موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

[٢١٥] مسألة ١ : لا اعتبار بعلم الوسواسي (*) في الطهارة والنجاسة (١).

______________________________________________________

شي‌ء هو فإنه يقول لك من عمل الشيطان » (٢) إلاّ أن شيئاً من ذلك لا يقتضي حرمة الوسواس ، وذلك فإن النهي عن التعويد إرشاد إلى عدم ارتكاب نقض الصلاة لأنه مرجوح ، وقد ذهب المشهور إلى حرمته والتزم بعضهم بكراهته وليس تحريماً مولوياً وقد علّل ذلك في بعض الروايات بأن الخبيث إذا خولف وعصي لم يعد (٣).

وكيف كان ، فلا تستفاد من الرواية حرمة الوسواس وكذا صحيحة ابن سنان ، وذلك لأنّا نسلم أن الوسواس بل مجرد الشك والتردد من الشيطان ونعترف بأن الوسواسي يطيعه ، إلاّ أنه لا دليل على حرمة إطاعة الشيطان في جميع الموارد ، إذ الإنسان قد يقدم على مكروه أو مباح ولا إشكال في أنه من الشيطان ، لأنّ المؤمن حقيقة الذي هو أعز من الكبريت الأحمر لا يضيع وقته الثمين بالاشتغال بالمكروه أو المباح ، كيف وقد حكي عن بعضهم أنه لم يرتكب طيلة حياته مباحاً فضلاً عن المكروه ، فارتكاب غير محبوبه تعالى إطاعة للشيطان مع حليته فليكن الوسواس أيضاً من هذا القبيل.

فالمتحصل : أنه لا دليل على حرمة الوسواس في نفسه ، اللهُمَّ إلاّ أن يستلزم عنواناً محرماً كما إذا استلزم تأخير الصلاة عن وقتها وهو الذي يتفق في حق الوسواسي غالباً وقد حكي عن بعض المبتلين بالوسواس أنه أتى نهراً عظيماً للاغتسال قبل أن تطلع الشمس بساعة وفرغ من اغتساله والشمس قد غربت ، ولا إشكال في حرمة ذلك ، ونظيره ما إذا أدى إلى اختلال النظام أو إلى هلاكة نفسه وغيرهما من الأُمور المحرمة. وأما الاحتياط المتعقب بالوسواس فقد ظهر حاله مما بيّناه آنفاً ، فانّ ذا المقدمة وهو الوسواس غير محرّم في نفسه فضلاً عن حرمة مقدمته.

(١) يقع الكلام في ذلك من جهات : الجهة الأُولى : هل يجب على الوسواسي‌

__________________

(*) بمعنى أنه لا يجب عليه تحصيل العلم بالطهارة ولا يعتمد على إخباره بالنجاسة.

(١) الوسائل ١ : ٦٣ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١٠ ح ١.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٢٨ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ١٦ ح ٢ ..

١٦١

تحصيل العلم بالواقع في مقام الامتثال أو أن له أن يكتفي بالشك والاحتمال في فراغ ذمّته؟

لا ينبغي الإشكال في أنّ الوسواسي يجوز أن يكتفي في امتثاله بالشك ولا يجب عليه تحصيل العلم بالفراغ ، وذلك لأنّ شكّه خارج عن الشكوك المتعارفة عند العقلاء فلا يشمل مثله الشك الذي أُخذ في موضوع الأُصول فلا يجري في حقه الاستصحاب ولا غيره ، ولا مناص معه من أن يمتثل على النمط المتعارف عند العقلاء ، ولا يضرّه الشك في صحة ما أتى به على النحو المتعارف ، وذلك للأخبار الواردة في من كثر سهوه (١) حيث دلّت على أنه يكتفى بالشك والاحتمال ولا يجب عليه تحصيل العلم بإتيان المأمور به ، لأنه إذا ثبت ذلك عند كثرة الشك فيثبت مع الوسواس الذي هو أشدّ من كثرة الشك بالأولوية القطعية.

الجهة الثانية : إذا شهد الوسواسي بنجاسة شي‌ء وأخبر بها فهل يعتمد على إخباره وشهادته أو لا اعتبار بهما لاستنادهما إلى علمه واعتقاده وهو في ذلك قطاع لأنّ علمه إنما يحصل من الأسباب التي لا يحصل لغيره منها ظن بل ولا احتمال؟

المتعين هو الثاني للعلم بأن إخباره وشهادته مستندان إلى وسوسته أو إلى سبب لا يفيد غيره ظنا ولا احتمالاً. وقد نقل عن بعض المقلّدين انه كان يتوضأ وهو على سطح دار فاعتقد أنّ قطرة من ماء الوضوء قد طفرت من الأرض وصعد الهواء بها إلى أن وقعت على رقبته وصار هذا سبباً لزوال وسوسته حيث تنبه أنه من الشيطان إذ كيف يطفر الماء من الأرض ويصعد إلى أن تقع على رقبته.

وعن بعض المتقدمين أنه كان يعتقد نجاسة جميع المساجد الكائنة في النجف من جهة انفعال الماء القليل بملاقاة الآلات والأدوات المستعملة في البناء ، وأعجب من الجميع ما حكى عن وسواسي عامي أنه كان يحلق لحيته مقدمة لوصول الماء إلى بشرته لاعتقاد أن اللحية ولو خفيفها مانعة عن وصول الماء إلى البشرة ، ومن البديهي أن الاخبار المستند إلى تلك الاعتقادات السخيفة الخيالية مما لا مساغ للاعتماد عليه.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٢٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ١٦ ح ١ ٦.

١٦٢

[٢١٦] مسألة ٢ : العلم الإجمالي كالتفصيلي فاذا علم بنجاسة أحد الشيئين يجب الاجتناب عنهما (١) ، إلاّ إذا لم يكن أحدهما محلاًّ لابتلائه (٢) فلا يجب الاجتناب عمّا هو محل الابتلاء أيضاً.

______________________________________________________

الجهة الثالثة : إذا اعتقد الوسواسي بطلان عمله من صلاته أو وضوئه ونحوهما لعلمه بطرو حدث يقطعه أو يمنع عنه فهل يحكم ببطلان عمله لعلمه هذا أو لا يعتمد على علمه؟ الصحيح أن علمه هذا حجة في حقه ولا مناص من الحكم ببطلان عمله وذلك لأنّ التصرّف في حجية علمه وردعه عن العمل على طبقه غير معقول ، وأما التصرّف في متعلق قطعه بأن يقال إنّ الحدث إنما يبطل الصلاة إذا علم من غير طريق الوسوسة دون ما إذا علم بطريقها فهو وإن كان خدعة حسنة حتى يرتدع الوسواسي عن عمله ، إلاّ أن المانعية أو الشرطية بحسب الواقع ومقام الثبوت غير مقيدتين بما إذا أحرزهما المكلف بطريق متعارف ، حيث لم يدل دليل على تقييد إطلاقات المانعية أو الشرطية بذلك ، ولا نحتمل انعقاد إجماع تعبدي على اختصاص المانعية أو الشرطية بما إذا أحرزتا بطريق متعارف ، لأنّ المسألة غير معنونة في كلماتهم ولا طريق معه إلى تحصيل إجماعهم. ودعوى أنه ليس بحدث وإنما هو أمر تخيله الوسواسي حدثاً ، إنما تفيد في مقام الخديعة للارتداع ولا تنفع في تقييد المانعيّة أو الشرطية بوجه. فالصحيح بطلان عمله في مفروض المسألة على تقدير مطابقة علمه الواقع وأما ما ورد من النهي عن تعويد الخبيث وأنّ الوسوسة من الشيطان وأنّ من أطاعه لا عقل له فإنما ورد في صورة الشك في البطلان ومن هنا نهي عن نقض الصلاة ، فإن النقض أمر اختياري للمكلف حينئذ ، وكذلك الحال في متابعة الشيطان لأنّ موردها الشك كما عرفت وكلامنا إنما هو في صورة العلم ببطلان العمل فهو منتقض في نفسه ولا معنى للنهي عن نقضه.

