موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

أو أن المراد بها ذات العمل بمعنى أن الحرام أُخذ مشيراً إلى الذوات من اللواط والزنا والاستمناء ونحوها وإن لم يكن فاعلها مستحقاً للعقاب بفعلها ، حيث إن المحرم مبغوض ولا يرضى الشارع بفعله أبداً وإن لم يستحق فاعله العقاب ، ومن هنا يوبّخ الصبي إذا ارتكب شيئاً من المحرمات مع عدم كونها محرمة في حقه بالفعل.

فعلى الأول لا يحكم بنجاسة عرق الصبي لعدم حرمة العمل الصادر منه بالفعل بحيث يستحق العقاب بفعله ، لأدلة رفع القلم عن الصبي فالجنابة غير متحققة بالإضافة إليه ، وعلى الثاني لا بد من الحكم بنجاسة عرقه إذا أجنب من الحرام لأنه عمل مبغوض ولا يرضى الشارع بفعله وإن لم يكن فاعله وهو الصبي مستحقاً للعقاب.

والظاهر أن الأوّل هو المتعين الصحيح ، لأن ظاهر أخذ الحرام موضوعاً للحكمين المتقدِّمين أن لعنوان الحرام مدخلية في ترتبهما وأنه أُخذ في موضوعهما بما أنه حرام فحمله على أنه أُخذ مشيراً إلى أمر آخر هو الموضوع في الحقيقة أعني ذات العمل خلاف الظاهر ولا يصار إليه إلاّ بقيام قرينة تدل عليه ، ومعه لا مناص من حمل الحرام على الحرام الفعلي الذي يستحق فاعله العقاب.

ويؤيد ذلك أن الوطء بالشبهة مع أنه عمل مبغوض في ذاته لم يلتزموا فيه بنجاسة عرق الواطئ أو بمانعيّته في الصلاة ، ولا وجه له إلاّ عدم كون الوطء بالشبهة محرّماً فعلياً في حق فاعله ، وكذلك الغافل ونحوه. فالمتحصل أن العمل إذا لم يكن محرّماً فعلياً بالإضافة إلى فاعله إما لأجل أنه لا حرمة بحسب الواقع أصلاً كما في مثل الصبي وإما لعدم كون الحرمة فعلية وإن كانت متحقِّقة في نفسها كما في حق الواطي بالشّبهة فلا يمكن الالتزام بنجاسة عرقه ولا بمانعيته في الصلاة.

وأمّا الجهة الثانية : أعني صحة الغسل من الصبي وفساده بعد الفراغ عن نجاسة عرقه فملخص الكلام فيها : أن المسألة من صغريات الكبرى المعروفة وهي مشروعية عبادات الصبي وعدمها ، وتفصيل الكلام في تحقيقها يأتي في بحث الصلاة‌

١٤١

إن شاء الله (١) ، ونشير إلى إجماله هنا توضيحاً للمراد فنقول : مشروعية عبادات الصبي هي المعروفة عندهم ، وعن غير واحد الاستدلال عليها بإطلاقات أدلّة التكليف كالأوامر المتعلِّقة بالصلاة أو الصوم أو غيرهما ، حيث إنّ إطلاق هذه الخطابات يشمل الصبيان وقد رفع عنهم الإلزام بما دلّ على رفع القلم عن الصبي فلا محالة تبقى محبوبية العمل بحالها وهي كافية في صحّته.

ولكن الاستدلال بذلك عليل بل لعلّه أمر واضح الفساد وذلك أما أوّلاً ، فلأنّ التكاليف الشرعية أُمور غير قابلة للتجزية والتقسيم إلى إلزام ومحبوبية حتى يبقى أحدهما عند ارتفاع الآخر ، نظير ما ذكروه في محله من أنه إذا نسخ الوجوب بقي الجواز ، لأنها بسائط بحتة صادرة عن الشارع ، فاذا فرضنا أن هذا الأمر الواحد البسيط قد رفعه الشارع عن الصبي فلا يبقى هناك شي‌ء يدل على محبوبية العمل في نفسه.

وأمّا ثانياً : فلما بيّناه في محله من أن الأحكام الإلزامية من الوجوب والتحريم مما لا تناله يد الجعل والتشريع ، لأن ما هو مجعول للشارع إنما هو الاعتبار أعني اعتباره شيئاً على ذمة المكلفين وهو ملزوم لتلك الأحكام الإلزامية ، وأما الأحكام الإلزامية بنفسها فهي أحكام عقلية يدركها العقل بعد اعتبار الشارع وجعله ، لأنه إذا اعتبر العمل على ذمة المكلفين ولم يرخّصهم في تركه فلا محالة يدرك العقل لابدية ذلك العمل واستحقاق المكلف العقاب على مخالفته. فتحصّل : أن الإلزام من المدركات العقلية ومجعول الشارع أمر آخر وعليه فلا معنى لرفع الإلزام بالحديث لأنه ليس من المجعولات الشرعية كما عرفت ، فلا مناص من أن يتعلّق الرفع بالاعتبار الذي عرفت أنه فعل الشارع ومجعوله ، فإذا فرضنا أنّ الشارع رفع اعتباره في حق الصبي فمن أين يستفاد محبوبية العمل بالإضافة إليه؟ فهذا الاستدلال ساقط.

وأحسن ما يستدل به على مشروعية عبادات الصبي إنما هو الأمر الوارد بأمر‌

__________________

(١) في المسألة [١٨١١].

١٤٢

الثاني عشر : عرق الإبل الجلاّلة (*) بل مطلق الحيوان الجلاّل على الأحوط (١).

______________________________________________________

الصبيان بالصلاة وغيرها من العبادات (٢) ، لما قدّمناه في الأُصول من أنّ الأمر بالأمر بالشي‌ء أمر بذلك الشي‌ء حقيقة ، وحيث إن الشارع أمر أولياء الصبيان بأمر أطفالهم بالصلاة مثلاً فيثبت بذلك أمر الشارع بالصلاة بالإضافة إلى الصبيان وهو يدل على محبوبية عبادات الصبي التي منها غسله. والنتيجة أنه لا مانع من ارتفاع نجاسة عرق الصبي المجنب من الحرام أو مانعيته بغسله.

(١) لم يقع خلاف في طهارة العرق في غير الإبل من الحيوانات الجلاّلة عدا ما يحكى عن نزهة ابن سعيد (٣) وهو شاذ لا يعبأ به في مقابلة الأصحاب ، وأما عرق الإبل الجلالة فعن جملة من المتقدمين القول بنجاسته ، بل قيل إنه الأشهر بين القدماء وذلك لحسنة حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « لا تشرب من ألبان الإبل الجلاّلة ، وإن أصابك شي‌ء من عرقها فاغسله » (٤).

وصحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « لا تأكل اللحوم الجلاّلة ، وإن أصابك من عرقها شي‌ء فاغسله » (٥) واللاّم في « الجلاّلة » في الصحيحة إن حملناها على العهد والإشارة إلى الإبل الجلاّلة فهي والحسنة متطابقتان فيختص نجاسة العرق بخصوص الجلالة من الإبل ، وأما إذا أبقيناها على إطلاقها لتشمل الجلال من غير الإبل أيضاً كما يرومه القائل بنجاسة العرق في مطلق الجلاّل بحملها على النجس فهو وإن كان يقتضي الحكم بنجاسة العرق في مطلق الجلال إلاّ أنه خلاف التسالم على طهارة عرق الجلاّل من غير الإبل. وكيف كان ، فقد استدلّ بهاتين الروايتين على نجاسة عرق الإبل الجلاّلة ، بل استدلّ بالثانية على نجاسة عرق مطلق‌

__________________

(*) الظاهر عدم نجاسته ، لكن لا تجوز الصلاة في عرق الحيوان الجلال مطلقاً.

(١) كما في حسنة الحلبي المروية في الوسائل ٤ : ١٩ / أبواب أعداد الفرائض ب ٣ ح ٥ ، ٨.

(٢) نزهة الناظر : ١٩.

(٣) ، (٤) الوسائل ٣ : ٤٢٣ / أبواب النجاسات ب ١٥ ح ٢ ، ١.

١٤٣

الجلاّل ، لأن الأمر بغسله ظاهر في الإرشاد إلى نجاسته كما مرّ في نظائره ، منها قوله عليه‌السلام : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (١).

ولكن الصحيح عدم نجاسة العرق من الإبل الجلالة فضلاً عن غيرها ، بيان ذلك : أن الأمر بغسل الثوب أو البدن ونحوهما مما أصابه البول أو العرق وإن كان ظاهراً في نجاسة البول أو العرق ولا سيما إذا كان بلفظة من كما في قوله عليه‌السلام : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » لأنها ظاهرة في أن الأمر بغسل الثوب أو البدن إنما هو من جهة الأثر الحاصل من إصابة البول ، وليس ذلك الأثر إلاّ نجاسته ، وكذلك الحال فيما إذا أمر بغسل نفس البول أو العرق كما في الحسنة والصحيحة المتقدِّمتين حيث قال عليه‌السلام « اغسله » أي ذلك العرق ، فإنه أيضاً ظاهر في الإرشاد إلى نجاسة العرق وإن كان في الظهور دون القسم السابق ، إلاّ أن هذا إنما هو فيما إذا لم يكن في الرواية قرينة أو ما يحتمل قرينيته على خلاف هذا الظهور وهي ثابتة في الروايتين لأنه عليه‌السلام نهى عن شرب ألبان الإبل الجلالة في الحسنة أولاً ثم فرّع عليه الأمر بغسل عرقها ، كما أنه في الصحيحة نهى عن أكل لحوم الجلالة ثم فرّع عليه الأمر بغسل عرقها ، وسبق الأمر بغسله بالنهي عن شرب الألبان أو أكل اللحوم قرينة أو أنه صالح للقرينية على أن وجوب غسل العرق مستند إلى صيرورة الجلال من الإبل وغيرها محرّم الأكل عرضاً ولا تجوز الصلاة في شي‌ء من أجزاء ما لا يؤكل لحمه : روثه ولبنه وعرقه وغيرها ، كانت حرمته ذاتية أم عرضية بالجلل أو بوطء الآدمي أو بشرب الشاة من لبن خنزيرة ، ولأجل ذلك فرّع عليه الأمر بغسل عرقه حتى يزول ولا يمنع عن الصلاة وإن كان محكوماً بالطهارة في نفسه كما هو الحال في ريق فم الهرة أو غيرها من الحيوانات الطاهرة مما لا يؤكل لحمه.

وعلى الجملة أن الأمر بغسل عرق الجلال في الروايتين إما ظاهر فيما ذكرناه أو أنه محتمل له ومعه لا يبقى للاستدلال بهما على نجاسة العرق مجال. ثم إن تخصيص العرق‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٠٥ / أبواب النجاسات ب ٨ ح ٢.

١٤٤

بالذكر دون بقية أجزائها ورطوباتها إنما هو لكثرة الابتلاء به فان عرقها يصيب ثوب راكبها وبدنه لا محالة.

ثم إنّ الوجه في التعدي عن المحرمات الذاتية إلى المحرم بالعرض إنما هو إطلاق الأدلّة الدالّة على بطلان الصلاة فيما حرّم الله أكله من غير تقييده بالمحرّم بالذات ، وغير ذلك مما يستفاد منه عموم المنع لكل من المحرمات الذاتية والعرضية ، وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى محله. والغرض مجرد التنبيه على أن التعدي إلى المحرمات العرضية من المسائل الخلافية وليس من الأُمور المتسالم عليها بينهم ، وإنما نحن بنينا على التسوية بين الذاتي والعرضي ، ولقد بنى شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في رسالة اللباس المشكوك فيه على اختصاص المانعية بالمحرم الذاتي ، وأفاد أن الجلل لا يوجب اندراج الحيوان المتصف به في عنوان ما لا يؤكل لحمه ولا في عنوان حرام أكله (١) إلاّ أنه في تعليقته المباركة بنى على تعميم المانعية للجلل أيضاً ، وهما كلامان متناقضان والتفصيل موكول إلى محله.

وكيف كان ، فلا دليل على نجاسة عرق الإبل الجلاّلة فضلاً عن غيرها ، ومن هنا كتبنا في التعليقة : أن الظاهر طهارة العرق من الإبل الجلاّلة ولكن لا تصح فيه الصلاة. فعلى هذا لا موجب لحمل اللاّم في الصحيحة على العهد والإشارة حتى تطابق الحسنة ولئلاّ يكون إطلاقها على خلاف المتسالم عليه ، بل نبقيها على إطلاقها وهو يقتضي بطلان الصلاة في عرق مطلق الجلال من دون تخصيص ذلك بالإبل ، وقد عرفت أنها لا تدلّ على نجاسته حتى يكون على خلاف المتسالَم عليه ، هذا على أنه لا عهد في الصحيحة حتى تحمل عليه اللاّم. والذي تلخص أن الأمر بغسل العرق من الإبل الجلالة أو من مطلق الجلال وإن سلمنا أنه إرشاد وليس أمراً مولوياً لبداهة أن غسل العرق ليس من الواجبات النفسية في الشريعة المقدّسة إلاّ أنه إرشاد إلى مانعيته لا إلى نجاسته.

