات البحرية كما أنّ الأسد كذلك في البر ، فلا إشكال في طهارتهما لأنّهما من الأسماك وخارجان عن الكلب والخنزير حقيقة ، وإنما سمّيا بهما مجازاً فلا موجب للحكم بنجاستهما بوجه.

وأما إذا قلنا إنهما من الكلب والخنزير حقيقة ، ولكن البحري منهما طبيعة أُخرى مغايرة لطبيعة الكلب أو الخنزير البريين ، بأن يكون لفظ الكلب أو الخنزير مشتركاً لفظياً بين البحري والبري منهما حتى يكون إطلاقه على كل منهما حقيقة ، فأيضاً

لا يمكننا الحكم بنجاستهما وذلك لأنا وإن صححنا استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد في محلّه (٢) إلاّ أنه يتوقف على قيام قرينة تدل على ذلك لا محالة ، وبما أنه لم تقم قرينة على إرادة ذلك من الكلب والخنزير الواردين في أدلة نجاستهما فلا يمكننا الحكم بإرادة الأعم من البريين والبحريين فيختص الحكم بالأولين ، للقطع بإرادتهما‌

__________________

(١) السرائر ٢ : ٢٢٠.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ١ : ٢٠٨.

٣٠

وكذا رطوباتهما وأجزاؤهما ، وإن كانت ممّا لا تحلّه الحياة كالشعر والعظم ونحوهما (١).

______________________________________________________

على كل حال هذا.

ثم لو تنزلنا وقلنا إن الكلب والخنزير البحريين من طبيعة البري منهما ، وهما من حقيقة واحدة وطبيعة فأرده ولا فرق بينهما إلاّ في أن أحدهما برئ والآخر بحري فأيضاً لا موجب للحكم بنجاسة البحريّ منهما لا لانصراف أدلة نجاسة الكلب والخنزير إلى خصوص البرِّي منهما كما ادعاه جماعة من الأصحاب فإن عهدة إثبات هذه الدعوى على مدعيها ، بل لصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : « سأل أبا عبد الله عليه‌السلام رجل وأنا عنده عن جلود الخزّ؟ فقال : ليس بها بأس ، فقال الرجل : جعلت فداك إنها علاجي ( في بلادي ) وإنما هي كلاب تخرج من الماء ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟ فقال الرجل : لا ، فقال : ليس به بأس » (١) لأنّها نفت البأس عن جلود ما يسمّى بكلب الماء ، وهي وإن وردت في خصوص كلب الماء إلاّ أن سؤاله عليه‌السلام عن أنه هل تعيش خارجة من الماء ونفيه البأس بعد ذلك كالصريح في أنّ العلّة في الحكم بالطهارة كون الحيوان مما لا يعيش خارجاً عن الماء ، وبذلك تشمل الصحيحة كلاًّ من الكلب والخنزير البحريين فيحكم بطهارتهما كما في المتن.

(١) للأدلة المتقدمة الدالة على نجاسة الكلب والخنزير بجميع أجزائهما وإن كانت مما لا تحله الحياة ، ولا خلاف في المسألة إلاّ عن السيد المرتضى وجدّه قدس‌سرهما حيث ذهبا إلى طهارة ما لا تحله الحياة من أجزائهما (٢). والسيد قدس‌سره وإن لم يستدل على مرامه بشي‌ء من الأخبار إلاّ أنه ادعى أن ما لا تحله الحياة كالشعر والعظم ونحوهما لا يكون من أجزاء الحيوان الحي ، ثم أيّد كلامه بدعوى إجماع الأصحاب عليه.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٦٢ / أبواب لباس المصلي ب ١٠ ح ١.

(٢) الناصريات : ٢١٨.

٣١

ولا يخفى فساد ما ذهب إليه وذلك لمنافاته لإطلاقات أدلة نجاسة الكلب والخنزير حيث دلت على نجاستهما بما لهما من الأجزاء من غير فرق في ذلك بين ما تحله الحياة وما لا تحله الحياة ، ودعوى الإجماع على طهارة ما لا تحله الحياة من أجزائهما جزافية ، بل الإجماع منعقد على خلافه ، وإنكار أن ما لا تحله الحياة جزء من الحيوان مكابرة ، كيف وهو معدود من أجزائه عند العرف والشرع واللغة.