(١) قد أسلفنا تفصيل الكلام في ذلك في مباحث القطع باشكالاته ونقوضه وأجوبتها.

(٢) القول بانحلال العلم الإجمالي بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء وإن‌

١٦٣

[٢١٧] مسألة ٣ : لا يعتبر في البيِّنة حصول الظن بصدقها (١) نعم يعتبر عدم معارضتها بمثلها (٢).

______________________________________________________

كان مشهوراً عند المتأخِّرين عن شيخنا الأنصاري قدس‌سره بل لم نجد قائلاً بخلافه ، إلاّ أنه كما ذكرناه في الأُصول (١) مما لا أساس له ، فانّ الخروج عن محل الابتلاء وعدمه سيان في تنجيز العلم الإجمالي ، إلاّ أن يكون خروجه عنه من جهة عدم قدرة المكلف عليه عقلاً ، كما إذا علم إجمالاً بوقوع قطرة دم على يده أو على جناح طائر قد طار ، فان الاجتناب عن الطرف الآخر غير لازم حينئذ ، والوجه فيما ذكرناه من عدم التفرقة بين خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء وعدمه ، هو أنّ العلم الإجمالي ليس بنفسه علة في تنجيز متعلقه وإنما تنجيزه مستند إلى تساقط الأُصول في أطرافه بالمعارضة ، فان فرضنا أن بعضها مما لا يتمكن منه المكلف عقلاً فلا يبقى مانع عن جريان الأُصول في بعض أطرافه الأُخر لعدم معارضتها بشي‌ء ، لأن الأصل لا يجري في الطرف الخارج عن القدرة والاختيار. وأما إذا كانت الأطراف مقدورة له عقلاً ولو بواسطة أو وسائط فمجرد خروج بعضها عن محل الابتلاء بالفعل مع التمكن منه عقلاً غير مستلزم لانحلال العلم الإجمالي بوجه ، لأنّ جريان الأُصول في كلا الطرفين مستلزم للترخيص في المخالفة القطعية ، وجريانها في أحدهما دون الآخر من غير مرجح وهو معنى التساقط بالمعارضة ، وبهذا يكون العلم الإجمالي منجزاً حيث لا بد من الاحتياط في كل واحد من الأطراف دفعاً لاحتمال العقاب.

(١) لعدم ابتناء اعتبارها على إفادتها الظن بمضمونها ، ولا على عدم قيام الظن بخلافها ، فانّ مقتضى دليل الاعتبار حجية البينة على وجه الإطلاق ، أفادت الظن أم لم تفد ظن بخلافها أم لم يظن.

(٢) لأنّ دليل اعتبار البيِّنة لا يمكن أن يشمل كلا المتعارضين لاستحالة التعبّد بالضدّين أو النقيضين ولا أحدهما المعين لأنه بلا مرجح ، ولا لأحدهما لا بعينه لأنه ليس فرداً آخر غيرهما فلا بد من التساقط والرجوع إلى أمر آخر.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٣٩٣.

١٦٤

[٢١٨] مسألة ٤ : لا يعتبر في البيِّنة (*) ذكر مستند الشهادة (١)

______________________________________________________

(١) والصحيح التفصيل بين ما إذا لم يكن بين الشاهدين أي البيِّنة والمشهود عنده خلاف في شي‌ء من النجاسات والمتنجسات اجتهاداً أو تقليداً فلا يعتبر ذكر مستند الشهادة ، وبين ما إذا كان بينهما خلاف في شي‌ء منهما كما إذا رأى الشاهد نجاسة الخمر أو نجاسة العصير أو منجسية المتنجس دون المشهود عنده فيعتبر ذكر المستند حينئذ ، وتوضيح ذلك :

أنّ الشاهد أعني البيِّنة إذا أخبر عن نجاسة شي‌ء وذكر مستندها أيضاً ولكنّا علمنا بخطأه وعدم صحة مستندها ، كما إذا أخبر عن نجاسة الماء لأجل إخباره عن أنه لاقى الدم ، وقد علمنا بعدم ملاقاته له وأن ما لاقى الماء كان طاهراً ، فلا إشكال في سقوطه عن الاعتبار وعدم حجية شهادته ، فإنّ إخباره عن السبب بالمطابقة وإن دلّ على نجاسة الماء بالالتزام إلاّ أنه لا اعتبار بالدلالة الالتزامية بعد سقوط الدلالة المطابقية عن الاعتبار للعلم بخطأه ، فالنجاسة الناشئة من ملاقاة الدم منتفية يقيناً والنجاسة المسببة عن شي‌ء آخر لم تحك عنها الشهادة بالمطابقة ولا بالالتزام. وإلى هذا أشار الماتن بقوله : نعم لو ذكرا مستندها وعلم عدم صحّته لم يحكم بالنجاسة.

وأمّا إذا أخبر بنجاسة شي‌ء ولم يذكر مستندها فهو منحل واقعاً إلى أمرين وإن كان الشاهد غير ملتفت إليهما : أحدهما : الإخبار عن الكبرى المجعولة في الشريعة المقدّسة على نحو القضايا الحقيقية وهي نجاسة البول أو المني أو غيرهما من الأعيان النجسة ومنجسيته لما يلاقيه خارجاً. وثانيهما : الإخبار عن أن تلك الكبرى المجعولة قد انطبقت على موردها ومصداقها وأن صغراها تحققت في الخارج بمعنى أن البول أو المني مثلاً لاقى الماء أو الثوب خارجاً.

أمّا أوّلهما : فلا اعتبار للبينة في مثله ، فإن الحكاية والإخبار عن الأحكام المجعولة في الشريعة المقدّسة وظيفة الرواة حيث ينقلونها حتى يأخذ عنهم الفقيه ، أو وظيفة‌

__________________

(*) إلاّ إذا كان بين البينة ومن قامت عنده خلاف في سبب النجاسة.

١٦٥

المفتي والفقيه حيث يفتي بوجوب شي‌ء أو حرمته حتى يتبعه مقلِّدوه ، وأمّا البيِّنة فليس لها أن تخبر عن الأحكام الكلية بوجه.