__________________

(١) رسالة في اللباس المشكوك فيه : ٢٤٠.

١٤٥

[٢١٠] مسألة ١ : الأحوط الاجتناب عن الثعلب والأرنب والوزغ والعقرب والفأر ، بل مطلق المسوخات وإن كان الأقوى طهارة الجميع (١).

______________________________________________________

(١) ذهب بعض المتقدِّمين إلى نجاسة الثعلب والأرنب والوزغ والفأرة ، وآخر إلى نجاسة الثعلب والأرنب ، وعن ثالث نجاسة الوزغ ، وعن بعض كتب الشيخ نجاسة مطلق المسوخ (١) ، وعن بعضها الآخر نجاسة كل ما لا يؤكل لحمه (٢).

والصحيح طهارة الجميع كما ستتضح. أما الثعلب والأرنب فقد ورد في نجاستهما مرسلة يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « سألته هل يحل أن يمس الثعلب والأرنب أو شيئاً من السباع حياً أو ميتاً؟ قال : لا يضره ولكن يغسل يده » (٣) إلاّ أنها ضعيفة ولا يمكن أن يعتمد عليها في الحكم بنجاسة الأرنب والثعلب لإرسالها ، كما لا مجال لدعوى انجبارها بعمل الأصحاب إذ الشهرة على خلافها.

وأما الفأرة فقد دلت على نجاستها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : « سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء فتمشي على الثياب أيصلّى فيها؟ قال : اغسل ما رأيت من أثرها وما لم تره نضحه بالماء » (٤) وهي معارضة بصحيحته الأُخرى عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : « سألته عن العظاية والحية والوزغ تقع في الماء فلا تموت أيتوضأ منه للصلاة؟ قال : لا بأس به ، وسألته عن فأرة وقعت في حب دهن وأُخرجت قبل أن تموت أيبيعه من مسلم؟ قال : نعم ويدهن به » (٥) وصحيحة سعيد الأعرج قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة والكلب تقع في السمن والزيت ثم تخرج منه حيّة فقال : لا بأس بأكله » (٦) وما رواه في‌

__________________

(١) الخلاف ٣ : ١٨٣ ١٨٤ م ٣٠٦ ما نصه : « القرد لا يجوز بيعه لأنه مسخ نجس ».

(٢) النهاية : ٥٢ ، المبسوط ١ : ٣٧.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٦٢ / أبواب النجاسات ب ٣٤ ح ٣.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٦٠ / أبواب النجاسات ب ٣٣ ح ٢.

(٥) الوسائل ٣ : ٤٦٠ / أبواب النجاسات ب ٣٣ ح ١.

(٦) الوسائل ٢٤ : ١٩٨ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٤٥ ح ١.

١٤٦

قرب الاسناد عن أبي البختري عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه‌السلام « أن علياً عليه‌السلام قال : لا بأس بسؤر الفأرة أن يشرب منه ويتوضأ » (١) فان هذه الروايات الثلاث مطبقة على طهارة الفأرة ، ومعها لا مناص من حمل ما دلّ على نجاستها على استحباب الاجتناب عنها أو على كراهة تركه.

وأما الوزغة ففي صحيحة معاوية بن عمّار قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة والوزغة تقع في البئر ، قال : ينزح منها ثلاث دلاء » (٢) وظاهرها وإن كان يقتضي نجاسة الوزغة إلاّ أنها أيضاً معارضة بصحيحة علي بن جعفر المتقدِّمة المشتملة على طهارة الوزغ والعظاية والحيّة إذا وقعت في الماء ولم تَمُت ، ومع المعارضة لا يعتمد عليها في شي‌ء.

وأما العقرب ففي موثقة أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن الخنفساء تقع في الماء أيتوضأ به؟ قال : نعم ، لا بأس به ، قلت : فالعقرب؟ قال : أرقه » (٣) وفي ذيل موثقة سماعة : « وإن كان عقرباً فأرق الماء وتوضأ من ماء غيره » (٤) وظاهرهما نجاسة العقرب كما ترى ، وفي مقابلهما رواية هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « سألته عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حيّاً هل يشرب من ذلك الماء ويتوضأ به؟ قال : يسكب منه ثلاث مرات ، وقليله وكثيره بمنزلة واحدة ، ثم يشرب منه ويتوضأ منه غير الوزغ فإنّه لا ينتفع بما يقع فيه » (٥) إلاّ أنها ضعيفة فلا يمكن أن يعارض بها الموثقة ومن هنا يشكل الحكم بطهارة العقرب. والذي يسهل الخطب أن الموثقة قاصرة الدلالة على نجاسته ، لأنها إنما اشتملت على الأمر بإراقة الماء الذي وقع فيه العقرب ولا دلالة له على نجاسته ، ولعلّه من جهة ما فيه من السم فقد أمر بإراقة الماء دفعاً لاحتمال تسممه. هذا ويبعّد القول بنجاسة العقرب أن ميتته لا توجب نجاسة الماء لأنه مما لا نفس له ، والماء إنما‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٤١ / أبواب الأسآر ب ٩ ح ٨ ، قرب الإسناد : ١٥٠ ح ٥٤٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٨٧ / أبواب الماء المطلق ب ١٩ ح ٢.

(٣) ، (٤) الوسائل ١ : ٢٤٠ / أبواب الأسآر ب ٩ ح ٥ ، ٦.

(٥) الوسائل ١ : ٢٤٠ / أبواب الأسآر ب ٩ ح ٤.

١٤٧

[٢١١] مسألة ٢ : كل مشكوك طاهر (١) سواء كانت الشبهة لاحتمال كونه من الأعيان النجسة أو لاحتمال تنجسه مع كونه من الأعيان الطاهرة. والقول بأنّ الدم المشكوك كونه من القسم الطاهر أو النجس محكوم بالنجاسة ضعيف (*) (٢)

______________________________________________________

يفسد بما له نفس سائلة ، ومعه كيف يوجب نجاسة الماء وهو حي.

وعلى الجملة أن الأخبار الواردة في نجاسة الحيوانات المذكورة معارضة ومعها إما أن نأخذ بمعارضاتها لأنها أقوى وإما أن نحكم بتساقطهما والرجوع إلى أصالة الطهارة وهي تقضي بطهارة الجميع ، هذا بل يمكن استفادة طهارتها من صحيحة البقباق قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن فضل الهرّة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع فلم أترك شيئاً إلاّ سألته عنه ، فقال : لا بأس به ، حتى انتهيت إلى الكلب فقال : رجس نجس ... » (١) حيث تدلّنا على طهارة جميع الحيوانات سوى الكلب ، مع أن أكثرها مما حرّم الله أكله ومن المسوخ. هذا كله في طهارة بدن الحيوانات المذكورة ، وأما بولها وروثها فقد تقدّم أنهما محكومان بالنجاسة من كل حيوان محرّم أكله.

