موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

وأمّا المبانة من الميت ففيها إشكال (١) وكذا في مسكها (*) (٢). نعم ، إذا أخذت من يد المسلم يحكم بطهارتها (**) ولو لم يعلم أنها مبانة من الحي أو الميت (٣).

______________________________________________________

والمتيقن من المسك هو القسم الأخير ، والحكم بطهارته إما لتخصيص ما دلّ على نجاسة الدم مما له نفس سائلة كما إذا كان المسك عبارة عن الدم المنجمد وإما من باب التخصص بناء على ما ذكره بعضهم من أن أجزاء المسك عند تحليله غير الأجزاء الدموية وإن كانت الأجزاء المسكية متحققة في دم الظبي ، إلاّ أنها إذا وصلت إلى الفأرة أفرزت عن الأجزاء الدموية لاشتمال الفأرة على آلة الافراز ، إلاّ أن تحقيق ذلك مما لا يترتب عليه ثمرة عملية لأنه محكوم بالطهارة على كل حال.

كما أن القسم الثالث أيضاً كذلك فيما إذا كان اجتماع الدم في الفأرة حال حياة الظبي ثم ذبح ، لأنه حينئذٍ من الدم المتخلف وهو طاهر. ولا إطلاق لما دلّ على طهارته حتى يتمسك به في الحكم بطهارة سائر الأقسام. نعم ، لو ثبتت دعوى الاستحالة حكمنا بطهارة الجميع ولكن عرفت فسادها ، فسائر الأقسام من المسك محكوم بالنجاسة لأنه دم فتشمله أدلة نجاسته.

(١) عرفت الوجه في ذلك آنفاً.

(٢) فيما إذا لم ينجمد مسكها حال حياة الظبي لنجاسته العرضية الحاصلة حينئذٍ بملاقاة الميتة ، وهذا بخلاف ما إذا كان جامداً كما عرفت تفصيله.

صور الشك في طهارة الفأرة‌

(٣) لا بدّ من التعرض إلى صور الشك في طهارة الفأرة ونجاستها لتتميز موارد الحاجة إلى يد المسلم أو غيرها من أمارات التذكية عما لا حاجة فيه إلى أماراتها فنقول : صور الشك في ذلك ثلاث :

الاولى : أن يشك في أن الفأرة من الحي أو المذكى أو أنها من الميتة مع الشك في‌

__________________

(*) الظاهر أن المسك في نفسه طاهر. نعم لو علم بملاقاته النجس مع الرطوبة حكم بنجاسته.

(**) وكذا إذا أُخذت من يد الكافر.

٤٤١

حياة الظبي الذي أُخذت منه الفأرة.

الثانية : الصورة مع العلم بموت الظبي في زمان الشك.

الثالثة : أن يعلم بأخذ الفأرة بعد موت الظبي ويشك في أن موته هل كان مستنداً إلى التذكية أم إلى غيرها.

فعلى مسلك كاشف اللثام أعني القول بنجاسة فأرة غير المذكى يحكم بنجاستها في جميع الصور الثلاث للشك في وقوع التذكية على الظبي ، ومقتضى أصالة عدم التذكية نجاسة الفأرة إلاّ فيما إذا كانت هناك أمارة على التذكية من يد المسلم أو غيرها ، لأنها حاكمة على استصحاب عدمها ، فعلى مسلكه قدس‌سره تمس الحاجة إلى أمارات التذكية في جميع الصور الثلاث. وأمّا على ما سلكناه وهو التفرقة بين فأرة الحي والمذكى وبين فأرة الميتة فيختلف الحكم والحاجة إلى أمارات التذكية باختلاف صور المسألة.

أمّا الصورة الأُولى : فحيث لا نعلم فيها إلاّ بحدوث أمر واحد وهو انفصال الفأرة عن الظبي ولا علم لنا بموته لاحتمال بقائه على الفرض فاستصحاب حياة الظبي إلى زمان انفصال الفأرة بلا معارض ، ولا حاجة في إثبات طهارتها في هذه الصورة إلى يد المسلم أو غيرها من أمارات التذكية فإنّها كانت أم لم تكن يحكم بطهارة الفأرة بالاستصحاب.