وأمّا ثانيهما : فهو وإن كان إخباراً عن الموضوع الخارجي أعني ملاقاة النجس للماء مثلاً ، فلا مناص من أن تتبع فيه البينة وإن كان مدلولاً التزامياً لها ، إلاّ أن البينة إنما تحكي عن ملاقاة الماء للنجس بالالتزام فيما إذا لم يكن بين الشاهد والمشهود عنده خلاف في الأسباب المؤثرة في التنجيس ، كما إذا كان أحدهما مقلداً للآخر أو كانا مقلدين لثالث أو مجتهدين متطابقين في الرأي والنظر وقد بنيا على نجاسة الخمر أو العصير أو على منجسية المتنجس وهكذا ، ولعلّ توافقهما في ذلك هو الأغلب ، لأنّ استقلال الشاهد البيِّنة بما لا يراه المشهود عنده مؤثراً في التنجيس قليل الاتفاق.

وكيف كان ، فإذا لم يكن بينهما خلاف في ذلك فأخبار الشاهد عن نجاسة شي‌ء إخبار التزامي عن ملاقاته النجس أو المتنجس ، لأنه لا معنى للمعلول من غير علة وهو إذا لم يعلم بسبب النجاسة على تفصيله فلا أقل من أنه عالم به على الإجمال لعلمه بأنه لاقى بولاً أو عصيراً أو غيرهما من النجاسات والمتنجسات ، وبما أنه إخبار عن الموضوع الخارجي فلا محالة تتبع فيه البينة ، لأن الأخبار الالتزامي كالإخبار المطابقي حجّة ومانع عن جريان الأصل العملي وهو ظاهر.

وأمّا إذا كان بينهما خلاف في ذلك كما إذا رأى الشاهد البينة نجاسة الخمر أو العصير أو منجسية المتنجس دون المشهود عنده ، وقد أخبره بنجاسة الماء من غير ذكر مستندها واحتملنا استناده في ذلك إلى ما لا يراه المشهود عنده نجساً ، فلا يكون إخباره هذا إخباراً عن ملاقاة الماء مع النجس بالالتزام. نعم ، يدل بالدلالة الالتزامية على تحقّق طبيعي الملاقاة وجامعها المردد بين المؤثر بنظر المشهود عنده وغير المؤثر وظاهر أن الأثر لم يترتب على طبيعيها وإنما هو مترتب على بعض أفراده ، ولم يخبر الشاهد عن تحقق الملاقاة المؤثرة لا بالمطابقة وهو ظاهر ولا بالالتزام.

وبالجملة أن الألفاظ إنما وضعت للدلالة على ما أراد المتكلِّم تفهيمه ، ولا دلالة في كلام الشاهد على أنه قصد تفهيم حصول الملاقاة المؤثرة بنظر المشهود عنده أو‌

١٦٦

غيرها ، فنحن بعد في شك في ملاقاة الماء للبول أو غيره من المنجسات فأي مانع معه من الرجوع إلى استصحاب عدم حصول الملاقاة المؤثرة كملاقاته البول أو المني أو غيرهما ، وهذا الاستصحاب جار من غير معارض ، فانّ استصحاب عدم حصول الملاقاة غير المؤثرة مما لا أثر له ، وحيث لم تقم البينة على حصول الملاقاة المؤثرة فلا مانع من الرجوع إلى الأصل. نعم ، لو كانت للبينة دلالة على حصولها ولو بالالتزام كما إذا لم يكن بينهما خلاف في الأسباب المؤثرة في التنجيس لكانت حاكمة على الاستصحاب المذكور لا محالة لأنها حينئذ تزيل الشك عن حصول الملاقاة المؤثرة بالتعبد. فما ذهب إليه العلاّمة قدس‌سره من أن الشاهد لا يعتنى بشهادته إذا شهد بالنجاسة ولم يذكر السبب لجواز اعتماده على ما لا يعتمد عليه المشهود عنده (١) هو الصحيح.

ودعوى استقرار سيرة العقلاء على قبول شهادته وعدم فحصهم وسؤالهم عن مستندها ، عهدتها على مدّعيها لأنه لم تثبت عندنا سيرة على ذلك ، وقد عرفت أن إخباره عن الحكم المجعول في الشريعة المقدّسة أعني نجاسة ملاقي الماء على نحو القضية الحقيقية غير معتبر ، وإخبارها عن حصول الملاقاة في الخارج وإن كان معتبراً إلاّ أن ما يثبت به إنما هو حصول طبيعي الملاقاة لا الملاقاة المؤثرة بنظر المشهود عنده ، والمدار في ثبوت النجاسة بالبينة إنما هو على إخبارها عن سبب تام السببية عنده لا ما هو سبب عند الشاهد ، إذ لا يترتّب عليه أثر عند المشهود عنده ، ومن هنا ذكر الماتن في المسألة الآتية أن الشاهد إذا أخبر بما لا سببية له في نجاسة الملاقي عنده إلاّ أنه سبب مؤثر فيها بنظر المشهود عنده تثبت به نجاسة الملاقي لا محالة.

فتحصّل أنّ البيِّنة إذا أخبرت عن النجاسة ولم يذكر مستندها فلا يعتمد على شهادتها عند اختلافهما في الأسباب. هذا كلّه في هذه المسألة ، ومما ذكرناه في المقام يظهر الحال في المسائل الآتية فليلاحظ.

__________________

(١) التذكرة ١ : ٩٣.

١٦٧

نعم لو ذكرا مستندها ، وعلم عدم صحته لم يحكم بالنجاسة.

[٢١٩] مسألة ٥ : إذا لم يشهدا بالنجاسة بل بموجبها كفى (١) وإن لم يكن موجباً عندهما أو عند أحدهما ، فلو قالا : إن هذا الثوب لاقى عرق المجنب من حرام ، أو ماء الغسالة كفى عند من يقول بنجاستهما وإن لم يكن مذهبهما النجاسة.

[٢٢٠] مسألة ٦ : إذا شهدا بالنجاسة واختلف مستندهما كفى في ثبوتها (٢)

______________________________________________________

(١) لما ظهر مما أسلفناه في الفرع السابق من أنّ المدار في ثبوت النجاسة بالبينة إنما هو على إخبارها عن سبب تام السببية بنظر المشهود عنده ، فان معه لا يبقى مجال لاستصحاب عدم ملاقاة النجس للأمارة الحاكمة عليه ، والأمر في المقام كذلك ، ولا عبرة بعدم كون المشهود به سبباً للنجاسة عند الشاهد.