(١) طهارة ما يشك في طهارته ونجاسته من الوضوح بمكان ولم يقع فيها خلاف لا في الشبهات الموضوعية ولا في الشبهات الحكمية. ومن جملة أدلتها قوله عليه‌السلام في موثقة عمّار : « كل شي‌ء نظيف حتى تعلم أنه قذر ، فاذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك » (٢) وهذا الحكم ثابت ما دام لم يكن هناك أصل موضوعي يقتضي نجاسة المشكوك فيه.

(٢) قد أسلفنا أنه لا فرق بين الدم وغيره من النجاسات فعند الشك في أنه من القسم الطاهر أو النجس يحكم بطهارته ، إلاّ في مورد خاص وهو ما إذا كان الدم‌

__________________

(*) هذا في غير الدم المرئي في منقار جوارح الطيور.

(١) الوسائل ١ : ٢٢٦ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٤ وكذا في ٣ : ٤١٣ / أبواب النجاسات ب ١١ ح ١.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤.

١٤٨

نعم ، يستثني مما ذكرنا الرطوبة الخارجة بعد البول قبل الاستبراء بالخرطات ، أو بعد خروج المني قبل الاستبراء بالبول فإنها مع الشك محكومة بالنجاسة (١).

[٢١٢] مسألة ٣ : الأقوى طهارة غسالة الحمّام (٢)

______________________________________________________

مشاهداً في منقار الجوارح من الطيور لأنّ الأصل حينئذ أن يكون نجساً ، وذلك لقوله عليه‌السلام في موثقة عمّار بعد السؤال عن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب : « كل شي‌ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه إلاّ أن ترى في منقاره دماً ، فإن رأيت في منقار دماً فلا توضأ منه ولا تشرب » (١) حيث دلّت على نجاسة الدم حينئذ مع الشك بحسب الغالب في أنه من القسم الطاهر أو النجس ، حيث يحتمل أن يكون من دم السمك أو المتخلف في الذبيحة كما يحتمل أن يكون من دم الميتة ، فإنّ العلم بكونه من القسم النجس قليل الاتفاق ، ومع هذا كله حكم عليه‌السلام بنجاسته ، فالأصل في الدم المشاهد في منقار الجوارح هو النجاسة ، ولو من جهة جعل الشارع الغلبة أمارة على أن الدم من القسم النجس كما أوضحناه في مبحث نجاسة الدم.

(١) يأتي الكلام في الرطوبة الخارجة بعد البول أو المني عند التكلم في الاستبراء ونبيّن هناك أن الشارع حكم فيها بوجوب الغسل أو الوضوء فيما إذا خرجت قبل الاستبراء بالبول أو الخرطات ولو من جهة تقديم الظاهر على الأصل ، إلاّ أن الأخبار الواردة في ذلك لم تدل على أن البلل المشتبه بعد البول وقبل الاستبراء بول أو أن الخارج بعد المني وقبل الاستبراء مني ، وإنما دلت على أن البلل المشتبه ناقض للوضوء أو الغسل ، ومن هنا قد يتوقف في الحكم بنجاسة البلل المشتبه لعدم دلالة الدليل على نجاسته. وتفصيل الكلام في دلالة الأخبار على نجاسة البلل المشتبه وعدمها يأتي في مسألة الاستبراء إن شاء الله.

(٢) وقع الخلاف في طهارة غسالة الحمّام ونجاستها ، فمنهم من قال بنجاستها وإن كانت مشكوكة الطهارة في نفسها وأنها ملحقة بالبللين المشتبهين ومستثناة عمّا‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٣٠ / أبواب الأسآر ب ٤ ح ٢.

١٤٩

حكمنا بطهارته مما يشك في نجاسته تقديماً للظاهر على الأصل ، وقال جمع بطهارتها وأن حال غسالة الحمّام حال بقية الأُمور التي يشك في طهارتها ونجاستها لقوله عليه‌السلام : « كلّ شي‌ء نظيف ... ». وليعلم أن محل البحث والكلام إنما هو صورة الشك في طهارة الغسالة ونجاستها ، وأما مع العلم بحكمها كما قد يتفق في الحمّامات المعمولة في البيوت ، حيث يحصل العلم في بعض الموارد بملاقاتها مع العين النجسة أو بعدم ملاقاتها فهي خارجة عن محل البحث وهو ظاهر.

وقد استدلّ للقول بنجاستها بجملة من الأخبار الواردة في المنع عن الاغتسال بماء الحمّام أو بغسالته (١) لأنه سواء أُريد من الاغتسال في تلك الروايات معناه المصطلح عليه الذي هو في مقابل الوضوء أم أُريد به معناه اللغوي أعني إزالة الوسخ لا وجه للنهي عنه إلاّ نجاستها. هذا ولا يخفى أن تلك الروايات لا دلالة لها على نجاسة الغسالة بوجه ، لأن النهي فيها معلّل بعلل غير مناسبة لنجاسة الغسالة ، ففي بعضها : « فإنه يغتسل فيه من الزّنا ويغتسل فيه ولد الزّنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم » ، وفي آخر « إن فيها تجتمع غسالة اليهودي والنصارى والمجوسي والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم » وغيرهما من العلل ، ومن الظاهر أن بدن الجنب مطلقاً وكذا ولد الزنا والجنب من الحرام كلّها محكوم بطهارته. نعم ، وقع الكلام في نجاسة عرق الجنب من الحرام وقد مرّ أنّ الحق طهارته ، كما أنّ نجاسة اليهود والنصارى ليست متسالماً عليها في الشريعة المقدّسة ، وما هذا شأنه كيف يصلح أن يعلل به نجاسة غسالة الحمّام.

على أنها قد عللت في بعض أخبارها بأن ولد الزنا لا يطهر إلى سبعة آباء ، وهذه قرينة قطعية على أنّ النهي عن الاغتسال في غسالة الحمّام غير مستند إلى نجاستها بالمعنى المصطلح عليه ، لعدم نجاسة ولد الزّنا في نفسه فضلاً عن أبنائه إلى سبعة أبطن والناصب لأهل البيت عليهم‌السلام وإن قلنا بنجاسته إلاّ أنه ليس بهذه الرواية لما عرفت ما فيها من القصور ، فانّ غير الناصب ممّن ذكر معه في الرواية إما نقطع‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١٨ / أبواب الماء المضاف ب ١١ ح ١ ٥.

