موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

[٨٨] مسألة ١٦ : إذا شكّ في التغيّر وعدمه أو في كونه للمجاورة أو بالملاقاة أو كونه بالنجاسة أو بطاهر لم يحكم بالنجاسة (١).

______________________________________________________

من أن يستند إلى ملاقاة النجاسة بالمباشرة لا بالمجاورة ، كما لا كلام في تنجس الماء به إذا علمنا استناده إلى الجزء الداخل فقط ، وأمّا إذا استند إلى مجموع الداخل والخارج فالظاهر أنّه لا يوجب الانفعال لعدم استناد التغيّر إلى ملاقاة النجاسة بالمباشرة ، فإن للجزء الخارج المجاور أيضاً دخالة في التأثير ، وقد أشرنا إليه سابقاً وقلنا إن القول بالنجاسة في هذه الصورة يلزمه القول بالنجاسة فيما إذا استند التأثير إلى خصوص الجزء الخارج أيضاً ، إذ يصح أن يقال إن الماء لاقى الميتة وتغيّر وهو مما لا يمكن الالتزام به.

الشكّ في التغيّر‌

(١) كما إذا شككنا في أصل حدوث الحمرة أو علمنا به قطعاً ، ولم ندر أنّه بالمجاورة أو بالملاقاة ، أو علمنا أنّه بالملاقاة وشككنا في أنّه مستند إلى غسل الدم الطاهر فيه أو إلى غسل الدم النجس. ففي جميع هذه الصور يحكم بطهارة الماء لعين ما قدمناه فيما إذا وقع النجس في الماء وأوجب تغيّره بعد مدة ، وشككنا في أنّه مستند إلى ملاقاة النجاسة أو إلى شي‌ء آخر ، وحاصله : أن الاستصحاب يقتضي البناء على عدم حصول التغيّر في الماء إذا شكّ في أصل حدوثه ، وكذلك إذا شكّ في حصول التغيّر بملاقاة النجس ، وهو أصل موضوعي لا مجال معه للاستصحاب الحكمي ، هذا بناء على أن الموضوع في الاستصحاب هو الماء.

وأمّا بناء على أن الموضوع هو التغيّر ، وعلم بوجود أصل التغيّر ، فمقتضى الاستصحاب الجاري في العدم الأزلي عدم حصول انتساب التغيّر إلى ملاقاة النجاسة ، ومقتضاه عدم نجاسة الماء. وعلى تقدير المنع من جريان الأصل في الأعدام الأزلية تنتهي النوبة إلى قاعدة الطهارة في الماء. هذه خلاصة ما قدّمناه سابقاً وعليك بتطبيقه على محل الكلام.

٨١

[٨٩] مسألة ١٧ : إذا وقع في الماء دم وشي‌ء طاهر أحمر فاحمرّ بالمجموع ، لم يحكم بنجاسته (١).

______________________________________________________

استناد التغيّر إلى الطاهر والنجس‌

(١) ما أفاده في المتن هو الصحيح والوجه فيه : أن الطاهر والنجس الواقعين في الماء تارة يكون كل واحد منهما قابلاً لأن يؤثر بمجرده في الماء ، ويحدث فيه التغيّر في شي‌ء من أوصافه الثلاثة ولو ببعض مراتبها النازلة كأحداث الصفرة فيه. وأُخرى لا يكون كل واحد منهما قابلاً لإحداث التغيّر في الماء بل يستند تغيره إلى مجموعهما.

أمّا الأوّل : فكما إذا صببنا مقداراً من الدم الطاهر ومقداراً من الدم النجس على ماء واحمرّ الماء بذلك ، وكان كل واحد من الدمين قابلاً لأن يؤثر في لون الماء بوحدته ولو ببعض مراتبه ، إلاّ أنّهما اجتمعا في مورد من باب الاتفاق وأثّرا في احمرار الماء معاً فاستندت الحمرة إلى كليهما ، ولا إشكال في نجاسة الماء في هذه الصورة قطعاً ، لأن المفروض أن كل واحد منهما قد أثّر في تغيّر الماء بالدم فالحمرة مستندة إلى كل واحد منهما عرفاً ، كما أن النور قد يستند إلى كلا السراجين عرفاً إذا أسرجناهما في مكان واحد ، فالتغيّر الحسي مستند إلى كل من الطاهر والنجس فيتنجس به الماء. والظاهر أن هذه الصورة خارجة عن محط نظر الماتن قدس‌سره.

وأمّا الثاني : فكما إذا القي على الماء شيئان أحدهما طاهر والآخر نجس ، واستند تغيّر الماء إلى مجموعهما من دون أن يكون كل منهما مؤثراً فيه بالاستقلال ولو ببعض المراتب النازلة ، ففي هذه الصورة لا يحكم بنجاسة الماء لعدم استناد التغيّر إلى خصوص ملاقاة النجس بل إليها وإلى غيرها ، وهو لا يكفي في الحكم بالانفعال ، ولعلّ هذه الصورة هي مراد السيد ( طاب ثراه ) أو أن نظره إلى الصورة المتقدمة ، إلاّ أنّه حكم فيها بعدم النجاسة من أجل التدقيق الفلسفي لاستحالة استناد البسيط إلى شيئين ، وهذا يجعل تأثير كل واحد من الطاهر والنجس تقديرياً لاستحالة تأثيرهما فعلاً والله العالم بحقائق الأُمور.

٨٢

[٩٠] مسألة ١٨ : الماء المتغيّر إذا زال تغيّره بنفسه من غير اتصاله بالكرّ أو الجاري لم يطهر نعم ، الجاري والنابع إذا زال تغيّره بنفسه طهر لاتصاله بالمادّة ، وكذا البعض من الحوض إذا كان الباقي بمقدار الكرّ كما مرّ (١).

______________________________________________________

زوال تغيّر الماء بنفسه‌

(١) أي من غير إلقاء كر عليه أو من غير اتصاله بالجاري ونحوهما. والكلام فيه في مقامين :

أحدهما : فيما إذا كان الماء قليلاً.

وثانيهما : فيما إذا كان معتصماً.

أمّا المقام الأوّل : فالكلام فيه تارة من حيث الأدلّة الاجتهادية ، وأُخرى من حيث الأُصول العملية. أمّا من حيث الدليل الاجتهادي فقد ادعي الإجماع على أن الماء المتغيّر القليل إذا زال عنه تغيّره بنفسه يبقى على نجاسته. وهذا الإجماع المدعى إن تمّ فهو ، وعلى تقدير أن لا يتم الإجماع التعبدي فيتمسك في الحكم بالنجاسة بالإطلاقات على ما ستعرف ، ومع الغض عنها فتنتهي النوبة إلى الأُصول العملية ويأتي تفصيلها في البحث عن المتغيّر الكثير إن شاء الله.