وأمّا الصورة الثانية : وهي التي علمنا فيها بموت الظبي وشككنا في أن الفأرة هل أُخذت منه بعد موته أو قبله فلا حاجة فيها أيضاً إلى إثبات الطهارة بقيام أمارة على التذكية ، لأن في هذه الصورة حادثين أحدهما موت الظبي وثانيهما انفصال الفأرة منه وهما مسبوقان بالحياة والاتصال ، واستصحاب كل من الحياة والاتصال إلى زمان ارتفاع الآخر معارض بمثله ، فيتساقطان ويرجع إلى قاعدة الطهارة مطلقاً سواء علمنا بتأريخ أحدهما أم جهل كلا التاريخين.

وأمّا الصورة الثالثة : التي علمنا فيها بأخذ الفأرة بعد موت الظبي وترددنا في استناد موته إلى التذكية فيحكم فيها بعدم كون الفأرة من المذكى ، لأصالة عدم وقوع التذكية على الظبي المأخوذة منها الفأرة ، فيترتب عليها جميع آثار غير المذكى ومنها‌

٤٤٢

[١٦٧] مسألة ٣ : ميتة ما لا نفس له طاهرة كالوزغ والعقرب والخنفساء والسّمك وكذا الحيّة والتمساح ، وإن قيل بكونهما ذا نفس لعدم معلومية ذلك ، مع أنه إذا كان بعض الحيات كذلك لا يلزم الاجتناب عن المشكوك كونه كذلك (١).

______________________________________________________

النجاسة على المشهور ، إلاّ إذا أُخذت من يد المسلم فإنّها أمارة شرعية على التذكية في الجلود وهي حاكمة على أصالة عدمها ، فعلى ما سلكناه في المقام لا نحتاج في الحكم بطهارة الفأرة إلى أمارات التذكية إلاّ في الصورة الأخيرة.

ميتة ما لا نفس له :

(١) الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين :

أحدهما : في كبرى طهارة الميتة مما لا نفس له.

وثانيهما : في بعض صغرياتها مما وقع الكلام في أن له نفساً سائلة أو لا نفس له.

أمّا المقام الأوّل : فلم يستشكل أحد فيما نعلمه من الأصحاب في طهارة الميتة من كل حيوان محكوم بالطهارة حال حياته إذا لم تكن له نفس سائلة ، وتدل عليها جملة كثيرة من الأخبار.

منها : موثقة حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه‌السلام قال : « لا يفسد الماء إلاّ ما كانت له نفس سائلة » (١) لأن الميتة هي القدر المتيقن منها ، لأنها إما مختصة بالميتة نظراً إلى أن الإفساد وعدمه مضافان فيها إلى الذات ، أعني ذات الحيوان الذي له نفس أو لا نفس له ، أو أنها أعم فتشمل الميتة وكل ما يضاف إليها من دمها وبولها وغيرهما كما استظهرناه سابقاً.

ومنها : موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلك يموت في البئر والزيت والسمن وشبهه قال : كل ما ليس له دم فلا بأس » (٢)

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ٣ : ٤٦٤ / أبواب النجاسات ب ٣٥ ح ٢ ، ١.

٤٤٣

ومنها : ما عن أبي بصير في حديث : « وكل شي‌ء وقع في البئر ليس له دم مثل العقرب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس » (١) ومنها غير ذلك من الأخبار ، إلاّ أنهم اختلفوا في الوزغ بعد تسليم أنه مما لا نفس له ، ولكن هذا الخلاف غير راجع إلى ما قدمناه من كبرى طهارة الميتة مما لا نفس له ، وإنما هو مستند إلى الخلاف في طهارة الوزغ حال حياته ونجاسته ، والكبرى المسلمة تختص بحيوان محكوم بالطهارة حال حياته دون الحيوانات النجسة وإن لم يكن لها نفس سائلة ، وهذا نظير ما قدّمناه في الشعر والصوف وغيرهما مما لا تحله الحياة ، وذكرنا أنها طاهرة من كل حيوان ميت كان محكوماً بالطهارة في حياته دون ما كان نجساً.

