موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

تعدّد المراتب للنجاسة بحسب الشدة والضعف ، ولا يرد عليه إذا قلنا به أي شي‌ء؟ وليعلم قبل ذلك أن البحث عن أصالة عدم التداخل أجنبي عن مسألتنا هذه بتاتاً وذلك لأن البحث عن عدم التداخل يختص بما إذا كانت الأوامر مولوية ولكل واحد منها شرط أو موضوع ، كما إذا ورد : إن ظاهرت فكفّر وإن أفطرت فكفر ، فيقال حينئذ إن ظاهر كل شرط أنه سبب مستقل في استتباعه الحكم المترتب عليه ، وحيث إنّ الشي‌ء الواحد لا معنى للبعث نحوه ببعثين فلا مناص من تقييد متعلق كل من الأمرين بفرد دون فرد آخر ويقال إن ظاهرت يجب عليك فرد من الكفارة وإن أفطرت يجب عليك فرد آخر منها ، وأما إذا كانت الأوامر إرشادية فلا شرط ولا حكم فيها حتى يقال إنّ ظاهر كل من الشرطين أنه سبب مستقل يستدعي حكماً باستقلاله ، ولاستحالة البعث إلى شي‌ء واحد مرّتين لا بدّ من تقييد متعلقهما بفرد غير الفرد الآخر ، وهذا لوضوح أنه لا بعث في الإرشاد ، والقول بعدم التداخل نتيجة استحالة البعث نحو الشي‌ء مرتين ، إذ الإرشاد في الحقيقة كالاخبار ولا مانع من حكاية شي‌ء واحد مرتين ، وهذا كما في قوله عليه‌السلام : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (١) لأنه إرشاد إلى أمرين : أحدهما : نجاسة أبوال ما لا يؤكل لحمه ونجاسة ملاقيها. وثانيهما : عدم ارتفاع نجاستها بغير الغسل ، فلو فرضنا أن مثله ورد في نجس آخر كما إذا ورد اغسل ثوبك من الدم مثلاً فإنه أيضاً يكون إرشاداً إلى الأمرين المتقدِّمين ، ففي موارد اجتماعهما كما إذا أصاب كل منهما الثوب أمران إرشاديان إلى نجاسة ملاقي كل من النجسين ولا محذور في اجتماعهما ، حيث لا بعث كي لا يجتمع اثنان منه في مورد واحد ، وإنما حالهما حال الحكاية كما عرفت ، وما أشبههما بالإخبار عن التقذر بالقذارة الخارجية ، كما إذا ورد نظِّف ثوبك من وساخة التراب وورد نظِّف ثوبك من وساخة الرماد ، فهل يتوهّم أحد أنّ الثوب المشتمل على كلتا الوساختين لا بدّ من تنظيفه مرّتين ولا يكفي تنظيفه مرّة واحدة ، فالمتحصل أنّ المسألة أجنبية عن أصالة عدم التداخل بالكلية.

__________________

(١) كما في حسنة عبد الله بن سنان المروية في الوسائل ٣ : ٤٠٥ / أبواب النجاسات ب ٨ ح ٢.

٢٠١

[٢٣٨] مسألة ١٠ : إذا تنجّس الثوب مثلاً بالدم مما يكفي فيه غسله مرّة وشكّ في ملاقاته للبول أيضاً مما يحتاج إلى التعدّد ، يكتفى فيه بالمرّة ويبنى على‌

______________________________________________________

وإذا تحقّقت ذلك فلنرجع إلى ما كنّا بصدده فنقول : الاشكال المتوجِّه على كلام الماتن قدس‌سره هو أنه بنى في صدر المسألة على أنّ المتنجِّس لا يتنجس ثانياً وأن الشي‌ء الواحد لا يقبل النجاسة مرّتين فكأن النجاسة الثانية لم تطرأ على الشي‌ء من الابتداء ، فمع فرض أنه لم يلاق غير نجاسة واحدة كالدم مثلاً كيف يترتّب عليه أثر كلتا النجاستين إذا اختلف حكمهما ، لأنّ مفروضنا أنّ النجاسة الثانية كأنها لم تطرأ حقيقة فما الموجب للحكم بترتيب آثارها؟ وهذه المناقشة كما ترى إنما ترد إذا بنينا على أنّ المتنجس لا يتنجّس ثانياً وأن النجاسة الثانية كالعدم حقيقة ، وأما إذا بنينا على أنّ لها مراتب بحسب الشدة والضعف وأنه لا مانع من الحكم بتنجّس المتنجِّس ثانياً بأن تكون إحدى النجاستين ضعيفة والأُخرى شديدة ، فلا يبقى للمناقشة مجال حيث لا بد حينئذ من ترتيب أثر كلتا النجاستين ، وهذا الاشكال هو الذي نفاه بقوله : « ولا إشكال » على تقدير القول بأن للنجاسة مراتب في الشدّة والضعف.

ثم لا ينبغي التأمّل في أنّ النجاسة سواء كانت مختلفة بحسب المرتبة أم لم تكن ، وسواء قلنا إنّ المتنجِّس ينجس أو لا ينجس إذا طرأت على شي‌ء واحد مرتين أو مرّات متعدِّدة اتّحد نوعها أم تعدّد لا يجب غسله إلاّ مرّة واحدة ، اللهُمَّ إلاّ أن يكون لإحداهما أثر زائد كوجوب غسلها مرتين أو التعفير فإنه لا بدّ من ترتيب ذلك الأثر حينئذ وذلك لإطلاق دليله ، لأن مقتضى إطلاق ما دلّ على وجوب غسل البول مرّتين عدم الفرق في وجوبهما بين كونه مسبوقاً بنجاسة أُخرى أو لم يكن ، وكذلك الحال فيما دلّ على لزوم تعفير ما ولغ فيه الكلب لإطلاقه من حيث تحقق نجاسة أُخرى معه وعدمه ، وهذا هو السر في لزوم ترتيب الأثر الزائد حتى على القول بعدم تنجّس المتنجِّس ثانيا.

٢٠٢

عدم ملاقاته للبول (١). وكذا إذا علم نجاسة إناء وشك في أنه ولغ فيه الكلب أيضاً أم لا ، لا يجب فيه التعفير ويبني على عدم تحقق الولوغ. نعم ، لو علم تنجسه إما بالبول أو الدم ، أو إما بالولوغ أو بغيره يجب إجراء حكم الأشد (*) (٢)

______________________________________________________

(١) وذلك للاستصحاب ، لأنه بعد الغسل مرّة وإن كان يشك في ارتفاع النجاسة كما إذا كانت دموية وبقائها كما إذا كانت بولية ، فالفرد المعلوم المتحقق مردّد بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، إلاّ أنه لا مجال لاستصحاب الكلِّي الجامع بينهما حتى يحكم ببقاء النجاسة بعد الغسل مرة واحدة ، وإن قلنا بجريان الاستصحاب في القسم الثاني من الكلي في محله ، وذلك لأنه إنما يجري فيما إذا لم يكن هناك أصل حاكم عليه وهو موجود في المقام ، وهذا للقطع بعدم عروض النجاسة البولية على الثوب في زمان فاذا شككنا في طروها وعدمه فمقتضى الأصل أن نجاسته باقية بحالها ولم تزد عليها نجاسة ثانية حتى يجب غسلها مرتين ، وبهذا الاستصحاب نبني على كفاية الغسل مرة واحدة في المسألة.