(٢) قد فصّل الماتن قدس‌سره في المسألة بين ما إذا نفى كل منهما قول الآخر وما إذا أخبر من غير أن ينفي الآخر ، فحكم بالنجاسة في الصورة الثانية واستشكل فيها في الصورة الأُولى. والتحقيق : أن المشهود به بالبينة لا مناص من أن يكون واقعة واحدة شخصية كانت أم كلية ، حيث لا يعتبر في البينة أن يكون المشهود به واقعة شخصية ، لأن البينة إذا شهدت على أن المالك قد باع داره من زيد بخصوصه فالمشهود به واقعة شخصية فيثبت بشهادتهما أن المالك باع داره من فلان ، كما إذا شهدت على أنه باع داره من أحد شخصين : عمرو وبكر من غير تعيين يثبت أيضاً بشهادتها أن المالك باع داره من أحدهما ، مع أن المشهود به واقعة كلية أعني البيع من أحدهما المحتمل انطباقه على هذا وذاك ، نظير المتعلق في موارد العلم الإجمالي كما إذا علمنا ببيعه من أحدهما ، فكما أنّ متعلق العلم حينئذ هو البيع الكلي المتخصِّص بإحدى الخصوصيتين القابل انطباقه على البيع من عمرو أو من بكر فكذلك الحال عند قيام البيِّنة على بيع المالك من أحدهما.

وكيف كان ، فالمعتبر في البينة إنما هو وحدة الواقعة المشهود بها كلية كانت أم شخصية. وأما إذا أخبر أحد الشاهدين عن أن المالك باع داره من زيد مثلاً وأخبر الآخر عن بيعها من شخص آخر ، فلا تكون الواقعة المشهود بها واحدة بل واقعتان‌

١٦٨

وإن لم تثبت الخصوصية ، كما إذا قال أحدهما : إن هذا الشي‌ء لاقى البول وقال الآخر : إنه لاقي الدم. فيحكم بنجاسته (*) ، لكن لا تثبت النجاسة البولية ولا الدمية ، بل القدر المشترك بينهما. لكن هذا إذا لم ينف كل منهما قول الآخر بأن اتفقا على أصل النجاسة. وأما إذا نفاه كما إذا قال أحدهما : إنه لاقى البول وقال الآخر : لا بل لاقى الدم ففي الحكم بالنجاسة إشكال (**).

______________________________________________________

قد أخبر كل منهما عن واقعة ، فهي خارجة عن كونها مشهوداً بها بالبيِّنة فتدخل في شهادة العدل الواحد ولا يثبت بشهادته بيع المالك في موارد المرافعة. وأما الجامع المنتزع من كلتا الشهادتين أعني بيعه من أحدهما فهو مدلول التزامي للشهادتين والدلالة الالتزامية تتبع الدلالة المطابقية حدوثاً وحجية ، فإذا فرضنا سقوط الشهادتين عن الحجية في مدلولهما المطابقي لأنه من شهادة العدل الواحد فلا مجال لاعتبارهما في مدلولهما الالتزامي. وإذا تحقّقت ذلك فنقول :

إنّ الشاهدين في المقام قد يخبر كل منهما عن ملاقاة الإناء للبول مثلاً وهي قضية شخصية وبما أن المشهود به واقعة واحدة فتثبت بشهادتهما نجاسة الملاقي لا محالة وأُخرى يخبران عن ملاقاة الإناء لأحد نجسين من غير تعيينه كالبول أو المني ، وهي قضية كلية وحيث إنّ المشهود بها واقعة واحدة كسابقه أيضاً يحكم بنجاسة ملاقي النجس وهو الإناء ، وثالثة يخبر أحدهما عن أن الإناء لاقى البول مثلاً ، ويخبر الآخر عن ملاقاته الدم ولا يمكننا حينئذ الحكم بنجاسة الملاقي لتعدد الواقعة المشهود بها فان كل واحد من الشاهدين قد شهد بما لم يشهد به الآخر فهي خارجة عن الشهادة بالبينة. نعم ، هي من شهادة العدل الواحد ولا تثبت بها النجاسة بناء على عدم اعتبار خبر العدل الواحد في الموضوعات وأما الجامع الانتزاعي أعني عنوان‌

__________________

(*) فيه إشكال بناء على ما تقدم منه قدس‌سره من الإشكال في ثبوت النجاسة بخبر العدل الواحد ، نعم بناء على ما اخترناه من ثبوتها به يثبت به الخصوصية أيضاً.

(**) الأظهر عدم ثبوتها.

١٦٩

ملاقاته لأحدهما فلم تشهد عليه البيِّنة على الفرض. نعم ، هو مدلول التزامي للشهادتين وقد عرفت أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثاً وحجية ومع سقوط الشهادتين عن الحجية في مدلولهما المطابقي لا يبقى مجال لحجيتهما في مدلولهما الالتزامي.

ولا فرق في ذلك بين ما إذا نفى كل منهما قول الآخر وما إذا شهد بملاقاة الإناء للبول من غير أن ينفي ما شهد به الآخر وهو ملاقاته للدم في المثال ، وذلك لأنّا إن بنينا على حجية الدلالة الالتزامية وإن سقطت الدلالة المطابقية عن الاعتبار فلا محيص من أن نلتزم بثبوت النجاسة في كلتا الصورتين لدلالة الشهادتين على ملاقاة الإناء لأحدهما بالالتزام نفى كل منهما الآخر أم لم ينفه ، ومن هنا التزم صاحب الكفاية قدس‌سره في مبحث التعادل والترجيح أن الدليلين المتعارضين ينفيان الثالث بالدلالة الالتزامية مع سقوطهما عن الاعتبار في مدلولهما المطابقي بالمعارضة لنفي كل منهما الآخر فالتنافي بينهما غير مانع عن حجية المدلول الالتزامي حينئذ (١). وأما إذا بنينا على أن الدلالة الالتزامية تتبع الدلالة المطابقية حدوثاً وحجية كما هو الصحيح فلا يمكننا الحكم بنجاسة الملاقي في شي‌ء من الصورتين لسقوط الدلالة المطابقية عن الحجية وبه تسقط الدلالة الالتزامية أيضاً عن الاعتبار ، فنفي أحدهما الآخر وعدمه سيان فلا تثبت بهما نجاسة الملاقي ، هذا كله مجمل القول في المسألة.

وأما تفصيله : فهو أن المشهود به قد يكون موجوداً واحداً شخصياً في كلتا الشهادتين إلاّ أنهما يختلفان في عوارضه وطوارئه أو يختلفان في صنفه أو في نوعه مع التحفظ على وحدة الموجود المشهود به ، وأُخرى يكون المشهود به وجودين مختلفين قد شهد كل من الشاهدين بكل منهما مع اختلافهما في عوارضهما أو في صنفهما أو في نوعهما وهذه صور اختلاف الشاهدين.

أما إذا كان المشهود به موجوداً واحداً شخصياً واختلف الشاهدان في عوارضه كما إذا شهد كل منهما على أن قطرة بول وقعت في الإناء وادّعى أحدهما أنها وقعت فيه‌

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٣٩.