وأمّا المقام الثاني : فالكلام فيه أيضاً تارة من ناحية الأصل العملي ، وأُخرى من جهة الدليل الاجتهادي. أمّا من ناحية الأُصول العملية فقد استدلّ على نجاسة الماء المذكور بعد زوال تغيّره بالاستصحاب للعلم بنجاسته حال تغيّره ، فإذا شككنا في بقائها وارتفاعها بزوال تغيّره بنفسه فمقتضى الاستصحاب بقاؤها. وجريان الاستصحاب في المقام يبتني على القول بجريانه في الأحكام الكلية الإلهية وعدم تعارضه باستصحاب عدم الجعل في أزيد من المقدار المتيقن ، وأمّا بناء على ما سلكناه من المنع عن جريان الاستصحاب في الأحكام فالاستصحاب ساقط لا محالة ونأخذ بالمقدار المتيقن من الحكم بالنجاسة ، وهو زمان بقاء التغيّر بحاله ، ونرجع فيما زاد عليه إلى قاعدة الطهارة في كل من الكر والقليل.

٨٣

وأمّا من جهة الأدلّة الاجتهادية فقد استدلّ على طهارة المتغيّر الكثير بعد زوال تغيّره من قبل نفسه بوجوه :

منها : ما ورد من أن الماء إذا بلغ كراً لم يحمل خبثاً (١). فإنّه بعمومه يشمل الدفع والرفع كليهما فكما أنّه لا يحمل الخبث ويدفعه كذلك يرفعه إذا كان عليه خبث ، وإنّما خرجنا عن عمومه في زمان التغير خاصة للأدلّة الدالّة على نجاسة الماء المتغيّر ، فإذا زال عنه تغيّره فلا بدّ من الحكم بطهارته لأن المرجع في غير زمان التخصيص إلى عموم العام دون الاستصحاب ، إذ العموم والإطلاق يمنعان عن الاستصحاب بالبداهة كما بيّنّاه في بحث الأُصول وفي بحث الخيارات من كتاب المكاسب (٢).

والجواب عن ذلك بوجهين : فتارة بضعف سند الرواية ، وأُخرى بضعف دلالتها لأن ظاهر قوله عليه‌السلام « لم يحمل » أنّه يدفع الخبث ولا يتحمّله إذا القي عليه لا أنّه يرفعه بعد تحميل الخبث عليه بوجه. ثم لو تنزلنا فلا أقل من إجمال الرواية لتساوى احتمالي شمولها للرفع وعدمه.

كذا قيل ولكنه قابل للمناقشة لأن « لم يحمل » بمعنى لا يتّصف وهو أعم من الرفع والدفع كما سيظهر وجهه عند التعرض لحكم الماء القليل المتنجس المتمم كراً إن شاء الله (٣).

ومنها : أن الحكم بالنجاسة إنّما أُنيط على عنوان المتغيّر شرعاً بحسب الحدوث‌

__________________

(١) المستدرك ١ : ١٩٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٦ عن عوالي اللئالي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونسبه المحقق قدس‌سره في المعتبر [ ١ : ٥٢ ٥٣ ] إلى السيد والشيخ وقال : إنّا لم نروه مسنداً والذي رواه مرسلاً المرتضى والشيخ أبو جعفر وآحاد ممّن جاء بعده ، والخبر المرسل لا يعمل به. وكتب الحديث عن الأئمة عليهم‌السلام خالية منه أصلاً. وفي سنن البيهقي ص ٢٦٠ المجلد ١ إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث « لم يحمل خبثاً » وكذا في سنن أبي داود كما قدّمنا في محلّه فراجع ص ٢٠٤.

(٢) مصباح الفقاهة ٦ : ٣٢٧.

(٣) في ص ٢٠٤.

٨٤

والبقاء كما في غيرها من الأحكام وموضوعاتها ، مثلاً حرمة شرب الخمر أُنيطت على عنوان الخمر حدوثاً وبقاءً ، فكما أن الحرمة تدور مدار وجود موضوعها وترتفع بارتفاعه ، فلتكن النجاسة أيضاً مرتفعة عند ارتفاع موضوعها وهو التغيّر.

وهذا الاستدلال مجرد دعوى لا برهان لها ، لأن الدليل إنّما دلّ على أن الماء إذا تغيّر يحكم عليه بالنجاسة ، وأمّا أن التغيّر إذا ارتفع ترتفع نجاسته فهو مما لم يقم عليه دليل ولا يستفاد من شي‌ء من الأخبار ، فهي ساكتة عن حكم صورة ارتفاع التغيّر عن الماء ، بل يمكن أن يقال إن مقتضى إطلاقاتها نجاسة الماء المتغيّر مطلقاً زال عنه تغيّره أم لم يزل.

ومنها : صحيحة ابن بزيع لقوله عليه‌السلام فيها : « حتى يذهب الريح ويطيب طعمه » حيث إنّه عليه‌السلام بيّن أن العلّة في طهارة ماء البئر هي زوال التغيّر عن طعمه ورائحته فيستفاد منها أن كل متغيّر يطهر بزوال تغيّره.

وهذا الاستدلال يبتني على أمرين : أحدهما : أن تكون « حتى » تعليلية لا غائية فكأنه عليه‌السلام قال ينزح ماء البئر ويطهر بذلك لعلّة زوال ريحه وطعمه. وثانيهما : أن يتعدى من موردها وهو ماء البئر إلى جميع المياه وإن لم يكن لها مادّة وهذان الأمران فاسدان.

أمّا الأمر الأوّل : فلأن المنع فيه ظاهر ، لأن ظاهر « حتى » في الرواية أنّه غاية للنزح بمعنى أنّه ينزح إلى مقدار تذهب به رائحته ويطيب طعمه ، كما هو ظاهر غيرها من الأخبار. نعم احتمل شيخنا البهائي قدس‌سره كونها تعليلية كما تقدّم نقله (١) وربّما يستعمل بهذا المعنى أيضاً في بعض الموارد فيقال : أسلم حتى تسلم إلاّ أن حملها على التعليلية في المقام خلاف الظاهر من جهة سائر الأخبار ، وظهور نفس كلمة « حتى » في إرادة الغاية دون التعليل.

__________________

(١) في ص ٧٧.