وكيف كان فقد ذهب جماعة إلى نجاسة الوزغ وزادوا بذلك نجاسة على الأعيان النجسة. بل عن بعضهم نجاسة الثعلب والأرنب والفأرة أيضاً إلاّ أنّا نتكلم في خصوص الوزغ هنا بمناسبة عدم كونه ذا نفس سائلة فنقول :

نسب القول بنجاسة الوزغ إلى الشيخ (٢) والصّدوق (٣) وابن زهرة (٤) وسلار (٥) وغيرهم قدس‌سرهم واعتمدوا في ذلك على روايات ثلاث :

الاولى : ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة والوزغة تقع في البئر قال : ينزح منها ثلاث دلاء » (٦) بتقريب أن الأمر بالنزح ظاهر في وجوبه ووجوب النزح ظاهره الإرشاد إلى نجاسة الوزغ والفأرة لبعد كونه تعبداً صرفاً.

الثانية : رواية هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٨٥ / أبواب الماء المطلق ب ١٧ ح ١١.

(٢) النهاية : ٥٢.

(٣) حكى عنه في الحدائق ٥ : ٢٢٦ ، ويظهر من الفقيه ١ : ٨ / ١٠.

(٤) الغنية : ٤٩.

(٥) المراسم : ٥٦.

(٦) الوسائل ١ : ١٨٧ / أبواب الماء المطلق ب ١٩ ح ٢.

٤٤٤

عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حياً هل يشرب من ذلك الماء ويتوضأ منه؟ قال : يسكب منه ثلاث مرات ، وقليله وكثيره بمنزلة واحدة ، ثم يشرب منه ويتوضأ منه ، غير الوزغ فإنّه لا ينتفع بما يقع فيه » (١) وظاهرها أن عدم جواز الانتفاع به مستند إلى نجاسة الوزغ.

الثالثة : رواية الفقه الرضوي : « فإن وقع في الماء وزغ أُهريق ذلك الماء ... » (٢) لأنها كسابقتها ظاهرة في أن الأمر بالإهراق إرشاد إلى نجاسة الوزغ الموجبة لنجاسة الماء.

ولكن الصحيح طهارة الوزغة ولا يمكن المساعدة على شي‌ء مما استدل به على نجاستها. أمّا الروايتان الأخيرتان فلضعفهما (٣). وأمّا صحيحة معاوية فلأن ظهورها في نجاسة الوزغة وإن كان غير قابل للإنكار إلاّ أنه لا مناص من رفع اليد عن ظاهرها بصحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام قال : « سألته عن العظاية والحيّة والوزغ يقع في الماء فلا يموت أيتوضأ منه للصلاة؟ قال : لا بأس به ... » (٤) وبها تحمل الصحيحة المتقدمة على التنزه لاشمئزاز النفس عن الماء الذي وقع الوزغ فيه. وكذا الحال في الروايتين الأخيرتين على تقدير صحة سندهما.

هذا ومع الإغماض عن ذلك وفرض التعارض بين ما دلّ على نجاسة الوزغ وطهارته فالمرجع هو صحيحة الفضل أبي العباس الدالة على طهارة كل حيوان ما عدا الكلب ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٤٠ / أبواب الأسآر ب ٩ ح ٤ ، وأيضاً الوسائل ١ : ١٨٨ / أبواب الماء المطلق ب ١٩ ح ٥ ،

(٢) فقه الرضا : ٩٣.

(٣) الوجه في تضعيف الرواية الثانية هو عدم توثيق يزيد بن إسحاق الواقع في سندها في الرجال ولكن الرجل ممن وقع في أسانيد كامل الزيارات ومقتضى ذلك هو الحكم بوثاقته ، ومعه تصبح الرواية صحيحة لا محالة.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٦٠ / أبواب النجاسات ب ٣٣ ح ١ ، وأيضاً الوسائل ١ : ٢٣٨ / أبواب الأسآر ب ٩ ح ١.

٤٤٥

والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع فلم أترك شيئاً إلاّ سألته عنه؟ فقال : لا بأس به حتى انتهيت إلى الكلب فقال رجس نجس لا تتوضأ بفضله وأصبب ذلك الماء واغسله بالتراب أوّل مرّة ثم بالماء » (١) هذا كلّه في المقام الأول.

