موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

وبيان تلك القرينة هو أن الشي‌ء في قوله عليه‌السلام لا يفسده شي‌ء لم يرد به مطلق ما يصدق عليه مفهوم الشي‌ء بل المراد به هو الذي من شأنه أن ينجس الماء إلاّ أنّه لا ينجس ماء البئر لأنّه واسع. كما هو الحال في قوله عليه‌السلام : « الماء طاهر لا ينجسه شي‌ء » ، وقوله : « إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شي‌ء » ، لوضوح عدم إرادة الأشياء الأجنبية عن التنجيس من لفظة الشي‌ء فيهما ، ومن البين أن تقرب الماء من الميتة مثلاً ليس مما شأنه التنجيس ، ولم يثبت كونه موجباً للانفعال ما لم تتصل الميتة بالماء لبعدها أو لوجود مانع في البين.

فمن ذلك يظهر أن المراد من قوله عليه‌السلام : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء » : أنّه لا تفسده ملاقاة النجاسة إلاّ أن توجب تغيره ، وبذلك تظهر صحّة ما ذهب إليه الأصحاب من أن الموجب للانفعال هو التغيّر الحاصل بالملاقاة لا بالمجاورة ونحوها.

فرع‌

إذا لاقى الماء جزء من النجس ولم يكن ذلك الجزء موجباً للتغيّر في الماء ، وكان له جزء آخر يوجب التغيّر إلاّ أنّه لم يلاق الماء ، كما إذا لاقى الماء شعر الميتة أو عظمها ولم يلاق لحمها ، والشعر والعظم لا ينتنان بمرور الأيام ولا يحدثان التغيّر في شي‌ء بخلاف اللّحم لتسرع الفساد إليه ، فهل مثل هذه الملاقاة توجب الانفعال؟.

الظاهر أنّه لا ، لأن ما لاقى الماء لا يوجب التغيّر وما يوجب التغيّر لم يلاق الماء وقد اشترطنا في نجاسة الماء أن يستند تغيره إلى ملاقاة النجس الذي يوجب التغيّر لا إلى مقارنة نجس آخر كما هو المستفاد من الأخبار ، ومثل ذلك ما إذا وقع نصف النجس في الماء وكان نصفه الآخر خارجاً عنه والنصف الداخل لم يكن سبباً للتغيّر بل كان سببه المجموع من النصف الداخل في الماء والنصف الخارج عنه ، فإن الظاهر عدم انفعال الماء بذلك ، لأن الملاقي لم يوجب التغيّر وما أوجبه لم يلاق الماء ، ويعتبر في انفعال الماء استناد التغيّر إلى ملاقاة النجس الذي يوجب التغيّر.

فما عن المحقق الهمداني من أن التغيّر سبب للانفعال في هذه الصورة إذ يصدق عرفاً أن يقال : إن الماء لاقى نجساً يوجب التغيّر (١) لا يمكن المساعدة عليه لأن ما يصدق‌

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٠ السطر ١٩.

٦١

وأن يكون التغيّر بأوصاف النجاسة دون أوصاف المتنجس (١) فلو وقع فيه دبس‌

______________________________________________________

عرفاً هو أن الماء لاقى ميتة ولكن النجاسة إنّما ترتبت على عنوان ملاقاة النجس الذي يوجب التغيّر ، وهذا العنوان لم يحصل في المقام ، وهو نظير ما إذا لم يكن الملاقي للماء سبباً للتغيّر بنفسه ، وإنّما أوجبه بانضمام شي‌ء آخر إليه ، كما إذا ألقي مقدار من دم وصبغ أحمر على ماء ، واستند تغيره إليهما بحيث لو كان الدم وحده لما تأثر به الماء ، فإنّه لا يوجب الانفعال كما يأتي في كلام الماتن ( طاب ثراه ) والوجه فيه أن ما لاقاه الماء من النجس لا يوجب التغيّر ، وما يوجبه وهو مجموعهما ليس بنجس كما هو ظاهر.

التغيّر بأوصاف المتنجِّس‌

(١) وقع الخلاف في أن التغيّر هل يعتبر أن يكون بأحد أوصاف النجس ، أو أن التغيّر بأوصاف المتنجس أيضاً كاف في الانفعال؟.

والظاهر أن صورة انتشار أجزاء النجس في المتنجس الذي يوجب انتشار تلك الأجزاء في الماء على تقدير ملاقاته إياه خارجة عن محل الكلام. والوجه في خروجها ظاهر ، لأن التغيّر فيها مستند إلى أوصاف النجس دون المتنجس ، كما إذا صببنا مقداراً من الدم في ماء وحللناه فيه ثم ألقينا ذلك الماء على ماء آخر ، فتغيّر الماء الثاني بعين الأجزاء الدموية المنتشرة في الماء الأول بالتحليل ، كما أن صورة خروج الماء عن الإطلاق بملاقاة المتنجس خارجة عن محل النزاع قطعاً. فالذي وقع فيه الكلام له صورتان :

إحداهما : ما إذا تغيّر شي‌ء بالنجاسة من غير أن تنتشر فيه أجزاء النجس ، ثم لاقى هذا المتغيّر بالنجس ماءً وغيّره بالوصف الحاصل فيه بالتغيّر ، كما إذا وقعت ميتة في الماء ولم تتفسخ فيه وتغيّر الماء بريحها ثم ألقينا ذلك الماء في ماء آخر كر وتغيّر بما في الماء من نتن الميتة من دون انتشار أجزاء الميتة في شي‌ء من الماءين.

وثانيتهما : ما إذا لاقت نجاسة شيئاً ونجّسته ، ثم لاقى المتنجس كراً من الماء فغيّره بأحد أوصاف نفسه دون أوصاف النجس ، كما هو الحال في العطور إذا لاقتها يد كافر‌

٦٢

مثلاً ثم ألقيناها في حوض من الماء فإنّها تغيّر الماء بريحها لا محالة.

ولنقدم الكلام في الصورة الثانية ، لأن التغيّر فيها إذا صار موجباً للانفعال فهو يوجب الانفعال في الصورة الأُولى بطريق أولى.

فنقول : إنّه نسب القول بالنجاسة في صورة التغيّر بأوصاف المتنجس إلى الشيخ الطوسي قدس‌سره واستدلّ عليه بالنبوي المعروف : « خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شي‌ء إلاّ ما غيّر لونه ، أو طعمه ، أو ريحه » (١). فإن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ ما غيّر يشمل النجس والمتنجس كليهما.

وفيه : أن الحديث نبوي قد ورد بغير طرقنا ، كما صرح به صاحب المدارك (٢) وأمضاه صاحب الحدائق قدس‌سرهما (٣) فلا يعتد به ، وإنّما نقول بالنجاسة في مفروض الكلام لو قلنا بها من جهة الروايات الواردة من طرقنا ، كما في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه ، ... » بدعوى أنّ قوله عليه‌السلام : « لا يفسده شي‌ء إلاّ أن يتغيّر » أيضاً شامل لكل من النجس والمتنجس.