١٥٠

بطهارته أو أن نجاسته وقعت محلا للخلاف ، وإنما حكمنا بنجاسة الناصب لما ورد في موثقة ابن أبي يعفور من « أن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب وأن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه » (١).

وعلى الجملة أنّ هذه الأخبار مما لا إشعار فيه بنجاسة الغسالة فضلاً عن أن تدلّ عليها ، ومن هنا لا بد من حملها على استحباب التنزه عن الغسالة لتقذرها بالقذارة المعنوية لأنها مسّت اليهودي والنصارى والجنب وولد الزنا وغيرهم ممن لا تخلو من القذارة معنى ، هذا بل ورد النهي عن الاغتسال بما قد اغتسل فيه وإن كان المغتسل في غاية النظافة والورع ، حيث ورد : « من اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومنّ إلاّ نفسه » (٢).

ومما يدلنا على أن النهي عن الاغتسال في غسالة الحمّام تنزيهي صحيحة محمد بن مسلم ، قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الحمّام يغتسل فيه الجنب وغيره اغتسل من مائه؟ قال : نعم لا بأس أن يغتسل منه الجنب ، ولقد اغتسلت فيه وجئت فغسلت رجلي وما غسلتهما إلاّ بما لزق بهما من التراب » (٣) وصحيحته الثانية قال : « رأيت أبا جعفر عليه‌السلام جائياً من الحمّام وبينه وبين داره قذر فقال : لولا ما بيني وبين داري ما غسلت رجلي ، ولا يجنب ( ولا يخبث ) ماء الحمّام » (٤) وموثقة زرارة « رأيت أبا جعفر عليه‌السلام يخرج من الحمّام فيمضي كما هو ، لا يغسل رجليه حتى يصلِّي » (٥) فانّ هذه الأخبار دلّتنا على طهارة غسالة الحمّام لأنه عليه‌السلام لم يغسل رجليه مع القطع باصابتهما الغسالة ، إما لأنه عليه‌السلام بنفسه قد اغتسل في الحمّام كما هو مقتضى الصحيحة الأُولى فاصابة الغسالة برجليه عليه‌السلام واضحة ، وإما لأن رجليه وقعتا على أرض الحمّام يقيناً كما أن الغسالة أصابت الأرض قطعاً فقد أصابتهما‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ١ : ٢٢٠ / أبواب الماء المضاف ب ١١ ح ٥ ، ٢.

(٣) الوسائل ١ : ٢١١ / أبواب الماء المضاف ب ٩ ح ٣.

(٤) الوسائل ١ : ١٤٩ / أبواب الماء المطلق ب ٧ ح ٣ وفي بعض النسخ ( ما غسلت رجلي ولا نحيت ( ولا تجنبت ) ماء الحمّام ).

(٥) الوسائل ١ : ٢١١ / أبواب الماء المضاف ٩ : ٢.

١٥١

الغسالة بواسطة أرض الحمّام لا محالة ، فلو كانت الغسالة متنجِّسة لغسل عليه‌السلام رجليه لتنجسهما مع أنه لم يغسلهما إلاّ لما لزقهما من التراب ، ولا بدّ معه من حمل الأخبار المانعة على التنزه والكراهة.

هذا ثم لو سلمنا نجاسة الغسالة فإنما نسلّمها في الحمّامات التي يدخلها اليهود والنصارى والناصب وغيرهم ممن سمِّي في الروايات كما كان هو الحال في الحمّامات الدارجة في عصرهم عليهم‌السلام ، فان الحماميين كانوا من أهل السنّة وكان يدخلها السلاطين والأُمراء واليهود والنصارى والناصب ، فهب أنّا حكمنا بنجاسة الغسالة في مثلها إلاّ أن التعدي عن مورد الروايات إلى غيرها من الحمّامات التي نعلم بعدم دخول اليهود والنصارى والناصب فيها كحمّاماتنا أو نشك في دخولهم دونه خرط القتاد ، فكيف يمكن الحكم حينئذ بنجاسة الغسالة على وجه الإطلاق. فالإنصاف أنّ غسالة الحمّام لا دليل على نجاستها.

وهم ودفع : أمّا الوهم فهو أنّ من البعيد جدّاً بل ولا يحتمل عادة طهارة الغسالة في الحمّامات المتعارفة ، فإن من يريد الاغتسال في الحمّام لم تجر العادة على أن يطهّر بدنه من الخبث خارجاً ثم يدخله لمجرّد الاغتسال ، بل إنما يدخله مع نجاسة بدنه فيكون الماء الملاقي لبدنه متنجساً وبه تكون الغسالة التي هي مجمع تلك المياه المتنجسة متنجسة ، لقلّتها أو لو كانت كثيرة أيضاً يحكم بنجاستها لما قدمناه من أن تتميم القليل كراً بالمتنجِّس غير كاف في الاعتصام ، وبئر الغسالة إنما تتمم كراً بالمياه المتنجِّسة ومعه كيف صحّ للإمام عليه‌السلام أن يغتسل فيها أو لا يغسل رجليه إلاّ لأجل ما لزقهما من التراب.

وأمّا الدفع فهو أن الحمّامات الموجودة في عصرهم إنما كانت عبارة عن عدّة حياض صغار كما هي كذلك في حمّاماتنا اليوم وكانت تتصل تلك الحياض بماء الخزانة بشي‌ء كانبوب ومزملة ولو من خشب وبها كانت المادة تتصل بالحياض وتوجب طهارتها ، كما أنها تطهِّر أرض الحمّام بجريانها عليه إلى أن يصل إلى بئر الغسالة فتوجب طهارة البئر أيضاً ، لأنها ماء مطهّر عاصم فتطهر البئر بوصولها ، ومن‌

١٥٢

وإن ظنّ نجاستها (١) لكن الأحوط الاجتناب عنها.

[٢١٣] مسألة ٤ : يستحب رش الماء (٢) إذا أراد أن يصلي في معابد اليهود والنصارى مع الشك (٣) في نجاستها ، وإن كانت محكومة بالطهارة.

[٢١٤] مسألة ٥ : في الشك في الطهارة والنجاسة لا يجب الفحص ، بل يبنى على الطهارة إذا لم يكن مسبوقاً بالنجاسة ، ولو أمكن حصول العلم بالحال في الحال (٤).

______________________________________________________

هنا ورد في روايات ماء الحمّام أنه معتصم بمادته وحكمنا بطهارة الغسالة واغتسل فيها الامام عليه‌السلام ولم يغسل رجله من جهة تنجسها ، بل لأجل ما لزقها من التراب قائلاً : « إن ماء الحمّام لا يجنب أو لا يخبث ».