٨٥

وأمّا الأمر الثاني : فلأنّا لو سلّمنا أن كلمة « حتى » تعليلية فلا يمكننا التعدِّي عمّا له مادّة وهو البئر إلى غيره مما لا مادّة له ، فإن التعليل ربّما يكون بأمر عام كما ورد (١) في الخمر من أنّ الله لم يحرّم الخمر لاسمه بل لخاصيته التي هي الإسكار ، وفي مثله لا مانع من التعدِّي إلى كل مورد وجد فيه ذلك الأمر لأنّه العلّة للحكم فيدور مداره لا محالة. وأُخرى يكون التعليل بأمر خاص فلا مجال للتعدي في مثله أصلاً كما هو الحال في المقام فإنّه عليه‌السلام علل حكمه هذا بذهاب الريح وطيب طعمه ، والمراد بالريح هو ريح ماء البئر خاصة لقوله قبل ذلك : « إلاّ أن يتغيّر ريحه .... » فإن الضمير فيه كالضمير في قوله : ويطيب طعمه يرجعان إلى ماء البئر لا إلى مطلق الماء ، ومع اختصاص التعليل لا وجه للتعدي عن مورده ، بل مقتضى إطلاق قوله عليه‌السلام « لا يفسده شي‌ء إلاّ أن يتغيّر ... » أن تغيّر ريح الماء أو طعمه يوجب التنجيس مطلقاً سواء أزال عنه بعد ذلك أم لم يزل ، نظير إطلاق ما دلّ على نجاسة ملاقي النجس ، فإنّه يقتضي نجاسة الملاقي مطلقاً سواء أشرق عليه الشمس مثلاً أم لم تشرق وسواء أكانت الملاقاة باقية أم لم تكن ، وكذا إطلاق ما دلّ على عدم جواز التوضؤ بما تغيّر ريحه أو طعمه (٢) ، فإنّه بإطلاقه يشمل ما إذا زال عنه التغير أيضاً ومن هنا لا نحكم بجواز التوضؤ من مثله.

وعلى الجملة لا يمكن التعدي من الصحيحة إلى غير موردها لاختصاص تعليلها ولا أقل من احتمال التساوي والإجمال ، فلا يبقى حينئذٍ في البين ما يقتضي طهارة المتغيّر بعد زوال تغيّره بنفسه ، حتى يعارض التمسك بالاطلاقين المقتضيين لنجاسته فالترجيح إذن مع الأدلّة الدالّة على نجاسته.

__________________

(١) في صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي قال : « إن الله عزّ وجلّ لم يحرم الخمر لاسمها ولكن حرمها لعاقبتها » وفي رواية أُخرى : « حرمها لفعلها وفسادها » ، الوسائل ٢٥ : ٣٤٢ / أبواب الأشربة المحرمة ب ١٩ ح ١ ، ٣.

(٢) كما في صحيحة حريز ، وروايتي أبي بصير ، وأبي خالد القماط وغيرها من الأخبار المروية في الوسائل ١ : ١٣٧ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١ ، ٣ ، ٤.

٨٦

فصل

[ في الماء الجاري ]

فصل في الماء الجاري الماء الجاري وهو : النابع السائل (١) على وجه الأرض ، فوقها أو تحتها كالقنوات

______________________________________________________

فصل في حكم الماء الجاري‌

(١) قد اعتبر المشهور في موضوع الجاري أمرين : النبع والسيلان على وجه الأرض فوقها أم تحتها ، كما في بعض القنوات ، والنسبة بين العنوانين عموم من وجه لتصادقهما في الماء الجاري الفعلي الذي له مادّة ، وافتراقهما في العيون ، لأنّها نابعة ولا سيلان فيها ، وفيما يجري من الجبال من ذوبان ما عليها من الثلوج فإنّه سائل لا نبع فيه. وعلى هذا التعريف لا يكفي مجرد النبع من غير السيلان في تحقق موضوع الجاري عندهم كما في العيون ، وإن كانت معتصمة لأجل مادتها ، فلا يترتب عليها الأحكام الخاصة المترتبة على عنوان الجاري ، ككفاية غسل الثوب المتنجس بالبول فيه مرة واحدة ، وكذا السائل من غير نبع لا يكون داخلاً في موضوع الجاري كما مر. هذا ما التزم به المشهور.

وقد يقال بكفاية النبع ومجرد الاستعداد والاقتضاء للجريان لولا المانع كارتفاع أطرافه ونحوه ، وعدم اعتبار الجريان الفعلي في مفهوم الجاري وعليه فالعيون أيضاً داخلة في موضوع الجاري ، لأنّها نابعة ، ومستعدة للجريان لولا ارتفاع أطرافها (١).

وعن ثالث كفاية مجرد السيلان الفعلي ، وإن لم يكن له نبع ولا مادّة أصلاً.

والصحيح ما التزم به المعروف من اعتبار كلا الأمرين في موضوع الجاري أمّا اعتبار الجريان فعلاً : فلأنّه الظاهر المتبادر من إطلاقه دون ما فيه استعداد الجريان وقابليته لولا المانع ، فالروايات المشتملة على عنوان الجاري منصرفة إلى ما يكون‌

__________________

(١) المسالك ١ : ١٢.

٨٧

جارياً بالفعل ، فلا تشمل ما هو كذلك شأناً واقتضاءً ، ولعلّ من يرى دخول العيون في الجاري ينظر إلى اعتصامها بمادتها ، وهو حق إلاّ أن الكلام فيما هو موضوع الجاري لتترتّب عليه أحكامه الخاصة لا في الماء المعتصم.

وأمّا اعتبار النبع فقد ذكروا أن الجاري لا يطلق إلاّ على ما يكون نابعاً عن الأرض ويكون له مادّة ، وأمّا مجرد السيلان فهو لا يكفي في إطلاق الجاري عليه ، نعم الجاري لغة أعم من أن يكون له مادّة ونبع أم لم يكن حتى أنّه يشمل الجاري من المزملة والأنابيب ، وما يراق من الحب على وجه الأرض إلاّ انّه عرفاً يختص بما له مادّة ونبع ، وهو الذي يقابل سائر المياه. وقد ادعى الإجماع في جامع المقاصد وغيره على اعتبار النبع في الجاري وذكر ان الأصحاب لم يخالفوا فيه غير ابن أبي عقيل حيث اكتفى بمجرد السيلان والجريان وإن لم يكن له مادّة ونبع (١).

والتحقيق في المقام أن يقال : إن أراد ابن أبي عقيل بهذا الكلام كفاية مطلق الجريان في صدق الجاري وإن لم يكن لجريانه استمرار ودوام ، كجريان الماء على وجه الأرض بإراقة الكوز والإبريق ونحوهما ، فالإنصاف أنّه مخالف لمفهوم الماء الجاري عرفاً ، وإن أراد أن الماء إذا كان له جريان على وجه الدوام فهو يكفي في صدق عنوان الجاري عليه وإن لم يكن له مادّة ونبع ، فالظاهر أن ما أفاده هو الحق الصريح ولا مناص من الالتزام به. والوجه في ذلك : أن توصيف ماء بالجريان مع أنّه لا ماء في العالم إلاّ وهو جار فعلاً أو كان جارياً سابقاً ، لا معنى له إلاّ أن يكون الجريان ملازماً له دائماً ليصح بذلك توصيفه بالجاري وجعله قسماً مستقلا مع أن الجريان ربّما يتحقق في غيره أيضاً وهو كتوصيف زيد بكثرة الأكل أو السفر لأنّه إنّما يصح فيما إذا كان زيد كذلك غالباً أو دائماً لا فيما إذا اتصف به في مورد ، وكذا الحال في توصيفه بغيرهما من العناوين. وعليه فلا يصح توصيف الماء بالجريان إلاّ فيما كان الجريان وصفاً لازماً له ولا يفرق في هذا بين أن يكون له مادّة ونبع كما في القنوات وأن لا يكون له شي‌ء منهما كما في الأنهار المنهدرة عن الجبال المستندة إلى ذوبان ثلوجها شيئاً فشيئاً باشراق‌

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ١١٠.