بل الصحيح عدم تمامية هذا الاستدلال أيضاً ، لاختصاص الرواية بالتغيّر بالنجس دون المتنجس ، ويدلُّ عليه استثناؤه عليه‌السلام في الصحيحة بقوله : « إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه ، فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه ». فإن هذا الإطلاق والاستعمال : « حتى يذهب الريح ويطيب طعمة » إنّما يصح إذا كان التغيّر الحاصل بالطعم أو الريح تغيّراً بريح كريهة أو طعم خبيث ، إذ مع فرض طيب الطعم أو الريح لا معنى لطيبة ثانياً. وكراهة الريح والطعم تختص بالتغيّر الحاصل بالنجاسات ، وأمّا المتنجسات فربّما يكون ريحها في أعلى مرتبة اللطافة والطيب ، كما في العطور المتنجسة أو طعمها كما في السكر والدبس المتنجسين ، ولا يصح في مثلهما أن يقال : ينزح حتى‌

__________________

(١) المبسوط ١ : ٥.

(٢) المدارك ١ : ٢٨.

(٣) الحدائق ١ : ٢٩٨.

٦٣

يذهب الريح ويطيب طعمه. وبالجملة فالمقدار المتيقن منها هو الحكم بالانفعال في التغيّر بالنجس ، فلا بدّ من الاقتصار عليه ، هذا كلّه في هذه الرواية. وأمّا سائر الروايات فهي بأجمعها كما عرفت واردة في التغيّر بأعيان النجاسات من الميتة والبول ونحوهما ، ولا يستفاد من شي‌ء منها انفعال الماء بالتغيّر بالمتنجسات فراجع.

وحيث قلنا بعدم الانفعال في الصورة الثانية فلا بدّ من التكلّم في الصورة الأُولى أيضاً ، ليرى أن التغيّر فيها يوجب الانفعال أو لا يوجبه ، وهي ما إذا تغيّر الماء بملاقاة المتنجس ولكن لا بأوصاف نفسه بل بأوصاف النجس ، وقد أشار إليه في المتن بقوله : نعم لا يعتبر أن يكون ... والمعروف انّه يوجب الانفعال وقد استدلّ عليه بوجوه :

أحدها : أن تغيّر الماء بالأعيان النجسة قليل ، ولا يوجد إلاّ نادراً ولا يصح حمل إطلاقات التغيّر على الفرد النادر ، فلا محيص من تعميمه إلى التغيّر بالمتنجسات أيضاً فيما إذا أوجبت تغيّر الماء بأوصاف النجس ، والوجه في ذلك : أنّ الميتة أو غيرها من النجاسات إذا وقعت في كر أو أكثر منه فهي إنّما تغيّر جوانبها الملاصقة لها في شي‌ء من أوصافها الثلاثة أوّلاً ، ثم تغيّر حوالي ما يتصل بها وما جاورها ثانياً ، ثم تلك المجاورات تغيّر مجاوراتها الملاصقة وهكذا ... إلى أن ينتهي إلى آخر الماء ، فالميتة مثلاً تغيّر الماء بواسطة المجاورات المتنجسة لا بنفسها وبلا واسطة ، فلا محيص من تعميم التغيّر الموجب للانفعال إلى التغيّر بأوصاف النجس إذا حصل بملاقاة المتنجس.

وهذا الوجه وإن ذكر في كلمات الأكثرين ولكنّه لا يخلو عن مناقشة ، لأنّ سراية التغيّر إلى مجموع الماء وإن كانت بواسطة المتنجسات لا بعين النجاسة كما ذكر ، إلاّ أن الدليل لم يدلنا على نجاسة الماء المتغيّر بملاقاة المتنجس وإن كان التغيّر بأوصاف النجس ، فإن الدليل إنّما قام على انفعال الماء المتغيّر بملاقاة نفس النجس ، فلا بدّ من الاقتصار عليه.

ثانيها : صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع المتقدمة ، فإن إطلاق قوله عليه‌السلام فيها « لا يفسده شي‌ء إلاّ أن يتغيّر ... » يشمل كل ما هو صالح للتنجيس ، ومن الظاهر أن المتنجس الحامل لأوصاف النجس كالماء المتغيِّر بأوصاف النجاسة صالح لأن يكون منجساً ، ومن هنا ينجس ملاقيه من الماء القليل واليد وغيرهما ، فإطلاق‌

٦٤

الرواية يشمل النجس والمتنجس إذا لاقى ماء البئر وغيره بأحد أوصاف النجاسة وإنّما خرجنا من إطلاقها فيما إذا غيّره بأوصاف نفسه من أجل ما استفدناه من القرينة الداخلية كما مرّ ، وهذا الوجه هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه في المقام.

ثالثها : وهو وجه عقلي حاصله : أن الماء المتنجس الحامل لأوصاف النجس إذا لاقى كراً وغيّره بأحد أوصاف النجس فهو لا يخلو عن أحد أوجه ثلاثة :

فإمّا أن نقول ببقاء كل من الملاقي والملاقى على حكمهما ، فالماء المتنجس نجس والكر المتغيّر طاهر ، وهو مما نقطع ببطلانه فإن الماء الواحد لا يحكم عليه بحكمين ، أو نقول بطهارة الجميع ، وهو أيضاً مقطوع الخلاف لما ثبت بغير واحد من الأدلّة الآتية في محلّها من أن الماء المتغيّر لا يطهر من دون زوال تغيّره ، والقول بطهارة الجميع في المقام قول بطهارة الماء المتغيّر وهو الذي لاقى كراً مع بقاء تغيره ، وهو خلاف ما ثبت بالأدلة التي أشرنا إليها آنفاً ، أو نقول بنجاسة الجميع وهو المطلوب.

والجواب عن ذلك أن هذا الوجه ينحل إلى صور ثلاث :

الاولى : أن يكون الماء المتغيّر موجباً لتغيّر الكر بأحد أوصاف النجاسة مع استهلاكه في الكر لكثرته وقلّة المتغيّر.

الثانية : الصورة مع استهلاك الكر في المتغيّر لكثرته بالإضافة إلى الكر ، كما هو الحال في ماء الأحواض الصغيرة في الحمّامات ، فإنّه إذا تغيّر بنجس ولاقاه الكر الواصل إليه بالأنابيب ، فلا محالة يوجب تغيّر الواصل واستهلاكه لقلته بالإضافة إلى ماء الحياض ، فإنّه يصل إليه تدريجاً لا دفعة.

الثالثة : الصورة من دون أن يستهلك أحدهما في الآخر لتساويهما في المقدار. وهذه صور ثلاث :

أمّا الصورة الأُولى : فنلتزم فيها بطهارة الجميع ولا منافاة في ذلك للأدلّة الدالّة على عدم طهارة المتغيّر إلاّ بارتفاع تغيّره ، وذلك لأنّها إنّما تقتضي نجاسته مع بقاء التغيّر على تقدير بقاء موضوعه ، وهو الماء المتغيّر لا على تقدير الارتفاع وانعدام موضوعه بالاستهلاك في كر طاهر.