وأمّا المقام الثاني : فقد قالوا إن الحية والتمساح مما لا نفس له كبقية الحيوانات البحرية وحشرات الأرض ، وأنكره بعضهم وادعى أنهما مطلقاً أو بعض أقسام الحية ذو نفس سائلة ، فإن ثبت شي‌ء من الدعويين فهو ، وإلاّ فعلى ما سلكناه في محله من جريان الأصل في الأعدام الأزلية يحكم بطهارة ميتتها ، لأن جملة من الأخبار المعتبرة دلت على طهارة ميتة ما لا نفس له كما قدمناها ، وهي مخصصة لعموم ما دلّ على نجاسة الميتة فالخارج عن العام عنوان عدمي وهو ما لا نفس له ، والباقي تحته معنون بعنوان وجودي أعني ما له نفس سائلة ، ومقتضى أصالة عدم كون المصداق المشتبه مما له نفس سائلة طهارة ميتته بعد ما ثبت في محله من عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية.

والفارق بين ما نحن فيه وغيره مما يتمسك فيه بأصالة العدم الأزلي في المصداق المشتبه لإدراجه تحت العموم ، هو أن الخارج عن العام في المقام عنوان عدمي والباقي معنون وجودي ، ومعه ينتج الأصل الجاري في العدم الأزلي إدراج الفرد المشتبه تحت الخاص ، وهذا بخلاف ما إذا كان الخارج عنواناً وجودياً والباقي معنوناً بعنوان عدمي فإن معه تنعكس الحال ، فالأصل الجاري في العدم الأزلي يثبت أن الفرد المشتبه داخل في حكم العام.

وأمّا على مسلك من لا يرى جريان الأصل في الأعدام الأزلية فالأمر في الموارد المشكوكة أيضاً كما عرفت ، لقاعدة الطهارة بعد عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية. وهكذا الكلام في كل مورد شككنا في أنه مما له نفس أو لا نفس له ولو من‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢٦ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٤ ، وأيضاً ٣ : ٤١٣ / أبواب النجاسات ب ١١ ح ١ إلاّ أنه ليس فيها تمام الحديث.

٤٤٦

[١٦٨] مسألة ٤ : إذا شكّ في شي‌ء أنه من أجزاء الحيوان أم لا فهو محكوم بالطهارة وكذا إذا علم أنه من الحيوان لكن شكّ في أنه مما له دم سائل أم لا (١).

[١٦٩] مسألة ٥ : المراد من الميتة أعم مما مات حتف أنفه أو قتل أو ذبح على غير الوجه الشرعي (٢).

______________________________________________________

أجل تردده بين حيوانين أحدهما ذو نفس سائلة ، أو تردده بين كونه من الحيوان أو من غيره كما إذا لم ندر أن المطروح في الطريق جلد أو غير جلد.

(١) لأصالة عدم كونه من أجزاء الحيوان أو عدم كونه من أجزاء ما له نفس سائلة أو لأصالة الطهارة كما مرّ.

المراد من الميتة :

(٢) لا يراد بالميتة فيما يترتّب عليها من الأحكام ما زهق روحه وانتهت حياته لأن ما زهق روحه بالأسباب الشرعية غير محكوم بحرمة الأكل والنجاسة وغيرهما من أحكام الميتة ، كما لا يراد بها ما مات حتف أنفه بانقضاء قواه الموجبة لحياته ، لعدم اختصاص أحكام الميتة بذلك وشمولها لما مات بمثل الخنق وأكل السم ونحوهما من أسباب الموت ، بل المراد بها أمر آخر متوسط بين الأمرين السابقين وهو ما مات بسبب غير شرعي ويعبّر عنه بغير المذكى سواء مات حتف أنفه أم بسبب آخر غير التذكية ولعلّ هذا مما لا خلاف فيه. وقد استشهد شيخنا الأنصاري قدس‌سره على ذلك بأُمور ، منها : موثقة سماعة « إذا رميت وسميت فانتفع بجلده وأمّا الميتة فلا » (١) حيث جعلت الميتة في مقابل المذكى أعني ما رمي وسمي.

