موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

أحكامه وآثاره ، كما إذا ورد : العصير خمر فلا تشربه أو قال : لا تشرب العصير لأنه خمر ، لأنّ لفظة « فاء » ظاهرة في التفريع وتدل على أن حرمة الشرب من الأُمور المتفرعة على تنزيل العصير منزلة الخمر مطلقاً ، وكذلك الحال في المثال الثاني لأنه كالتنصيص بأن النهي عن شربه مستند إلى أنه منزّل منزلة الخمر شرعاً ، وبذلك يحكم بنجاسة العصير لأنها من أحد الآثار المترتبة على الخمر.

وقد يكون التنزيل بلحاظ بعض الجهات والآثار ولا يكون ثابتاً على وجه الإطلاق كما هو الحال في المقام ، لأن قوله عليه‌السلام « خمر لا تشربه » إنما يدل على أن العصير منزّل منزلة الخمر من حيث حرمته فحسب ، ولا دلالة له على تنزيله منزلة الخمر من جميع الجهات والآثار وذلك لعدم اشتماله على لفظة « فاء » الظاهرة في التفريع ، حيث إن جملة « لا تشربه » وقوله « خمر » بمجموعهما صفة للعصير أو من قبيل الخبر بعد الخبر أو أنها نهي ، وعلى أي حال لا دلالة له على التفريع حتى يحكم على العصير بكل من النجاسة والحرمة وغيرهما من الآثار المترتبة على الخمر.

فتحصّل أنّ الصحيح هو القول الثاني ، ولا دليل على نجاسة العصير بالغليان كما هو القول الآخر.

هذا وقد يفصّل في المسألة بين ما إذا كان غليان العصير مستنداً إلى النار فيحكم بحرمته ويكون ذهاب ثلثيه محللاً حينئذ ، وبين ما إذا استند إلى نفسه أو إلى حرارة الهواء أو الشمس فيحكم بنجاسته إلاّ أن ذهاب الثلثين حينئذ لا يرفع نجاسته ، لأنّ حاله حال الخمر فلا يطهّره إلاّ تخليله. وهذا التفصيل نسب من القدماء إلى ابن حمزة في الوسيلة (١) واختاره شيخنا شيخ الشريعة الأصفهاني قدس‌سره في رسالته إفاضة القدير التي صنفها في حكم العصير ، وقد نسبه إلى جماعة منهم ابن إدريس (٢) والشيخ الطوسي في بعض كلماته (٣).

__________________

(١) الوسيلة : ٣٦٥.

(٢) السرائر ٣ : ١٣٠.

(٣) النهاية : ٥٩١.

١٠١

واستدلّ عليه تارة بما يرجع حاصله إلى المنع الصغروي ، حيث ذكر أنّ العصير العنبي إذا نش وغلى بنفسه ولو بمعونة أمر خارجي غير منفرد في الاقتضاء كالشمس وحرارة الهواء ونحوهما كما إذا مضت عليه مدّة لا محالة يصير مسكراً ، لأنه ببقائه مدة من الزمان يلقى الزبد وتحدث فيه حموضة وهي التي يعبّر عنها في الفارسية بـ « ترشيدن » فبه ينقلب مسكراً حقيقياً ، وهو إذن من أحد أفراد الخمر والمسكر ولا إشكال في نجاسة الخمر كما مر. والتكلم في الصغريات وإن كان خارجاً عن الأبحاث العلمية إلاّ أن ما أفاده قدس‌سره لو تمّ وثبت اقتضى التفصيل في المسألة من دون حاجة إلى إقامة الدليل والبرهان عليه ، لأن ما قدمناه من الأدلة على نجاسة الخمر يكفينا في الحكم بنجاسة العصير إذا غلى من قبل نفسه لأنه فرد من أفراد الخمر حينئذ ، إلاّ أنه لم يثبت عندنا أن العصير إذا غلى بنفسه ينقلب خمراً مسكراً كما لم يدع ذلك أهل خبرته وهم المخلِّلون وصنّاع الخل والدبس ، بل المتحقق الثابت خلافه ، فانّ صنع الخمر وإيجادها لو كان بتلك السهولة لم يتحمّل العقلاء المشقّة في تحصيلها من تهيئة المقدّمات والمئونات وبذل الأموال الطائلة في مقابلها ، بل يأخذ كل أحد مقداراً من العصير ثم يجعله في مكان فاذا مضت عليه مدّة ينقلب خمراً مسكراً. نعم ، ربما ينقلب العصير الذي وضع لأجل تخليله خمراً ، إلاّ أنه أمر قد يتّفق من قبل نفسه وقد لا يتّفق.

وأُخرى منع عن كبرى نجاسة مطلق العصير بالغليان ، وعمدة ما اعتمد عليه في ذلك أمران :

أحدهما : دعوى أن كل رواية مشتملة على لفظة الغليان من الأخبار الواردة في حرمة العصير إنما دلت على أنه لا خير في العصير إذا غلى أو لا تشربه إذا غلى أو غيرهما من المضامين الواردة في الروايات ، إلاّ أن الحرمة أو النجاسة على تقدير القول بها غير مغياة في تلك الأخبار بذهاب الثلثين أبداً ، وعليه فلا دلالة في شي‌ء منها على أن الحكم الثابت على العصير بعد غليانه يرتفع بذهاب ثلثيه بل ليس من ذلك في الروايات عين ولا أثر ، كما أن كل رواية اشتملت على التحديد بذهاب الثلثين فهي مختصّة بالعصير المطبوخ أو ما يساوقه كالبختج والطلا ، والجامع ما يغلي بالنار.

١٠٢

فهذه الأخبار قد دلّتنا على أنّ العصير المطبوخ الذي يستند غليانه إلى النار دون مطلق العصير المغلي إذا ذهب عنه ثلثاه وبقي ثلثه فلا بأس به ، ولا دلالة في شي‌ء منها على عدم البأس في مطلق العصير المغلي إذا ذهب عنه ثلثاه ، فمن ذلك يظهر أن ذهاب الثلثين محلل للعصير الذي استند غليانه إلى الطبخ بالنار ولا نجاسة فيه أبداً وأمّا ما استند غليانه إلى نفسه ولو بمعونة أمر خارجي غير منفرد في الاقتضاء كالشمس وحرارة الهواء فذهاب الثلثين فيه لا يكون موجباً لحليته ولا مزيلاً لنجاسته ، فبذلك نبني على أن العصير إذا غلى بنفسه فهو نجس محرّم شربه ولا يرتفع شي‌ء من نجاسته وحرمته إلاّ بانقلابه خلا كما هو الحال في الخمر ، وسرّه أنّ الغليان في الطائفة الاولى من الروايات وهي الأخبار المشتملة على حرمة العصير أو نجاسته بغليانه لم يذكر له سبب ، وكلّ وصف لشي‌ء لم يذكر استناده إلى سبب فالظاهر أنه مما يقتضيه نفس ذلك الشي‌ء بمادّته.