٦٥

وأمّا الصورة الثانية : فنلتزم فيها بنجاسة الجميع ، ولا ينافيه ما دلّ على اعتصام الكر وحصر انفعاله بالتغيّر بملاقاة الأعيان النجسة ، والكر لم يلاق عين النجس في المقام ، وذلك لأن ما دلّ على اعتصام الكر إنّما يقتضي طهارته مع بقاء موضوعه وهو الكر الملاقي لغير العين النجسة لا مع انعدامه باستهلاكه في المتغيّر.

وأمّا الصورة الثالثة : فيتعارض فيها ما دلّ على انفعال الكر المتغيّر بملاقاة العين النجسة ، واعتصامه في غير تلك الصورة ، مع ما دلّ على أن المتغيّر لا يطهر إلاّ بارتفاع تغيّره ، فإن مقتضى الأول طهارة الماء في مفروض الكلام ، لأنّه لم يتغيّر بملاقاة عين النجس ، ومقتضى الثاني نجاسته لبقاء تغيّره على الفرض ، وبما أن الماء الواحد لا يحكم عليه بحكمين متضادين فيدور الأمر بين أن نحكم عليه بالنجاسة لنجاسة المتنجس ، أو نحكم عليه بالطهارة لطهارة الكر ، وإذ لا ترجيح في البين فيتساقطان ويرجع إلى قاعدة الطهارة في الماء ، بلا فرق في ذلك بين القول بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية وعدمه ، إذ بناء على القول بجريانه أيضاً كان الاستصحابان متعارضين ، فيرجع بالنتيجة إلى قاعدة الطهارة.

وبذلك يظهر أن الوجه الصحيح في الحكم بالنجاسة في المقام منحصر بإطلاق صحيحة ابن بزيع.

نعم ، إن هناك وجهاً رابعاً يمكن أن يستدل به على نجاسة الكر المتغيّر بأوصاف النجس بملاقاة المتنجس ، وهو الاستدلال بصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع من ناحية أُخرى غير إطلاقها ، وحاصله : أنّ الإمام عليه‌السلام قد أمر فيها بنزح ماء البئر حتى يطيب طعمه وتذهب رائحته ، ومن الظاهر البيّن أن تقليل الماء المتغيّر بأخذ مقدار منه لا يوجب ارتفاع التغيّر عن الباقي من الرائحة أو الطعم ، وهو من البداهة بمكان لا يحتاج إلى زيادة التوضيح ، فالنزح لا يكون رافعاً لتغيّر الماء الباقي في البئر وعليه يتعيّن أن يكون الوجه في قوله عليه‌السلام « ينزح حتى ... » شيئاً آخر ، وهو أن البئر لما كانت ذات مادّة نابعة كان نزح المتغيّر منها وتقليله موجباً لأن ينبع الماء الصافي من مادتها ، ويزيد على المقدار الباقي من المتغيّر في البئر ، وبإضافته تقل الرائحة والطعم من الباقي ، وكلما نزح منه مقدار أخذ مكانه الماء الصافي النابع من‌

٦٦

نجس فصار أحمر أو أصفر لا ينجس ، إلاّ إذا صيره مضافاً. نعم ، لا يعتبر أن يكون بوقوع عين النجس فيه ، بل لو وقع فيه متنجس حامل لأوصاف النجس فغيّره بوصف النجس تنجس أيضاً. وأن يكون التغيّر حسياً (١).

______________________________________________________

مادّتها حتى إذا كثر النابع بتقليل المتغيّر غلب على الباقي وأوجب استهلاكه في ضمنه وبذلك صحّ أن يقال ينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه.

ومن هذا يظهر أن النابع من المادّة لا يحكم بطهارته عند ملاقاته للباقي من المتغيّر فيما إذا تغيّر بملاقاته ، وإنّما يطهر إذا غلب النابع على الباقي وأوجب زوال رائحته وتبدل طعمه لقوله عليه‌السلام « ينزح حتى يذهب ... » فقوله هذا يدلنا على ما قدمناه من أن الماء النابع الملاقي للمتنجس المتغيّر غير محكوم بالطهارة ، لتغيّره بأوصاف النجس من الريح والطعم بملاقاة المتنجس الحامل لتلك الأوصاف ، وإنّما يطهر حتى يذهب ... فالرواية دلت على أن أي ماء لاقى متنجساً حاملاً لأوصاف النجس ، وتغيّر بها فهو محكوم بالانفعال للقطع بعدم خصوصية في ذلك لماء البئر.

ثم لا يخفى أن مورد هذه الصحيحة من قبيل الصورة الثانية من الصور المتقدِّمة في الوجه العقلي ، وهي ما إذا لاقى متنجس حامل لأوصاف النجس ماءً وغيّره بأوصاف النجس مع استهلاك الماء في المتغيّر ، وقد ذكرنا انا نلتزم فيها بنجاسة الجميع من غير أن ينافي هذا الأدلّة الدالّة على اعتصام الكر إلاّ بالتغيّر بملاقاة عين النجس ، لأنّه فرع بقاء موضوع الكر ، ولا يتم مع استهلاكه وانعدامه ، ويستفاد هذا من الصحيحة المتقدمة حيث دلت على أن النابع محكوم بالنجاسة لملاقاته المتغيّر الباقي في البئر واستهلاكه فيه إلاّ أن يكثر ويغلب عليه.

اعتبار التغيّر الحسي‌

(١) لا ينبغي الإشكال في أن التغيّر الدقي الفلسفي الذي لا يدرك بشي‌ء من الحواس لا يوجب الانفعال شرعاً ، كما إذا وقع مقدار قليل من السكر أو غيره في الماء ، لأنّه عقلاً يحدث تغيراً فيه لا محالة ، إلاّ أنّه غير قابل للإدراك بالحواس ، فمثله إذا حصل‌

٦٧

من النجس لا يستلزم النجاسة قطعاً ولا كلام في ذلك.