١٧٠

ليلاً وقال الآخر وقعت فيه نهاراً ، وهما متفقان على أنّ ما شاهده أحدهما هو الذي شاهده الآخر بعينه ، أو أخبرا عن مجي‌ء زيد واختلفا في زمانه ، ونحوهما مما كان المشهود به للشاهدين موجوداً واحداً ، فلا إشكال في ثبوت النجاسة بشهادتهما ، ولا يضرّها اختلافهما في عوارض المشهود به لأن العوارض والطوارئ مما لا مدخلية له في شي‌ء من الأحكام الشرعية وموضوعاتها ، فإن النجاسة مثلاً حكم ثبت على ما لاقته عين نجسة كانت ملاقاتهما في الليل أم في النهار.

وكذلك الحال فيما إذا كان المشهود به موجوداً واحداً إلاّ أن الشاهدين اختلفا في صنفه ، كما إذا شهدا على وقوع ميتة مشخصة في ماء قليل واتفقا على أن ما شاهده أحدهما هو الذي شاهده الآخر ولكنهما اختلفا في أنها ميتة هرة أو شاة أو ادعى أحدهما أن الميتة رجل الشاة وقال الآخر بل كانت يد الشاة ، أو شهدا على وقوع قطرة من دم الرعاف في الإناء واختلفا في أنه من هذا أو من ذاك لأنّ المشهود به موجود واحد فلا مناص من الحكم بنجاسة الماء بشهادتهما ، واختلافهما في صنفه كاختلافهما في عوارضه غير مانع عن اعتبار الشهادتين ، لأنّ الخصوصيات الصنفية غير دخيلة في نجاسة الميتة أو الدم ونحوهما ، حيث إن الميتة مما له نفس سائلة تقتضي نجاسة ملاقيها كانت ميتة هرة أم شاة وهكذا.

وأما إذا كان المشهود به موجوداً واحداً إلاّ أنهما اختلفا في نوعه ، كما إذا اتفقا على أن قطرة نجس قد وقعت في الإناء إلاّ أنهما اختلفا فقال أحدهما إنها كانت قطرة بول وشهد الآخر بأنها كانت قطرة دم ، فالصحيح أن النجاسة لا تثبت بشهادتهما حينئذ وذلك لتعدد المشهود به ، حيث شهد أحدهما بوقوع قطرة دم في الإناء وشهد الآخر بوقوع قطرة بول فيه وهما أمران متعددان ، وإن كان الواقع في الإناء موجوداً واحداً فهاتان الشهادتان تدخلان في شهادة العدل الواحد وهي خارجة عن البينة. وأما العنوان الانتزاعي أعني وقوع أحدهما في الإناء فقد عرفت أنه ليس بمشهود به للبينة بالمطابقة وإنما هو مدلول التزامي للشهادتين ، وقد مرّ أن الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثاً وحجية ، ومع عدم اعتبار الشهادتين في مدلولهما المطابقي لا يبقى مجال لحجيتهما في مدلولهما الالتزامي بلا فرق في ذلك بين نفي أحدهما الآخر‌

١٧١

وعدمه ، هذا بل الشهادتان مع فرض وحدة المشهود به متنافيتان دائماً لاستحالة كون الموجود الواحد بولاً ودماً فأحدهما ينفي الآخر لا محالة ، وعليه فلا يمكن الحكم بثبوت النجاسة في مفروض المسألة حتى إذا قلنا بكفاية شهادة العدل الواحد في الموضوعات الخارجية ، وذلك لأنهما شهادتان متعارضتان وقد مرّ أن التعارض مانع عن شمول دليل الاعتبار للمتعارضين ، هذا كله مع وحدة المشهود به.

وأما إذا كان المشهود به موجودين مختلفين ، كما إذا شهد أحدهما على أن الهرّة بالت في الإناء بعد صلاة المغرب وشهد الآخر بأنها بالت فيه بعد طلوع الشمس ، وهذا لا بمعنى أن ما رأى أحدهما هو الذي رآه الآخر وإنما يختلفان في زمانه حتى يرجع إلى الصورة الاولى من صور وحدة المشهود به ، بل إن هناك أمرين متعددين والمشهود به لأحدهما غير المشهود به للآخر ، فقد ظهر مما ذكرناه في الصور المتقدمة أن البينة لا تثبت نجاسة الملاقي حينئذ لتعدد المشهود به فتدخل الشهادتان بذلك تحت شهادة العدل الواحد ، وأما الجامع الانتزاعي فقد عرفت حكمه فلا نعيد.

وكذلك الحال فيما إذا كان المشهود به أمرين متعدِّدين مع اختلاف الشاهدين في صنفهما أو في نوعهما ، والأوّل كما إذا شهد أحدهما بوقوع قطرة دم من رعافه في الإناء وشهد الآخر بوقوع قطرة دم من المذبوح فيه. والثاني كما إذا شهد أحدهما بوقوع قطرة بول فيه ، وشهد الآخر ، بوقوع قطرة دم فيه لا مع اتفاقهما على أن ما وقع فيه قطرة واحدة وأن ما رأى أحدهما هو الذي رآه الآخر كما في الصورة الأخيرة من صور وحدة المشهود به ، بل هما متفقان على تعدد القطرة وأن المشهود به لأحدهما غير المشهود به للآخر ، فالمدار في استكشاف وحدة المشهود به وتعدّده في هذه الصورة إنما هو على العنوان الذي تقع الشهادة بذلك العنوان ، ففي الصورة المتقدّمة وقعت الشهادة على وقوع قطرة نجس في الإناء إلاّ أن أحدهما يدعي أنها قطرة دم والآخر يدّعي أنها قطرة بول ، وأما في هذه الصورة فإحدى الشهادتين إنما وقعت على وقوع قطرة بول فيه والشهادة الأُخرى وقعت على وقوع قطرة دم فيه فالمشهود به في إحدى الشهادتين غير المشهود به في الثانية. وكيف كان ، فلا يترتّب على شهادة البيِّنة أثر مع تعدّد المشهود به.

١٧٢

[٢٢١] مسألة ٧ : الشهادة بالإجمال كافية أيضاً كما إذا قالا : أحد هذين نجس. فيجب الاجتناب عنهما (١). وأما لو شهد أحدهما بالإجمال والآخر بالتعيين كما إذا قال أحدهما : أحد هذين نجس وقال الآخر : هذا معيناً نجس ففي المسألة وجوه (*) ، وجوب الاجتناب عنهما ، ووجوبه عن المعين فقط ، وعدم الوجوب أصلا (٢).

______________________________________________________

ثم إنّ الفرق بين هذه الصورة وبين صورة اختلاف الشاهدين في نوع المشهود به مع فرض وحدته هو أنّا لو قلنا بكفاية إخبار العدل الواحد في الموضوعات الخارجية نلتزم بنجاسة الملاقي في المقام ، لتعدد المشهود به وعدم نفي كل منهما الآخر فهما شهادتان غير متعارضتين لا بدّ من أتباعهما ، وهذا بخلاف صورة اختلافهما في نوع المشهود به مع اتحاده لما عرفت من أن الشهادتين مع فرض وحدة المشهود به متعارضتان دائماً ، فانّ كلاًّ منهما ينفي الآخر إذ يستحيل أن يكون شي‌ء واحد بولاً ودما.