(١) لعدم الدليل على اعتباره فحكمه حكم الشك في نجاستها.

(٢) للنصوص الواردة في استحباب رش الماء عند الصلاة في البيَع والكنائس أو في بيوت المجوس كما في النصوص (١) ، بل وكذلك بيوت النصارى واليهود لعدم اختصاص الحكم بمعابدهم.

(٣) قد قيد الماتن وبعضهم الحكم باستحباب الرش بما إذا شك في نجاسة معابدهم ، فلا استحباب عند العلم بطهارتها لعلمه بنزول المطر على سطح دارهم أو علم بتجدد بنائها من قبل بنّاء مسلم ، ولكن النصوص خالية من التقييد بصورة الشك في نجاستها ، ومقتضى إطلاقها أن الرش مستحب ولو مع العلم بطهارتها ، وهو نوع تنزه عن اليهود والنصارى والمجوس بفعل ما يشعر به وإلاّ فليس رشه رافعاً لاحتمال نجاستها ، كيف فان الرش يقتضي سراية النجاسة إلى المواضع الطاهرة منها على تقدير نجاستها.

(٤) الشبهة قد تكون حكمية كما إذا شككنا في نجاسة الخمر أو المسكر أو عرق الجنب من الحرام أو عرق الجلال ونحوها مما وقع الشك في نجاسته وطهارته ، ولا‌

__________________

(١) الوسائل ٥ : ١٣٨ / أبواب مكان المصلي ب ١٣ ح ٢ ، ٤ ، ب ١٤ ح ١ ٣.

١٥٣

فصل

[ في طرق ثبوت النجاسة ]

طريق ثبوت النجاسة أو التنجّس ، العلم الوجداني (١)

______________________________________________________

إشكال حينئذ في وجوب الفحص والنظر وأنه ليس للمجتهد أن يفتي بطهارة شي‌ء أو بنجاسته إلاّ بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل ، وذلك لأن أدلة اعتبار قاعدة الطهارة وغيرها من الأُصول وإن كانت مطلقة إلاّ أن مقتضى الأدلة العقلية والنقلية المذكورتين في محلهما عدم جريانها قبل الفحص عن الدليل ، فبهما نقيِّد إطلاقاتها بما بعد الفحص عن الدليل ، إلاّ أنّ هذه الصورة غير مرادة للماتن قطعاً.

وقد تكون الشبهة موضوعية كما إذا علمنا بالحكم وشككنا في الموضوع الخارجي ولم ندر مثلاً أنّ الدم المشاهد من القسم الطاهر أو النجس أو أن المائع المعيّن ماء أو بول أو أنه متنجس أو غير متنجس ، ففي جميع ذلك تجري أصالة الطهارة وغيرها من الأُصول من غير اعتبار الفحص في جريانها وإن أمكن تحصيل العلم بسهولة كما إذا توقّف على مجرّد النظر وفتح العين وذلك لإطلاق أدلة اعتبارها وعدم ما يدل على تقييدها بما بعد الفحص من عقل ولا نقل ، مضافاً إلى ما ورد في بعض الروايات من قوله عليه‌السلام : « ما أُبالي أبول أصابني أو ماء إذا لم أعلم » (١) لدلالته على عدم توقّف جريان أصالة الطهارة على الفحص في الشبهات الموضوعية.

فصل‌

(١) لما حقّقناه في بحث الأُصول من أنّ العلم حجّة بذاته ، والرّدع عن العمل على طبقه أمر غير معقول كما أشرنا إليه في مباحث المياه.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٥.

١٥٤

أو البيِّنة العادلة (١) وفي كفاية العدل الواحد إشكال (*) فلا يترك مراعاة الاحتياط (٢).

______________________________________________________

(١) لإطلاق دليل حجيتها إلاّ فيما دلّ الدليل على عدم اعتبار البيِّنة فيه كما في الزّنا لأنه لا يثبت بالبيِّنة بمعنى شهادة عدلين بل يعتبر في ثبوته شهادة أربعة عدول ، وكذلك ثبوت الهلال على قول. وتوضيح الكلام في المقام : أنّ البيِّنة لا يراد منها في موارد استعمالاتها في الكتاب والسنّة إلاّ مطلق ما به البيان وما يثبت به الشي‌ء كما هو معناها لغة ، لأنّ البيِّنة بمعنى شهادة عدلين اصطلاح جديد حدث بين الفقهاء ، فالبيِّنة في مثل قوله عزّ من قائل ( إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ) (٢) ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ ) (٣) وغيرهما ليست بمعناها المصطلح عليه قطعاً ، وإنما استعملت بمعناها اللغوي أعني ما به البيان والدليل ، كما أن المراد بها في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنما أقضي بينكم بالبيِّنات والايمان » (٤) مطلق الدليل ، وكأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أراد أن ينبِّه على أنّ حكمه في موارد الدعاوي والمرافعات وكذا حكم أوصيائه ليس هو الحكم النفس الأمري الواقعي ، لأنّ ذلك كان مختصّاً ببعض الأنبياء ، وإنما حكمه حكم ظاهري على طبق اليمين والدليل.

ثم إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موارد القضاء لمّا طبق البيِّنة بهذا المعنى اللغوي على شهادة عدلين فاستكشفنا بذلك اعتبار شهادتهما وأنها مصداق الدليل والبيِّنة ، وهذا بإطلاقه يقتضي اعتبار البيِّنة بمعنى شهادة العدلين في جميع مواردها إلاّ فيما قام الدليل على عدم اعتبارها فيه كما مر ، وعلى ذلك لا شبهة في ثبوت النجاسة بشهادة عدلين حيث لم يرد دليل يمنع عن اعتبارها في النجاسة كما منعه في الزّنا.

(٢) لا اعتبار بخبر العدل الواحد في الدعاوي والترافع حيث لم يطبق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البيِّنة فيهما إلاّ على شهادة عدلين ، كما لا اعتبار به في مثل الزنا لأنه‌

__________________

(*) الأظهر ثبوت النجاسة بقول العدل الواحد بل مطلق الثقة.

(١) الأنعام ٦ : ٥٧.

(٢) النحل ١٦ : ٤٣ ٤٤.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٢٣٢ / أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢ ح ١.

١٥٥

إنما يثبت بشهادة أربعة عدول. وإنما الكلام في اعتباره في غير هذين الموردين ، فهل خبر العدل الواحد تثبت به الموضوعات الخارجية على وجه الإطلاق حتى يمنع من اعتباره دليل أو لا اعتبار بخبره في ثبوتها وإن كان معتبراً في بعض الموارد الخاصة؟

التحقيق أن خبر العدل الواحد كالبينة يعتبر في الموضوعات الخارجية كما يعتبر في الأحكام ، والوجه فيه أن عمدة الدليل على حجية خبر العدل في الأحكام إنما هي السيرة العقلائية القائمة على الأخذ بأقوال الموثقين فيما يرجع إلى معاشهم ومعادهم ، وقد أمضاها الشارع بعدم الرّدع عنها ، ومن الظاهر عدم اختصاص سيرتهم هذه بباب دون باب ، لأنّ حال الموضوعات الخارجية والأحكام عندهم على حد سواء ، وقد جرت سيرتهم على الركون والاعتماد على أخبار الثقات في جميع ما يرجع إلى معاشهم ومعادهم ، وبها يثبت اعتبار خبره في الموضوعات التي منها بولية مائع أو تنجسه ونحوهما.

ويؤيده ما ورد من النهي عن إعلام المصلي بنجاسة ثوبه بقوله عليه‌السلام : « لا يؤذنه حتى ينصرف » (١) نظراً إلى أنّ إخبار العدل الواحد لو لم يكن معتبراً في مثلها لم يكن لمنعه عن أخبار المصلِّي بنجاسة ثوبه وجه صحيح ، ونظيرها ما ورد في توبيخ من أخبر المغتسل بعدم إحاطة الماء جميع بدنه حيث قال عليه‌السلام : « ما كان عليك لو سكت » (٢) ولا وجه له إلاّ ثبوت المخبر به باخبار العدل الواحد.

وقد يقال كما قيل إنّ رواية مسعدة بن صدقة رادعة عن السيرة العقلائية في الموضوعات الخارجية ، وذلك لأنه عليه‌السلام بعد ما حكم في الرواية بحلِّية الأشياء المشكوك فيها قال : « والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين أو تقوم به البيِّنة » (٣) حيث حصر المثبت في الموضوعات الخارجية بالعلم والبيِّنة ، ومنه يظهر أنّ خبر العدل الواحد لا اعتبار به في الموضوع الخارجي.

ويندفع ذلك مع الغض عن ضعف سندها بمسعدة أنّ البيِّنة في الرواية لم يرد‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ٣ : ٤٨٧ / أبواب النجاسات ب ٤٧ ح ١ ، ٢.

(٣) الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

١٥٦

وتثبت أيضاً بقول صاحب اليد بملك أو إجارة أو إعارة أو أمانة ، بل أو غصب (١).

______________________________________________________

منها معناها المصطلح عليه لأنه كما عرفت اصطلاح حديث ، بل المراد بها على ما قدمناه آنفاً وسابقاً في بحث المياه هو الدليل وما به البيان ، ويدلُّ عليه مضافاً إلى أنه معناها لغة أن المثبت في الموضوعات الخارجية غير منحصر بالعلم والبيِّنة المصطلح عليها ، لأنها كما تثبت بهما كذلك تثبت بالاستصحاب وحكم الحاكم والإقرار ، وعليه فمعنى الرواية أن الأشياء كلها على هذا حتى يظهر حكمها بنفسه بحيث لو لاحظتها رأيت حرمتها أو نجاستها مثلاً كما هو الحال في موارد العلم الوجداني ، أو يظهر من الخارج بالدليل كما في موارد البينة المصطلح عليها وخبر العدل الواحد وحكم الحاكم والاستصحاب وإقرار المقر فالرواية لا تكون رادعة عن السيرة أبداً. ولأجل هذه المناقشة استشكل الماتن في كفاية خبر العدل الواحد واحتاط ولا بأس بمراعاته.

(١) بعد البناء على ثبوت النجاسة بإخبار الثقة لا يبقى مجال للبحث عن ثبوتها باخبار ذي اليد إذا كان ثقة فلا بدّ حينئذ من فرض الكلام فيما إذا لم يعلم وثاقته فنقول : لا إشكال في اعتبار إخباره عما بيده سواء أكان مالكاً لعينه أم لمنفعته أو للانتفاع أو لم يكن مالكاً له أصلاً كما إذا غصبه ، وهذا للسيرة العقلائية حيث جرت من لدن آدم عليه‌السلام إلى زماننا ، هذا على أنّ من أخبر عما هو تحت سلطانه أو عن شؤونه وكيفياته يعتمد على إخباره ويعامل معه معاملة العلم بالحال ، ولعلّه من جهة أنّ من استولى على شي‌ء فهو أدرى بما في يده وأعرف بكيفيّاته ، ومن جملة شؤون الشي‌ء وكيفيّاته نجاسته وطهارته ، ولم يرد ردع عنها في الشريعة المقدّسة فبذلك يثبت اعتبار قوله وإخباره.

ونزيده توضيحاً أن لنا علماً تفصيلياً بنجاسة أشياء كثيرة من الذبائح وأيدي المسلمين والفرش والثياب والأواني وغيرها ولو حين غسلها ، ولا علم لنا بعد ذلك بطروّ مطهر عليها بوجه ، فلولا اعتبار قول صاحب اليد وإخباره عن طهارتها لكان استصحاب النجاسة حاكماً بنجاستها ولم يمكننا إثبات طهارتها بوجه وهو مما يوقعنا في عسر وحرج فيلزم اختلال النظام ، وإنما خرجنا عن استصحاب النجاسة بإخبار‌

١٥٧

صاحب اليد ، وبه صار الحكم بطهارتها من نقض اليقين باليقين وخرج عن كونه نقضاً لليقين بالشك ، وليس ذلك إلاّ من جهة قيام السيرة على اعتباره ، ومعه لا يفرق بين إخباره عن طهارته وبين إخباره عن نجاسته أو غيرهما من شؤونه وكيفياته.

هذا مضافاً إلى الأخبار الواردة في بيع الأدهان المتنجسة الآمرة باعلام المشتري بنجاستها حتى يستصبح بها (١) ، لأن إعلام المشتري وإن وقع الخلاف في أنه واجب نفسي أو شرطي إلاّ أنه لا إشكال في وجوبه على كل حال ، ومنه يستكشف اعتبار قول صاحب اليد وإخباره عن نجاسة المبيع بحيث لو أخبر بها وجب على المشتري أن يستصبح به أو يجعله صابوناً ، وما ورد فيمن أعار رجلاً ثوباً فصلى فيه وهو لا يصلِّي فيه قال : لا يعلمه ، قال ، قلت : فإن أعلمه؟ قال : يعيد (٢) حيث إن ظاهر قوله « وهو لا يصلِّي فيه » أنه لا يصلِّي فيه لنجاسته وإن احتمل أن يكون له وجه آخر وعليه فالرواية تدل على اعتبار إخبار المعير عن نجاسة الثوب المستعار بحيث لو أخبر بها وجب على المستعير أن يعيد صلاته.