وإنّما المهم بيان أن التغيّر المأخوذ في لسان الدليل هل هو طريق إلى كم خاص من النجس ، ليكون هذا الكم هو الموجب للانفعال وأن التغيّر بأحد الأوصاف طريق إليه ولا موضوعية له في الحكم بالانفعال حتى لا يدور الحكم مدار فعلية التغيّر وهو القول بكفاية التغيّر التقديري أو أن التغيّر بنفسه موضوع للحكم بالانفعال لا أنّه طريق ، وهذا لاختلاف النجاسات في التأثير ، فيمكن أن يكون مقدار خاص من دم مؤثراً في تغيّر الماء ، ولا يكون دم آخر بذلك المقدار مؤثراً فيه لشدّة الأوّل وضعف الثاني وغلظة أحدهما ورقّة الآخر هذا في اللون ، وكذلك الحال في غيره من الأوصاف ، فإن اللحوم مختلفة فبعضها يتسرع إليه النتن في زمان لا ينتن فيه بعضها الآخر مع تساويهما بحسب الكم والمقدار ، فيدور الحكم مدار فعلية التغيّر؟

الصحيح هو الثاني : لأن جعل التغيّر طريقاً إلى كم خاص من النجس وهو الموضوع للحكم بالانفعال إحالة إلى أمر مجهول ، إذ لا علم لنا بذلك الكم ، على أنّه خلاف ظاهر الأدلّة ، لظهورها في أن التغيّر بنفسه موضوع لا أنّه طريق إلى أمر آخر هو الموضوع للحكم بالانفعال ، إذ القضايا ظاهرة في الفعلية طراً. ومع هذا كلّه ربّما ينسب إلى بعض الأصحاب القول بكفاية التغيّر التقديري في الحكم بالانفعال.

وتفصيل الكلام في المقام : أن التقدير الذي نعبّر عنه بكلمة لو إما أن يكون في المقتضي كما إذا وقع في الكر مقدار من الدم الأصفر بحيث لو كان أحمر لأوجد التغيّر في الماء ، ففي هذه الصورة المقتضي للتغيّر قاصر في نفسه.

وإما أن يكون في الشرط ، كما إذا وقعت ميتة في الماء في أيام الشتاء بحيث لو كانت الملاقاة معه في الصيف تغيّر بها الماء ، فإن الحرارة توجب انفتاح خلل الميتة وفرجها فيخرج عنهما النتن وبه يفسد الماء ، كما أن البرودة توجب الانقباض وتسد الخلل فيمنع عن انتشار نتنها ، فالحرارة شرط في تغيّر الماء بالنتن وهو مفقود فالقصور في الشرط.

وإمّا أن يكون التقدير في المانع ، كما إذا صبّ مقدار من الصبغ الأحمر في الماء ثم‌

٦٨

وقع فيه الدم ، فإن الدم يقتضي تغيّر لون الماء لولا ذلك المانع وهو انصباغ الماء بالحمرة قبل ذلك ، أو جعلت الميتة قريبة من الماء حتى نتن بالسراية وبعد ما صار جائفاً وقعت عليه ميتة ، فإنّها تغيّر الماء بالنتن لولا اكتسابه النتن بالسراية قبل ذلك فعدم التغيّر مستند إلى وجود المانع في هذه الصورة ، هذه هي صور التقدير ولا نتعقل له صورة غيرها.

أمّا الصورتان : الاولى والثانية : فلا ينبغي الإشكال في عدم كفاية التقدير فيهما لأنّ الانفعال قد علق على حصول التغيّر في الماء والمفروض أنّه غير حاصل لا واقعاً ولا ظاهراً ، إما لقصور المقتضي وإما لفقدان شرطه ، ومثله لا يوجب الانفعال وإن نسب إلى العلاّمة قدس‌سره القول بكفاية ذلك ، حيث جعل التغيّر طريقاً إلى كم خاص من النجس (١).

وأمّا الصورة الثالثة : فالتحقيق أن التقدير بهذا المعنى كاف في الحكم بالانفعال إذ الفرض أن التغيّر حاصل واقعاً لتمامية المقتضي والشرط ، غاية الأمر أن الحمرة أو النتن يمنع عن إدراكه وإلاّ فالأجزاء الدموية موجودة في الماء وإن لم يشاهدها الناظر لحمرته ، وهو نظير ما إذا جعل أحد على عينيه نظارة حمراء ، أو جعل الماء في آنية حمراء فإنّه لا يرى تغيّر الماء إلى الحمرة بالدم حيث إنّه يرى الماء أحمر لأجل النظارة أو الآنية ، والأحمر لا ينقلب إلى الحمرة بإلقاء الدم عليه مع أنّه متغيّر واقعاً.

وأظهر من جميع ذلك ما إذا فرضنا حوضين متساويين كلاهما كر وقد صبغنا أحدهما بصبغ أحمر ، وفرضنا أيضاً مقداراً معيناً من الدم فنصفناه ، وألقينا كل نصف منه على كل واحد من الحوضين ، وتغيّر بذلك الحوض غير المنصبغ بالصبغ أفلسنا نحكم حينئذٍ بتغيّر المنصبغ أيضاً بالدم؟ لأن الماءين متساويان ، وما القي على أحدهما إنّما هو بمقدار الملقى على الآخر وإن لم نشاهد تغيّر الثاني لاحمراره بالصبغ (٢) وكيف‌

__________________

(١) نسب السيِّد الحكيم قدس‌سره في المستمسك ١ : ١٢١ إلى العلامة في القواعد ١ : ١٨٣.

(٢) فإن الماء كما ادعوه لا لون له غير لون الماء كما أن الشعر لا لون له غير البياض ، وإنّما يرى الماء أو الشعر أحمر أو أصفر أو بغيرهما من الألوان لأجل ما يدخلهما من الأجزاء المتلونة ، فهما

٦٩

فالتقديري لا يضر ، فلو كان لون الماء أحمر أو أصفر فوقع فيه مقدار من الدم كان يغيّره لو لم يكن كذلك لم ينجس (*) وكذا إذا صُبّ فيه بول كثير لا لون له بحيث لو كان له لون غيّره. وكذا لو كان جائفاً فوقع فيه ميتة كانت تغيّره لو لم يكن جائفاً وهكذا ، ففي هذه الصور ما لم يخرج عن صدق الإطلاق محكوم بالطهارة على الأقوى.

______________________________________________________

كان فالصحيح في الصورة الثالثة كفاية التقدير كما بنى عليه سيدنا الأستاذ مدّ ظلّه في تعليقته المباركة على الكتاب ، فإنّ الصورتين اللّتين أشار إليهما ( دام ظلّه ) من قبيل الصورة الثالثة ، فراجع.

ثم إنّا كما نلتزم بالنجاسة في التغيّر التقديري إذا كان موجوداً واقعاً وقد منع مانع عن إدراكه بإحدى الحواس الظاهرية ، كذلك نلتزم بالطهارة في عدم التغيّر التقديري مع وجود التغيّر ظاهراً. وتوضيح ذلك :

أنّا أسمعناك سابقاً أن التغيّر إنّما يوجب النجاسة فيما إذا استند إلى ملاقاة نفس النجس على نحو الاستقلال ، وأمّا إذا استند إليه وإلى شي‌ء آخر فهو غير مؤثر في الانفعال ، ونعبّر عنه بعدم التغيّر التقديري وإن كان متغيراً ظاهراً ، كما إذا تغيّر الماء بمجموع الدم والصبغ الأحمر بوقوعهما عليه معاً ، أو وقع أحدهما فيه أوّلاً وأثّر بما لا يدرك بالحواس ، ثم وقع فيه الآخر واستند تغيّره إلى مجموعهما من دون أن يستند إلى كل واحد منهما في نفسه ، فصورة عدم التغيّر تقديراً وصورة التغيّر متعاكستان وإن كان الحكم في كلتا الصورتين هو الطهارة ، اللهم إلاّ أن يستند عدم إدراك التغيّر في صورة التغيّر التقديري إلى وجود مانع عن الإدراك كما قدمنا ، أو يستند عدم التغيّر‌

__________________

كالزجاجة التي تتلون بما في جوفها من المواد. فهي حمراء إذا كان في جوفها شي‌ء أحمر أو سوداء إذا كان في جوفها شي‌ء أسود وهكذا ، مع أنّ لون الزجاجة هو البياض ، فالشعر إنّما يرى أسود لما جعل فيه من مادّة سوداء ، ولذا يرى بلونه الطبيعي في الشيبة لانتهاء مادّة السوداء في الشيبوبة ، وكذا الحال في الماء.