وعليه فالروايات ظاهرة في أنّ الغليان المنتسب إلى نفس مادة العصير ولو بمعونة أمر خارجي هو الذي يقتضي نجاسته دون الغليان المنتسب إلى النار ، وبهذا صحّ التفصيل المتقدم ذكره ، ومعه لا وجه لما عن المحقق الهمداني وغيره من عدم استناد ذلك إلى دليل ، حيث ذكر المحقِّق المذكور بعد نقله التفصيل المتقدِّم ذكره عن ابن حمزة في الوسيلة أنه لم يعلم مستنده (١).

ودعوى : أنّ هذه النكتة في الروايات ذكر السبب وعدمه قضيّة اتفاقية لا يناط بها الحكم الشرعي كما عن بعض معاصريه مندفعة بأنّ النكات والدقائق التي أعملها الأئمة عليهم‌السلام في كلماتهم مما لا مناص من أخذها كما يجب الأخذ بأصلها (٢). هذه خلاصة ما أفاده قدس‌سره في الأمر الأول من استدلاله بعد ضم بعض كلماته ببعض وزيادة منّا لتوضيح المراد.

ولكن لا يمكننا المساعدة على هذه الدعوى بوجه ، لأنها مما لا أصل له حيث إنّ‌

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٥٥٢ السطر ٣١.

(٢) إفاضة القدير : ١٦ ٣٥.

١٠٣

الأخبار المشتملة على لفظة الغليان مما دلّ على حرمة العصير أو نجاسته وإن لم يغي فيها الحكم بذهاب الثلثين ، إلاّ أن عدم ذكر السبب للغليان لا يقتضي استناده إلى نفس العصير ، لأنه دعوى لا شاهد لها من العرف ولا من كلمات أهل اللّغة ، كيف فان عدم ذكر السبب يقتضي الإطلاق من حيث أسبابه فلا يفرق بين استناده إلى نفسه أو إلى النار أو غيرهما ، فالمراد بالغليان في حسنة حماد عن أبي عبد الله عليه‌السلام « لا يحرم العصير حتى يغلي » (١) وفي خبره الآخر : « تشرب ما لم يغل فاذا غلى فلا تشربه » (٢) أعم من الغليان بالنار والغليان بنفسه ، فلا يكون عدم ذكر السبب موجباً لتقييد الغليان بخصوص ما يستند إلى نفسه ، فإذا ورد أن الرجل إذا مات ينتقل ماله إلى وارثه ، فلا يحمله أحد على إرادة خصوص موته المستند إلى نفسه ، بل يعمّه وما إذا كان مستنداً إلى غيره من قتل أو غرق أو غيرهما من الأسباب الخارجية.

هذا كله على أن الغليان لا يعقل أن يستند إلى نفس العصير ، فإنّه لو صُبّ في ظرف كالإناء وجُعل في ثلاجة أو غيرها مما لا تؤثر فيه حرارة خارجية فلا محالة يبقى مدّة من الزمان ولا يحدث فيه الغليان أبداً ، وعليه فالغليان غير مسبب عن نفس العصير بل دائماً مستند إلى أمر خارجي من نار أو حرارة الهواء أو الشمس ، ومعه لا وجه لحمل الغليان في الطائفة الأُولى على الغليان بنفسه حتى ينتج أن الحاصل بسببه لا يرتفع حكمه بذهاب ثلثي العصير.

نعم يبقى له سؤال وهو أنه هب أن الغليان في الروايات المذكورة مطلق ولا يختص بالغليان بنفسه إلاّ أنه لم يدلنا دليل على أن ذهاب الثلثين في مطلق العصير يقتضي طهارته ويرفع حرمته ، لما قدمناه من أن الطائفة الثانية المشتملة على ذهاب الثلثين مختصة بالعصير المطبوخ بالنار أو ما يساوقه ، فذهابهما إنما يكون غاية لارتفاع الحرمة أو النجاسة في خصوص ما غلى بالنار ، وأما في غيره فلا دليل على ارتفاع حكمه بذهابهما فلا بدّ من التمسك حينئذ بعدم القول بالفصل والملازمة بين ما غلى بالنار وما غلى بغيرها وهي بعد لم تثبت.

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ٢٥ : ٢٨٧ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٣ ح ١ ، ٣.

١٠٤

وهذا السؤال وإن كان له وجه إلاّ أنه يندفع بأن الطائفة الثانية وإن اختصت بالمطبوخ كما ادعاه إلاّ أن بينها صحيحة عبد الله بن سنان أو حسنته ، قال : « ذكر أبو عبد الله عليه‌السلام أنّ العصير إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فهو حلال » (١) والعصير فيها مطلق وتدلّنا هذه الصحيحة على أنّ ذهاب الثلثين رافع لحرمة مطلق العصير سواء غلى بنفسه ونشّ أوّلاً ثم أغلي بالنار وذهب ثلثاه أم لم يغل قبل غليانه بالنار ، هذا بل قيل إن الغالب في العصير الموجود في دكاكين المخللين وصنّاع الخل والدبس هو الأول ، لأن العصير عندهم كثير ولا يتمكنون من جعله دبساً دفعة ومن هنا يبقى العصير في دكاكينهم مدة ويحصل له النشيش من قبل نفسه ثم يغلي بالنار ويذهب ثلثاه. فالمتحصل أن ذهاب الثلثين مطلقاً يرفع الحرمة الثابتة على العصير غلى بنفسه أم غلى بالنار.

ثانيهما : صحيحة ابن سنان أو حسنته عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « كل عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه » (٢) حيث إنه رتّب الحرمة المغياة بذهاب الثلثين على العصير الذي أصابته النار ، فيستفاد منها أن ما لم تصبه النار من العصير كما إذا غلى بسبب أمر آخر لا ترتفع حرمته بذهاب ثلثيه وإلاّ فما فائدة تقييده العصير بما أصابته النار؟

ودعوى أنّ القيد توضيحي ، خلاف ظاهر التقييد لأنّ القيود محمولة على الاحتراز فيما إذا لم يؤت بها لفائدة أُخرى كما في قوله عزّ من قائل ( وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ ) (٣) حيث إن الإتيان بالقيد من جهة الإشارة إلى حكمة الحكم بحرمة الربائب لا أنّ حرمتها مختصّة بما إذا كانت في الحجور ، وعليه لا مناص من التفصيل في حلية العصير بذهاب ثلثيه بين صورة غليانه بنفسه وصورة غليانه بسبب أمر آخر ، لأنّ الغاية لحرمة العصير المغلي بنفسه تنحصر بتخليله هذا.