(١) لما عرفت من أن شهادة البينة على نجاسة أحد شيئين غير المعين كشهادتها على نجاسة المعين منهما ، فتثبت نجاسة الإناء بشهادتها لوحدة الواقعة المشهود بها نعم لا تثبت بها الخصوصية كما هو واضح.

(٢) فان اختلفا في سبب النجاسة كما أنهما مختلفان في الإجمال والتعيين بأن شهد أحدهما بأن قطرة بول أصابت أحد الإناءين من غير تعيينه وشهد الآخر بأن قطرة دم لاقت أحدهما المعين ، فلا إشكال في عدم اعتبار البيِّنة حينئذ لما مرّ وعرفت من أن المشهود به إذا كان واحداً شخصياً معيناً عندهما لا يحكم باعتبار البيِّنة فيما إذا اختلف الشاهدان في سبب النجاسة ومستندها فضلاً عما إذا كان المشهود به مختلفاً فيه من حيث الإجمال والتعيين. وأما إذا اتفقا على ذلك وأن النجس الواقع في الإناء قطرة‌

__________________

(*) أوجهها أوسطها بناء على ثبوت النجاسة باخبار العدل الواحد ، وإلاّ فالوجه الأخير هو الأوجه.

١٧٣

بول مثلاً ولكنهما اختلفا من حيث خصوصياتها فأخبر أحدهما عن أنها وقعت في أحد الإناءين لا على التعيين وشهد الآخر بوقوعها في أحدهما المعين ففيه وجوه واحتمالات :

فقد يُقال بوجوب الاجتناب عن المعيّن فحسب ، لأنّ وجوب الاجتناب عنه مشهود به لكلتا الشهادتين حيث شهد به أحدهما تفصيلاً وشهد به الآخر على وجه الإجمال ، فإن لازم وقوع النجاسة في أحدهما غير المعين وجوب الاجتناب عن كلا الطرفين فالمعين قد شهد كلاهما بوجوب الاجتناب عنه ، نعم ، لا يثبت بذلك نجاسته حتى يحكم بنجاسة ملاقيه وإنما يجب الاجتناب عنه فحسب ، وهذا بخلاف الطرف الآخر فان وجوب الاجتناب عنه مشهود به لأحدهما وليس بمشهود به لمن أخبر عن وقوع النجاسة في المعين منهما ، فيجب الاجتناب عن المعيّن دون الآخر.

والجواب عن ذلك : أنّ نجاسة المعين منهما وإن كانت مشهوداً بها لأحدهما إلاّ أن شهادة الآخر بنجاسة أحدهما على نحو الإجمال لا تثبت وجوب الاجتناب عن المعيّن ، وذلك لأن النجاسة الإجمالية غير ثابتة بالبينة وإنما شهد بها العدل الواحد ومع عدم ثبوت النجاسة الإجمالية لا يثبت وجوب الاجتناب عن كلا الطرفين ، لأنها إذا سقطت عن الاعتبار في مدلولها المطابقي فلا مجال لاعتبارها في مدلولها الالتزامي وهو وجوب الاجتناب عن المعين منهما.

فتحصّل أن وجوب الاجتناب عن المعيّن ليس بمشهود به لكلا الشاهدين بل لأحدهما ، وحيث إنه من شهادة العدل الواحد فلا يترتب على شهادته أثر بناء على عدم اعتبار شهادته في الموضوعات الخارجية. وإن شئت قلت : إن وجوب الاجتناب عن طرفي العلم الإجمالي حكم عقلي لا يثبت بالشهادة لأنه يتبع موضوعه فإذا تحقّق حكمَ العقل على طبقه دون ما إذا لم يتحقّق موضوع ، فلا محيص من أن تتعلّق الشهادة بالنجاسة ، ولم تتعلّق شهادة بنجاسة المعين من كليهما وإنما شهد بها أحدهما فلا أثر لشي‌ء من الشهادتين.

وقد يقال بوجوب الاجتناب عن كليهما ، حيث إن أحدهما قد شهد بنجاسة ما هو‌

١٧٤

[٢٢٢] مسألة ٨ : لو شهد أحدهما بنجاسة الشي‌ء فعلاً والآخر بنجاسته سابقاً مع الجهل بحاله فعلاً فالظاهر وجوب الاجتناب وكذا إذا شهدا معاً بالنجاسة السابقة لجريان الاستصحاب (١).

______________________________________________________

الجامع بين الإناءين وهو عنوان أحدهما وشهد الآخر أيضاً بنجاسة ذلك الجامع لكن متخصصاً بخصوصية معينة ، فشهادته بنجاسة المعين شهادة بنجاسة الجامع مع زيادة وهي الشهادة بالخصوصية ، وحيث إنه من شهادة العدل الواحد فلا تثبت بها الخصوصية فيكون الجامع مشهوداً به لكليهما فلا مناص من الاجتناب عن كلا الطرفين. ويدفعه : أن الشهادة بفرد خاص غير منحلة إلى شهادتين بأن تكون شهادة بالجامع وشهادة بالخصوصية وإنما هي شهادة واحدة بخصوص الجامع المتخصص فالشهادة في المقام إنما تعلّقت بأحدهما المعيّن وهي شهادة به بخصوصه مباينة مع الشهادة المتعلِّقة بالجامع ، حيث إن الثانية شهادة بنجاسة شي‌ء مردد والأولى شهادة بما هو متميِّز في نفسه. وبالجملة أن أحدهما شهد بأمر كلِّي والآخر شهد بأمر خاص ولا جامع بينهما فلا تثبت النجاسة بشي‌ء من الشهادتين لأنهما خبران عن أمرين متغايرين ، وحيث إن الشهادتين لم تتعلقا بشي‌ء واحد فلا تثبت النجاسة في شي‌ء منهما بالشهادتين.

وعليه فالصحيح عدم لزوم الاجتناب عن شي‌ء من الطرفين. نعم ، لو قلنا بثبوت النجاسة بخبر العدل الواحد كما قلنا به لا مناص من الاجتناب عن خصوص المعين منهما ، لأنّ في البين خبرين تعلق أحدهما بنجاسة الجامع ولازمه الاحتياط ، لأنه علم إجمالي تعبّدي وتعلق ثانيهما بنجاسة واحد معين وهو أيضاً علم تعبدي بنجاسته فالمعيّن معلوم النجاسة يقيناً والطرف الآخر مشكوك فيه فلا مانع من الرجوع فيه إلى الأصل ، لأنه غير معارض بالأصل في المعين للعلم التفصيلي بنجاسته بالتعبد وهو يقتضي الانحلال.

(١) لا كلام في أنهما إذا شهدا بنجاسة شي‌ء فعلاً تثبت نجاسته بشهادتهما على تفصيل قد تقدّم ، كما أنهما إذا شهدا بنجاسة شي‌ء سابقاً يترتب عليهما الأثر وهو‌

١٧٥

الحكم بنجاسته فعلاً بالاستصحاب ، لما قدّمنا في محله من أن الأمارة إذا قامت على طهارة ما علمنا بنجاسته بالوجدان سابقاً كما أنه يمنع عن جريان استصحاب النجاسة فيه لأنه من نقض اليقين باليقين ، كذلك إذا قامت على نجاسة شي‌ء أو طهارته حدوثاً لأنها علم تعبدي فلا يجوز نقضه بالشك فيستصحب حكمها ، لبداهة أنه لا فرق في اليقين السابق بين الوجداني والتعبدي فإنّ إطلاق اليقين يشملهما ، فإذا أخبرت البيِّنة عن نجاسته سابقاً فلا مانع من استصحابها لأنها يقين تعبدي.