(*) الحكم بالنجاسة فيه وفي الفرض الثالث لو لم يكن أقوى فلا ريب أنّه أحوط.

٧٠

[٨٢] مسألة ١٠ : لو تغيّر الماء بما عدا الأوصاف المذكورة من أوصاف النجاسة مثل الحرارة والبرودة ، والرقة والغلظة ، والخفّة والثّقل ، لم ينجس ما لم يصر مضافاً (١).

______________________________________________________

التقديري في هذه الصورة صورة عدم التغيّر التقديري إلى قصور الشرط فإنّه لا محيص حينئذٍ من الالتزام بالنجاسة. وهذا كما إذا لاقى الماء ميتة في أيام الصيف وتغيّر بها ، إلاّ أن ملاقاتهما لو كانت في الشتاء لما كانت مؤثرة في تغيّره إذ لا يمكن أن يقال بعدم التغيّر التقديري في مثله بدعوى أن التغيّر غير مستند إلى الميتة وحدها ، بل إليها وإلى حرارة الهواء ، ويشترط في الانفعال استناد التغيّر إلى ملاقاة النجس باستقلاله ، وذلك لأنّ العُرف لا يرى حرارة الهواء مقتضية للتغيّر وإنّما المقتضي له عندهم هو الميتة ، فالتغيّر مستند إليها مستقلا. نعم ، الحرارة شرط في تسرع النتن إلى الماء ، وإنّما نلتزم بعدم التغيّر التقديري فيما إذا استند عدمه إلى قصور المقتضي كما قدمناه بأمثلته.

ولا يخفى أن ما ذكرناه في هذه الصورة المعبّر عنها بعدم التغيّر التقديري مع تغيّر الماء ظاهراً مما لم نقف على تعرض له في كلمات الأصحاب قدس‌سرهم فافهم ذلك واغتنمه.

التغيّر بما عدا الأوصاف الثلاثة‌

(١) كما إذا وقع مقدار بول صاف في كر من الماء وأحدث فيه البرودة لبرودة البول جدّاً أو الحرارة إذا كان حاراً شديداً. والصحيح أنّه لا يقتضي الانفعال لأن التغيّر الموجب للانفعال منحصر في الأوصاف الثلاثة : الرائحة والطعم واللون ، على خلاف في الأخير ولم يذكر في روايات الباب سائر الأوصاف. فالروايات تقتضي عدم انفعال الماء بسائر الأوصاف ، ولا سيما صحيحة ابن بزيع لدلالتها على حصر سبب النجاسة في أمرين : التغيّر بالرائحة ، والتغيّر بالطعم ، وقد ألحقنا اللون بهما لدلالة سائر الأخبار ولا دليل على رفع اليد عن إطلاق الصحيحة المذكورة « ماء البئر واسع لا يفسده‌

٧١

[٨٣] مسألة ١١ : لا يعتبر في تنجسه أن يكون التغيّر بوصف النجس بعينه فلو حدث فيه لون أو طعم أو ريح غير ما بالنجس ، كما لو اصفرّ الماء مثلاً بوقوع الدم تنجس. وكذا لو حدث فيه بوقوع البول أو العذرة رائحة أُخرى غير رائحتهما ، فالمناط تغيّر أحد الأوصاف المذكورة بسبب النجاسة وإن كان من غير سنخ وصف النجس (١).

______________________________________________________

شي‌ء » في غير الأوصاف الثلاثة كالبرودة والحرارة والخفة والثقل ونحوها بل إطلاق هذه الصحيحة يقيد إطلاق قوله عليه‌السلام في بعض الأخبار « أن يتغيّر » أو ما هو بمضمونه (١).

ومن ذلك يظهر أن ما نسب إلى صاحب المدارك قدس‌سره (٢) من استدلاله بإطلاقات التغيّر في الحكم بنجاسة الماء المتغيّر بما عدا الأوصاف الثلاثة ، مع ذهابه إلى عدم دلالة الأخبار على انفعال الماء بالتغيّر في اللون مما لا يمكن المساعدة عليه ، لما عرفت من أن إطلاقات التغيّر مقيدة بإطلاقات الأخبار الدالّة على عدم انفعال الماء بغير التغيّر بأحد الأوصاف الثلاثة كما مرّ ، هذا.

ثم لو أغمضنا عن ذلك وتمسّكنا بإطلاقات الأخبار ، فإخراج التغيّر باللّون ممّا لا موجب له ، فإنّ الإطلاق كما يشمل سائر الأوصاف كذلك يشمل اللون وهذا ظاهر.

التغيّر بالنجس في غير أوصافه‌

(١) لأن التغيّر قسمان : تغيّر يحصل بانتشار النجس في الماء بريحه أو طعمه أو لونه ويسمّى ذلك بالتغيّر بالانتشار وبالتركب المزجى وهو يوجب اتصاف الماء بأوصاف النجس بلا نقص أو بمرتبة نازلة من أوصافه لانتشارها وتوسّعها في الماء ، فوقوع الدم في الماء يوجب تلونه إما بالحمرة التي هي لون الدم بعينه وإمّا بالصفرة التي هي مرتبة‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٨ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ٣ ، وص ١٤٠ ب ٣ ح ١٠.

(٢) لاحظ المدارك ١ : ٢٨.

٧٢

نازلة من الحمرة لأجل كثرة الماء.

وتغيّر يحصل بالتأثير ، بأن تحدث عند ملاقاة النجس للماء صفة لم تكن ثابتة في الماء ولا فيما لاقاه قبل ملاقاتهما ، وإنّما يحصل بتأثير أحدهما في الآخر ، كما في ملاقاة النورة للماء فإن كلا منهما فاقد للحرارة في نفسه ولكن إذا لاقى أحدهما الآخر تحدث منهما الحرارة ، ويسمّى ذلك بالتغيّر بالتأثير من دون انتشار النجس في الماء ، والكلام في أن التغيّر بالتأثير هل هو كالتغيّر بالانتشار؟

تبتني هذه المسألة على دعوى انصراف الأخبار إلى التغيّر بالانتشار كما ذكره صاحب الجواهر قدس‌سره وادعى عدم شمول الأخبار للتغيّر بالتأثير (١).