ويمكن أن يستشهد عليه أيضاً بما تقدّم (٢) من الأخبار الناهية عن أكل ما تقطعه الحبال ، وعن الانتفاع بما تقطع من أليات الغنم معللاً بأنها ميتة ، حيث أُطلقت الميتة‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٨٩ / أبواب النجاسات ب ٤٩ ح ٢ ، وأيضاً ٢٤ : ١٨٥ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣٤ ح ٤.

(٢) في ص ٤٣٤.

٤٤٧

فيها على ما لم تقع عليه الذكاة شرعاً وهذا كله واضح.

وإنما الكلام في أن النجاسة وحرمة الأكل وغيرهما من الأحكام هل هي مترتبة على عنوان الميتة أو أن موضوعها هو ما لم يذك شرعاً؟ لأن الميتة وغير المذكى وإن كانا متلازمين واقعاً ولا ينفك أحدهما من الآخر من مقام الثبوت ، لأن الميتة والمذكى من الضدين لا ثالث لهما فان ما زهق روحه إما أن يستند موته إلى سبب شرعي فهو المذكى وإما أن يستند إلى سبب غير شرعي فهو الميتة ، إلاّ أن ما لم يذك عنوان عدمي والميتة عنوان وجودي وهما مختلفان في الاعتبار وفيما يترتب عليهما من الأحكام.

وتظهر الثمرة فيما إذا شككنا في لحم أو جلد أنه ميتة أو مذكى ، فإنّه على تقدير أن الأحكام المتقدمة مترتبة على عنوان ما لم يذك يحكم بنجاسته وحرمة أكله وغيرهما من الأحكام باستصحاب عدم تذكيته ، وهذا بخلاف ما إذا كانت مترتبة على عنوان الميتة لأنها عنوان وجودي لا يمكن إحرازه بالاستصحاب إذ لا حالة سابقة له.

وخالف في ذلك صاحب المدارك قدس‌سره فإنّه بنى على أن الأحكام المتقدمة مترتبة على عنوان ما لم يذك ، ومع هذا أنكر جريان استصحاب عدم التذكية لإثبات النجاسة وغيرها من الأحكام عند الشك في التذكية ، وذكر في وجه منعه أمرين :

أحدهما : أن الاستصحاب غير معتبر رأساً وعلى تقدير اعتباره فهو إنما يفيد الظن ولا تثبت النجاسة إلاّ بالعلم أو بالبينة لو سلم عموم أدلّتها ، فإنّه مورد الكلام عنده قدس‌سره.

وثانيهما : ما ورد في بعض الروايات من قوله عليه‌السلام : « ما علمت أنه ميتة فلا تصل فيه » (١) وقوله عليه‌السلام « وصل فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينه » (٢) لدلالته على أن النجاسة وسائر الأحكام المتقدمة إنما تترتب على ما علم أنه ميتة (٣).

ويدفعه : أن الاستصحاب وإن لم يكن معتبراً في الأحكام الكلية الإلهية على ما اخترناه في محله ، إلاّ أن أدلة اعتباره غير قاصرة الشمول للشبهات الموضوعية بوجه.

__________________

(١) وهما خبر علي بن أبي حمزة وصحيحة الحلبي المرويتان في الوسائل ٣ : ٤٩١ / أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ٤ ، ٢.

(٢) وهما خبر علي بن أبي حمزة وصحيحة الحلبي المرويتان في الوسائل ٣ : ٤٩١ / أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ٤ ، ٢.

(٣) المدارك ٢ : ٣٨٧.

٤٤٨

ودعوى : أنه لا يفيد غير الظن من غرائب الكلام لأن اعتباره غير منوط بإفادة الظن فتثبت به النجاسة وغيرها من الأحكام ، فان المدار في ثبوت حكم بشي‌ء على العلم بحجية ذلك الشي‌ء لا على العلم بالحكم.