وبعبارة اخرى : الاستصحاب إنما يجري في القسم الثاني من الكلي فيما إذا كان الفرد الحادث من الابتداء مردداً بين الباقي والمرتفع ، وأما إذا علمنا بحدوث فرد معيّن ثم شككنا في تبدل ذلك الفرد الحادث بفرد آخر أو في طروّه مع بقاء الفرد الأوّل بحاله فلا تأمّل في أن الاستصحاب يقتضي الحكم بعدم تبدّل الفرد الحادث بغيره وعدم طرو شي‌ء زائد عليه ، وهو نظير ما يأتي في محلِّه من أن المكلف إذا كان محدثاً بالأصغر ثم شك في أنه هل أجنب ، يحكم بعدم طروء الحدث الأكبر حينئذ ويبني على أن حدثه هو الأصغر فيرتفع بالوضوء ، ولا يجري استصحاب بقاء الحدث الجامع بين ما علمنا بارتفاعه وما نعلم ببقائه (٢).

(٢) لاستصحاب بقاء النجاسة حتى يقطع بارتفاعها وهو من القسم الثاني من استصحاب الكلِّي إلاّ أنه يبتني على أمرين : أحدهما : القول بجريان الاستصحاب في‌

__________________

(*) لا تبعد كفاية إجراء حكم الأخف.

(١) راجع المسألة [٤٥٨].

٢٠٣

من التعدّد في البول والتعفير في الولوغ.

[٢٣٩] مسألة ١١ : الأقوى أنّ المتنجِّس منجس (*) كالنجس (١)

______________________________________________________

الأحكام كما هو المعروف بينهم. وثانيهما : منع جريان الأصل في الأعدام الأزلية. وأما على مسلكنا من جريان الاستصحاب في العدم الأزلي فلا وجه لوجوب الغسل ثانياً أو التعفير وغيره كما هو الحال في المسألة المتقدِّمة ، وذلك لأنّا قد استفدنا من الأدلّة الواردة في تطهير المتنجسات أن طبيعي النجس يكفي في إزالته الغسل مرة ، فلا حاجة إلى الغسل المتعدِّد ولا إلى التعفير إلاّ فيما خرج بالدليل كما في البول والولوغ ونحوهما.

وعليه فنقول : الذي علمنا بحدوثه إنما هو طبيعي النجاسة الذي يكفي في إزالته الغسل مرة واحدة ، ولا ندري هل تحققت معه الخصوصية البولية أو الولوغية أم لم تتحقّق ، والأصل عدم تحقّق الخصوصية البولية ولا غيرها ، فاذا ضممنا ذلك إلى علمنا بحدوثه بالوجدان فينتج لا محالة أن الثوب متنجس بنجاسة ليست ببول ولا مستندة إلى الولوغ ، وقد عرفت أن كل نجاسة لم تكن بولاً أو ولوغية مثلاً يكتفى فيها بالغسل مرّة.

(١) قد وقع الكلام في أن المتنجس كالنجس منجّس لما لاقاه مطلقاً ولو بألف واسطة أو أن تنجيسه يختص بما إذا كان بلا واسطة ، فالمتنجس مع الواسطة غير منجس؟ أو أن المنجسية من الأحكام الثابتة على النجاسات العينية ولا يأتي في النجس بالعرض مطلقاً؟

لا ينبغي الإشكال في أن النجاسات العينية منجّسة لملاقياتها وموجبة للسراية بحيث لا تزول النجاسة الحاصلة بملاقاتها إلاّ بغسلها بالماء ، وإن ذهب المحدث الكاشاني قدس‌سره إلى عدم الحاجة في تطهير المتنجس إلى غسله بالماء ، وكفاية‌

__________________

(*) هذا في المتنجس الأوّل ، وأما المتنجس الثاني فإن لاقى الماء أو مائعاً آخر فلا إشكال في نجاسته به ونجاسته ما يلاقيه ، وهكذا كل ما لاقى ملاقيه من المائعات ، وأما غير المائع مما يلاقي المتنجس الثاني فضلاً عن ملاقي ملاقيه ففي نجاسته إشكال وإن كان الاجتناب أحوط.

٢٠٤

مجرّد زوال العين في طهارته ولو بغير الماء إلاّ فيما دلّ الدليل على اعتبار غسله به (١) إلاّ أنّا أبطلنا ما ذهب إليه في محلِّه (٢) وقلنا أنّ ملاقاة الأعيان النجسة بالرطوبة موجبة للسراية ، واستشهدنا عليه بما ورد في موثقة عمّار من قوله عليه‌السلام : « يغسل كل ما أصابه ذلك الماء » (٣) أي الماء المتنجس بموت الفأرة فيه ، لأنه كاشف قطعي عن سراية النجاسة إلى ملاقي النجس وملاقي ملاقيه ، ومن هنا أمر بغسل كل ما أصابه ، فإن الغسل كما مرّ عبارة عن إزالة الأثر المتحقق في المغسول ، فلولا سراية النجاسة إليه بملاقاة النجس لم يكن معنى للأمر بإزالة الأثر حيث لا أثر بعد زوال العين حتى يغسل ويزال ولعله ظاهر.

وإنما الكلام في المتنجسات والمشهور بين المتأخرين أنها كالأعيان النجسة منجّسة مطلقاً ، واستدل لهم على ذلك بأُمور :

الأوّل : أن منجسية المتنجس أمر ظاهر يعرفه المتشرعة وجميع المسلمين من عوامهم وعلمائهم من غير اختصاصه بطائفة دون طائفة ، وعليه فمنجسية المتنجس أمر ضروري لا خلاف فيه بين المسلمين. ويدفعه : أنه إن أُريد بذلك أن تنجيس المتنجس نظير وجوب الصلاة وحرمة الخمر وغيرهما من الأحكام التي ثبتت من الدين بالضرورة المستتبع إنكارها إنكار النبوة والموجبة للحكم بكفر منكرها ففساده مما لا يحتاج إلى البيان ، لأن تنجيس المتنجس أمر نظري ولا تلازم بين إنكاره وإنكار النبوة بوجه فكيف يمكن قياسه بسائر الأحكام الضرورية من الدين.