وأما ما نسب إليه من الاستدلال على ذلك بأن ما لا تحله الحياة من أجزائهما نظير شعر الميتة وعظمها وغيرهما مما لا تحله الحياة فيدفعه : أنه قياس والعمل بالقياس منهي عنه في الشريعة المقدسة. هذا على أنه قياس مع الفارق ، لوضوح أن نجاسة الكلب والخنزير نجاسة ذاتية وغير مستندة إلى موتهما ونجاسة الميتة عرضية مستندة إلى الموت مع الحكم بطهارتها قبله ، والموت إنما يعرض الأجزاء التي تحلها الحياة دون ما لا تحله ، ومعه لا وجه لنجاسة ما لا تحله الحياة من أجزاء الميتة ، فما ذهب إليه علم الهدى وجده مما لا دليل عليه.

نعم ، هناك جملة من الأخبار لا تخلو عن الإشعار بطهارة شعر الخنزير وجلده وكان ينبغي له قدس‌سره أن يستدل بها على مسلكه.

منها : صحيحة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر هل يتوضأ من ذلك الماء؟ قال : لا بأس » (١) والجواب عن ذلك أنه لا دلالة لها على طهارة شعر الخنزير بوجه لعدم فرض العلم بملاقاته لماء الدلو أوّلاً ، لجواز أن يتخلل بينه وبين الدلو حبل طاهر ، ولعل السؤال في الرواية من جهة احتمال حرمة الاستقاء للوضوء بحبل من شعر الخنزير لاحتمال حرمة الانتفاع بشعره شرعاً ، وبما أن الوضوء أمر عبادي فيكون الاستقاء له بما هو مبغوض للشارع موجباً لحرمته ، فنفيه عليه‌السلام البأس راجع إلى نفي حرمة الانتفاع به لا إلى نفي نجاسة الماء.

وثانياً : أنّ الرواية على تقدير دلالتها فإنما تدل على عدم انفعال الماء القليل بملاقاة‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٠ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٢.

٣٢

النجس ، فهي إذن من أدلة القول باعتصام الماء القليل ولا دلالة لها على عدم نجاسة شعر الخنزير بوجه ، وعليه فالأخبار الدالة على نجاسته بلا معارض.

ومنها : رواية أُخرى لزرارة قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن جلد الخنزير يجعل دلواً يستقى به الماء؟ قال : لا بأس » (١) ويرد على الاستدلال بها أن ظاهرها السؤال عن حكم الانتفاع بجلد الخنزير ، وغاية ما يستفاد منها أن الانتفاع به بالاستقاء أمر غير محرم شرعاً كما إذا كان الاستقاء للدواب ولا دلالة لها على طهارة جلده بوجه ، ويحتمل أن يكون السؤال عن انفعال ماء البئر بملاقاة جلد الخنزير النجس ، فنفيه عليه‌السلام البأس يرجع إلى عدم انفعال مائها لا إلى طهارة جلد الخنزير ، ومع الإغضاء عن ذلك كله وفرض أن السؤال فيها إنما هو عن حكم الماء القليل وجواز استعماله فيما يشترط فيه الطهارة أيضاً لا مجال للاستدلال بها في المقام ، لأنّ الرواية حينئذ من أدلة عدم انفعال الماء القليل وقد تقدم الجواب عنها في بحث المياه (٢).

ومنها : خبر الحسين بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال « قلت له : شعر الخنزير يعمل حبلاً ويستقى به من البئر التي يشرب منها أو يتوضأ منها؟ فقال : لا بأس به » (٣) ولا يمكن الاستدلال بهذه الرواية أيضاً لأنّ ظاهرها بقرينة تأنيث الضمير والتوصيف بكلمة « التي » ، عدم البأس بالشرب والتوضؤ من البئر المذكورة في الحديث فهي ناظرة إلى عدم انفعال ماء البئر بملاقاة النجس وأجنبية عن الدلالة على طهارة شعر الخنزير رأساً. على أن الرواية ضعيفة لعدم توثيق الحسين بن زرارة في الرجال ، حيث إنّ مجرّد دعاء الإمام عليه‌السلام في حقّه (٤) لا يدل على وثاقته.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٥ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١٦.