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٢٧٧ / أبواب الأشربة المباحة ب ٣٢ ح ٢ ، ٢٨٨ أبواب الأشربة المحرمة ب ٥ ح ١.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٢٨٢ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٢ ح ١.

(٣) النساء ٤ : ٢٣.

١٠٥

ويتوجّه عليه أن الأصل في القيود وإن كان هو الاحتراز وقد بيّنا في مبحث المفاهيم أن الوصف كالشرط ذات مفهوم إلاّ أن مفهومه أن الطبيعة على إطلاقها غير مقتضية للحكم والأثر وإنما المقتضي لهما حصة خاصة من الطبيعي ، ولا دلالة له على أن الحكم الثابت لتلك الحصة غير ثابت لحصة أُخرى من الطبيعة (١) ، مثلاً إذا ورد أكرم الرجل العالم يدلنا تقييد الرجل بأن يكون عالماً على أن طبيعي الرجولية غير مقتض لوجوب إكرامها ، بل الذي ثبت له وجوب الإكرام حصة خاصة وهي الرجل المتصف بالعلم ، لأنه لو كان ثابتاً لطبيعي الرجل على إطلاقه كان تقييده بالعالم من اللغو الظاهر ، إلاّ أنه لا يدل على أن الرجل العادل أو غيره من الحصص غير متصف بهذا الحكم ، حيث لا دلالة في الوصف على كونه علة منحصرة للوجوب في المثال ومعه يمكن أن تكون العدالة أو الشيخوخة أو غيرهما من القيود كالعلم علّة لوجوب الإكرام مثلاً.

وعليه يدلّنا تقييد العصير في الرواية « بما أصابته النار » أن ارتفاع الحرمة بذهاب الثلثين غير مترتِّب على طبيعي العصير وإلاّ كان تقييده لغواً ظاهراً وإنما يترتّب على حصّة خاصّة منه وهو الذي تصيبه النار ، إلاّ أنه لا يدلّنا بوجه على عدم ارتفاع الحرمة بذهاب الثلثين في غيره من الحصص المتصورة للعصير كالمغلي بنفسه أو بحرارة الشمس أو الهواء ، لما عرفت من أن الوصف لا ظهور له في العلية المنحصرة ، ومعه يمكن أن يكون الغليان بنفسه كالغليان بالنار علة للحرمة المغياة بذهاب الثلثين هذا.

على أنّا لو سلمنا ظهور الرواية في إرادة خصوص الغليان بالنار وفرضنا أنها كالصريح في أن الغليان بالنار هو الذي يقتضي الحرمة المغياة بذهاب الثلثين دون الغليان بغيرها من الأسباب ، فغاية ذلك أن نفصّل في حرمة العصير بين ما إذا غلى بنفسه فلا ترتفع حرمته إلاّ بتخليله وما إذا غلى بالنار فترتفع حرمته بذهاب ثلثيه ، وأين هذا من التفصيل في نجاسة العصير؟ حيث لم يدلنا أي دليل على أن العصير إذا غلى بنفسه ينجس حتى يحكم بعدم ارتفاعها بذهاب ثلثيه. فالصحيح هو الذي‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ١٣٣.

١٠٦

قدّمناه عن المحقق الهمداني قدس‌سره من أن التفصيل في نجاسة العصير بين غليانه بالنار وغليانه بغيرها مما لم يعلم مستنده (١) ، فان ما أفاده شيخ الشريعة قدس‌سره لو تمّ فإنما يقتضي التفصيل في حرمة العصير دون نجاسته هذا.

وقد يستدلّ على هذا التفصيل برواية الفقه الرضوي « فإن نش من غير أن تصيبه النار فدعه حتى يصير خلاًّ من ذاته » (٢) فإنّه كالصريح في أنّ الغليان من قبل نفس العصير مولد لحرمته وكذا لنجاسته وأنهما لا يرتفعان إلاّ بتخليله ، إلاّ أنّا ذكرنا غير مرّة أن الفقه الرضوي لم يثبت كونه رواية فضلاً عن أن تكون حجّة.

وقد يستدلّ برواية عمّار بن موسى الساباطي ، قال : « وصف لي أبو عبد الله عليه‌السلام المطبوخ كيف يطبخ حتى يصير حلالاً فقال : تأخذ ربعاً من زبيب وتنقيه ثم تصب عليه اثني عشر رطلاً من ماء ، ثم تنقعه ليلة فاذا كان أيام الصيف وخشيت أن ينش جعلته في تنور سخن قليلاً حتى لا ينش ثم تنزع الماء منه كلّه إذا أصبحت ، ثم تصب عليه من الماء بقدر ما يغمره ، ثم تغليه حتى تذهب حلاوته إلى أن قال : فلا تزال تغليه حتى يذهب الثلثان ويبقى الثلث » الحديث (٣) بتقريب أن قوله : « وخشيت أن ينش ظاهره » أن العصير مع النشيش من قبل نفسه لا يقبل الطهارة والحلية بإذهاب ثلثيه ، فالخشية إنما هي من صيرورته خارجاً عن قابلية الانتفاع به بذهاب الثلثين لأجل غليانه من قبل نفسه ، فالنش في قبال غليانه بالنار الذي يحلله ذهاب الثلثين.

والكلام في هذا الاستدلال تارة يقع في فقه الحديث ، وأُخرى في الاستدلال به على المدعى.

أما فقه الحديث فقد وقع الكلام في المراد من أمره عليه‌السلام بجعل العصير في تنور سخن قليلاً خوفاً من نشيشه من قبل نفسه ، مع أن جعله في مكان حارّ معد لنشيشه لا أنه مانع عنه.

__________________

(١) تقدّم في ص ١٠٣.

(٢) فقه الرضا : ٢٨٠.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٢٨٩ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٥ ح ٢.

١٠٧

ذكر شيخنا شيخ الشريعة قدس‌سره أن المراد بذلك جعل العصير في التنور السخن لأجل أن يغلي بالنار حتى لا ينش من قبل نفسه. ويبعّده أوّلاً : أن جعله في التنور السخن قليلاً لا يوجب غليانه لقلة مكثه فيه. وثانياً : أن مراده عليه‌السلام لو كان غليانه بالنار لعبّر عنه بعبارة أخصر كقوله فأغله ، ولم يكن يحتاج إلى قوله : « جعلته في تنور سخن قليلاً » على طوله. وثالثاً : أن ظاهر الرواية أنه عليه‌السلام يريد أن يتحفّظ على العصير من نشيشه من دون أن يغلي ، فما وجّه به الرواية مما لا يمكن المساعدة عليه.