وإن أُريد أنه أمر واضح معروف لدى المتشرعة وإن لم يصل مرتبة الضرورة الموجبة لكفر منكرها ، ففيه : أنه وإن كان معروفاً عندهم إلاّ أن ذلك لا يكشف عن ثبوته في الشريعة المقدسة ، لعدم إحراز اتصال الحكم بزمانهم عليهم‌السلام ، لأنّ أيّ حكم إذا أفتى به المقلَّدون في عصر واتبعهم مقلِّدوهم برهة من الزمان فلا محالة‌

__________________

(١) مفاتيح الشرائع ١ : ٧٥.

(٢) شرح العروة ٢ : ٢٥.

(٣) الوسائل ١ : ١٤٢ / أبواب الماء المطلق ب ٤ ح ١.

٢٠٥

يكون معروفاً عندهم ومغروساً في أذهانهم بحيث يزعمون أنه ضروري في الشريعة المقدّسة ، مع أنه أمر قد حدث في عصر متأخر عن عصرهم عليهم‌السلام. وبالجملة أن الحكم إذا لم يحرز اتصاله بزمان الأئمة عليهم‌السلام لا يستكشف باشتهاره أنه ثابت في الشريعة أبدا.

الثاني : أن تنجيس المتنجس إجماعي حيث أفتوا بذلك خلفاً عن سلف وعصراً بعد عصر ولم ينكر ذلك أحد. والجواب عنه أولاً : أن دعوى الإجماع في المسألة إنما تتم لو قلنا بحجيته بقاعدة اللطف كما اعتمد عليها الشيخ قدس‌سره فان الحكم بتنجيس المتنجس قد وقع الاتفاق عليه في عصر مثلاً ولم يظهر خلافه الإمام عليه‌السلام في ذلك العصر فمنه يستكشف أنه مرضي عنده ، ولكنّا قد أبطلنا هذه القاعدة في محله وذكرنا أنها على تقدير تماميتها في نفسها لا يمكن أن تكون مدركاً لحجية الإجماع بوجه (١). على أن إظهاره الخلاف مما لا يكاد أن يترتب عليه ثمرة ، لأنه إن ظهر وعرّف نفسه وأظهر الخلاف فهو وإن كان موجباً لاتباع قوله عليه‌السلام إلاّ أنه خلاف ما قدّره الله سبحانه حيث عيّن وقتاً لظهوره لا يتقدّم عليه ولا يتأخّر عنه وأما إذا أظهر الخلاف من غير أن يظهر ويعرّف نفسه فأيّ أثر يترتّب على خلافه حينئذ ، لأنه لم يعرف بالعلم حالئذ فضلاً عن إمامته.

وأما على طريقة المتأخِّرين في حجية الإجماع أعني الحدس بقوله عليه‌السلام من إجماع المجمعين فلا يتم دعوى الإجماع في المسألة ، فإنه كيف يستكشف مقالة الإمام عليه‌السلام من فتوى الأصحاب في المسألة مع ذهاب الحلي ونظرائه إلى عدم تنجيس المتنجسات ، بل ظاهر كلامه أن عدم تنجيس المتنجس كان من الأُمور المسلّمة في ذلك الزمان حيث يظهر من محكي كلامه أن المنجّسية من آثار عين النجس ، والمتنجسات الخالية منها نجاسات حكميات (٢). وكيف كان ، إنّ الاتفاق على حكم في زمان لا يوجب العلم بمقالة الإمام عليه‌السلام.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ١٣٨.

(٢) راجع السرائر ١ : ١٧٩.

٢٠٦

وثانياً : أنّ دعوى الإجماع في المسألة لو تمت فإنما تتم في حق المتأخِّرين ، وأما علماؤنا المتقدمون فلا تعرض في شي‌ء من كلماتهم إلى تلك المسألة ، ولم يفت أحد منهم بتنجيس المتنجس مع كثرة الابتلاء به في اليوم والليلة وفي القرى والبلدان ، ومعه كيف تتم دعوى الإجماع على تنجيس المتنجسات ، ومن هنا ذكر المرحوم الآقا رضا الأصفهاني قدس‌سره في رسالة وجهها إلى العلاّمة البلاغي قدس‌سره ما مضمونه : أنّا لم نجد أحداً من المتقدمين يفتي بتنجيس المتنجس فضلاً عن أن يكون مورداً لإجماعهم ، فلئن ظفرتم على فتوى بذلك من المتقدمين فلتخبروا بها وإلاّ لبدلنا ما في منظومة الطباطبائي قدس‌سره :

والحكم بالتنجيس إجماع السلف

وشذ من خالفهم من الخلف

وقلنا :

والحكم بالتنجيس إحداث الخلف

ولم نجد قائله من السلف(١)

وعليه فلا يمكننا الاعتماد على الإجماعات المنقولة في المسألة ولو على تقدير القول باعتبار الإجماع المنقول في نفسه وذلك للقطع بعدم تحقّق الإجماع من المتقدمين. أضف إلى ذلك كلّه أنّ الإجماع على تقدير تحققه ليس من الإجماع التعبّدي في شي‌ء ، لأنّا نحتمل استنادهم في ذلك إلى الأخبار أو غيرها من الوجوه المستدل بها في المقام.

الثالث : الأخبار فمنها : الأخبار الواردة في وجوب غسل الإناء الذي شرب منه الكلب أو الخنزير (٢) بتقريب أن العادة تقتضي أن يكون شربهما في الإناء من غير ملاقاتهما له ، ولا سيما في الكلب حيث إنه إنما يلغ بطرف لسانه مما في الإناء ولا يصيب فمه الإناء عادة ، فلولا أن الماء المتنجس منجّس لما لاقاه وهو الإناء لم يكن وجه للأمر‌

__________________

(١) الدرّة النجفية : ٥١ جاء هكذا :

وشذّ من خالف ممن قد خلف

والقول بالتنجيس إجماع السلف

(٢) الوسائل ١ : ٢٢٥ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٢ ، ٣ ، ٤ وكذا في ٣ : ٤١٥ / أبواب النجاسات ب ١٢ ح ٢ ، ٣.

٢٠٧

بغسله أو تعفيره. ومنها : ما عن العيص بن القاسم ، قال « سألته عن رجل أصابته قطرة من طشت فيه وضوء ، فقال : إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه » (١) لما مرّ من أنه لو لم يكن الماء المتنجس بالبول أو القذر منجّساً لما أصابه لم يكن لأمره عليه‌السلام بغسله وجه صحيح.