٨٨

لا ينجس بملاقاة النجس ما لم يتغيّر ، سواء كان كرّاً أو أقل (١)

______________________________________________________

الشمس وحرارة الهواء ، فهو جار مستمر من دون أن يكون له مادّة ولا نبع. ومنع صدق الجاري على مثله مخالف للبداهة والوجدان كما في شطي الدجلة والفرات حيث لا مادّة لهما على ما ذكره أهله وإنّما ينشئان من ذوبان ثلوج الجبال ، ونظائرهما كثيرة غير نادرة ، نعم ، الجريان ساعة أو يوماً لا يصحح صدق عنوان الجاري على الماء فالنبع والمادّة بالمعنى المصطلح عليه غير معتبرين في مفهوم الجاري بوجه ، نعم يعتبر فيه النبع بمعنى الدوام والاستمرار ، هذا كلّه في موضوع الجاري.

بقي الكلام في اعتبار أمر آخر في موضوعه وهو أن الجريان هل يلزم أن يكون بالدفع والفوران أو أنّه إذا كان على نحو الرشح أيضاً يكفي في صدق موضوعه؟ ويأتي الكلام على ذلك بعد بيان أحكام الجاري إن شاء الله.

(١) قد ذكروا أن الجاري لا ينفعل بملاقاة النجاسة ما لم يتغيّر بأحد أوصاف النجس ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الجاري بمقدار كر أو أقل وذهب العلاّمة في أكثر كتبه (١) والشهيد الثاني قدس‌سرهما (٢) إلى انفعاله فيما إذا كان أقل من كر.

أمّا تنجسه فيما إذا تغيّر بأحد أوصاف النجس ، فقد تكلمنا فيه على وجه التفصيل فراجع ، وأمّا عدم انفعاله بملاقاة النجس إذا لم يتغيّر به وكان بقدر كر فالوجه فيه ظاهر ، إذ الكر لا ينفعل بالملاقاة مطلقاً ، كان جارياً أم كان واقفاً ، وإنّما الكلام في عدم انفعاله بالملاقاة عند كونه قليلاً ويقع الكلام فيه في مقامين :

أحدهما : فيما دلّ على أن الجاري لا ينفعل بملاقاة النجس وإن كان قليلاً.

وثانيهما : في معارضة ذلك لما دلّ على انفعال الجاري بالملاقاة فيما إذا كان قليلاً.

أدلّة اعتصام الجاري القليل‌

أمّا الكلام في المقام الأوّل : فقد استدلّ المحقق الهمداني قدس‌سره على اعتصام‌

__________________

(١) التذكرة ١ : ١٧.

(٢) المسالك ١ : ١٢.

٨٩

الجاري القليل بما ورد في عدّة من الأخبار من أنّه لا بأس ببول الرجل في الجاري لأن ظاهرها السؤال عن حكم الماء الذي يبال فيه لا عن حكم البول في الماء وقد دلت على نفي البأس عنه ، وهذا بظاهره يقتضي عدم انفعال الجاري بالبول مطلقاً وإن كان قليلاً (١).

ويدفعه : أن هذه الأخبار أجنبية عن الدلالة على المدعى غير رواية واحدة منها وتوضيحه أن الروايات المذكورة على طائفتين :

إحداهما : وهي الأكثر ناظرة إلى بيان حكم البول في الجاري من حيث حرمته وكراهته ، ولا نظر لها إلى بيان حكم الجاري من حيث الانفعال وعدمه ، لأن السائل فيها إنّما سأل عن البول في الجاري ، لا عن الماء بعد البول فيه ، فمن هذه الطائفة صحيحة الفضيل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا بأس بأن يبول الرجل في الماء الجاري ... » (٢) ورواية ابن مصعب قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يبول في الماء الجاري؟ قال : لا بأس به إذا كان الماء جارياً » (٣) ونظيرهما غيرهما فراجع. فإنّهما ناظرتان إلى بيان حكم البول في الجاري من حيث الحرمة والكراهة ولا نظر فيهما إلى طهارة الماء ونجاسته بالبول.

اللهمّ إلاّ أن يقال بدلالتهما على طهارة الجاري بالالتزام ، لأن بيان انفعال الجاري بوقوع البول فيه إنّما هو وظيفة الإمام عليه‌السلام وبيانه عليه ، فلو كان الجاري ينفعل بذلك لكان على الإمام عليه‌السلام أن يبين نجاسته ، وحيث إنّه سكت عن بيانها ، فيعلم منه عدم انفعال الجاري بملاقاة النجس ، كما يدعى ذلك في الأخبار الدالّة على كفاية الغسل في الجاري مرّة (٤) ويقال إن غسل النجس في الجاري لو كان سبباً‌

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٧ السطر ٣٥.

(٢) الوسائل ١ : ١٤٣ / أبواب الماء المطلق ب ٥ ح ١.

(٣) الوسائل ١ : ١٤٣ / أبواب الماء المطلق ب ٥ ح ٢.

(٤) منها صحيحة محمد بن مسلم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الثوب يصيبه البول؟ قال : اغسله في المركن مرتين فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة » ، المروية في الوسائل ٣ : ٣٩٧ / أبواب النجاسات ب ٢ ح ١.

٩٠

لانفعاله لبيّنه عليه‌السلام لأنّه من وظائف الإمام ، فمن عدم بيانه يظهر أن الجاري لا ينفعل بملاقاة النجس.

ويدفعه : أن بيان حكم الماء من حيث نجاسته وطهارته وإن كان وظيفة الإمام عليه‌السلام إلاّ أنّه ليس بصدد بيانهما في هذه الأخبار ، ولا في روايات كفاية الغسل مرة في الجاري ، ومع أنّه عليه‌السلام ليس في مقام البيان كيف يسند إليه الحكم بطهارة الجاري.

ومما يدلنا على ذلك أنّه عليه‌السلام في تلك الأخبار قد أمر بغسل الثياب في المركن مرتين ولم يبيّن نجاسة الماء الموجود في المركن ، مع أنّه ماء قليل ، ولا إشكال في انفعاله بالملاقاة ، فهل يصح الاستدلال على طهارة الماء الموجود في المركن بعدم بيانه عليه‌السلام نجاسة الماء.