وأمّا الروايتان المتقدِّمتان فلا دلالة لهما على ما يرومه ، لأن غاية ما يستفاد منهما أن العلم بالميتة قد أُخذ في موضوع الحكم بالنجاسة وحرمة الأكل وغيرهما من الأحكام ، فحالها حال سائر المحرّمات التي أُخذ العلم في موضوعها كما في قوله عليه‌السلام « كل شي‌ء لك حلال حتى تعلم أنه حرام » (١) إلاّ أنه علم طريقي قد أُخذ في موضوع الأحكام المتقدمة منجزاً للواقع لا موضوعاً لها ، نظير أخذ التبين في موضوع وجوب الصوم في قوله عزّ من قائل ( كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) (٢). وقد أسلفنا في محله أن الاستصحاب بأدلة اعتباره صالح لأن يقوم مقام العلم الطريقي كما تقوم مقامه البينة والأمارات (٣) ولو لا ذلك لم يمكن إثبات شي‌ء من المحرمات الشرعية بالاستصحاب ولا بالبينة لفرض أخذ العلم بها في موضوعها.

ويمكن أن يقال : إن الروايتين ولا سيما صحيحة الحلبي إنما وردتا في مورد وجود الأمارة على التذكية ولا إشكال معه في الحكم بالطهارة والتذكية حتى يعلم خلافها وأين هذا من اعتبار العلم في موضوع الحرمة والنجاسة وغيرهما من أحكام الميتة.

فالمتحصل أنه لا إشكال في جريان استصحاب عدم التذكية على تقدير كون الأحكام المتقدمة مترتبة على عنوان غير المذكى عند الشك في التذكية. إذا عرفت ذلك فنقول :

إن حرمة الأكل وعدم جواز الصلاة حكمان مترتبان على عنوان غير المذكى وذلك لقوله تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ... وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (٤).

__________________

(١) بيّنا مواضعه في ص ٢٥٩ ، فليراجع.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٧.

(٣) مصباح الأُصول ٢ : ٣٨.

(٤) المائدة ٥ : ٣.

٤٤٩

وموثقة ابن بكير حيث ورد في ذيلها « فان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وكل شي‌ء منه جائز إذا علمت أنه ذكي وقد ذكاه الذبح » (١) ، وموثقة سماعة المتقدمة : « إذا رميت وسميت فانتفع بجلده » أي إذا ذكيتها ، وعليه إذا شككنا في تذكية لحم أو جلد ونحوهما نستصحب عدم تذكيته ونحكم بحرمة أكله وعدم جواز الصلاة فيه.

وأمّا النجاسة وحرمة الانتفاع على تقدير القول بها فهما من الآثار المترتبة على عنوان الميتة حيث لم يقم دليل على ترتّبهما على عنوان غير المذكى ومعه لا يمكن إثباتهما عند الشك في التذكية ، ويكفينا في ذلك :

أوّلاً : الشك في أن موضوعهما هل هو الميتة أو ما لم يذك فلا يمكن إثباتهما باستصحاب عدم التذكية فيرجع حينئذٍ إلى قاعدة الطهارة.

وثانياً : تصريح بعض أهل اللغة كالفيومي في مصباحه على أن الميتة ما مات بسبب غير شرعي (٢) ومعه إذا شككنا في تذكية لحم مثلاً لا يمكن إثبات نجاسته وحرمة الانتفاع به بأصالة عدم التذكية لعدم كونهما من آثار ما لم يذك فلا أثر لها في نفسها وإجراؤها لإثبات عنوان الميتة أعني ما مات بسبب غير شرعي من أوضح أنحاء الأُصول المثبتة ، لأنه من إثبات أحد الضدين بنفي الآخر ، بل لو فرضنا جريان أصالة عدم التذكية لإثبات الميتة عارضها استصحاب عدم موته بسبب غير شرعي لإثبات تذكيته ، هذا.

وقد ذهب شيخنا الهمداني قدس‌سره (٣) إلى أن النجاسة من آثار عدم التذكية واستدل عليه بمكاتبة الصيقل قال : « كتبت إلى الرضا عليه‌السلام إني أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي ، فأُصلي فيها؟ فكتب عليه‌السلام إليَّ : اتخذ ثوباً لصلاتك ، وكتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام إني كنت كتبت إلى‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ١.

(٢) المصباح المنير : ٥٨٤.

(٣) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٦٥٣ السطر ٣.