ومنها : رواية معلى بن خنيس ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخنزير يخرج من الماء فيمر على الطريق فيسيل منه الماء ، أمر عليه حافياً؟ فقال : أليس وراءه شي‌ء جاف؟ قلت : بلى ، قال : فلا بأس إنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً » (٢) فانّ الماء المتنجس بملاقاة الخنزير لو لم يكن منجساً للأرض لم تكن حاجة إلى سؤاله عليه‌السلام عن وجود شي‌ء جاف وراءه ، فان رجله طاهرة حينئذ ولم تتنجّس بشي‌ء كان هناك شي‌ء جاف أم لم يكن. ومنها : موثقة عمّار « أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل يجد في إنائه فأرة وقد توضأ من ذلك الإناء مراراً أو اغتسل منه أو غسل ثيابه وقد كانت الفأرة متسلخة ، فقال : إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ثم يفعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء ... » (٣) حيث أمر بغسل كل ما لاقاه الماء المتنجس بميتة الفأرة ولو لا أن المتنجس منجس لم يكن وجه لأمره هذا. ومنها غير ذلك من الأخبار.

ولا يخفى أن هذه الأخبار أجنبية عما هو محل البحث والكلام ، لأن مدعي عدم تنجيس المتنجس إنما يدعي ذلك فيما إذا جف المتنجس وزالت عنه عين النجس ثم لاقى بعد ذلك شيئاً رطباً ، وأما المائع المتنجس أو المتنجس الجامد الرطب قبل أن يجف فلم يقل أحد بعدم منجسيته من المتقدمين والمتأخرين ، ولعلّها مما يلتزم به الكل كما‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١٥ / أبواب الماء المضاف ب ٩ ح ١٤.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٥٨ / أبواب النجاسات ب ٣٢ ح ٣.

(٣) الوسائل ١ : ١٤٢ / أبواب الماء المطلق ب ٤ ح ١.

٢٠٨

ربما يلوح من محكي كلام الحلِّي (١) قدس‌سره ، وهذه الأخبار المستدل بها إنما وردت في المائع المتنجس فهي خارجة عما نحن بصدده. نعم ، إذا كان مدعى القائل بعدم منجسية المتنجس عدم تنجيسه ولو في تلك الصورة لكانت الأخبار المتقدمة حجة عليه في المتنجس المائع أو الرطب ، هذا.

وقد يستدل للمشهور بموثقة عمّار الساباطي ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البارية يبل قصبها بماء قذر ، هل تجوز الصلاة عليها؟ فقال : إذا جفّت فلا بأس بالصلاة عليها » (٢) حيث دلت على عدم جواز الصلاة على البارية فيما إذا كانت رطبة ، ولا وجه له سوى أنها منجسة لما أصابها من بدن المصلي أو ثيابه. إلاّ أن الاستدلال بها في غير محله ، لأن الجفاف فيها إن حمل على الجفاف بإصابة الشمس فحسب كما حمله على ذلك جماعة واستدلوا بها على مطهِّرية الشمس للحصر والبواري ، وحملوا الصلاة عليها على إرادة السجود على البارية لكونها من النبات ومما يصح السجود عليه فهي أجنبية عن تنجيس المتنجس وعدمه ، لأنّ معناها حينئذ أن القصب المبلل بماء قذر إذا جف بالشمس طهر فلا مانع معه من أن يسجد عليه ، وأما إذا كان رطباً أو جف بغير الشمس فهو باق على نجاسته فلا يجوز السجود عليه لاعتبار الطهارة فيما يسجد عليه.

وأما إذا حمل على مطلق الجفاف كما هو الصحيح ، حيث إن الموثقة لم تقيد الجفاف بإصابة الشمس ، ومن هنا استشكلنا في الاستدلال بها على مطهرية الشمس للحصر والبواري وحملنا الصلاة فيها على إرادة الصلاة فوق البارية لا على السجود عليها وإن كان قد يسجد عليها إذا صلّى فوقها ، إلاّ أن الرواية ناظرة إلى حكم ما إذا صلّى فوقها سجد عليها أم لم يسجد ، فمعنى الرواية أن القصب المبلل بالماء القذر لا مانع من أن يصلى فوقه إذا يبس لعدم سراية النجاسة منه إلى بدن المصلي أو ثيابه ، ولا يجوز الصلاة فوقه إذا لم يجف لسراية النجاسة لما أصابها ، وعليه أيضاً تخرج الموثقة عما نحن‌

__________________

(١) تقدّم في ص ٢٠٦.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٥٤ / أبواب النجاسات ب ٣٠ ح ٥.

٢٠٩

بصدده فيكون حالها حال الأخبار المتقدمة ، لما عرف من أن منجسية المائع المتنجس أو المتنجس الجامد الرطب مما لا خلاف فيه ، ولا دلالة للموثقة على أن المتنجس إذا جف ثم لاقى شيئاً رطباً ينجسه أو لا ينجسه.

فاذن العمدة في تنجيس المتنجس بعد جفافه وقبله عدّة روايات وردت في الأمر بغسل الأواني الملاقية للخمر أو الخنزير أو الكلب أو موت الجرذ فيها أو غير ذلك من النجاسات ، المتضمنة لوجوب غسلها من إصابة الخنزير أو موت الجرذ سبع مرّات (١) ومن إصابة الخمر وسائر النجاسات ثلاثاً (٢) ولوجوب تعفيرها من جهة ولوغ الكلب (٣) ، وذلك لأن الأواني غير قابلة للأكل ولا للبس في الصلاة ولا لأن يسجد عليها حتى يتوهّم أن الأمر بغسلها مستند إلى شي‌ء من ذلك ، وعليه فلو قلنا إنّ المتنجس بعد جفافه غير منجّس لأصبح الأمر بغسل الأواني على كثرته وما فيه من الاهتمام والتشديد في تطهيرها لغواً ظاهراً ، حيث لا مانع من إبقائها بحالها واستعمالها من غير غسل لأنها غير مؤثرة في تنجيس ما أصابها ، فهذا كاشف قطعي عن أن الأمر بغسل الأواني إرشاد إلى أنها منجّسة لما يلاقيها برطوبة.

ومن الغريب في المقام ما صدر عن المحقق الهمداني قدس‌سره حيث أجاب عن تلك الروايات بأنّ غاية ما يستفاد من الأمر بغسل الأواني ونحوها إنما هو حرمة استعمالها ومبغوضيته حال كونها قذرة ، ولا دلالة لها على أنها منجّسة ومؤثرة في نجاسة ما فيها بوجه ، فالأمر بغسل الأواني مقدّمة لارتفاع المتنجس وحرمته لا أنه إرشاد إلى منجسيتها (٤). والوجه في غرابته : أن من الواضح أن استعمال الإناء المتنجس والأكل فيه إذا لم يؤثر في نجاسة ما فيه من الطعام والشراب مما لا مبغوضية فيه ولا أنه حرام بضرورة الفقه ، فيتعيّن أن يكون الأمر بغسله إرشاداً إلى تنجيسه لما‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤١٧ / أبواب النجاسات ب ١٣ ح ١ ، وفي ص ٤٩٧ ب ٥٣ ح ١.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٩٤ / أبواب النجاسات ب ٥١ ح ١ ، ب ٥٣ ح ١.