ويدفعها : أنّه لا منشأ لهذا الانصراف لإطلاق الأخبار ولا سيما صحيحة ابن بزيع لأن قوله عليه‌السلام فيها « إلاّ أن يتغيّر » يعم التغيّر بالانتشار والتغيّر بالتأثير.

وأمّا ما في ذيلها من قوله عليه‌السلام « حتى يذهب ... » فهو إنّما يقتضي أن يكون الاعتبار بالتغيّر بأوصاف نفس النجس كما قدمناه ، ولا دلالة له على اعتبار خصوص التغيّر بالانتشار حيث إن قوله عليه‌السلام « حتى يذهب ... » بلحاظ أن الغالب في الآبار هو التغيّر بالانتشار لوقوع الميتة فيها أو غيرها من النجاسات ويعبّر عمّا تغيّر بالميتة بما فيه النتن والرائحة ، وأمّا غير الآبار فالتغيّر فيه لا يختص بالانتشار ، وحيث لا دليل على التقييد فمقتضى إطلاقات الأخبار أن التغيّر بالتأثير كالتغير بالانتشار ، بل مقتضى رواية العلاء بن الفضيل : « لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول » (٢) أن المناط في عدم انفعال الماء غلبته على النجس ، كما أن الميزان في الانفعال عدم غلبة الماء على النجس ، سواء أكانا متساويين أم كان النجس غالباً على الماء ، بلا فرق في ذلك بين حدوث التغيّر بالانتشار وحدوثه بالتأثير ، والرواية وإن كانت ضعيفة السند بمحمد ابن سنان وغير صالحة للاعتماد عليها إلاّ أنّها مؤيدة للمطلقات. نعم ، التغيّر بالتأثير‌

__________________

(١) الجواهر ١ : ٧٧.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٩ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ٧.

٧٣

[٨٤] مسألة ١٢ : لا فرق بين زوال الوصف الأصلي للماء أو العرضي فلو كان الماء أحمر أو أسود لعارض فوقع فيه البول حتى صار أبيض تنجس ، وكذا إذا زال طعمه العرضي أو ريحه العرضي (١).

______________________________________________________

في النجاسات من حيث الطعم والرائحة لعلّه مما لم يشاهد إلى الآن ، فالغالب منه هو التغيّر باللون وهو أمر كثير التحقق والوقوع ، وعلى الجملة لا بدّ لمدعي الانصراف أن يقيم الدليل على مدعاه ولا دليل عليه بل الدليل على خلافه موجود ، كما في الإطلاقات المؤيدة برواية العلاء المتقدمة.

كفاية زوال الوصف العارضي‌

(١) هذه المسألة تبتني على دعوى انصراف الأدلّة إلى صورة حدوث التغيّر في أوصاف الماء بما هو ماء ، وهذه الدعوى فاسدة لا يعتنى بها لمكان إطلاقات الأخبار حيث إنّها تقتضي نجاسة الماء المتغيّر في شي‌ء من أوصافه الثلاثة بملاقاة النجس بلا فرق في ذلك بين كون الأوصاف المذكورة أصلية ، وكونها عرضية ، ففي صحيحة ابن بزيع : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه ... » وهي تقتضي نجاسة البئر بتغيّر شي‌ء من ريحه أو طعمه ، وإطلاقها يشمل جميع الآبار مع ما هي عليه من الاختلاف باختلاف الأماكن بالبداهة ، فربّ بئر يشرب من مائها وهو حلو صاف بل يتعيش به في بعض البلاد ، وبئر لا يستفاد من مائها في الشرب لأنّه مالح أو أميل إلى المرارة ، لمروره على أرض مالحة أو ذات زاج وكبريت ، وماء بعضها مرّ كما في بعض البلاد ، ومن البيّن أن هذه الأوصاف خارجة عن ذات المياه وعارضة عليها باعتبار أراضي الآبار ، إلاّ أن مقتضى إطلاق الصحيحة أن تغيّر شي‌ء من الأوصاف المذكورة يوجب انفعال البئر إذ يصدق أن يقال : إنّها بئر تغيّر ريحها أو طعمها فتنجس.

ثم لا يخفى أن هذه المسألة والمسألة المتقدمة غير مرتبطتين ولا تبتنيان على مبنى واحد كما عرفت ، وأن كلا منهما تبتني على دعوى غير ما تبتني عليه الأُخرى كما أن‌

٧٤

[٨٥] مسألة ١٣ : لو تغيّر طرف من الحوض مثلاً تنجس ، فإن كان الباقي أقل من الكرّ تنجس الجميع وإن كان بقدر الكرّ بقي على الطهارة وإذا زال تغيّر ذلك البعض طهر الجميع ولو لم يحصل الامتزاج على الأقوى (١).

______________________________________________________

الكلام في المسألة السابقة كان راجعاً إلى ما هو المنجس للماء ، وأنّه هو الذي ينتشر في الماء أو أعم منه ومن المؤثر من غير انتشار؟ والبحث في هذه المسألة بحث عن الماء وأنّه إذا زال عنه وصفه العرضي هل يحكم عليه بالنجاسة كما هو الحال فيما إذا زال عنه وصفه الذاتي؟ فالمسألتان من واديين فلا تغفل.

تغيّر بعض الماء‌

(١) فهل يحكم بطهارته لأجل اتصاله بالكر وهو عاصم ولا يشترط فيه الامتزاج أو لا يحكم بطهارته حتى يمتزج مع الكر المتصل به لعدم كفاية مجرد الاتصال في طهارة ما زال عنه تغيره؟

ربّما يستدل على طهارته من دون مزج بأن الماء الواحد لا يحكم عليه بحكمين متضادين بالإجماع ، فإمّا أن يقال بنجاسة الجميع أو يقال بطهارته ، لا سبيل إلى الأوّل لمكان الأدلّة الدالّة على اعتصام الكر غير المتغيّر بشي‌ء لأن الباقي على الفرض كر لم يتغيّر في أحد أوصافه ، فيتعيّن الثاني أعني القول بطهارة الجميع وهو المطلوب.

وفيه : أن هذه الدعوى الماء الواحد لا يحكم عليه بحكمين لم تثبت بدليل وعهدتها على مدّعيها ، ولا يقين لنا بصدورها من المعصوم عليه‌السلام فأي مانع من الالتزام بنجاسة الجانب المتغيّر من الماء وطهارة الباقي ، فالقول بطهارة الجميع كالقول بنجاسة الجميع يحتاج إلى إقامة الدليل عليه.

ويمكن أن يستدل على طهارة الجميع بالأخبار الواردة في ماء الحمّام لدلالتها على طهارة ماء الأحواض الصغيرة بمجرد اتصاله بمادته ، وإطلاقاتها تشمل الدفع والرفع والحدوث والبقاء ولتوضيح ذلك نقول :

الروايات الواردة في ماء الحمّام على طائفتين :

٧٥

إحداهما : ما دلّ على أن سبيله سبيل الجاري (١) وهذه الطائفة خارجة عن محل الكلام.