وثانيتهما : ما تضمّن السؤال عن حكم الماء الجاري الذي يبال فيه ، ولا بأس بدلالتها على عدم انفعال الجاري بملاقاة النجس مطلقاً ولو كان قليلاً ، وهي موثقة سماعة قال : « سألته عن الماء الجاري يبال فيه؟ قال : لا بأس به » (١) ودلالتها على طهارة الجاري القليل ظاهرة لإطلاقها.

ودعوى : أن الجاري القليل في غاية الندرة وقليل الوجود وهو بحكم المعدوم والأخبار ناظرة إلى الجاري كثير الدوران والوجود ، وهو الجاري الكثير فلا تشمل الجاري القليل. مدفوعة : بأنّها إنّما تتم في بعض الأمكنة ولا تتم في جميعها وقد شاهدنا الجاري القليل في بلادنا وغيرها كثيراً ، فالروايات تشمل لكل من الجاري الكثير والقليل.

هذا ويمكن أن يقال : لا دلالة على اعتصام الجاري في الطائفة الثانية أيضاً ، لأن السؤال في مثلها كما يمكن أن يكون عن الموضوع والمسند إليه ، كذلك يمكن أن يكون عن المحمول والمسند ، فكما يصح إرجاع « لا بأس به » إلى الماء الجاري الذي هو المسند إليه ، كذلك يمكن إرجاعه إلى البول المستفاد من جملة « يبال فيه » الذي هو‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٣ / أبواب الماء المطلق ب ٥ ح ٤.

٩١

المسند وبذلك تصير الرواية مجملة ونظير هذا في الأخبار كثير :

منها : ما في صحيحة الحلبي قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يغتسل بغير إزار حيث لا يراه أحد؟ قال : لا بأس » (١). فإن قوله عليه‌السلام لا بأس يرجع إلى الاغتسال لا إلى الرجل الذي هو المسند إليه.

ومنها : ما ورد في صلاة النافلة : من أن الرجل يصلي النافلة قاعداً وليست به علّة في سفر أو حضر فقال : لا بأس به (٢) فإنّه يرجع إلى صلاة النافلة حال الجلوس لا إلى الرجل كما هو ظاهر ، وكيف كان فيحتمل أن يكون الضمير في المقام أيضاً راجعاً إلى البول في الماء الجاري لا إلى الماء الجاري نفسه ، بل مغروسية كراهة البول في الماء في الأذهان تؤكد رجوع قوله « لا بأس به » إلى البول في الماء الجاري.

واستدلّ على اعتصام الجاري القليل ثانياً بمرسلة الراوندي عن علي عليه‌السلام : « الماء الجاري لا ينجسه شي‌ء » (٣) ورواية الفقه الرضوي : « كل ماء جار لا ينجسه شي‌ء » (٤) وخبر دعائم الإسلام عن علي عليه‌السلام في الماء الجاري يمر بالجيف والعذرة والدم : « يتوضأ منه ويشرب منه وليس ينجسه شي‌ء ... » (٥).

ولا فرق بين الأوليين إلاّ في أن دلالة إحداهما بالعموم ، ودلالة الأُخرى بالإطلاق ، ولا إشكال في دلالة الروايات المذكورة على المدعى إلاّ أن مرسلة الراوندي ضعيفة بإرسالها ، ورواية الدعائم أيضاً مما لا يصح الاعتماد عليه ، وهذا لا لأجل ضعف مصنفه وهو القاضي نعمان المصري فإنّه فاضل جليل القدر ، بل من جهة إرسال رواياته على ما قدمناه في بحث المكاسب مفصّلاً (٦) وأمّا الفقه الرضوي فهو لم‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٤٣ / أبواب آداب الحمّام ب ١١ ح ١.

(٢) كما في رواية سهل بن اليسع المروية في الوسائل ٥ : ٤٩٢ / أبواب القيام ب ٤ ح ٢.

(٣) نوادر الراوندي : ٣٩ ( المستدرك ١ : ١٩١ / أبواب الماء المطلق ب ٥ ح ٤ ).

(٤) فقه الرضا : ٥ ( المستدرك ١ : ١٩٢ / أبواب الماء المطلق ب ٥ ح ٦ ).

(٥) دعائم الإسلام : ١١١ ( المستدرك ١ : ١٩١ / أبواب الماء المطلق ب ٥ ح ٢ ).

(٦) مضمون رواية الدعائم وإن ورد في كتاب الجعفريات : ١ أيضاً وكنّا نعتمد على ذلك الكتاب

٩٢

يثبت حجيته بل لم تثبت أنّه رواية ليدعى انجبارها بعمل المشهور على ما أشرنا إليه غير مرة.

واستدلّ على اعتصام الماء الجاري ثالثاً والمستدل هو المحقق الهمداني (١) بما ورد في تطهير الثوب المتنجس بالبول من الأمر بغسله في المركن مرتين وفي الماء الجاري مرة واحدة (٢) ، وقد استدلّ بها بوجهين :

أحدهما : أن الجاري لو كان ينفعل بملاقاة النجس لبيّنه عليه‌السلام حيث إن بيان نجاسة الأشياء وطهارتها وظيفة الإمام ، وبما أنّه في مقام البيان ، وقد سكت عن بيانه ، فنستفيد منه عدم انفعال الجاري بالملاقاة.

وثانيهما : أن من شرائط التطهير بالماء القليل أن يكون الماء وارداً على النجس ولا يكفي ورود النجس على الماء لأنّه ينفعل بملاقاة النجس ومع الانفعال لا يمكن أن يطهر به المتنجس بوجه ، وهذا كما إذا وضع أحد يده المتنجسة على ماء قليل فإنّه ينجس القليل لا محالة فلا يطهر به المتنجس بوجه ، وهذا ظاهر وقد استفدنا ذلك من الأخبار الآمرة بصب الماء على المتنجس مرّة أو مرّتين (٣). وهذه الرواية قد فرضت ورود النجاسة على الجاري لقوله عليه‌السلام : « اغسله في المركن مرّتين فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة ». فلو لا إلحاقه عليه‌السلام الجاري مطلقاً إلى الكر الذي لا ينفعل بوقوع النجس عليه ، لم يكن وجه لحكمه عليه‌السلام بطهارة الثوب المتنجس بالبول فيما إذا غسلناه في الجاري ، بل اللاّزم أن يحكم حينئذٍ بانفعال الجاري القليل لوقوع النجس عليه ، فالرواية دلت بالدلالة المطابقية على عدم انفعال الجاري بملاقاة النجس تنزيلاً له منزلة الكر في الاعتصام ، سواء أوقع الجاري على النجس أم‌

__________________

في سالف الزمان إلاّ أنّا رجعنا عنه أخيراً لأن في سند الكتاب موسى بن إسماعيل ولم يتعرضوا لوثاقته في الرجال فلا يمكن الاعتماد عليه.