هذا ويستفاد من بعض النصوص الواردة في العصير العنبي أن إخبار من بيده العصير عن ذهاب الثلثين إنما يعتبر فيما إذا ظهر صدقه من القرائن والأمارات الخارجية ، كما إذا كان ممن يشربه على الثلث ولا يستحل شربه على النصف ، أو كان العصير حلواً يخضب الإناء لغلظته على ما تدل عليه موثقة معاوية بن عمّار (٣) وصحيحة معاوية بن وهب (٤) ، ومقتضى هذه النصوص عدم جواز الاعتماد على قول صاحب اليد في خصوص العصير تخصيصاً للسيرة في مورد النصوص. هذا وقد قدّمنا بعض الكلام في هذه المباحث في مبحث المياه (٥) فليراجع.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٩٨ / أبواب ما يكتسب به ب ٦ ح ٤.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٨٨ / أبواب النجاسات ب ٤٧ ح ٣.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٣٩٣ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٧ ح ٤.

(٤) الوسائل ٢٥ : ٢٩٣ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٧ ح ٣.

(٥) تقدّم في المسألة [١٣٢].

١٥٨

ولا اعتبار بمطلق الظن وإن كان قويّاً (١) فالدهن واللّبن والجبن المأخوذ من أهل البوادي محكوم بالطهارة وإن حصل الظن بنجاستها ، بل قد يقال بعدم رجحان الاحتياط (٢) بالاجتناب عنها ، بل قد يكره ، أو يحرم إذا كان (*) في معرض حصول الوسواس.

______________________________________________________

(١) لعلّه أراد بالظن القوي الظن غير البالغ مرتبة الاطمئنان المعبّر عنه بالعلم العادي العقلائي الذي يكون احتمال خلافه موهوماً غايته ولا يعتني به العقلاء ، وإلاّ فهو حجة عقلائية يعتمد عليه العقلاء في جميع أُمورهم ولم يردع عن عملهم هذا في الشريعة المقدسة ، ومعه لا مانع من الحكم بثبوت النجاسة به كما يثبت به غيرها من الأُمور. نعم ، الظن غير البالغ مرتبة الاطمئنان الذي يعتني العقلاء باحتمال خلافه كما إذا كان تسعين في المائة وتسعاً في العشرة لم يثبت حجيته فلا بدّ في مورده من الرجوع إلى استصحاب الطهارة التي هي الحالة السابقة في المتنجسات ، أو إلى أصالة الطهارة إذا شك في مورد أنه من الأعيان النجسة أو غيرها لعموم أدلّتهما ، فإنّ المراد بالشك الذي أُخذ في موضوع الأُصول أعم من الظن غير المعتبر كما حرّر في محلِّه.

(٢) عدم رجحان الاحتياط أو مرجوحيّته بما أنه احتياط أمر غير معقول ، لأنه عبارة عن التحفّظ على الأمر الواقعي المحتمل لئلاّ يقع في مفسدته أو تفوت عنه مصلحته ، وكيف يتصوّر المرجوحية في مثله وإلاّ فما فائدة التحفظ على المطلوب الواقعي؟ نعم ، قد يلازم الاحتياط عنوان آخر مرجوح أو حرام وبه يقع التزاحم بينهما فيقدم الأقوى منهما بحسب الملاك ، فقد يوجب ذلك مرجوحية الاحتياط بل حرمته إلاّ أنه لا يختص بالاحتياط في باب النجاسات بل ولا يختص بالاحتياط أصلاً فإنّ العناوين الأوّلية طراً قد يطرؤها العناوين الثانوية فتزاحمها. والعنوان الثانوي الذي نتصوّره في الاحتياط بحيث يوجب مرجوحيته على الأغلب هو الوسواس ، فانّ غيره قد يوجب مرجوحيته لا بحسب الغالب أو الأغلب ، وهذا كما إذا كان عنده ماء‌

__________________

(*) في إطلاقه إشكال بل منع.

١٥٩

يشك في طهارته ونجاسته فان الاحتياط بعدم التوضؤ منه إنما يحسن فيما إذا كان عنده ماء آخر ، وأما إذا كان الماء منحصراً به فان الاحتياط حينئذ بعدم التوضؤ منه مما لا إشكال في حرمته ومرجوحيّته ، لعدم مشروعية التيمّم مع التمكّن من التوضؤ بماء محكوم بالطهارة شرعاً. وأما الوسواس فهو مما لا كلام في مرجوحيته لأنه مخل للنظام وموجب لتضييع الأوقات الغالية على ما شاهدناه بالعيان وإنما الكلام في أمرين آخرين :

أحدهما : في أن الجري العملي على طبق الوسوسة محرّم شرعي أو لا حرمة له؟ مثلاً إذا توضأ ثم توضأ وهكذا أو صلّى ثم صلّى فهل نحكم بفسقه وسقوطه بذلك عن العدالة؟ فيما إذا التفت إلى وسوسته الذي هو مرتبة ضعيفة من الوسواس دون ما إذا لم يلتفت إليها واعتقد صحّة عمله وبطلان عمل غيره وهو مرتبة عالية من الوسواس فإنه لا يحكم عليه بشي‌ء لغفلته.

وثانيهما : أن الاحتياط المستلزم لتعقب الوسواس محرم أو لا حرمة له؟ أما الجري على طبق الوسوسة فالظاهر عدم حرمته بعنوان الوسوسة وإن التزم بعضهم بحرمته. نعم ، قد يتّصف بالحرمة بعنوان آخر ككونه سبباً لنقض الصلاة وهو محرّم على المشهور أو لاستلزامه تأخير الصلاة عن وقتها أو لتفويت واجب آخر كالإنفاق على من يجب عليه إنفاقه أو لاستلزامه اختلال النظام أو الهلاكة ونحوهما ، إلاّ أنها عناوين طارئة محرمة في حد أنفسها من غير ناحية الوسواس ، والكلام في أنّ الوسواس بما هو كذلك إذا لم يستلزمه شي‌ء من العناوين المحرّمة محرّم أو لا حرمة فيه.

نعم ، ورد في بعض الروايات النهي عن تعويد الشيطان نقض الصلاة (١) وفي صحيحة عبد الله بن سنان « ذكرت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة ، وقلت : هو رجل عاقل ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : وأي عقل له وهو يطيع الشيطان؟ فقلت له : وكيف يطيع الشيطان؟ فقال : سله هذا الذي يأتيه من أي‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٢٨ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ١٦ ح ٢.

١٦٠