(٢) لاحظ شرح العروة ٢ : ١٢٠.

(٣) الوسائل ١ : ١٧١ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٣ ، وكذا في ٢٤ : ١٨٠ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣٣ ح ٤.

(٤) رجال الكشي : ١٣٩ / ٢٢١.

٣٣

ولو اجتمع أحدهما مع الآخر أو مع آخر فتولد منهما ولد ، فان صدق عليه اسم أحدهما تبعه (١) وإن صدق عليه اسم أحد الحيوانات الأُخر ، أو كان مما ليس له مثل في الخارج ، كان طاهراً (٢)

______________________________________________________

هذا وقد أثبت صاحب الحدائق والمحقق الهمداني قدس‌سرهما رواية أُخرى في المقام وأسندها في الحدائق إلى الحسين بن زياد وعبّر عنها بالموثقة (١) ، وأسندها في مصباح الفقيه إلى الحسين بن زرارة عن الصادق عليه‌السلام قال : « قلت له : جلد الخنزير يجعل دلواً يستقى به من البئر التي يشرب منها أو يتوضأ منها؟ قال : لا بأس » (٢). ولم نعثر نحن على هذه الرواية بعد ما فحصنا عنها في جوامع الأخبار والله العالم بحقائق الأُمور.

والمتحصل أن الكلب والخنزير محكومان بالنجاسة بجميع أجزائهما الأعم مما تحله الحياة وما لا تحله لما مر. مضافاً إلى أن الغالب في الأخبار الواردة في نجاستهما إنما هو السؤال عن مسهما أو إصابتهما باليد والثوب ، ومن الظاهر أن اليد والثوب إنما يصب شعرهما عادة لا على بشرتهما لإحاطته ببدنهما ، والشعر مما لا تحله الحياة وقد دلت على نجاسته فيما إذا أصابته اليد أو الثوب مع الرطوبة.

(١) لصدق أنه كلب أو خنزير.

(٢) لأن النجاسة وغيرها من الأحكام إنما ترتبت على ما صدق عليه عنوان الكلب أو الخنزير خارجاً ، فما لم يصدق عليه عنوان أحدهما لا دليل على نجاسته سواء أصدق عنوان حيوان آخر طاهر عليه أم لم يصدق ، هذا.

والصحيح أن يقال : إن المتولد منهما إذا كان ملفقاً من الكلب والخنزير ، بأن كان رأسه رأس أحدهما وبدنه بدن الآخر ، أو كان رجله رجل أحدهما ويده يد الآخر كما شاهدنا ذلك في الحيوان المتولد من الكلب والذئب ، فلا مناص من الحكم بنجاسته‌

__________________

(١) الحدائق ٥ : ٢٠٧.

(٢) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٥٤٥ السطر ٤.

٣٤

وإن كان الأحوط الاجتناب (١) عن المتولد منهما إذا لم يصدق عليه اسم أحد الحيوانات الطاهرة (١)

______________________________________________________

بلا فرق في ذلك بين صدق عنوان أحدهما عليه وعدمه ، وذلك لأن مقتضى الفهم العرفي أن المتركب من عدّة أُمور محرمة أو نجسة أيضاً محرم أو نجس وإن لم يصدق عليه شي‌ء من عناوين أجزائه ، مثلاً إذا فرضنا أن خمسة من الأجزاء المحرمة أو النجسة مزجنا بعضها ببعض ودققناها على وجه تحصل منها معجون لا يصدق عليه شي‌ء من عناوين تلك الأجزاء المحرمة أو النجسة فلا يشك العرف في الحكم بنجاسته وحرمته ، كما أنه يفهم من أدلة حرمة استعمال آنية الذهب والفضّة حرمة استعمال الآنية المصوغة منهما معاً وإن لم يطلق عليها عنوان الإناء من الذهب أو الفضة وهذا ظاهر.