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٨ السطر ١١.

(٢) وهي صحيحة محمد بن مسلم المروية في الوسائل ٣ : ٣٩٧ / أبواب النجاسات ب ٢ ح ١.

(٣) كما في رواية أبي إسحاق النحوي المروية في الوسائل ٣ : ٣٩٥ / أبواب النجاسات ب ١ ح ٣ ، ورواية الحلبي في الوسائل ٣ : ٣٩٧ / أبواب النجاسات ب ٣ ح ٢.

٩٣

وقع النجس عليه.

أمّا الجواب عن أوّل الوجهين فبما تقدّم من أن بيان طهارة الأشياء ونجاستها وإن كان وظيفة الإمام ، إلاّ أن استفادة الطهارة من عدم حكمه عليه‌السلام بالنجاسة إنّما يتم فيما إذا كان عليه‌السلام في مقام البيان من تلك الناحية ، وليس الإمام في الرواية بصدد بيان أن الجاري لا ينفعل بالملاقاة ، وإنّما هو بصدد بيان أن المتنجس بالبول لا بدّ من أن يغسل في المركن مرتين وفي الجاري مرة واحدة ، ومع عدم كونه في مقام البيان كيف يمكن أن يتمسك بإطلاق كلامه.

وأمّا الجواب عن ثاني الوجهين فهو أن ما أفاده من اعتبار ورود الماء القليل على النجس في التطهير به أوّل الكلام ، وهي مسألة خلافية لا يمكن أن يستدل بها على شي‌ء وسيأتي منّا في محلّه (١) عدم اعتبار ذلك في غير الغسلة التي يتعقبها طهارة المحل وفي غسل الثوب المتنجس بالبول في المركن لإطلاق صحيحة محمد بن مسلم فانتظره ، هذا أوّلاً.

وثانياً : هب أنّا اعتبرنا ورود الماء على النجس في التطهير به ، إلاّ أنّه لا مانع من الالتزام بتخصيص ما دلّ على اعتبار ذلك بإطلاق تلك الصحيحة ، فبها نخرج عمّا يقتضيه دليل اعتبار الورود في خصوص الجاري القليل ، فإن اعتباره على تقدير القول به لم يثبت بدليل لفظي مطلق حتى تقع بينهما المعارضة ، وسيتّضح ذلك في محلّه زائداً على ذلك إن شاء الله.

ثم إنّه ليس فيما ذكرناه أيّ تناف للالتزام بنجاسة الغسالة ، ولا مانع من أن نكتفي بورود النجس على الماء في التطهير به ونلتزم بنجاسة غسالته بعد غسله فلا تغفل.

واستدلّ على اعتصام الجاري القليل رابعاً بصحيحة داود بن سرحان قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما تقول في ماء الحمّام؟ قال : هو بمنزلة الماء الجاري » (٢) وقد شبّه ماء الحمّام بالماء الجاري مطلقاً ، فيستفاد منها أن الجاري بإطلاقه معتصم‌

__________________

(١) قبل المسألة [٣٠٨].

(٢) الوسائل ١ : ١٤٨ / أبواب الماء المطلق ب ٧ ح ١.

٩٤

سواء أكان قليلاً أم كان كثيراً.

وقد يناقش في دلالتها بأن وجه الشبه فيها غير معلوم ، ولم يعلم أن الإمام عليه‌السلام شبّه ماء الحمّام بالجاري في أيّ شي‌ء فالرواية مجملة.

وهذه المناقشة لا ترجع إلى محصّل لأنّ تشبيه ماء الحمّام بالجاري موجود في غيرها من الأخبار أيضاً ، والمستفاد منها أن التشبيه إنّما هو من حيث الاعتصام ، وذلك دفعاً لما ربّما يتوهّم من أن ماء الحمّام قليل في حدِّ نفسه فينفعل بالملاقاة لا محالة ومعه كيف يتطهّر به بمجرّد اتصاله بمادته بالانبوب أو بغيره ، فإنّ للحمّامات المتعارفة مادّة جعلية بمقدار الكر بل بأضعافه وتتصل بما في الأحواض الصغيرة بالأنابيب أو بغيرها ، وفي مثلها قد يتوهّم الانفعال نظراً إلى أنّ المادّة الجعلية أجنبية ومنفصلة عمّا في الحياض ، ومجرّد الاتصال بالانبوب لا يكفي عند العرف في الاعتصام لاختلاف سطحي الماءين فتصدّى عليه‌السلام لدفع ذلك بأن ماء الحمّام كالجاري بعينه ، فكما أنّه عاصم لاتصاله بمادته كذلك ماء الحمّام غاية الأمر أن المادّة في أحدهما أصلية وفي الآخر جعلية.

فالصحيح في الجواب أن يقال : إن نظرهم عليهم‌السلام في تلك الروايات إلى دفع توهّم الانفعال بتنزيل ماء الحمّام منزلة الماء الجاري ، ومن الظاهر أن المياه الجارية في أراضي العرب والحجاز منحصرة بالجاري الكثير ، ولا يوجد فيها جار قليل وإن كان يوجد في أراضي العجم كثيراً ، فالتنظير والتشبيه بلحاظ أن الجاري الكثير كما أنّه معتصم لكثرته ، ويتقوّى بعضه ببعض لا بمادته فإنّها ليست بماء كما يأتي كذلك ماء الحمّام يتقوّى بعضه ببعض ، ولو لأجل مجرّد الاتصال بانبوب أو بغيره ، فوزان هذه الرواية وزان ما ورد من : « أنّ ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضاً » (١) بمعنى أنّه يمنع عن عروض النجاسة عليه لكثرته في نفسه لا لأجل مادته. فإذن لا نظر في الرواية إلى اعتصام الجاري بالمادّة مطلقاً قليلاً كان أم كثيراً وتشبيه‌

__________________

(١) كما في رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قلت أخبرني عن ماء الحمّام يغتسل منه الجنب ، والصبيّ ، واليهودي ، والنصراني ، والمجوسي؟ فقال : إنّ ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضاً » المروية في الوسائل ١ : ١٥٠ / أبواب الماء المطلق ب ٧ ح ٧.

٩٥

ماء الحمّام به من هذه الجهة.