والصحيح في وجه ذلك أن يقال : إن العصير أو غيره من الأشربة أو الأطعمة القابلة لأن يطرأ عليها الضياع والحموضة إذا أصابته الحرارة بكم خاص منع عن فسادها ، ولما طرأت عليها الحموضة بوجه فلا يسقط عن قابلية الانتفاع بها بأكلها أو بشربها ، فلو جعلت طعاماً على النار مثلاً في درجة معينة من الحرارة ترى أنه يبقى أياماً بحيث لو كان بقي على حاله من غير حرارة لفسد من ساعته أو بعد ساعات قلائل كما في الصيف. وقد ذكر المستكشفون العصريون في وجه ذلك أن الفساد إنما يطرأ على الطعام أو الشراب من جهة الميكروبات الداخلة عليهما التي تتكون في الجو والهواء ، بحيث لو ابقي ذلك الطعام أو الشراب على الحرارة في درجة معينة أعني درجة الستين وماتت المكروبات الطارئة عليهما بتلك الحرارة لم يطرأ عليهما الحموضة والفساد من غير أن يصل إلى درجة الغليان ، لأنّ الحرارة إنما تولد الغليان في درجة المائة. هذا على أن ما ادعيناه وعرفته مما أثبتته التجربة وهي أقوى شاهد عليه سواء قلنا بمقالة العصريين أم أنكرنا وجود المكروب من رأس ، وعليه فغرضه عليه‌السلام من الأمر بجعل العصير في تنور سخن إنما هو التحفظ من أن تعرضه الحموضة والفساد لمكان حرارة التنور من غير أن يبلغ درجة الغليان ، هذا كلّه في فقه الحديث.

وأمّا الاستدلال به على التفصيل المدعى ففيه أوّلاً : أنّ الرواية ضعيفة بحسب السند ، لأنّ الراوي عن علي بن الحسن في السند لم يعلم أنه محمّد بن يحيى أو أنه رجل ومحمّد بن يحيى يروي عن ذلك الرجل ، وحيث إن الرجل مجهول فتصبح الرواية‌

١٠٨

نعم ، لا إشكال في حرمته سواء غلى بالنار أو بالشمس أو بنفسه ، وإذا ذهب ثلثاه صار حلالاً سواء كان بالنار أو بالشمس (*) أو بالهواء (١)

______________________________________________________

بذلك مرسلة وإن عبر عنها بالموثقة في كلمات بعضهم.

وثانياً : أن قوله عليه‌السلام : « وخشيت أن ينش » لم يظهر أنه من جهة احتمال صيرورته محرماً على نحو لا تزول عنه بذهاب ثلثيه ، لجواز أن تكون خشيته من جهة احتمال طرو الحموضة والنشيش على العصير وهما يمنعان عن طبخه على الكيفية الخاصة التي بيّنها عليه‌السلام حتى يفيد لعلاج بعض الأوجاع والأمراض مع إمكان إبقائه مدة من الزمان ، فالاستدلال بالرواية غير تام.

والصحيح هو الذي ذهب إليه المشهور من أنه لا فرق في زوال حرمة العصير وكذا في نجاسته على تقدير القول بها بين غليانه بالنار وغليانه بنفسه بعد ذهاب الثلثين.

(١) استدل على ذلك بالإطلاق ، وليت شعري ما المراد من ذلك وأي إطلاق في روايات المسألة حتى يتمسّك به في المقام ، كيف فإن الأخبار المشتملة على حلية العصير بذهاب الثلثين إنما وردت في خصوص ذهابهما بالنار ، فيكفينا في المقام عدم الدليل على حلية العصير بذهاب ثلثيه بمثل الشمس والهواء ، وكذا طهارته إذا قلنا بنجاسته بالغليان ، هذا على أن بعضها ذات مفهوم ومقتضى مفهومه عدم ارتفاع حرمة العصير بذهاب ثلثيه بمثل الشمس والهواء ، وإليك موثقة أبي بصير : « إن طبخ حتى يذهب منه اثنان ويبقى واحد فهو حلال » (٢) فان مفهومها أنه إذا لم يطبخ بالنار ليذهب ثلثاه فلا يحل.

بل يمكن استفادة ما ذكرناه من الأخبار الواردة في حكمة تحريم الثلثين المشتملة‌

__________________

(*) في كفاية ذهاب الثلثين بغير النار إشكال ، بل الظاهر عدمها ، نعم ، إذا استند ذهاب الثلثين إلى النار وإلى حرارتها الباقية بعد إنزال القدر عنها مثلاً كفى.

(١) الوسائل ٢٥ : ٢٨٥ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢ ح ٦.

١٠٩

على منازعة الشيطان وآدم عليه‌السلام وتحاكمهما إلى روح القدس ، حيث ورد في بعضها أنّ روح القدس أخذ ضغثاً من النار فرمى به على القضيبين والعنب في أغصانهما حتى ظن آدم أنه لم يبق منه وظن إبليس مثل ذلك ، قال : فدخلت النار حيث دخلت وذهب منهما ثلثاهما وبقي الثلث ، فقال الروح أما ما ذهب منهما فحظ إبليس وما بقي فلك يا آدم (١) ، لأن ظاهرها أن المحلل للثلث الباقي إنما هو ذهاب الثلثين بالنار.

وكيف كان ، فلا نرى إطلاقاً في شي‌ء من الأخبار. نعم ، ورد في بعض أخبار المسألة أنّ العصير إذا طبخ حتى يذهب منه ثلاثة دوانيق ونصف ثم ترك حتى برد فقد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه (٢) ، وقد دلت على أن ذهاب ثلثي العصير المعتبر في حليته لا يعتبر أن يكون حال غليانه بالنار بل لو ذهب منه مقدار كثلاثة دوانيق ونصف وهو على النار وذهب نصف الدانق منه بعد رفعه عنها كفى ذلك في حليته لأنّ مجموع الذاهب حينئذ أربعة دوانيق ، ثلاثة ونصف حال كونه على النار ونصف الدانق بعد أخذه منها لتصاعده بالبخار وهما ثلثان والباقي ثلث واحد وهو دانقان ، ولكن لا دلالة لها على كفاية ذهاب نصف الدانق الباقي في حلية العصير بمثل الشمس والهواء. والوجه فيه أنّ ذهاب نصف الدانق بعد أخذه من النار أيضاً مستند إلى غليانه بسببها ، لأنّ النار أغلته وأحدثت فيه الحرارة الموجبة لتصاعد المقدار الباقي منه بالبخار بعد أخذه من النار ، فلا يستفاد منها أن ذهاب نصف الدانق يكفي في حلية العصير ولو كان مستنداً إلى غير النار. على أنّا لو سلمنا دلالتها على كفاية ذهابه ولو بغير النار فإنما نلتزم بذلك في خصوص مورد الرواية وهو نصف الدانق فحسب ، وأما ذهاب مجموع الثلثين بغير النار فلم يدل على كفايته دليل. فالصحيح الاقتصار في الحكم بحلية العصير بعد غليانه بذهاب ثلثيه بالنار.