وأما إذا لم يكن المتولد منهما ملفقاً من الكلب والخنزير ولم يتبع أحدهما في الاسم فلا بد من الحكم بطهارته ، لما مرّ من أن النجاسة وغيرها من الأحكام مترتبة على عنوان الكلب والخنزير ومع انتفائهما ينتفي الحكم بنجاسته سواء صدق عنوان حيوان آخر طاهر عليه أم لم يصدق ، فان الحيوانات طاهرة بأجمعها إلاّ ما دلّ الدليل على نجاسته وهو مفقود في المقام ، اللهُمَّ إلاّ أن يتبع أحدهما في الاسم ، فإنه محكوم بالنجاسة حينئذ لصدق أنه كلب أو خنزير وإطلاق ما دلّ على نجاستهما ، كما هو الحال في المتولد من غيرهما كالمتولد من الفرس والحمار ، فإنّه إن تبع أحدهما في الاسم حكم عليه بأحكام متبوعه وأما التبعية في الحكم مطلقاً فلم يقم عليها دليل.

(١) وعن الشهيدين في الذكرى والروض الحكم بنجاسة المتولد من النجسين وإن باينهما في الاسم (٢). ولا يمكن المساعدة عليه وذلك لأن الوجه في ذلك إن كان تبعية الولد لأبويه فيدفعه أنّه لا ملازمة بين نجاسة الأبوين ونجاسة ولدهما ، لما عرفت من عدم قيام الدليل على التبعية مطلقاً ، وإن كان الوجه فيه هو استصحاب نجاسة الولد‌

__________________

(١) بل الأظهر ذلك فيما إذا عدّ المتولد ملفّقاً منهما عرفاً.

(٢) الذكرى : ١٤ ، الروض ١ : ١٦٣.

٣٥

المتيقنة حال كونه علقة لكونها دماً والدم نجس ، كما اعتمد عليه بعضهم في الحكم بنجاسة أولاد الكفار وبه حكم بنجاسة ولد الكافر وإن لم يكن كافراً ، فهذا الوجه لو تم فكما يجري في المتولد من النجسين كذلك يجري فيما إذا كان أحد أبويه نجساً دون الآخر ، وذلك للعلم بنجاسته حال كونه علقة ، بل يكون كتأسيس أصل كلي في جميع الحيوانات فيحكم بنجاسة كل حيوان لسبقه بالنجاسة حال كونه علقة إلاّ ما خرج بالدليل. إلاّ أنه غير تام وذلك أمّا أوّلاً : فلعدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية الإلهيّة في نفسه على ما مرّ منّا غير مرّة ، وأمّا ثانياً : فلعدم بقاء موضوعه ، لأنّ ما علمنا بنجاسته إنما هو الدم وما نشك في نجاسته هو الحيوان وأحدهما غير الآخر ومعه لا مجرى للاستصحاب بوجه.

هذا كله إذا أُريد به استصحاب نجاسته المتيقنة حال كونه دماً ، وأما إذا أُريد به استصحاب نجاسته المتيقنة حال كونه مضغة بدعوى أن المضغة تابعة لُامّها ومعدودة من أجزائها والمفروض نجاسة أُمّه بما لها من الأجزاء ، فحيث إنّه مقطوع النجاسة سابقاً ونشك في بقائها وارتفاعها بعد تولده فالأصل يقتضي الحكم ببقائه على نجاسته ففيه أوّلاً : أنّه لو تم لجرى في المتولِّد من الام النجس أيضاً وإن كان أبوه طاهراً. وثانياً : أنّه من استصحاب الحكم الكلي وقد عرفت عدم جريانه في الأحكام الكلية الإلهيّة.