فإلى هنا لو كنّا نحن وهذه الأدلّة لحكمنا بانفعال الجاري القليل كما ذهب إليه العلاّمة واختاره الشهيد الثاني في بعض كتبه ، إلاّ أنّا لا نسلك مسلكهما ، لا لأجل تلك الأدلّة المزيّفة ، بل لأجل ما أراحنا وأراح العالم كلّه ، وهو صحيحة محمد بن إسماعيل ابن بزيع حيث دلت على عدم انفعال ماء البئر معلّلاً بأن له مادّة ، ولو لا تلك الصحيحة لما كان مناص من الالتزام بما ذهب إليه المشهور من انفعال ماء البئر ولو كان ألف كر.

والوجه في الاستدلال بها في المقام : أن من الظاهر الجلي أن إضافة الاعتصام إلى ماء وتعليله بأن له مادّة ، إنّما تصح فيما إذا كان قليلاً في نفسه ، فإنّه لو كان كثيراً فهو معتصم بنفسه لا محالة من غير حاجة إلى إسناد اعتصامه إلى شي‌ء آخر وهو المادّة وبهذا دلّتنا الصحيحة على أن القليل إذا كان له مادّة فهو محكوم بالاعتصام ، فإذا فرضنا القليل متنجساً واتصل به المادّة فنحكم بطهارته وعصمته لا محالة. هذا إجمال الاستدلال بالصحيحة ، وإن شئت توضيحه فنقول إنّ الاستدلال بالصحيحة من جهتين :

إحداهما : أن الصحيحة دلت على أن ما له مادّة ترتفع النجاسة الطارئة عليه بالتغيّر فيما إذا زال عنه تغيره ، فماء البئر يرفع النجاسة العارضة عليه ، لقوله عليه‌السلام : « فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأن له مادّة » بلا فرق في ذلك بين كثرته وقلته ، لإطلاقها. وإذا ثبت بالصحيحة أن ماء البئر يرفع النجاسة الطارئة عليه ، فيستفاد منها أنّه دافع للنجاسة أيضاً بالأولوية القطعية عرفاً ، من دون فرق في ذلك بين كثرته وقلته ، لأنّ ما يصلح للرفع فهو صالح للدفع أيضاً بالأولوية القطعية وبعد هذا كلّه نتعدى من مورد الصحيحة وهو ماء البئر إلى كل ما له مادّة كالجاري والعيون لعموم تعليلها.

وثانيتهما : أنّا قدّمنا أن ماء البئر إذا زال عن تغيّره ، يحكم بطهارته لاتصاله بالمادّة وعليه فلا يترتّب على الحكم بنجاسة ماء البئر عند ملاقاته النجس ثمرة ، فيصبح لغواً ظاهراً ، فإنّه أي أثر للحكم بنجاسة ماء البئر في آن واحد عقلي وما فائدة ذلك الحكم‌

٩٦

حيث إنّه حين الحكم بنجاسته يحكم بطهارته أيضاً لاتصاله بالمادّة ، وما هذا شأنه كيف يصدر عن الحكيم. وبهذه القرينة القطعية تدلّنا الصحيحة على اعتصام ماء البئر مطلقاً كثيراً كان أم قليلاً وبعد ذلك نتعدّى منها إلى كل ما له مادّة لعموم تعليلها كما مرّ ، هذا كلّه في المقام الأول.

وأمّا الكلام في المقام الثاني : فملخصه أن ما يحتمل أن يكون معارضاً لأدلّة اعتصام الجاري ، هو مفهوم قوله عليه‌السلام : « الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجّسه شي‌ء » (١) ، فإنّه دلّ بمفهومه على أن الماء إذا لم يبلغ قدر كر ينفعل بالملاقاة مطلقاً سواء أكان جارياً أم لم يكن ، وقوله عليه‌السلام : كر (٢) في جواب السؤال عن الماء الذي لا ينجسه شي‌ء من النجاسات ، لأنّه صريح في أنّ غير الكر من المياه ينفعل بملاقاة البول وأمثاله من النجاسات ولو كان جارياً ، ولكن لا تعارض بينهما في الحقيقة وذلك لأن الوجهين المتقدمين في تقريب الاستدلال بالصحيحة يجعلان الصحيحة كالنص فتصير قرينة وبياناً بالإضافة إلى الروايتين المذكورتين ، حيث إنّهما حصرا علّة الاعتصام في الكر ، والصحيحة دلّت على عدم انحصارها فيه وبيّنت أن هناك علّة أُخرى للاعتصام ، وهي الاستمداد من المادّة. وبهذا تتقدم الصحيحة على الروايتين ، ولا يبقى بينهما معارضة بالعموم من وجه حتى يحكم بتساقطهما والرجوع إلى عموم الفوق كالنبويّات التي بيّنّا ضعف سندها ، أو إلى قاعدة الطهارة أو يحكم بعدم تساقطهما والرجوع إلى المرجحات السندية على تفصيل في ذلك موكول إلى محلّه.

ثم لو تنزلنا وبنينا على أنّهما متعارضان ، بأن قطعنا النظر عن ذيل الصحيحة واقتصرنا على صدرها وهو قوله عليه‌السلام : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء » يمكننا الاستدلال أيضاً بصدرها على طهارة ماء البئر على وجه الإطلاق ، فإنّ النسبة بينه وبين ما دلّ على انفعال القليل عموم من وجه ، لأن أدلّة انفعال القليل تقتضي نجاسة القليل بالملاقاة جارياً كان أم غير جار ، وصدر الصحيحة يقتضي عدم نجاسة‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ ، ٢ ، ٥ ، وغيرها.

(٢) وهي صحيحة إسماعيل بن جابر المروية في الوسائل ١ : ١٥٩ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٧.

٩٧

ماء البئر ونحوه مما له مادّة قليلاً كان أم كثيراً فيتعارضان في مادّة الاجتماع وهي ماء البئر القليل ، والترجيح أيضاً مع الصحيحة لما بيّنا في محلّه من أن تقديم أحد العامين من وجه على الآخر إذا استلزم إلغاء ما اعتبر من العنوان في الآخر كان ذلك مرجحاً للآخر ويجعله كالنص فيتقدم على معارضه (١).

والمقام من هذا القبيل لأنّا إذا قدمنا الصحيحة على أدلّة انفعال الماء القليل فلا يلزم منه إلاّ تضييق دائرة أدلّة الانفعال ، وتقييدها بغير البئر ونحوه مما له مادّة وهو مما لا محذور فيه ، لأن التخصيص والتقييد أمران دارجان. وأمّا إذا عكسنا الأمر وقدّمنا أدلّة انفعال القليل على الصحيحة فهو يستلزم الحكم بنجاسة القليل حتى لو كان ماء بئر فينحصر طهارة البئر بما إذا كان كراً ، وهو معنى إلغاء عنوان ماء البئر عن الموضوعية ، فإن الكر هو الموجب للاعتصام كان في البئر أم في غيره فاعتصام البئر مستند إلى كونه كراً ، لا إلى أنّه ماء بئر ، فيصبح أخذ عنوان ماء البئر في الصحيحة لغواً ومما لا أثر له. وحيث إن حمل كلام الحكيم على اللغو غير ممكن ، فيكون هذا موجباً لصيرورة الصحيحة كالنص ، وبه تتقدّم على معارضاتها.