(٣) الوسائل ٣ : ٥١٦ / أبواب النجاسات ب ٧٠ ح ١ وكذا في ١ : ٢٢٥ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٢.

(٤) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٥٧٨ السطر ١١.

٢١٠

يلاقيه ، وليس الأكل في الأواني المتنجسة كالأكل في أواني الذهب والفضة ، حيث إن الأكل والشرب فيهما مبغوضان في نفسهما للنصوص المانعة عن استعمالهما ، وهذا بخلاف الأكل في الأواني المتنجسة لأنه لم يدل دليل على مبغوضيته ما لم تكن نجاستها مؤثرة في نجاسة ما فيها من الطعام والشراب.

ودعوى أنّ الأمر بغسلها إنما هو لاهتمام الشارع بالتحفظ والاجتناب عن النجاسات العينية المتخلفة آثارها في الأواني المتقذرة ، وليس إرشاداً إلى كونها منجسة لملاقياتها ، مدفوعة بأن هذا إنما يتم احتماله في المتنجس ببعض النجاسات كالميتة والخمر ولا يتطرّق في جميع الأواني المتنجسة كالمتنجس بالماء القذر ، حيث إنه إذا جف لم يبق منه عين ولا أثر.

ونظير الأخبار المتقدمة ما ورد من عدم البأس بجعل الخل في الدن المتنجس بالخمر إذا غسل (١) لأن البأس المتصور في جعل الخل في الدن المتنجس على تقدير عدم غسله ليس إلاّ سراية النجاسة منه إلى ملاقيه ، حيث إنّ الأكل في الدن غير معهود فلا يتوهم أن البأس من جهة حرمة الأكل فيه ، بدعوى أنّ الأكل في الإناء المتنجس مبغوض في نفسه وإن لم يكن مؤثراً في نجاسة ما فيه من الطعام والشراب فالغسل مقدّمة لحلِّية الأكل فيه ، لوضوح أن ما في الدن إنما يؤكل بعد إخراجه عنه ووضعه في إناء آخر ، فالبأس فيه قبل غسله ليس إلاّ من جهة كونه منجساً لما أصابه.

وتؤكِّد الأخبار المتقدمة الأخبار الآمرة بغسل الفراش ونحوه المشتملة على بيان كيفيته (٢) ، وذلك لأنّ الفراش ونظائره لا يستعمل في شي‌ء مما يعتبر فيه الطهارة من الأكل أو اللبس في الصلاة ، فلا وجه للأمر بغسلهما إلاّ الإرشاد إلى أنهما منجسان لما أصابهما.

__________________

(١) كما في موثقة عمّار المروية في الوسائل ٣ : ٤٩٤ / أبواب النجاسات ب ٥١ ح ١ وكذا في ٢٥ : ٣٦٨ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٣٠ ح ١ ، ٦.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٠٠ / أبواب النجاسات ب ٥ ح ١ ٣.

٢١١

وأوضح من الجميع الأخبار الناهية عن التوضؤ والشرب من الماء القليل الذي لاقته يد قذرة ، وفي بعضها الأمر بإراقته ، ولا وجه لذلك إلاّ انفعال الماء القليل بملاقاة اليد المتنجسة وسقوطه بذلك عن قابلية الانتفاع به فيما يشترط فيه الطهارة ، فإن ادّخاره لأن يسقى به البستان ونحوه أمر غير مألوف ، وهي عدة روايات فيها الصحيح والموثق فمنها : صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر ، قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة ، قال : يكفئ الإناء » (١) أي يقلبه. والقذر بمعنى النجس يستعمل في قبال النظيف. ومنها : موثقة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا أصاب الرجل جنابة فأدخل يده في الإناء فلا بأس إذا لم يكن أصاب يده شي‌ء من المني » (٢) فان مفهومها أن يده إذا أصابها شي‌ء من المني ففي إدخالها الإناء بأس ، وبهذا المفهوم صرّح في موثقته الأُخرى قال : « سألته عن رجل يمس الطست أو الركوة ثم يدخل يده في الإناء قبل أن يفرغ على كفيه؟ قال : يهريق من الماء ثلاث جفنات وإن لم يفعل فلا بأس ، وإن كانت أصابته جنابة فأدخل يده في الماء فلا بأس به إن لم يكن أصاب يده شي‌ء من المني ، وإن كان أصاب يده فأدخل يده في الماء قبل أن يفرغ على كفيه فليهرق الماء كلّه » (٣).

ومنها : ما في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع أيغتسل منه للجنابة أو يتوضأ للصلاة؟ إلى أن قال عليه‌السلام : إن كانت يده نظيفة فليأخذ كفاً من الماء بيد واحدة » الحديث (٤). ومنها غير ذلك من الأخبار ، حيث إنّ إطلاقها يقتضي نجاسة الماء القليل الذي لاقته اليد المتنجسة كانت فيها عين النجس أم لم تكن لأنها قذرة ومتنجسة على كل حال. والإنصاف أن دلالة هذه الأخبار على تنجيس المتنجس في غاية الظهور والوضوح.

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) الوسائل ١ : ١٥٣ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ٧ ، ٩ ، ١٠.

(٤) الوسائل ١ : ٢١٦ / أبواب الماء المضاف ب ١٠ ح ١.

٢١٢

والعجب من صاحب الكفاية وغيره ممن تأخر عنه ومنهم المرحوم الآقا رضا الأصفهاني قدس‌سرهم حيث ذكروا أن تنجيس المتنجس مما لم يرد في شي‌ء من الروايات. وكيف كان ، فهذه الأخبار بإطلاقها يكفي في الحكم بتنجيس المتنجس كما عرفت.

إلاّ أن الكلام كله في أن تنجيس المتنجس هل يختص بالمتنجس بلا واسطة أعني ما تنجس بالعين النجسة من غير واسطة ، أو أنه يعمّه والمتنجس بالمتنجس وهكذا ولو إلى ألف واسطة؟ حيث إن الأخبار المتقدمة بحسب الغالب واردة في المتنجس بلا واسطة كما في الأواني والفرش ونحوهما ، وأما المتنجس بالمتنجس ومع الواسطة فلم يدل على تنجيسه شي‌ء فيحتاج تعميم الحكم له إلى إقامة الدليل.