وثالثاً : أنّ المضغة غير تابعة لُامّها ولا هي معدودة من أجزائها ، وإنما هي موجودة بوجود مستقل متكوِّنة في جوف أُمّها ، فجوفها محل للمضغة لا أنّها من أجزاء أُمّها. نعم ، لو كانت المضغة وهي المتشكلة بشكل الحيوان قبل أن تلج فيها الروح صورة كلب أو خنزير لحكمنا بنجاستها لكونها كلباً أو خنزيراً لا من جهة عدّها من أجزاء أُمّها إلاّ أنه خلاف مفروض الكلام ، فان الكلام إنما هو فيما إذا كانت المضغة بصورة غيرهما من الحيوانات ومعه لا وجه للحكم بنجاستها. ونجاسة المضغة عندنا وإن كانت مستندة إلى كونها جيفة إلاّ أنها إنما تصدق على المضغة فيما إذا انفصلت من أُمها فما دامت في جوفها لا تطلق عليها الجيفة بوجه.

فالمتحصل أن المضغة لم تثبت نجاستها حتى يحكم على المتولد من الكلب والخنزير‌

٣٦

بل الأحوط الاجتناب عن المتولد من أحدهما مع طاهر إذا لم يصدق عليه اسم ذلك الطاهر ، فلو نزى كلب على شاة أو خروف على كلبة ، ولم يصدق على المتولد منهما اسم الشاة ، فالأحوط الاجتناب عنه وإن لم يصدق عليه اسم الكلب (١).

الثامن الكافر بأقسامه (٢)

______________________________________________________

بالنجاسة باستصحابها فلا وجه للحكم بنجاسته. نعم ، لا بأس بالاحتياط استحباباً ولو من جهة وجود القائل بنجاسته.

(١) قد ظهر الحال فيه مما ذكرناه آنفاً فلا نعيد.

(٢) المعروف بين أصحابنا من المتقدمين والمتأخرين نجاسة الكافر بجميع أصنافه بل ادعي عليها الإجماع ، وثبوتها في الجملة مما لا ينبغي الإشكال فيه ، وذهب بعض المتقدِّمين إلى طهارة بعض أصنافه وتبعه على ذلك جماعة من متأخِّري المتأخِّرين. وتوضيح الكلام في هذا المقام أنه لا إشكال ولا شك في نجاسة المشركين بل نجاستهم من الضروريات عند الشيعة ولا نعهد فيها مخالفاً من الأصحاب. نعم ، ذهب العامّة إلى طهارتهم (١) ولم يلتزم منهم بنجاسة المشرك إلاّ القليل (٢) وكذا لا خلاف في نجاسة‌

__________________

(١) اتّفق فقهاؤهم على طهارة أبدان المشركين كما في التفسير الكبير ١٦ : ٢٤ ، وفي المغني ج ١ ص ٤٩ أنّ الآدمي طاهر وسؤره طاهر سواء كان مسلماً أو كافراً عند عامة أهل العلم. وفي البدائع ج ١ ص ٦٣ سؤر الطاهر المتفق على طهارته سؤر الآدمي بكل حال مسلماً كان أو مشركاً .. وبه صرح ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق ج ١ ص ١٢٦. وقال الشربيني الشافعي في اقناعه ج ١ ص ٢٦ الحيوان كلّه طاهر العين حال حياته إلاّ الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما. ويقرب منه عبارة الغزالي في الوجيز ج ١ ص ٦ وبه قال ابن حجر في فتح الباري شرح البخاري ج ١ ص ٢٦٩ والعيني في عمدة القارئ ج ٢ ص ٦٠ وكذا في الفقه على المذاهب الأربعة ج ١ ص ١١ ، فليراجع.

(٢) ذهب إلى نجاسة المشرك الفخر في تفسيره ج ١٦ ص ٢٤ حيث قال : اعلم أن ظاهر القرآن ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) يدلّ على كونهم أنجاساً فلا يرجع إلاّ بدليل منفصل. ثم نقل وجوهاً في تأويل الآية المباركة وعقّبها بقوله : اعلم أن كل هذه الوجوه عدول عن الظاهر بغير دليل.