وإنّما الكلام فيما إذا اختلفت شهادتهما فشهد أحدهما بنجاسته فعلاً والآخر بنجاسته سابقاً ، فان كانت الواقعة المشهود بها متعددة كما إذا أخبر أحدهما عن أن قطرة من دم الرعاف أصابت الإناء آخر الليل وأخبر الآخر عن إصابة نجس آخر للإناء أوّل الليل فلا تثبت النجاسة حينئذ بشهادتهما فيما إذا كانا متحدين من حيث الزمان فضلاً عما إذا كانا مختلفين زماناً ، بناء على عدم ثبوت النجاسة باخبار العدل الواحد. ولعل هذه الصورة غير مرادة للماتن قدس‌سره. وأما إذا كانت الواقعة واحدة كما إذا شهدا بوقوع ميتة حيوان معين في الإناء إلاّ أنهما اختلفا في زمانه وادعى أحدهما أنها وقعت في أول الليل وقال الآخر وقعت فيه آخره فاتفقا من جهة واختلفا من جهة فلا مانع من الحكم بثبوت النجاسة بشهادتهما لوحدة الواقعة المشهود بها ، وكونها أول الليل وآخره مما لا دخالة له في نجاسة الإناء ، نعم إنما تثبت بهما النجاسة الجامعة بين الزمانين من غير تعيين أحدهما.

ثم إنّ هناك صوراً : الاولى : ما إذا علمنا أن ذلك الإناء الذي قامت البينة على نجاسته أوّل اللّيل أو آخره لم يطرأ عليه مطهّر لا في أوّل اللّيل ولا في آخره ، ولا ينبغي الاشكال أن الإناء مثلاً يجب الاجتناب عنه حينئذ ، لأن النجاسة سواء وقعت فيها أول اللّيل أو في آخره باقية بحالها بلا حاجة معه إلى استصحاب النجاسة للعلم الوجداني ببقاء النجاسة الجامعة بين الزمانين ، ونظيره ما إذا شهدت البينة بنجاسة شي‌ء في زمان معين كأول الليل في المثال وقد علمنا بعدم طرو مطهّر عليه إلى آخر اللّيل ، لأنّا لا نحتاج في الحكم بنجاسته آخر اللّيل إلى استصحابها للعلم الوجداني ببقائها.

١٧٦

الثانية : ما إذا علمنا بطرو مطهّر عليه في زمان كمنتصف اللّيل في المثال إلاّ أنّا شككنا في نجاسته للشك في زمان حصولها حيث لا ندري أن النجاسة الكلية بحسب الزمان الثابتة بالبينة هل كانت متحقِّقة في أوّل اللّيل فارتفعت أو أنها كانت متحقِّقة في آخره فهي باقية ، ولا مانع حينئذ من استصحاب النجاسة الجامعة بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع لأنه من القسم الثاني من استصحاب الكلي وهو جار في نفسه ، إلاّ أنه معارض باستصحاب بقاء الطهارة الطارئة على الإناء في منتصف الليل في المثال ، حيث نشك في بقائها من جهة احتمال وقوع النجاسة في آخر اللّيل فيستصحب طهارتها ، وحيث إنه معارض باستصحاب النجاسة فيتساقطان فيرجع إلى قاعدة الطهارة في المشهود به.

الثالثة : ما إذا شككنا في أن الإناء هل طرأ عليه مطهر في أحد الزمانين أم لم يطرأ. ويجري في هذه الصورة استصحاب النجاسة الكلية بحسب الزمان ، لأنّا كنّا على يقين من حدوثها بالبينة وإن لم ندر زمانها وهو من استصحاب القسم الثاني من الكلي ، إذ قد أوضحنا في محلّه أن الجامع لا يلزم أن يكون جامعاً لفردين أو الأفراد ، بل إذا كان جامعاً بين زمانين في فرد واحد أيضاً يجري فيه الاستصحاب الكلي فليراجع.

ودعوى أنه من استصحاب الفرد المردد مدفوعة بما ذكرناه في محلِّه من أنّ الفرد المردّد مما لا معنى له فهو من استصحاب الكلي بين حالتين أو حالات وإن كان أمراً جزئياً في نفسه. وبالجملة إذا شككنا في المقام في ارتفاع النجاسة الجامعة بحسب الزمان لاحتمال طرو مطهّر على الإناء ولو بآن بعد تحقق النجاسة فلا مانع من استصحابها ، ومرجع استصحاب الأحكام الجزئية إلى استصحاب الموضوع الخارجي كما بيّناه في محلِّه فمرجع استصحاب نجاسة الإناء إلى استصحاب عدم طرو رافعها.

هذا كله بناء على عدم ثبوت الموضوعات الخارجية بغير البينة ، وأما إذا اكتفينا في ثبوتها بخبر العدل الواحد فلا مناص من الحكم بنجاسة المشهود به فعلاً في جميع الصور المتقدمة لقيام خبر العدل على نجاسة الإناء بالفعل ، ولا ينافيه الخبر الآخر الحاكي عن نجاسته في الزمان السابق كما هو الظاهر ، اللهمّ إلاّ أن تقع بينهما المعارضة من ناحية وحدة الواقعة المشهود بها ، حيث يستحيل أن تقع في زمانين مختلفين ومعه‌

١٧٧

[٢٢٣] مسألة ٩ : لو قال أحدهما : إنه نجس وقال الآخر : إنه كان نجساً والآن طاهر ، فالظاهر عدم الكفاية (*) وعدم الحكم بالنجاسة (١)

______________________________________________________

ينفي كل منهما الآخر فيتعارضان ويتساقطان فيرجع إلى قاعدة الطهارة.

(١) الفرق بين هذه المسألة والمسألة المتقدمة أن الشاهد بالنجاسة السابقة في تلك المسألة كان جاهلاً بحكم الإناء فعلاً ، وأما في هذه المسألة فله شهادتان : إحداهما أنه كان نجساً سابقاً ، وثانيتهما أنه طاهر بالفعل ، كما أن الشاهد الآخر يشهد بنجاسته الفعلية ، فإن قلنا بكفاية شهادة العدل الواحد في الموضوعات الخارجية تتعارض الشهادتان ، لإخبار أحدهما عن نجاسته الفعلية وإخبار الآخر عن طهارته كذلك ويحكم بتساقطهما والرجوع إلى استصحاب النجاسة السابقة الثابتة بشهادة العدل الواحد المخبر عن طهارتها بالفعل لأنه غير معارض بشي‌ء ، أو إلى قاعدة الطهارة فيما إذا أخبر الشاهد بنجاسته الفعلية عن طهارتها السابقة ، لأن الواقعة واحدة وكل منهما ينفي الآخر فيتعارضان ويتساقطان ويرجع إلى قاعدة الطهارة لا محالة.