٤٥٠

أبيك عليه‌السلام بكذا وكذا ، فصعب عليّ ذلك ، فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشية الذكية ، فكتب عليه‌السلام إليَّ : كل أعمال البرّ بالصبر يرحمك الله ، فان كان ما تعمل وحشياً ذكيا فلا بأس » (١). فان المراد بنفي البأس نفي نجاسة الجلود بقرينة قوله في صدرها « فتصيب ثيابي » أي ينجسها ومن هنا أمره الرضا عليه‌السلام باتخاذ ثوب لصلاته ومقتضى تعليق الطهارة على كونها ذكية أن موضوع النجاسة هو ما لم يذك ، ومعه لا حاجة إلى تجشم دعوى أن الميتة هي غير المذكى.

ويردها أمران :

أحدهما : أن الرواية غير قابلة للاعتماد لجهالة أبي القاسم الصيقل.

وثانيهما : عدم تمامية دلالتها لأن الحصر فيها إضافي بمعنى أن عمله كان دائراً بين الميتة والمذكى ولم يكن مبتلى بغيرهما ، فحصره الطهارة في المذكى إنما هو بالإضافة إلى ما كان يبتلي به في مورد عمله وهذا لا ينافي ترتب النجاسة على عنوان الميتة دون غير المذكى.

ومما يدلنا على هذا دلالة قطعية أنه عليه‌السلام أخذ الوحشية في موضوع الحكم بطهارة الجلود وقال : فان كان ما تعمل وحشياً ذكيا فلا بأس ، ومن الضروري أنه لا دخالة للوحشية في طهارة المذكى بوجه ، وهذه قرينة قطعية على أن حكمه هذا إنما هو بلحاظ مورد عمل السائل ، فإنّه كان يدور بين جلود الميتة وبين جلود الوحشي الذكي فلا دلالة في ذلك على ترتب النجاسة على عنوان غير المذكى. والمتحصل أنه لا بدّ من التفكيك بين حرمة الأكل وعدم جواز الصلاة وبين النجاسة وحرمة الانتفاع ، فإن الأولين يترتبان على أصالة عدم التذكية بخلاف الثانيين.

وممن وافقنا على هذا صاحب الحدائق قدس‌سره حيث ذهب إلى طهارة ما يشك في تذكيته من اللّحوم والجلود وغيرهما نظراً إلى أصالتي الطهارة والحلية (٢) وهو قدس‌سره وإن أصاب المرمى في النتيجة أعني الحكم بالطهارة إلاّ أنه أخطأ في‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٨٩ / أبواب النجاسات ب ٤٩ ح ١ ، وص ٤٦٢ ب ٣٤ ح ٤.

(٢) الحدائق ٥ : ٥٢٦.

٤٥١

[١٧٠] مسألة ٦ : ما يؤخذ من يد المسلم من اللحم أو الشحم أو الجلد محكوم بالطهارة (*) وإن لم يعلم تذكيته (١).

______________________________________________________

طريقها لأن استصحاب عدم التذكية لا يبقي مجالاً لقاعدتي الطهارة والحلية على مسلك القوم كما لا يبقي مجالاً لأصالة الحلية على مسلكنا كما لا يخفى.

وعلى ما ذكرناه لا تمس الحاجة إلى شي‌ء من أمارات التذكية من يد المسلم وسوقه وإخبار البائع وغيرها عند الشك في تذكية شي‌ء إلاّ بالإضافة إلى حلية أكله وجواز الصلاة فيه لا بالنسبة إلى طهارته وجواز الانتفاع به.

أمارات التذكية : يد المسلم‌

(١) لا ينبغي الإشكال في أن يد المسلم من الأمارات الحاكمة على أصالة عدم التذكية وتدل على اعتبارها جميع ما ورد في اعتبار سوق المسلمين ، لأنه وإن كان أمارة على التذكية إلاّ أن أماريته ليست في عرض أمارية يد المسلم ، وإنما هي في طولها بمعنى أن السوق جعلت أمارة كاشفة عن يد المسلم وهي الأمارة على التذكية حقيقة والسوق أمارة على الأمارة. وذلك لأن الغالب في أسواق المسلمين إنما هم المسلمون وقد جعل الشارع الغلبة معتبرة في خصوص المقام ، وألحق من يشك في إسلامه بالمسلمين للغلبة ، بل ولا اختصاص لذلك بالسوق فان كل أرض غلب عليها المسلمون تكون فيها الغلبة أمارة على إسلام من يشك في إسلامه كما في صحيحة إسحاق بن عمار عن العبد الصالح عليه‌السلام أنه قال : « لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام ، قلت فان كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال : إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس » (١).