ونظير هذا في الأخبار كثير منها : ما ورد من أن كل شي‌ء يطير فلا بأس بخرئه وبوله (٢) ، وهو عام يشمل الطير المأكول لحمه وما لا يؤكل لحمه كاللقلق والخفافيش ، بناء على أن لها نفساً سائلة ، وورد أيضاً أن البول والخرء من كل ما لا يؤكل لحمه محكومان بالنجاسة (٣) ، وهو أيضاً عام يشمل الطير غير المأكول لحمه‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٣٨٩.

(٢) كما في صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كل شي‌ء يطير فلا بأس ببوله وخرئه » المروية في الوسائل ٣ : ٤١٢ / أبواب النجاسات ب ١٠ ح ١.

(٣) أمّا نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه فلصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « اغسل ثوبك من بول كل ما لا يؤكل لحمه » وغيرها من الأخبار المروية في الوسائل ٣ : ٤٠٥ / أبواب النجاسات ب ٨ ح ٢ ، ٣ وأمّا خرؤه فلأجل عدم الفرق بينه وبين بوله بحسب الارتكاز المتشرعي ، على أنّه يمكن استفادة ذلك من عدّة روايات أُخر تأتي في محلّها إن شاء الله تعالى كما يأتي ما يدل على نجاسة الخرء في بعض الموارد الخاصة كالكلب والإنسان فانتظره. راجع ص ٣٧٣.

٩٨

وسواء كان بالفوران أو بنحو الرشح. ومثله كل نابع وإن كان واقفاً (١).

______________________________________________________

وغير الطير كالهرة ، والنسبة بينهما عموم من وجه فيتعارضان في مادّة اجتماعهما ، وهو الطير غير المأكول لحمه ، فإن قدّمنا الأول على الثاني فلا يلزم منه إلاّ تضيق الدليل الثاني وتخصيصه بغير الطير ولا محذور في التخصيص ، وأمّا إذا عكسنا الأمر ، وقدّمنا الثاني على الأول فيلزم منه تقييد الطير الذي لا بأس بخرئه وبوله بما يؤكل لحمه ، وأمّا ما لا يؤكل لحمه من الطير فهو محكوم بنجاسة كلا مدفوعيه ، وعليه يصبح عنوان الطير المأخوذ في لسان الدليل لغواً ، فإن الحكم وهو الطهارة مترتبة على عنوان ما يؤكل لحمه طيراً كان أو غير طير فأية خصوصية للطير ، وكلام الحكيم يأبى عن اللّغو ، وهذا يصير قرينة على كون الأوّل كالنص وبه يتقدّم على الثاني ويخصِّصه بغير الطائر.

ثم إنّك عرفت أن التعدي من البئر إلى كل ما له مادّة إنّما هو بتعليل الصحيحة ، إلاّ أنّ مقتضاه اختصاص الحكم بالاعتصام في الجاري بما إذا كان له مادّة على نحو الفوران أو على نحو الرشح ، وأمّا الجاري الذي ينشأ من الموارد الثلجية كما هو الأكثر في الأنهار على ما قيل فهو غير داخل في تعليل الرواية إذ لا مادّة له ، ولكنا لما قدّمناه من صدق عنوان الجاري على مثله فلا نرى مانعاً من ترتيب آثار الجاري عليه ككفاية الغسل فيه مرة.

عدم اعتبار الدفع والفوران‌

(١) هل يعتبر في الجريان أن يكون بالدفع والفوران أو أنّه إذا كان بنحو الرشح أيضاً يكفي في تحقق موضوع الجاري؟

مقتضى إطلاق صحيحة ابن بزيع عدم الفرق بين الفوران والرشح بعد اشتمال كل واحد منهما على المادّة المعتبرة ، بل الغالب هو الرشح في أكثر البلاد ، إذ الغالب أن الماء يجتمع في الأمكنة المنخفضة ويترشح من عروق الأرض شيئاً فشيئاً ، ويتراءى ذلك في الأراضي المنخفضة في أطراف الشطوط والأنهار على وجه الوضوح.

٩٩

[٩١] مسألة ١ : الجاري على الأرض من غير مادّة نابعة أو راشحة إذا لم يكن كراً ينجس بالملاقاة.

______________________________________________________

نعم ، إذا كان جارياً من الأعلى إلى الأسفل لا ينجس أعلاه (*) بملاقاة الأسفل للنجاسة ، وإن كان قليلاً (١).

نعم ، نقل صاحب الحدائق عن والده قدس‌سرهما الاستشكال في الآبار الموجودة في بلاده أعني البحرين لأجل أنّها رشحية ، فإنّه كان يطهّر تلك الآبار بإلقاء الكر عليها لا بالنزح. ثم أورد على والده بأنّه يرى كفاية الإلقاء ولو على وجه الافتراق كما إذا أخذ كل واحد من جماعة مقدار ماء يبلغ مجموعة الكر وألقوه في البئر مع أن المطهّر وهو إلقاء الكر يعتبر أن يقع على البئر مرة واحدة على وجه الاجتماع (١). وما ذهب إليه والده قدس‌سره مما لا يسعنا الالتزام به لإطلاق الصحيحة المتقدمة.

الجاري من غير مادّة

(١) قد أسلفنا أن الميزان في الانفعال وعدمه هو الاتصال بالمادّة وعدم الاتصال بها ، كما هو مقتضى الصحيحة المتقدمة بلا خصوصية للجاري من غيره ، فإن كل ما له مادّة من العيون والأنهار والآبار محكوم بعدم الانفعال لاستمداده من المادّة دائماً ، فغير المستمد محكوم بالانفعال.

ويستثنى من ذلك ما إذا كان القليل غير المستمد من المادّة جارياً من الأعلى إلى الأسفل ، فإن أعلاه لا يتنجس بملاقاة الأسفل للنجاسة ، هذا هو المعروف بينهم وقد قدّمنا (٢) نحن أن الميزان في ذلك ليس هو العلو أو السفل وإنّما المدار على خروج الماء بالقوّة والدفع بلا فرق بين العالي وغيره ، فإنّه يمنع عن سراية النجاسة إلى العالي من سافله أو العكس ، وذكرنا أن الوجه فيه هو أن العرف بحسب ارتكازاتهم يرون الماء متعدداً حينئذٍ فلا تسري النجاسة من أحدهما إلى الآخر ، فلو صبّ ماء من‌

__________________

(*) تقدم أن المناط في عدم التنجس هو الدفع بلا فرق بين العالي وغيره.

(١) الحدائق ١ : ١٧٢.

(٢) في ص ٣٧.

١٠٠