وثانيتهما : ما دلّ على اعتصام ماء الحمّام لاتصاله بالمادّة ، وهي موثقة حنان قال : « سمعت رجلاً يقول لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّي أدخل الحمّام في السحر وفيه الجنب وغير ذلك فأقوم فأغتسل ، فينتضح عليّ بعد ما أفرغ من مائهم؟ قال : أليس هو جار؟ قلت : بلى ، قال : لا بأس » (٢). حيث نفت البأس في صورة جريانه واتصاله بمادته فإن جريانه إنّما هو باعتبار اتصاله بالمادّة بانبوب ونحوه ، وهي لأجل ترك الاستفصال مطلقة فتعم الدفع والرفع بمعنى أنّه إذا اتصل بالمادّة يطهر سواء أكان الماء متنجساً قبله أم لم يكن وسواء وردت عليه النجاسة بعد اتصاله أم لم ترد ، فهو محكوم بالطهارة على كل حال ، وهي كما ترى تقتضي عدم اعتبار الامتزاج ، فإنّ المادّة بمجرّد اتصالها بماء الحياض لا تمتزج به بل يتوقّف على مرور زمان لا محالة. وبالجملة أنّها تدل على كفاية الاتصال.

وبتلك الطائفة الثانية نتعدى إلى أمثال المقام ونحكم بطهارة الماء بأجمعه عند زوال التغيّر عن الجانب المتغيّر :

إمّا للقطع بعدم الفرق بين ماء الحمّام وغيره في أن مجرد الاتصال بالعاصم يكفي في طهارة الجميع ، إذ لا خصوصية لكون المادّة أعلى سطحاً من الحياض.

وإمّا من جهة تنصيص الأخبار بعلّة الحكم بقولها : لأن لها مادّة ، والعلّة متحقِّقة في المقام أيضاً ، إذ المفروض أن للجانب المتغيّر جانباً آخر كرّاً وهو بمنزلة المادّة له.

وإمّا من جهة دلالة الأخبار المذكورة على أن عدم انفعال ماء الحياض مستند إلى اتصالها بالمادّة المعتصمة فهي لا تنفعل بطريق أولى ، وبما أن الجانب الآخر كر معتصم في مفروض الكلام ، فالاتصال به أيضاً يوجب الطهارة لا محالة. وهذا الاستدلال هو‌

__________________

(١) كما في صحيحة داود بن سرحان : قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في ماء الحمّام؟ قال : هو بمنزلة الماء الجاري » وورد في رواية ابن أبي يعفور « إنّ ماء الحمّام كماء النهر يطهر بعضه بعضاً » المرويّتين في الوسائل ١ : ١٤٨ / أبواب الماء المطلق ب ٧ ح ١ ، ٧.

(٢) الوسائل ١ : ٢١٣ / أبواب الماء المضاف ب ٩ ح ٨.

٧٦

الذي ينبغي أن يعتمد عليه دون الإجماع المدعى للعلم بمدرك المجمعين ، ولا الروايات النبويات لعدم ورودها من طرقنا بل ولم توجد من طرقهم أيضاً.

ومن جملة ما يمكن أن يستدل به في المقام : صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه ، لأن له مادّة » (١) والمراد بأن ماء البئر واسع ... أنّه ليس بمضيّق كالقليل حتى ينفعل بالملاقاة فيكون مرادفاً لعدم فساده في قوله عليه‌السلام لا يفسده شي‌ء ... وكيف كان فقد دلت على طهارة ماء البئر إذا زال عنه تغيّره لأجل اتصاله بالمادّة ، وبتعليلها يتعدى عن البئر إلى غيرها من الموارد.

وعن شيخنا البهائي قدس‌سره (٢) أن الرواية مجملة ، إذ لم يظهر أن قوله عليه‌السلام « لأن له مادّة » علّة لأي شي‌ء فإن المتقدم عليه أُمور ثلاثة : ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء ، فينزح حتى يذهب ، ومجموع الجملتين.

فإن أرجعنا العلّة إلى صدرها فمعناه : أن ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء لأن له مادّة ، فتدل على أن ما له مادّة لا ينفعل بشي‌ء ، وأمّا أنّه إذا تنجس ترتفع نجاسته بأي شي‌ء فلا تعرض له في الرواية ، فتختص بالدفع ولا تشمل الرفع.

وإذا أرجعناها إلى ذيلها فيكون حاصل معناه : أن البئر ليست كالحياض بحيث إذا نزح منها شي‌ء بقي غير المنزوح منها على ما كان عليه من الأوصاف ، بل البئر لاتصالها بالمادّة إذا نزح منها مقدار تقل رائحة مائها ويتبدل طعمه لامتزاجه بالماء النابع من المادّة ، فالعلّة تعليل لزوال الرائحة والطعم بالنزح ، وعليه فهي أجنبية عن الحكم الشرعي ، وإنّما وردت لبيان أمر عادي يعرفه كل من ابتلى بالبئر غالباً ، وهو تقليل رائحة المتغيّر وطعمه في الآبار بالنزح.

ويحتمل أن يرجع التعليل إلى طهارة ماء البئر ومطهّريتها بعد زوال تغيّرها بالنزح ، إذ لو لا ذلك لما كان للأمر بنزح البئر وجه ، فإن زوال تغيّرها إن لم يكن‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٢ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٦.

(٢) حبل المتين : ١١٧.

٧٧

مجدياً في رفع نجاستها فلا غرض لنا في نزح مائها ، وأي مانع من بقائها على تغيّرها وحيث أمروا عليهم‌السلام بنزحها فمنه نستكشف أن الغرض إذهاب رائحة مائها وطعمه حتى يطهر لأجل اتصاله بالمادّة ، وعلى هذا تعم الرواية لكل من الدفع والرفع وتكون مبينة لعلّة ارتفاع النجاسة عنها بعد انفعالها وهي اتصالها بالمادّة المعتصمة التي لا تنفعل بملاقاة النجس.

ويحتمل أن تكون العلّة راجعة إلى أمر رابع ، وهو مجموع الصدر والذيل بالمعنى المتقدم ومعناه : أن ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء وترتفع نجاسته بالنزح ، وكلاهما من أجل اتصاله بالمادّة. وهذه جملة الاحتمالات التي نحتملها في الرواية بدواً ، وبها تتصف بالإجمال لا محالة.