وأمّا إذا قلنا بعدم اعتبار خبر العدل الواحد في الموضوعات الخارجية ، فإن كان المشهود به متعدِّداً كما إذا أخبر أحدهما عن نجاسة الإناء بالفعل بملاقاته البول وأخبر الآخر عن أنه كان متنجساً بملاقاته الدم أوّل الليل وقد طهّره في منتصفه فهو طاهر بالفعل فلا تثبت نجاسته بالشهادتين لتعدّد المشهود به ، فحال هذه المسألة حال المسألة المتقدِّمة عند تعدّد المشهود به. وأما إذا كانت الواقعة المشهود بها واحدة كما إذا أخبرت البيِّنة عن قطرة دم معينة وقعت في الإناء واختلفا في زمانه ، فقال أحدهما أنها وقعت فيه سابقاً وقال الآخر إنها وقعت فيه فعلاً فلا مانع من الحكم بثبوت النجاسة الجامعة من حيث الزمان بشهادتهما وقد مرّ أنّ الاختلاف في الزمان غير قادح في صحة الشهادة ، فحال هذه المسألة حال المسألة المتقدِّمة حيث إنّ‌

__________________

(١) بل الظاهر الكفاية بناء على ثبوت النجاسة بخبر العدل الواحد ، فإنه حينئذ تكون الشهادتان متعارضتين بالنسبة إلى الحالة الفعلية ، وأما الشهادة بالنسبة إلى النجاسة السابقة فلا معارض لها ، فيجري استصحاب بقائها.

١٧٨

[٢٢٤] مسألة ١٠ : إذا أخبرت الزوجة أو الخادمة أو المملوكة بنجاسة ما في يدها من ثياب الزّوج أو ظروف البيت كفى في الحكم بالنجاسة ، وكذا إذا أخبرت المربِّية للطفل أو المجنون بنجاسته أو نجاسة ثيابه ، بل وكذا لو أخبر المولى (*) بنجاسة بدن العبد أو الجارية أو ثوبهما مع كونهما عنده أو في بيته (١).

[٢٢٥] مسألة ١١ : إذا كان الشي‌ء بيد شخصين كالشريكين يسمع قول كل منهما في نجاسته (٢) نعم لو قال أحدهما : إنه طاهر وقال الآخر : إنّه نجس ، تساقطا‌

______________________________________________________

دعوى أحدهما الطهارة الفعلية كالعدم ، لأنه إخبار عدل واحد والمفروض عدم ثبوت الطهارة به فهي هي بعينها.

(١) قد مرّ وعرفت أن اعتبار قول صاحب اليد عما هو تحت سلطانه واستيلائه أو عن كيفياته وأطواره إنما ثبت بالسيرة القطعية العقلائية ، ولا إشكال في تحققها في الموارد التي ذكرها الماتن قدس‌سره عدا الأخير ، وذلك لأن السيد وإن كان مستولياً على عبده أو جاريته وهما تحت يده وسلطانه إلاّ أن حجية قول صاحب اليد لم تثبت بدليل لفظي يمكن التمسك بإطلاقه حتى في مثل السيد وعبده ، وإنما مدركها السيرة القطعية والمتيقن منها هو ما إذا لم يكن لما في اليد إرادة مستقلّة من ثياب وظروف ونحوهما مما لا يتصرف بإرادة منه واختيار وإنما يتصرف فيه صاحب اليد وأما إخباره عن نجاسة أمر مستقل في وجوده وإرادته بحيث له أن يفعل ما يشاء ويزاول النجاسات والمطهرات كما في العبد والأمة فلم تثبت سيرة من العقلاء على اعتبار قول صاحب اليد في مثله ، نعم ثياب العبد وغيره مما هو مملوك لسيده وتحت يده ولا إرادة مستقلة له مما يعتبر قول صاحب اليد فيه كما مرّ.

(٢) لأنّ السيرة العقلائية لا يفرق فيها بين ما إذا كانت اليد مستقلّة وما إذا كانت غير مستقلّة ، كما إذا اشترى شخصان ملكاً أو استأجراه أو وهبه لهما واهب أو أباحه المالك لهما ، والحكم في جميع ذلك على حد سواء.

__________________

(*) فيه إشكال بل منع ، نعم إذا كان ثوبهما مملوكاً للمولى أو في حكمه قبل إخباره بنجاسته.

١٧٩

كما أن البيِّنة تسقط مع التعارض (١) ، ومع معارضتها بقول صاحب اليد تقدم عليه (٢).

[٢٢٦] مسألة ١٢ : لا فرق في اعتبار قول ذي اليد بالنجاسة بين أن يكون فاسقاً أو عادلاً ، بل مسلماً أو كافراً (٣).

[٢٢٧] مسألة ١٣ : في اعتبار قول صاحب اليد إذا كان صبياً إشكال وإن كان لا يبعد إذا كان مراهقاً (٤).

______________________________________________________

(١) كما عرفت وجهه مما ذكرناه آنفاً وسابقاً في بحث المياه (١).

(٢) قدّمنا وجهه في مبحث المياه عند التكلم في طرق ثبوت النجاسة (٢) ولا نعيد.

(٣) لأنّ عدالة صاحب اليد وفسقه وكذلك إسلامه وكفره على حد سواء بالإضافة إلى السيرة العقلائية ، لأنها قائمة على قبول قوله مطلقاً من غير فرق بين إسلامه وكفره ولا بين فسقه وعدالته. وأما ما ورد من عدم قبول قول الكافر بل الفاسق في الإخبار عن طهارة شي‌ء مما بيده بعد نجاسته لاعتبار الإسلام بل الورع والعدالة فيه كما في نصوص البختج (٣) فهو أجنبي عما نحن بصدده ، إذ الكلام إنما هو في ثبوت النجاسة بقول صاحب اليد وقد عرفت أنها تثبت باخباره بمقتضى السيرة العقلائية. وأما اعتبار قوله في ثبوت الطهارة وعدمه فيأتي التعرض له عند التكلم على موجبات الطهارة وأسبابها إن شاء الله (٤).

(٤) لا فرق في اعتبار قول صاحب اليد بين بلوغه وعدمه ، بل يعتمد عليه حتى إذا كان صبياً إلاّ أنه كان بحيث يميّز النجس عن غيره ، وذلك بمقتضى سيرة العقلاء ، إذ رب صبي أعقل من الرجال وأفهم من غيره ، وإنما فرّق الشارع بينهما من حيث التكاليف وهو أمر آخر.

__________________

(١) في المسألة [١٣٠].

(٢) في المسألة [١٣٠].

(٣) الوسائل ٢٥ : ٢٩٤ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٧ ح ٦ ، ٧.

(٤) بعد المسألة [٣٩٢] ( فصل في طرق ثبوت التطهير ).

١٨٠