٣٧

الناصب بل هو أنجس من المشرك على بعض الوجوه ، ففي موثقة ابن أبي يعفور « فانّ الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب ، والناصب لنا أهل البيت لأنجس منه » (١).

كما أنه ينبغي الجزم بنجاسة غير المشرك من الكفار فيما إذا التزم بما هو أسوأ وأشد من الشرك في العبادة كإنكار وجود الصانع رأساً ، لأن المشركين غير منكرين لوجوده سبحانه وإنما يعبدون الأصنام والآلهة ليقربوهم إلى الله زلفى ، ويعتقدون أن الموت والحياة والرزق والمرض وغيرها من الأُمور الراجعة إلى العباد بيد هؤلاء الشفعاء ومن البديهي أن إنكار وجوده تعالى أسوأ من ذلك وأشد فهو أولى بالحكم بالنجاسة من المشرك بالضرورة.

وأمّا غير هذه الفرق الثلاث من أصناف الكفار كأهل الكتاب فقد وقع الخلاف في طهارتهم وهي التي نتكلّم عنها في المقام ، فقد يستدل على نجاسة الكافر بجميع أصنافه بقوله عزّ من قائل ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) (٢) بتقريب أن الله سبحانه حكم بنجاسة المشركين وفرّع عليها حرمة قربهم من المسجد الحرام ، وذلك لأن النجس بفتح الجيم وكسره بمعنى النجاسة المصطلح عليها عند المتشرعة ، فإنّه المرتكز في أذهانهم وبهذا نستكشف أن النجس في زمان نزول الآية المباركة أيضاً كان بهذا المعنى المصطلح عليه ، لأن هذا المعنى هو الذي وصل إلى كل لاحق من سابقه حتى وصل إلى زماننا هذا ، وبما أن أهل الكتاب قسم‌

__________________

ونقل عن صاحب الكشاف عن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير. وعن الحسن : من صافح مشركاً توضأ وقال هذا قول الهادي من أئمة الزيدية. ونسب القول بالنجاسة في فتح الباري ج ١ ص ٢٦٩ إلى أهل الظاهر. وممن صرح بالنجاسة ابن حزم في المحلى ج ١ ص ١٢٩ ١٣٠ وتعجب عن القول بطهارة المشركين قائلاً : ولا عجب في الدنيا أعجب ممن يقول فيمن نصّ الله تعالى أنهم نجس : إنهم طاهرون ثم يقول في المني الذي لم يأت قط بنجاسته نص : إنه نجس ويكفي من هذا القول سماعه ونحمد الله على السلامة.

(١) الوسائل ١ : ٢٢٠ / أبواب الماء المضاف ب ١١ ح ٥.

(٢) التوبة ٩ : ٢٨.

٣٨

من المشركين لقوله تعالى حكاية عن اليهود والنصارى ( وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ) ( ... سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (١) فتدل الآية المباركة على نجاسة أهل الكتاب كالمشركين.

وقد أُجيب عن ذلك بأُمور ونوقش فيها بوجوه لا يهمنا التعرض لها ولا لما أورد عليها من المناقشات ، بل الصحيح في الجواب عن ذلك أن يقال : إن النجس عند المتشرعة وإن كان بالمعنى المصطلح عليه إلاّ أنه لم يثبت كونه بهذا المعنى في الآية المباركة ، لجواز أن لا تثبت النجاسة بهذا المعنى الاصطلاحي على شي‌ء من الأعيان النجسة في زمان نزول الآية أصلاً ، وذلك للتدرّج في بيان الأحكام ، بل الظاهر أنه في الآية المباركة بالمعنى اللغوي وهو القذارة وأي قذارة أعظم وأشد من قذارة الشرك. وهذا المعنى هو المناسب للمنع عن قربهم من المسجد الحرام ، حيث إن النجس بالمعنى المصطلح عليه لا مانع من دخوله المسجد الحرام فيما إذا لم يستلزم هتكه فلا حرمة في دخول الكفار والمشركين المسجد من جهة نجاستهم بهذا المعنى ، وهذا بخلاف النجس بمعنى القذر لأن القذارة الكفرية مبغوضة عند الله سبحانه والكافر عدو الله وهو يعبد غيره فكيف يرضى صاحب البيت بدخول عدوّه بيته ، بل وكيف يناسب دخول الكافر بيتاً يعبد فيه صاحبه وهو يعبد غيره ، هذا كلّه أوّلاً.