__________________

(١) هذا مضمون ما رواه في الوسائل ٢٥ : ٢٨٢ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٢ ح ٢ وهي رواية أبي الربيع الشامي.

(٢) رواه عبد الله بن سنان في الوسائل ٢٥ : ٢٩١ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٥ ح ٧.

١١٠

بل الأقوى (*) حرمته بمجرد النشيش (١) وإن لم يصل إلى حد الغليان‌

______________________________________________________

(١) النشيش كما قيل هو الصوت الحادث في الماء أو في غيره قبل أخذه بالغليان وهو في بعض الأواني أوضح وأشد من بعضها الآخر وفي السماور أظهر. وهل يكفي ذلك في الحكم بحرمة العصير وكذا في نجاسته على تقدير القول بها أو أن موضوعيهما الغليان؟

ذهب الماتن إلى الأول وتبعه عليه غيره ، ولعله اعتمد في ذلك على موثقة ذريح « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إذا نش العصير أو غلى حرم » (٢) حيث عطف الغليان فيها على النشيش وظاهر العطف هو التغاير والاثنينية. هذا ولكنها معارضة بحسنة حماد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا يحرم العصير حتى يغلي » (٣) وغيرها من الأخبار الواردة في عدم حرمة العصير قبل أن يغلي ، فإنها ظاهرة في عدم العبرة بالنشيش الحاصل قبل الغليان غالباً ، ومع المعارضة كيف يمكن الاعتماد على موثقة ذريح. على أن لازمها أن يكون اعتبار الغليان وعطفه على النشيش لغواً ظاهراً ، لأنه مسبوق بالنشيش دائماً ، فلا مناص معه من حمل النشيش في الموثقة على معنى آخر كنشيشه بنفسه أو حمل الغليان فيها على موارد يتحقق فيها الغليان من دون أن يسبقه النشيش ، كما إذا وضع مقدار قليل من العصير على نار حادة كثيرة فإنها تولد الغليان فيه دفعة ، ولا سيما إذا كانت حرارة الإناء المصبوب فيه العصير بالغة درجة حرارة النار ، فان العصير حينئذ يغلي من وقته من غير سبقه بالنشيش.

وكيف ما كان ، فالاستدلال بالموثقة مبني على أن تكون الرواية كما رواها في الوسائل والوافي بعطف الغليان على النشيش بلفظه « أو » لكنها لم تثبت كذلك ، لأنّ شيخنا شيخ الشريعة الأصفهاني قدس‌سره نقل عن النسخ المصحّحة من الكافي عطف أحدهما على الآخر بالواو ، وأن العصير إذا نش وغلى حرم (٤) ، وعليه فلا تنافي‌

__________________

(*) بل الأحوط.

(١) ، (٢) الوسائل ٢٥ : ٢٨٧ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٣ ح ٤ ، ١.

(٣) إفاضة القدير : ٤.

١١١

بين اعتبار كل من الغليان والنشيش الذي هو صوته في ارتفاع حلية العصير ، وبما أنه ( قدس الله سره ) ثقة أمين وقد روى عطف أحدهما على الآخر بالواو فلا مناص من الأخذ بروايته لاعتبارها وحجيتها ، وبه يرتفع التنافي عن نفس الموثقة كما ترتفع المعارضة بينها وبين حسنة حماد المتقدمة ونظائرها.

ثم إذا أخذنا برواية الوافي والوسائل وهي عطف أحدهما على الآخر بلفظه « أو » فلا بد في رفع المعارضة أن يقال : إن النشيش لم يثبت أنه أمر مغاير مع الغليان بل هو هو بعينه على ما في أقرب الموارد حيث فسّر النشيش بالغليان وقال : نش النبيذ : غلى (١). وأما تفسيره بصوت الغليان كما عن القاموس (٢) وغيره فالظاهر إرادة أنه صوت نفس الغليان لا الصوت السابق عليه ، وعليه فهما بمعنى واحد ، وبهذا المعنى استعمل النشيش في رواية عمّار (٣) الواردة في كيفية طبخ العصير حيث قال : « وخشيت أن ينش » فانّ معناه خشيت أن يغلي ، وليس معناه الصوت المتقدِّم على غليانه لأنه لا وجه للخشية منه.

وهذا الذي ذكرناه وإن كان يرفع المعارضة بين الموثقة والحسنة إلاّ أنه لا يكفي في رفع التنافي عن نفس الموثقة ، لأنه لا معنى لعطف الشي‌ء على نفسه والقول بأنه إذا غلى العصير أو غلى حرم ، فلا بد في رفعه من بيان ثانوي وهو أن يقال : إن النشيش وإن كان بمعنى الغليان كما مر إلاّ أنه ليس بمعنى مطلق الغليان ، وإنما معناه غليان خاص وهو غليان العصير بنفسه أو أنه مما ينصرف إليه لفظه ، فالغليان بالنار لا يطلق عليه النشيش ولم يرَ استعماله بهذا المعنى في شي‌ء من الأخبار ، لأنّ الغليان كما في خبر حمّاد هو القلب أعني تصاعد الأجزاء المتنازلة وتنازل الأجزاء المتصاعدة ، وهو إنما يتحقّق بالنار ولا يتأتّى في الغليان بنفسه ، وعليه فالنشيش أمر والغليان أمر آخر ، ومعه لا يبقى أي تناف في الموثقة فكأنه عليه‌السلام قال : إن غلى العصير بنفسه أو‌

__________________

(١) أقرب الموارد ٢ : ١٣٠١.

(٢) القاموس المحيط ٢ : ٢٩٠.

(٣) المتقدِّمة في ص ١٠٧.

١١٢

ولا فرق بين العصير ونفس العنب ، فاذا غلى نفس العنب من غير أن يعصر كان حراماً (*) (١)

______________________________________________________

غلى بالنار حرم ، وعليه فموضوع الحكم بالحرمة أحد الغليانين المتقدِّمين ، وأما النشيش بمعنى الصوت الحادث قبل غليان الماء أو غيره فهو مما لا يوجب الحرمة بوجه ، وإن كان الأحوط التجنب عنه من حين نشيشه.

(١) قد مر أن الموضوع للحكم بحرمة العصير إنما هو غليانه بنفسه أعني النشيش أو غليانه بالنار ، فهل هذا يختص بما إذا استخرجنا ماء العنب بعصره أو أنه يعم ما إذا خرج ماؤه من غير عصر كما إذا خرج عنه بالفوران في جوف العنب أو من جهة كثرة مائه فخرج عن قشره بالضغطة الشديدة ثم اغلي؟

لا ينبغي التردّد في أنّ العرف لا يستفيد من أدلّة حرمة العصير على تقدير غليانه خصوصية لعصره ولا يفهم مدخلية ذلك في حرمته بالغليان ، ولا سيما بملاحظة ما ورد في حكمة حرمة العصير من منازعة آدم عليه‌السلام وإبليس وإذهاب روح القدس ثلثي ماء العنب بالنار (٢) ، حيث إن المستفاد منها أن الميزان في الحكم بحلية ماء العنب إنما هو ذهاب ثلثيه بالنار ، بلا فرق في ذلك بين خروج مائه بالعصر وبين خروجه بغيره ، وعليه لا فرق في الحكم بحرمة العصير بالغليان بين استخراج ماء العنب بعصره وبين خروجه عنه بغير عصر ، للقطع بعدم مدخلية العصر بحسب الفهم العرفي في حرمته ، هذا كلّه إذا خرج عنه ماؤه.