فقد يقال بالتعميم ويستدل عليه بصحيحة البقباق ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن فضل الهرّة والشّاة والبقرة والإبل إلى أن قال فلم أترك شيئاً إلاّ سألته عنه ، فقال : لا بأس به حتى انتهيت إلى الكلب فقال : رجس نجس لا تتوضأ بفضله واصبب ذلك الماء واغسله بالتراب أوّل مرّة ثم بالماء » (١) بتقريب أنها دلّت على أنّ المناط في تنجّس الماء وعدم جواز استعماله في الشرب أو الوضوء إنما هو ملاقاته النجس ، والنجس كما يشمل الأعيان النجسة كذلك يشمل المتنجسات ، وحيث إن قوله عليه‌السلام « رجس نجس » بمنزلة كبرى كلية للصغرى المذكورة في كلامه أعني ملاقاة الماء للنجس وكالعلة للحكم بعدم جواز شربه أو التوضؤ منه ، فلا محالة يتعدى من الكلب في الصحيحة إلى كل نجس أو متنجس ، لأنّ العلّة تعمّم الحكم كما أنها قد تخصّصه وكأنه قال : هذا ماء لاقى نجساً وكل ما لاقى النجس لا يتوضأ به ولا يجوز شربه ، وهذا يأتي فيما إذا لاقى الماء مثلاً بالمتنجس فيقال : إنه لاقى نجساً وكل ما لاقى النجس لا يجوز شربه ولا التوضؤ به ، وهكذا تتشكل صغرى وكبرى في جميع ملاقيات النجس والمتنجس سواء كان مع الواسطة أم بدونها ونتيجته الحكم بتنجيس المتنجس ولو بألف واسطة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢٦ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٤.

٢١٣

ويؤيد ذلك برواية معاوية بن شريح ، قال : « سأل عذافر أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده عن سؤر السنور والشاة والبقرة والبعير والحمار والفرس والبغل والسباع يشرب منه أو يتوضأ منه؟ فقال : نعم ، اشرب منه وتوضأ منه ، قال قلت له : الكلب؟ قال : لا ، قلت : أليس هو سبع؟ قال : لا والله إنه نجس ، لا والله إنه نجس » (١) حيث إن ظاهرها أنّ العلّة في الحكم بعدم جواز الشرب والتوضؤ من سؤر الكلب إنما هي نجاسة ما باشره ولاقاه فيتعدّى من الكلب إلى كل ما هو نجس أو متنجس هذا.

ولا يخفى أن إطلاق النجس على المتنجّس وإن كان أمراً شائعاً لأنه أعم من الأعيان النجسة والمتنجسة ويصحّ أن يقال : إنّ ثوبي نجس ، إلاّ أن كلمة الرجس لم يعهد استعمالها في شي‌ء من المتنجسات ، بل لا يكاد أن يصح ، فهل ترى صحة إطلاقها على مؤمن ورع إذا تنجس بدنه بشي‌ء؟ وذلك لأن الرجس بمعنى « پليد » وهو ما بلغ أعلى مراتب الخباثة والقذارة فلا يصح إطلاقه على المتنجس بوجه.

على أنه لا قرينة في الصحيحة على أن قوله عليه‌السلام « رجس نجس » تعليل للحكم بعدم جواز التوضؤ أو الشرب منه ، بل فيها قرينة على عدم إرادة التعليل منه وهي قوله عليه‌السلام : « واغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء » ، فان لازم حمله على التعليل والتعدِّي عن مورد الصحيحة إلى غيره الحكم بوجوب التعفير في ملاقي جميع الأعيان النجسة والمتنجسة. مع أنه مختص بولوغ الكلب ولا يأتي في غيره من النجاسات فضلاً عن المتنجسات. وأما الرواية فهي ضعيفة بمعاوية ، على أنها قاصرة الدلالة على المدّعى ، لأنّ قوله عليه‌السلام « لا والله إنه نجس » لم يرد تعليلاً للحكم المتقدِّم عليه وإنما ورد دفعاً لما توهمه السائل من أن الكلب من السباع التي حكم عليه‌السلام بطهارة سؤرها ، فقد دفعه بأن الكلب ليس من تلك السباع ، فهو في الحقيقة كالإخبار دون التعليل ، فهذا الاستدلال ساقط.

والصحيح أن يستدل على تنجيس المتنجس ولو مع الواسطة بالأخبار الواردة‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢٦ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٦.

٢١٤

في عدم جواز التوضؤ بالماء القليل الذي أصابته يد قذرة ، وقد تقدمت الإشارة إليها آنفاً ، ومن جملتها : حسنة زرارة الواردة في الوضوءات البيانية حيث اشتملت على حكاية الإمام عليه‌السلام عن وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنه دعا بقعب فيه شي‌ء من الماء ، وبعد ما حسر عن ذراعيه وغمس فيه كفه اليمنى قال : « هكذا إذا كانت الكف طاهرة » (١) فانّ مفهومها أن الكف إذا لم تكن طاهرة فلا يجوز التوضؤ بإدخالها في الماء القليل ، ولا وجه لمنعه إلاّ انفعال الماء القليل بملاقاة اليد المتنجسة ومقتضى إطلاقها أنه لا فرق في ذلك بين أن تكون الكف متنجسة بلا واسطة وبين ما إذا تنجّست مع الواسطة ، كما إذا تنجست يده بالمتنجس بلا واسطة ثم أدخلها في الماء القليل ، فان المتنجس بلا واسطة قد عرفت منجسيته فبملاقاته تكون الكف قذرة ، فاذا أدخلها في الإناء فيصح أن يقال : إن الماء لاقته كف غير طاهرة فتؤثر في انفعاله ولا يجوز شربه ولا التوضؤ به ، ثم ننقل الكلام إلى ما أصابه ذلك الماء المتنجس بواسطتين ونقول : إنه مما أصابه ما ليس بطاهر فينجس ولا يجوز التوضؤ به ولا شربه وهكذا.

والمناقشة في دلالتها بأن منعه عليه‌السلام عن التوضؤ من الماء في مفروض المسألة غير ظاهر الاستناد إلى تنجيس المتنجس ، وذلك لاحتمال استناده إلى عدم جواز الغسل والتوضؤ من الماء المستعمل في رفع الخبث كما هو الحال في المستعمل في رفع الحدث الأكبر مع الحكم بطهارته في نفسه ، فان الماء يصدق عليه عنوان المستعمل بمجرّد إدخال اليد فيه ، وقد دلّت رواية ابن سنان على أن الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به الرجل من الجنابة لا يتوضأ منه وأشباهه (٢) ، ولما ذكرناه بنوا على عدم جواز التوضؤ بماء الاستنجاء مع القول بطهارته ، فهذه الأخبار مجملة وغير قابلة للاستدلال بها على منجسية المتنجسات مطلقاً كما ناقشنا بذلك في بحث انفعال الماء القليل.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٨٧ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٢.

(٢) الوسائل ١ : ٢١٥ / أبواب الماء المضاف ب ٩ ح ١٣.