وثانياً : أن الشرك له مراتب متعددة لا يخلو منها غير المعصومين وقليل من المؤمنين ومعه كيف يمكن الحكم بنجاسة المشرك بما له من المراتب المتعددة؟ فإن لازمه الحكم بنجاسة المسلم المرائي في عمله ، حيث إنّ الرياء في العمل من الشرك وهذا كما ترى لا يمكن الالتزام به فلا مناص من أن يراد بالمشرك مرتبة خاصة منه وهي ما يقابل أهل الكتاب.

وثالثاً : أنّ ظاهر الآيات الواردة في بيان أحكام الكفر والشرك ومنها هذه الآية أنّ لكل من المشرك وأهل الكتاب أحكاماً تخصّه ، مثلاً لا يجوز للمشرك السكنى في بلاد المسلمين ويجب عليه الخروج منها ، وأما أهل الكتاب فلا بأس أن يسكنوا في‌

__________________

(١) التوبة ٩ : ٣٠ ٣١.

٣٩

بلادهم مع الالتزام بأحكام الجزية والتبعية للمسلمين فحكمهم حكم المسلمين وغير ذلك مما يفترق فيه المشرك عن أهل الكتاب ، ومنه تبرّيه سبحانه من المشركين دون أهل الكتاب ، ومعه كيف يمكن أن يقال إن المراد من المشركين في الآية أعم من أهل الكتاب ، فان ظاهرها أن المشرك في مقابل أهل الكتاب.

فالإنصاف أن الآية لا دلالة لها على نجاسة المشركين فضلاً عن دلالتها على نجاسة أهل الكتاب ، إلاّ أنك عرفت أن نجاسة المشركين مورد التسالم القطعي بين أصحابنا قلنا بدلالة الآية أم لم نقل ، كما أن نجاسة الناصب ومنكري الصانع مما لا خلاف فيه وعليه فلا بد من التكلم في نجاسة غير هذه الأصناف الثلاثة من الكفار.

ويقع الكلام أولاً في نجاسة أهل الكتاب ثم نعقبه بالتكلم في نجاسة بقية الأصناف فنقول : المشهور بين المتقدِّمين والمتأخِّرين نجاسة أهل الكتاب بل لعلّها تعدّ عندهم من الأُمور الواضحة ، حتى أنّ بعضهم على ما في مصباح الفقيه ألحق المسألة بالبديهيات التي رأى التكلّم فيها تضييعاً للعمر العزيز (١) وخالفهم في ذلك بعض المتقدِّمين وجملة من محقِّقي المتأخِّرين حيث ذهبوا إلى طهارة أهل الكتاب. والمتبع دلالة الأخبار فلننقل أوّلاً الأخبار المستدل بها على نجاسة أهل الكتاب ثم نعقبها بذكر الأخبار الواردة في طهارتهم ليرى أيهما أرجح في مقام المعارضة.

فمنها : حسنة سعيد الأعرج « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن سؤر اليهودي والنصراني ، فقال : لا » (٢) ولا إشكال في سندها كما أن دلالتها تامّة ، لأنّ ظاهر السؤال من سؤرهم نظير السؤال عن سؤر بقية الحيوانات إنما هو السؤال عن حكم التصرف فيه بأنحاء التصرّفات ، وقد صرّح بالسؤال عن أكله وشربه في رواية الصدوق (٣) فراجع.

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن آنية‌

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٥٥٨ السطر ٢٦.

(٢) الوسائل ١ : ٢٢٩ / أبواب الأسآر ب ٣ ح ١ ، وكذا في ٣ : ٤٢١ / أبواب النجاسات ب ١٤ ح ٨.

(٣) الوسائل ٢٤ : ٢١٠ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٥٤ ح ١.

٤٠