وأما إذا غلى ماء العنب في جوفه بحرارة الهواء أو الشمس ونحوهما من دون استخراجه من العنب بوجه فهل يحكم بحرمته ونجاسته على القول بنجاسة العصير بالغليان؟ الظاهر أن هذه المسألة فرضية خيالية لأنها تبتني على فرض أمر غير واقع أبداً ، حيث إن العنب ليس كالقربة وغيرها من الأوعية مشتملاً على مقدار من الماء‌

__________________

(*) على الأحوط.

(١) المتقدمة في ص ١١٠.

١١٣

وأمّا التمر والزبيب وعصيرهما (١) فالأقوى عدم حرمتهما أيضاً بالغليان وإن كان الأحوط الاجتناب عنهما أكلاً ، بل من حيث النجاسة أيضاً (٢).

______________________________________________________

حتى يمكن غليانه في جوفه ، بل العنب على ما شاهدنا جميع أقسامه نظير الخيار والبطِّيخ والرقِّي مشتمل على لحم فيه رطوبة وكلما وردت عليه ضغطة خرج منه ماؤه وبقيت سفالته. نعم ، الماء الخارج من العنب أكثر مما يمكن استخراجه من الخيار وكيف كان ، فلا ماء في جوف العنب حتى يغلي ، وقد مرّ أنّ الغليان هو القلب وتصاعد النازل وتنازل الصاعد ، وكيف يتصور هذا في مثل العنب والبطيخ والخيار وغيرها مما لا يشتمل على الماء في جوفه.

ثم على تقدير إمكان ذلك ووقوعه في الخارج بفرض أمر غير واقع فهل يحكم بحرمته قبل أن يذهب ثلثاه؟ التحقيق أنه لا وجه للحكم بحرمته ، لأن ما دلّ على حرمة العصير العنبي بعد غليانه إنما دلّ على حرمة مائه الذي خرج منه بعصره أو بغير عصر ، وأما ماء العنب في جوفه فحرمته تحتاج إلى دليل ، ولم يدلنا دليل على أن ماء العنب إذا غلى في جوفه حرم حتى يذهب ثلثاه.

(١) المصطلح عليهما بالنبيذ ، فيقال : نبيذ الزبيب أو التمر ولا سيما في الأخير ، كما أن المصطلح عليه في ماء العنب هو العصير كذا ذكره صاحب الحدائق قدس‌سره (١).

(٢) إذا نبذ الزبيب أو التمر في ماء وأكسبه حلاوة ثم غلى ذلك الماء بسبب فهل يحكم بحرمته ونجاسته أو أنه محكوم بالطهارة والحل؟

أمّا النجاسة فظاهرهم الاتفاق على عدمها بعد بطلان التفصيل المتقدِّم (٢) عن ابن حمزة في الوسيلة الذي اختاره شيخنا شيخ الشريعة قدس‌سره ، حيث ذهب إلى نجاسة العصير فيما إذا غلى بنفسه وعدم ارتفاعها إلاّ بانقلابه خلاً بلا فرق في ذلك بين العصير العنبي وعصيري التمر والزبيب. وقد ذكر في الحدائق أني لم أقف على قائل‌

__________________

(١) الحدائق ٥ : ١٢٥.

(٢) في ص ١٠١.

١١٤

بنجاسة العصير الزبيبي ، ونقل التصريح بذلك عن الفاضل السبزواري قدس‌سره (١). وكيف كان ، فالظاهر عدم الخلاف في طهارة النبيذ أو لو كان هناك خلاف في نجاسة العصير الزبيبي فهو خلاف جزئي غير معتد به.

وأمّا حرمته فقد وقع الكلام فيها بينهم وذهب بعضهم إلى حرمته ، ونسب ذلك إلى جملة من متأخِّري المتأخِّرين والمشهور حليته. ولنتكلّم أوّلاً في حكم النبيذ الزبيبي ثم نتبعه بالتكلّم في النبيذ التمري إن شاء الله. فنقول : الذي يمكن أن يستدل به لحرمة النبيذ الزبيبي بل لنجاسته أمران : أحدهما : الاستصحاب التعليقي بتقريب أن الزبيب حينما كان رطباً وعنباً كان عصيره إذا غلى يحرم فاذا جففته الشمس أو الهواء وشككنا في بقائه على حالته السابقة وعدمه فمقتضى الاستصحاب أنه الآن كما كان ، فيحكم بحرمة مائه على تقدير غليانه بل بنجاسته أيضاً إذا قلنا بنجاسة العصير العنبي.

وترد على هذا الاستصحاب المناقشة من جهات : الاولى : أن الاستصحاب دائماً كما مرّ غير مرّة مبتلى بالمعارض في الأحكام الكلية الإلهيّة ، فلا مورد للاستصحاب في الأحكام المنجّزة فضلاً عن الأحكام المعلقة. الثانية : أنه لا أصل للاستصحاب التعليقي أساساً ، وهذا لا لأن كل شرط يرجع إلى الموضوع كما أن كل موضوع يرجع إلى الشرط في القضايا الحقيقية حتى يدعى أن رجوع الشرط إلى الموضوع أمر دقي فلسفي ، والمدار في جريان الاستصحاب إنما هو على المفاهيم العرفية المستفادة من القضايا الشرعية ولا إشكال في أن الشرط بمفهومه العرفي المستفاد من الخطاب يغاير الموضوع ، وحيث إن الموضوع باق بالنظر العرفي فلا مانع من جريان الاستصحاب في حكمه وإن لم يتحقّق شرطه أعني الغليان وذلك لأنّ هذه الدعوى وإن كانت صحيحة في نفسها على ما برهن عليها شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في محلّه (٢).

إلاّ أن الوجه في إنكارنا ومنع شيخنا الأُستاذ قدس‌سره عن الاستصحابات‌

__________________

(١) الحدائق ٥ : ١٢٥ ، ذخيرة المعاد : ١٥٥ السطر ٣.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤١٢.