والصحيح منها : ما ذكرناه من أن الرواية تدل على كفاية مجرد الاتصال بالمادّة في طهارة الماء بعد زوال تغيّره بيان ذلك : أن إرجاع التعليل إلى صدر الرواية خلاف الظاهر وإن كان لا بأس به على تقدير اتصاله بالصدر لما ذكرناه في تعقب الاستثناء جملاً متعدّدة ، من أن رجوعه إلى خصوص الجملة الأُولى خلاف الظاهر حيث لا خصوصية للاستثناء في ذلك وحال سائر القيود المتعقبة للجمل هو حال الاستثناء بعينه ، فإذا ورد صم وسافر يوم الخميس ، فرجوع يوم الخميس إلى الجملة المتقدِّمة خاصّة خلاف الظاهر على ما فصّلناه في محلّه (١). كما ان رجوع التعليل إلى ذيل الصحيحة بالمعنى المتقدم حتى يكون تعليلاً لأمر عادي يعرفه كل أحد مستبعد عن منصب الإمام عليه‌السلام جدّاً ، فإن ما هذا شأنه غير جدير بالتعليل ، حيث إنّ وظيفة الإمام عليه‌السلام إنّما هي بيان الأحكام ، وأمّا بيان علاج المتغيّر وإزالة خاصيتها فهو غير مناسب لمقام الإمامة ، ولا تناسبه وظيفته.

فيدور الأمر بين احتمال رجوعها إلى الذيل بالمعنى الثاني الشامل لكل من الدّفع والرّفع ، واحتمال رجوعها إلى مجموع الصدر والذيل ، وعلى كل تدل الرواية على كفاية الاتصال بالمادّة في طهارة المتغيّر بعد زوال تغيّره ، وذلك لأن الإمام ( عليه‌السلام )

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ٣٠٤.

٧٨

[٨٦] مسألة ١٤ : إذا وقع النجس في الماء فلم يتغيّر ، ثم تغيّر بعد مدّة فإن علم استناده إلى ذلك النجس تنجس ، وإلاّ فلا (١).

______________________________________________________

بصدد بيان طهارة ماء البئر بعد زوال تغيره لأجل اتصاله بالمادّة فإن ماء البئر إذا نزح منه شي‌ء وإن امتزح بما نبع من المادّة لا محالة إلاّ أنّه عليه‌السلام لم يعلل طهارته بامتزاجهما بل عللها بأن له مادّة بمعنى أنّها متصلة بها ، ونستفيد من ذلك أن مجرّد الاتصال بالعاصم يكفي في طهارة أي ماء من دون أن يعتبر فيها الامتزاج وإن كان هو يحصل بنفسه في البئر لا محالة. والنزح حتى يذهب .. مقدمة لزوال تغيّره واتصاله بالمادّة ، ومن هنا لو زال عنه تغيّره بنفسه أو بعلاج آخر غير النزح نلتزم بطهارته أيضاً لاتصاله بالمادّة ، وهو ماء لا تغيّر فيه وعليه فيتعدى من البئر إلى كل ماء متغيّر زال عنه التغيّر وهو متصل بالمادّة.

التغيّر بعد الملاقاة بزمان‌

(١) ما أفاده قدس‌سره هو الصحيح ، لأن الكر لا ينفعل بملاقاة النجس إلاّ إذا تغيّر به في أحد أوصافه بالمباشرة ، فإذا لاقى نجساً وتغيّر به فلا إشكال في نجاسته وإذا لاقاه ولم يحدث فيه تغيّر بسبب النجس أصلاً فلا كلام في طهارته كما لا إشكال في نجاسته فيما إذا وقع فيه نجس ولم يتغيّر به حين وقوعه وإنّما تغيّر لأجله ، ولو كان بعد إخراجه من الماء كما قد يتّفق ذلك في بعض الأدوية فإذا اتفق نظيره في النجاسات فلا محالة نحكم بانفعال الماء ، لإطلاق الأخبار وعدم تفصيلها بين الملاقاة المؤثرة بالفعل والملاقاة المؤثرة بعد مدة ، هذا كلّه فيما إذا علمنا استناد التغيّر المتأخر إلى النجس.

وأمّا إذا لم ندر أنّ التغيّر المحسوس مستند إلى وقوع النجس أو أنّه من جهة وقوع جيفة طاهرة في الماء مثلاً ، فالحكم فيه هو الطهارة لأجل الاستصحاب الموضوعي أعني استصحاب عدم تغيّره المستند إلى النجس ، ومعه لا تصل النوبة إلى الاستصحاب الحكمي. والموضوع في الأصل الموضوعي ليس هو التغيّر ليقال إن عدم استناد التغيّر إلى ملاقاة النجس ليس له حالة سابقة إذ الماء بعد تغيّره لم يمر عليه زمان لم يستند‌

٧٩

[٨٧] مسألة ١٥ : إذا وقعت الميتة خارج الماء ووقع جزء منها في الماء وتغيّر بسبب المجموع من الداخل والخارج تنجس بخلاف ما إذا كان تمامها خارج الماء (١).

______________________________________________________

تغيّره فيه إلى ملاقاة النجس حتى يستصحب بقاؤه على ما كان عليه ، وذلك لأن الموضوع للأحكام إنّما هو نفس الماء لأنّه الذي إذا تغيّر بالنجاسة ينجس فالاستصحاب يجري في الماء على نحو الاستصحاب النعتي فيقال : إن الماء قد كان ولم يكن متغيراً بالنجس والآن كما كان.

هذا على أنّا أثبتنا في محلّه جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية فلنا أن نستصحب عدم استناد التغيّر إلى ملاقاة النجس على نحو استصحاب العدم الأزلي بناء على أن الموضوع في الاستصحاب هو التغيّر دون الماء ، فإنّ التغيّر وإن كان وجدانيّاً لا محالة ، إلاّ أن استناده إلى ملاقاة النجاسة مشكوك فيه ، والأصل أنّه لم يستند إلى ملاقاة الماء للنجس.

ولا يعارضه استصحاب عدم استناد التغيّر إلى غير ملاقاة النجس إذ لا أثر له شرعاً ، والموضوع للأثر هو التغيّر المستند إلى ملاقاة النجس فإنّه موضوع للحكم بالنجاسة كما أن عدم التغيّر بملاقاة النجس موضوع للحكم بالطهارة ، وأمّا التغيّر بسبب آخر غير ملاقاة النجس فلا أثر يترتب عليه شرعاً.

وعلى الجملة الماء محكوم بالطهارة بمقتضى الاستصحاب النعتي أو المحمولي ، وإنّما تنتهي النوبة إلى قاعدة الطهارة فيما إذا قلنا بعدم جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية وبنينا على أن عنوان التغيّر هو الموضوع في الاستصحاب ، فإنّه لا سبيل إلى الاستصحاب حينئذٍ ولا بدّ من التمسك بذيل قاعدة الطهارة.

التغيّر بالداخل والخارج‌

(١) قد قدّمنا في بعض الأبحاث المتقدمة (١) أن التغيّر إذا علم استناده إلى الجزء الخارج خاصة فلا ينبغي الإشكال في عدم تنجس الماء به ، لما تقدّم من أن التغيّر لا بدّ‌

__________________

(١) في ص ٦١.

٨٠