٢١٥

مندفعة بوجوه : الأوّل : أن الظاهر المتفاهم من الصحيحة وغيرها أن منعهم عن التوضؤ بذلك الماء مستند إلى منجسية اليد المتنجسة ولو من جهة بنائهم على تنجيس المتنجس في الجملة ولا يكاد يستفاد منها حسب المتفاهم العرفي أن المنع من جهة كون الماء من المستعمل في إزالة الخبث ، فاحتمال ذلك على خلاف ظواهر الأخبار.

الثاني : أن المتنجس الملاقي مع الماء من اليد ونحوها على ثلاثة أقسام : فإن المتنجس قد يكون متحملاً لشي‌ء من الأجزاء النجسة من البول والدم ونحوهما ، وقد يتنجّس بعين النجس إلاّ أنه لا يتحمّل شيئاً من أجزائها لإزالتها عنه بخرقة أو بشي‌ء آخر ، وثالثة يتنجس بالمتنجس كاليد المتنجسة بملاقاة الإناء المتنجس فان المتنجس بلا واسطة منجس كما مرّ. أما القسمان الأولان فلا نزاع في تنجيسهما الماء القليل لأنهما من المتنجس بلا واسطة أو حامل للأجزاء النجسة ، فالمنع عن التوضؤ يستند إلى سراية النجاسة من النجس إلى الماء ، وأما القسم الثالث فالمنع عن استعماله أيضاً يستند إلى سراية النجاسة إليه إذا قلنا بمنجسية المتنجس ولو مع الواسطة ، ويستند إلى كونه من الماء المستعمل في إزالة الخبث إذا منعنا عن تنجيس المتنجس مع الواسطة ، إلاّ أن حمل الرواية على خصوص قسم واحد من أقسام المتنجس الملاقي للماء خلاف الظاهر فلا يصار إليه.

الثالث : أن المنع عن استعمال الماء القليل في مفروض الكلام لو كان مستنداً إلى أنه من الماء المستعمل في رفع الخبث لم يكن للأمر بإراقته في بعض الأخبار المانعة وجه صحيح ، لأنه باق على طهارته ولا مانع من استعماله في الشرب وتطهير البدن ونحوهما وإن لم يصح منه الوضوء. فالإنصاف أن دلالة الأخبار على منجسية المتنجس ولو مع الواسطة غير قابلة للمناقشة ، وما ناقشنا به في دلالتها على ذلك في بحث انفعال الماء القليل مما لا يمكن المساعدة عليه.

إلاّ أنّا مع هذا كلّه بحاجة في تتميم هذا المدعى من التشبث بذيل الإجماع وعدم القول بالفصل ، لأن مورد الأخبار إنما هو الماء وهو الذي لا يفرق فيه بين المتنجس‌

٢١٦

بلا واسطة والمتنجس معها ، والتعدي عنه إلى الجوامد لا يتم إلاّ بالإجماع وعدم القول بالفصل بين الماء وغيره ، لأنّا نحتمل أن يكون تأثير المتنجس في الماء مطلقاً من أجل لطافته وتأثره بما لا يتأثر به غيره ، ومن هنا اهتم الشارع بحفظه ونظافته ، وورد أن من اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومنّ إلاّ نفسه (١) أو أمر بالاجتناب عنه إذا لاقاه المتنجس ولو مع الواسطة ، وليس هذا إلاّ لاهتمام الشارع بنظافة الماء وتحفظه عليه ، ومع هذا الاحتمال لا مسوّغ للتعدي عن الماء إلى غيره ، فلو تعدينا فنتعدى إلى بقية المائعات لأن حكمها حكم الماء ، وأما الجوامد فلا.

على أن السراية المعتبرة في نجاسة الملاقي أمر ارتكازي ولا إشكال في عدم تحققها عند تعدد الواسطة وكثرتها ، مثلاً إذا لاقى شي‌ء نجساً رطباً فلا محالة تسري نجاسته إلى ملاقيه بالارتكاز وإذا لاقى ذلك المتنجس شيئاً ثالثاً فهب أنّا التزمنا بتحقق السراية منه إلى الثالث أيضاً بالارتكاز ، إلاّ أن الثالث إذا لاقى شيئاً رابعاً وهكذا إلى التاسع والعاشر فتنقطع السراية بالارتكاز ، ومن هنا لا يسعنا التعدي من الماء إلى الجوامد بوجه. ولو لا مخافة الإجماع المدعى والشهرة المتحققة على تنجيس المتنجس مطلقاً لاقتصرنا في الحكم بتنجيس المتنجس على خصوص الماء أو المائعات ، ولذا استشكلنا في تعاليقنا على المتن في تنجيس المتنجس على إطلاقه لما عرفت من عدم دلالة الدليل على منجسية المتنجس في غير الماء والمائعات مع الواسطة ، ومعه فالحكم بمنجسيته على إطلاقه مبني على الاحتياط.

بقي الكلام في أدلّة القول بعدم منجسية المتنجس على إطلاقه. وقد استدل عليه بأُمور : منها : أن الحكم بمنجسية المتنجسات والأمر بالاجتناب عن ملاقياتها لغو لا يصدر عن الحكيم ، فإنه حكم غير قابل للامتثال. وتقريب ذلك كما في كلام المحقق الهمداني قدس‌سره بزيادة منّا : أن القول بتنجيس المتنجس مطلقاً يستلزم العلم القطعي بنجاسة جميع الدور والبقاع بل وجميع أهل البلد والبلاد ونجاسة ما في أيدي المسلمين وأسواقهم ، وذلك فإن النجاسة مسرية ولا يمكن قياسها بالطهارة ، لأنّ‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١٩ / أبواب الماء المضاف ب ١١ ح ٢.

٢١٧

الطاهر إذا لاقى جسماً آخر لا تسري طهارته إليه ولو مع الرطوبة المسرية ، وهذا بخلاف النجاسة فإنها موجبة لسراية النجس من أحد المتلاقيين إلى الآخر (١) ، وعليه فإذا فرضنا أن إناء أو أواني متعدِّدة قد وضعت في مكان يساورها أشخاص مختلفة فيباشرها الصغير والكبير والرجال والنساء والمبالين لأُمور دينهم وغير المبالين كما في الحباب الموضوعة في الصحن الشريف سابقاً فنقطع بالضرورة بنجاسة تلك الآنية أو الأواني للقطع بملاقاتها مع المتنجس من يد أو شفة ونحوهما ، كما هو الشاهد المحسوس في أوقات الكثرة والازدحام كأيام الزيارات ونحوها فان من لاحظ كيفية حركات النساء والصبيان وسكناتهم وعدم اجتنابهم عن النجاسات فضلاً عن المتنجسات لم يحتج في الإذعان بذلك إلى أزيد مما سردناه ، فاذا جزمنا في أوقات الازدحام بنجاسة الإناء أو الأواني المتعددة لعلمنا بنجاسة جميع من باشره ، إذ يتنجس بذلك بدنه وثيابه فاذا مضى على ذلك زمن غير طويل لأوجب تنجس داره ، وبما أنه يخالط الناس ويساورهم فتسري النجاسة إلى جميع البلاد بمرور الدهور والأيام كما لا يخفى وجهه على من ابتلى بنجاسة في واقعة وغفل عن تطهيرها إلاّ بعد أن خالط الناس.