١١٥

التعليقية من أساسها إنما هو ما قررناه في المباحث الأُصولية ، من أن الأحكام الشرعية لها مرحلتان : مرحلة الجعل ومرحلة المجعول ، والشك في المرحلة الاولى أعني الشك في بقاء جعلها وارتفاعه لا يتحقق إلاّ بالشك في نسخها ، فاذا شككنا في نسخ حكم وبقائه فعلى المسلك المشهور يجري الاستصحاب في بقائه وعدم نسخه ولا يجري على مسلكنا لما حققناه في محله. وأما الشك في الأحكام في المرحلة الثانية وهي مرحلة المجعول فلا يمكن أن يتحقق إلاّ بعد فعليتها بتحقق موضوعاتها في الخارج بما لها من القيود ، فاذا وجد موضوع حكم وقيوده وشككنا في بقائه وارتفاعه بعد فعليته فأيضاً لا كلام في جريان الاستصحاب في بقائه بناء على القول بجريانه في الأحكام الكلية الإلهيّة ولا معنى للشك في بقاء الحكم الشرعي وعدمه في غير هاتين المرحلتين ، وحيث إن الشك في حرمة العصير الزبيبي على تقدير الغليان لم ينشأ عن الشك في نسخها للقطع ببقاء جعلها في الشريعة المقدسة فلا مجرى فيها للاستصحاب بحسب مرحلة الجعل لعدم الشك على الفرض. كما أن الشك في حرمته ليس من الشك في بقاء الحكم بعد فعليته فان العصير العنبي لم يتحقق في الخارج في أي زمان حتى يغلي ويتصف بالحرمة الفعلية ويشك في بقائها فلا يجري الاستصحاب فيها بحسب مرحلة المجعول أيضاً ، وعليه فليس لنا حكم شرعي في هذه الموارد حتى نستصحبه عند الشك في بقائه. نعم ، الذي لنا علم بوجوده بعد ما تحقّق العنب في الخارج وقبل أن يغلي إنما هو الملازمة العقلية بين حرمته وغليانه ، لأنه بعد العلم بتحقّق أحد جزئي الموضوع للحكم بحرمة العصير يتحقق العلم بالملازمة بين حرمته ووجود جزئه الآخر فيقال : إنه بحيث إذا غلى يحرم ، إلاّ أنه حكم عقلي غير قابل للتعبّد ببقائه بالاستصحاب.

الثالثة : هب أنّا بنينا على جريان الاستصحاب في جميع الأحكام الكلية منجّزها ومعلّقها إلاّ أن الأخبار الواردة في المقام كلها أثبتت الحرمة ، وكذا النجاسة على القول بها على عنوان العصير المتخذ من العنب ولم يترتّبا على نفس العنب ولا على أمر آخر ، وظاهر أن الزبيب ليس بعصير حتى يقال إذا شككنا في بقاء حكمه لجفافه وصيرورته زبيباً نستصحب بقاءه ، لأنّ مغايرة العصير والزبيب مما لا يكاد يخفى على‌

١١٦

أحد ، كما أن النبيذ أعني الماء الذي نبذ فيه شي‌ء من الزبيب واكتسب حلاوته كذلك ، لأنه ماء الفرات أو بئر أو مطر وإنما جاور الزبيب مقداراً من الزمان واكتسب حلاوته ولا يصدق عليه العصير العنبي أبداً ، ومع التعدد وارتفاع الموضوع المترتب عليه الحكم والأثر لا مجال لإجراء الاستصحاب بوجه.

نعم ، لو كان العنب بنفسه موضوعاً للحكم بحرمته أو بنجاسته لحكمنا بجريان استصحابهما عند صيرورة العنب زبيباً ، لأن الجفاف والرطوبة تعدان من الحالات الطارئة على الموضوع لا من مقوماته ، فلا نضايق من القول باستصحاب الأحكام

المترتبة على نفس العنب عند تبدله بالزبيب كاستصحاب ملكيته ونحوها. فالمتحصل أن الاستصحاب التعليقي مما لا أصل له.

وثانيهما : الروايات حيث استدلّ لحرمة العصير الزبيبي بجملة من الأخبار : منها : رواية زيد النرسي في أصله ، قال : « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الزبيب يدق ويلقى في القدر ثم يصب عليه الماء ويوقد تحته ، فقال : لا تأكله حتى يذهب الثلثان ويبقى الثلث ، فان النار قد أصابته ، قلت : فالزبيب كما هو في القدر ويصب عليه الماء ثم يطبخ ويصفى عنه الماء؟ فقال : كذلك هو سواء ، إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فصار حلواً بمنزلة العصير ثم نش من غير أن تصيبه النار فقدم حرم ، وكذلك إذا أصابته النار فأغلاه فقد فسد » (١) حيث دلت على حرمة العصير الزبيبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه. وقد جعلها شيخنا شيخ الشريعة قدس‌سره مؤيدة لما ذهب إليه من التفصيل المتقدم نقله عند الكلام على نجاسة العصير العنبي ، وذلك لتصريحها بأنه إذا نش من غير أن تصيبه النار فقد حرم. وأما إذا غلى بالنار فيفسد حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه وحيث إنها لم تقيد الحرمة فيما إذا غلى بنفسه بشي‌ء وقد قيّدتها بعدم ذهاب الثلثين فيما إذا غلى بالنار فيستفاد منها أنّ الحرمة في الصورة الاولى لا ترتفع إلاّ بالانقلاب. وأما إطلاق ذيلها أعني قوله : « وكذلك إذا أصابته النار فأغلاه فقد فسد » من غير أن تقيّد فساده بشي‌ء فهو من جهة وضوح حكمه وغايته في صدر الرواية (٢).

__________________

(١) المستدرك ١٧ : ٣٨ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٢ ح ١.

(٢) إفاضة القدير : ٢٣.

١١٧

هذا ولقد جاءت الرواية في جملة من كتب فقهائنا كالجواهر (١) والحدائق (٢) ومصباح الفقيه (٣) ، وطهارة شيخنا الأنصاري (٤) قدس‌سره وغيرها على كيفية أُخرى حيث رووا عن الصادق عليه‌السلام « في الزبيب يدق ويلقى في القدر ويصب عليه الماء ، فقال : حرام حتى يذهب الثلثان ( إلاّ أن يذهب ثلثاه ) قلت : الزبيب كما هو يلقى في القدر ، قال : هو كذلك سواء ، إذا أدت الحلاوة إلى الماء فقد فسد ، كلّما غلى بنفسه أو بالماء أو بالنار فقد حرم حتى يذهب ثلثاه ( إلاّ أن يذهب ثلثاه ) » وقد أُسندت الرواية في جملة منها إلى كل من زيد الزراد وزيد النرسي ، كما أن الرواية تختلف عن سابقتها من وجوه عمدتها اشتمال الرواية الثانية على التسوية بين قسمي الغليان أعني الغليان بالنار والغليان بنفسه لدلالتها على أن الحرمة في كلا القسمين مغياة بذهاب الثلثين ، وعليها لا يبقى لتأييد شيخنا شيخ الشريعة قدس‌سره على تفصيله بهذه الرواية مجال.

هذا إلاّ أن العلاّمة المجلسي في أطعمة البحار (٥) وشيخنا النوري في مستدركة (٦) نقلا الرواية كما نقلناه أوّلاً وصرّح في المستدرك بوقوع التحريف والتصحيف في الرواية (٧) وقوّاه شيخنا شيخ الشريعة في رسالته وقال : إنّ أوّل من وقع في تلك الورطة الموحشة هو الشيخ سليمان الماخوري البحراني وتبعه من تبعه من غير مراجعة إلى أصل زيد النرسي. كما أنّ الرواية مختصة بزيد المذكور وليس في أصل زيد الزراد منها عين ولا أثر ، فإسنادها إليه خطأ (٨).

__________________

(١) الجواهر ٦ : ٣٤.

(٢) الحدائق ٥ : ١٥٨.

(٣) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٥٥٣ السطر ٢٤.

(٤) كتاب الطهارة : ٣٦٢ باب النجاسات ( حكم الزبيب إذا غلى ) السطر ٣٢.

(٥) البحار ٦٦ : ٥٠٦ ح ٨.

(٦) تقدّم في ص ١١٧.

(٧) المستدرك ١٧ : ٣٨ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٢ ذيل الحديث ١.

(٨) إفاضة القدير : ٢٤.

١١٨

وكيف كان ، فقد استدل بها على حرمة العصير الزبيبي عند غليانه قبل أن يذهب ثلثاه. والصحيح أن الرواية غير صالحة للاستدلال بها على هذا المدعى ولا لأن يؤتى بها مؤيدة للتفصيل المتقدم نقله ، وذلك لضعف سندها فان زيداً النرسي لم يوثّقه أرباب الرجال ولم ينصّوا في حقه بقدح ولا بمدح. على أنّا لو أغمضنا عن ذلك وبنينا على جواز الاعتماد على روايته نظراً إلى أن الراوي عن زيد النرسي هو ابن أبي عمير وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، فأيضاً لا يمكننا الاعتماد على روايته هذه ، إذ لم تثبت صحة أصله وكتابه الذي أسندوا الرواية إليه ، لأنّ الصدوق وشيخه محمّد بن الحسن بن الوليد قد ضعّفا هذا الكتاب وقالا : إنّه موضوع وضعه محمّد بن موسى الهمداني (١).

والمجلسي قدس‌سره إنما رواها عن نسخة عتيقة وجدها بخط الشيخ منصور بن الحسن الآبي (٢) ، ولم يصله الكتاب بإسناد متصل صحيح ، ولم ينقل طريقه إلينا على تقدير أن الكتاب وصله بإسناد معتبر ، فلا ندري أن الواسطة أيّ شخص ولعله وضّاع أو مجهول ، وأما الأخبار المروية في غير تلك النسخة كتفسير علي بن إبراهيم القمي وكامل الزيارة وعدّة الداعي وغيرها عن زيد النرسي بواسطة ابن أبي عمير ، فلا يدل وجدانها في تلك النسخة على أنها كتاب زيد المذكور واصلة ، وذلك لأنّا نحتمل أن تكون النسخة موضوعة وإنما أدرج فيها هذه الأخبار المنقولة في غيرها تثبيتاً للمدعى وإيهاماً على أنها كتاب زيد واصلة.

وعلى الجملة أنّا لا نقطع ولا نطمئن بأن النسخة المذكورة كتاب زيد كما نطمئن بأن الكافي للكليني والتهذيب للشيخ والوسائل للحر العاملي ( قدس الله أسرارهم ) ، والذي يؤيد ذلك أنّ شيخنا الحر العاملي لم ينقل عن تلك النسخة في وسائله مع أنها كانت موجودة عنده بخطه على ما اعترف به شيخنا شيخ الشريعة قدس‌سره ، بل ذكر على ما ببالي أنّ النسخة التي كانت عنده منقولة عن خط شيخنا الحرّ العاملي‌

__________________

(١) الفهرست للشيخ : ٧١ نقلاً عن فهرست الصدوق.

(٢) البحار ١ : ٤٣.

١١٩

بواسطة (١) وليس ذلك إلاّ من جهة عدم صحّة إسناد النسخة إلى زيد أو عدم ثبوته. وبعد هذا كلّه لا يبقى للرواية المذكورة وثوق ولا اعتبار فلا يمكننا الاعتماد عليها في شي‌ء من المقامات.

ومنها : رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : « سألته عن الزبيب هل يصلح أن يطبخ حتى يخرج طعمه ثم يؤخذ الماء فيطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثم يرفع فيشرب منه السنة؟ فقال : لا بأس به » (٢) حيث نفت البأس عن العصير الزبيبي فيما إذا ذهب عنه ثلثاه ولم تنف البأس عنه قبل ذهابهما. وفيه : أن نفيه عليه‌السلام البأس عن العصير الزبيبي عند ذهاب ثلثيه لم يظهر أنه من أجل حرمته قبل ذهابهما ونجاسته فلا بأس بشربه بعده لحليته وطهارته ، أو أنه مستند إلى أمر آخر مع الحكم بحلية العصير وطهارته قبل ذهاب الثلثين وبعده وهو أن العصير لو بقي سنة من غير إذهاب ثلثيه نش من قبل نفسه وحرم فلا يمكن إبقاؤه للشرب منه سنة إلاّ أن يذهب ثلثاه. نعم ، لا بأس بإبقائه سنة بعد ذهابهما فلا دلالة لها على حرمته قبل ذهابهما ولا على نجاسته ، وهذا الاحتمال من القوة بمكان.

وظنِّي أنّ العصير بجميع أقسامه يشتمل على المادة الألكلية التي هي الموجبة للإسكار على تقدير نضجه ومع الغليان إلى أن يذهب ثلثاه ترتفع عنه المادة المسببة للإسكار فلا يعرضه النشيش وإن بقي سنة أو سنتين أو أكثر ولا ينقلب مسكراً بإبقائه ، ومن هنا ترى أن الدبس في بعض البيوت والدكاكين يبقى سنة بل سنتين من غير أن يعرضه النشيش ، وهذا بخلاف ما إذا لم يذهب ثلثاه لأنه إذا بقي مدّة ووصلت حرارته إلى مرتبة نضج المادة الألكلية فلا محالة ينش وبه يسقط عن قابلية الانتفاع به ، ولعله السر في نفيه عليه‌السلام البأس في الرواية عن إبقاء العصير إلى سنة إذا ذهب عنه ثلثاه ، ومع هذا الاحتمال كيف يمكن الاستدلال بها على حرمة‌

__________________

(١) إفاضة القدير : ٢٤.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٢٩٥ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٨ ح ٢.

١٢٠