وكذلك الحال في أدوات البنائين وآلاتهم حيث لا يزالون يستعملونها في جميع البقاع والأمكنة مع القطع بنجاسة بعضها بالبول أو بإصابة متنجس كالكنيف لوضوح أن الدور والبقاع لا يطرأ عليها مطهر ، كما أن عادتهم لم تجر على غسل أدواتهم وتطهيرها بعد استعمالها في الكنيف فبذلك تتنجس جميع أبنية البلاد. وكذلك الحال في المقاهي والمطاعم حيث يدخلهما كل وارد وخارج وهو يوجب القطع بنجاسة الأواني المستعملة فيهما للقطع بأن بعض الواردين عليهما نجس أو في حكمه كما في اليهود والنصارى وفسقة المسلمين وغير المبالين منهم بالنجاسة ، حيث يدخلونهما ويشربون فيها الماء والشاي مع نجاسة أيديهم أو شفاههم وهذا يوجب القطع بسراية النجاسة إلى جميع البلاد.

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٥٧٩ السطر ٩.

٢١٨

والإنصاف أن ما أفاده من استلزام القول بمنجسية المتنجس على وجه الإطلاق القطع بنجاسة أكثر الأشياء والأشخاص بل الجميع متين غايته ، ولا سيما في أمثال بغداد وطهران ونحوهما من بلاد الإسلام المحتوية على المسلم والكافر بأقسامهما ، إذ الأماكن الاجتماعية في أمثالهما كالمقاهي لا تنفك عن القطع بإصابة نجس أو متنجس لها ، فلو كان المتنجس منجّساً لاستلزم ذلك القطع بنجاسة جميع ما في العالم ، والأمر بالاجتناب عن الجميع أمر غير قابل للامتثال ، فبه يصبح الحكم بمنجسية المتنجس والأمر بالاجتناب عنه لغواً ظاهراً. ودعوى عدم حصول القطع بملاقاة النجس أو المتنجس في أمثال الأواني الموضوعة في الأماكن العامة عهدتها على مدعيها.

بل ذكر المحقق الهمداني قدس‌سره في طي كلامه : « أن من زعم أن هذه الأسباب غير مؤثرة في حصول القطع لكل أحد بابتلائه في طول عمره بنجاسة موجبة لتنجس ما في بيته من الأثاث مع إذعانه بأن إجماع العلماء على حكم يوجب القطع بمقالة المعصوم عليه‌السلام لكونه سبباً عاديا لذلك ، فلا أراه إلاّ مقلداً محضاً لا يقوى على استنتاج المطالب من المبادي المحسوسة فضلاً عن أن يكون من أهل الاستدلال (١). فإنكار حصول العلم بالنجاسة خلاف الوجدان.

والجواب عن ذلك : أنّ هذه المناقشة أنما ترد فيما إذا قلنا بتنجيس المتنجس على وجه الإطلاق ، وأما إذا اكتفينا بمنجسية المتنجس بلا واسطة في كل من الجوامد والمائعات دون المتنجس مع واسطة أو واسطتين أو أكثر ، أو قلنا بتنجيس المتنجس من غير واسطة والمتنجس معها في خصوص المائعات دون غيرها من الجوامد ، فأين يلزم العلم بنجاسة جميع ما في العالم من الأشخاص والأبنية والأثاث ، لانقطاع الحكم بالمنجسية في المتنجس مع الواسطة ، وقد أشرنا أنّا لا نلتزم بمنجسية المتنجس في غير الواسطة الاولى في الجوامد بوجه ، إلاّ أنّا لا نحكم بعدم منجسيته مخافة الإجماع المدعى على تنجيس المتنجس مطلقاً والوقوع في خلاف الشهرة المتحققة في المسألة.

ومما ذكرناه في الجواب عن ذلك ظهر الجواب عن الأمر الثاني من استدلالهم ، وهو‌

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٥٧٩ السطر ١٨.

٢١٩

دعوى استقرار سيرة المتشرعة على عدم الاجتناب عن مثل الأواني الموضوعة في أماكن الاجتماع أو عن الدور والأبنية والبقاع أو عن الأواني المستعملة في المقاهي وأمثالها ، حيث يعاملون معها معاملة الأشياء الطاهرة بحيث لو تعدى أحد عن الطريقة المتعارفة عندهم بأن اجتنب عن مثل هذه الأُمور معللاً بأن من عمّر الأبنية مثلاً استعمل في عمّارتها الآلات التي لا زال يستعملها في عمّارة الأماكن المتنجسة من غير أن يطهّرها ، أو اجتنب عن مساورة شخص معتذراً بأنه يساور أشخاصاً لا يزالون يدخلون المقاهي والمطاعم ويساورون الكفار ، يطعنه جميع المتشرعة بالوسواس.

ودعوى أن عدم اجتنابهم عن الأشياء المتقدم ذكرها إنما هو مسبب عن العسر والحرج في الاجتناب عنها وغير ناش عن طهارتها ، مندفعة بأن المراد بالعسر والحرج إن كان هو الشخصي منهما ففيه : أنه قد لا يكون الاجتناب عن تلك الأُمور عسراً في حق بعضهم لعدم كونها مورداً لابتلائه كما إذا كان مثرياً متمكناً من تحصيل لوازم الاعاشة من الخبز والجبن واللبن في بيته فلا يكون الاجتناب عنها حرجياً في حقه ، ولازمه الحكم بنجاستها بالإضافة إليه ، مع أن سيرتهم لم تجر على الحكم بنجاستها ولو بالإضافة إلى شخص دون شخص.

وإن أُريد منهما العسر والحرج النوعيان بدعوى أنّ الاجتناب عن الأشياء المذكورة وأمثالها لما كان موجباً للعسر والحرج على أغلب الناس وأكثرهم ، فقد أوجب ذلك الحكم بارتفاع النجاسة ووجوب الاجتناب عن الجميع وإن لم يكن حرجياً في حق بعض ، ففيه : أن ذلك كرّ على ما فر منه لأنه عين الالتزام بعدم تنجيس المتنجسات ، إذ الماء مثلاً إذا جاز شربه وصحّ استعماله في الغسل والوضوء وغيرهما مما يشترط فيه الطهارة وكذا غير الماء من المتنجسات فما ثمرة الحكم بنجاسته؟

وقد ظهر الجواب عن ذلك بما سردناه في الجواب عن الوجه السابق ، وذلك لأن سيرة المتشرعة إنما يتم الاستدلال بها إذا كان المدعى منجسية المتنجس مع الواسطة‌

٢٢٠