والذي يدل على ما ذكرناه مضافاً إلى أن بعض الروايات الواردة في المقام مقيد‌

__________________

(*) وكذا المأخوذ من سوق المسلمين.

(١) الوسائل ٣ : ٤٩١ / أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ٥.

٤٥٢

بسوق المسلمين (١) وهو يقتضي تقييد ما دلّ على اعتبار مطلق السوق بأسواق المسلمين أن أدلة اعتباره ليست على نحو القضية الحقيقية بأن تدل على اعتبار كل ما وجد وصدق عليه أنه سوق ولو كان لغير المسلمين حتى يتوهّم أن سوقهم أمارة على وقوع التذكية على المشكوك دون شوارعهم وجاداتهم ، لدخالة السقف وخصوصيته في الاعتبار وذلك لأنه مقطوع الفساد ، وإنما الأدلة دلت على اعتباره على نحو القضية الخارجية لأن السوق في رواياته قد يراد به سوق الجبل وأُخرى سوق آخر خارجي ، وتلك الأسواق الخارجية بأجمعها سوق المسلمين ولا إطلاق في القضايا الخارجية حتى يتمسك بها في إسراء حكمها إلى سوق غير المسلمين ، فما توهمه بعضهم من اعتبار السوق مطلقاً ولو كان لغير المسلمين تمسكاً في ذلك بإطلاق رواياته مما لا مساغ له.

فتحصل أن الأمارية تختص بأسواق المسلمين وهي أمارة على يد المسلم ، ومعنى كونها أمارة على ذلك عدم لزوم الفحص عن حال البائعين فيها وعدم وجوب السؤال عن أنهم مسلمون أو كفار ، إذ لو وجب ذلك للغي اعتبار عنوان السوق وسقط عن كونه أمارة ، لأن بالفحص يظهر أن البائع مسلم أو غير مسلم ويد الأول أمارة على التذكية بلا خلاف دون يد الثاني فما معنى اعتبار السوق حينئذٍ ، مع كثرة الأخبار الواردة في اعتباره. ففي صحيحة الحلبي قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخفاف التي تباع في السوق؟ فقال : اشتر وصل فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينه » (٢).

وفي صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : « سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكيه هي أم غير ذكية ، أيصلي فيها؟ فقال : نعم ، ليس عليكم المسألة ، إن أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ، إن الدين أوسع من ذلك » (٣) وفي صحيحته الأُخرى عن الرضا ( عليه‌السلام )

__________________

(١) كما عن فضيل وزرارة ومحمد بن مسلم ، « أنهم سألوا أبا جعفر عليه‌السلام عن شراء اللّحوم من الأسواق ولا يدرى ما صنع القصابون فقال : كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه ». المروية في الوسائل ٢٤ : ٧٠ / أبواب الذبائح ب ٢٩ ح ١.

(٢) ، (٣) الوسائل ٣ : ٤٩٠ / أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ٢ ، ٣.

٤٥٣

وكذا ما يوجد في أرض المسلمين مطروحاً إذا كان عليه أثر الاستعمال (١) ، لكن الأحوط الاجتناب.

[١٧١] مسألة ٧ : ما يؤخذ من يد الكافر أو يوجد في أرضهم‌

______________________________________________________

قال : « سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشتري الخف ، لا يدري أذكي هو أم لا ، ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري أيصلي فيه؟ قال : نعم ، أنا اشترى الخف من السوق ويصنع لي وأُصلي فيه وليس عليكم المسألة » (١).

بل وفي بعض الأخبار الحث والترغيب على معاملة الطهارة والذكاة مع ما يؤخذ من أسواق المسلمين فعن الحسن بن الجهم قال : « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : أعترض السوق فأشتري خفاً لا أدري أذكي هو أم لا؟ قال : صل فيه قلت : فالنعل قال : مثل ذلك ، قلت إنى أضيق من هذا ، قال : أترغب عما كان أبو الحسن عليه‌السلام يفعله » (٢).

وما ذكرناه مضافاً إلى أنه من لوازم اعتبار السوق كما عرفت هو الذي جرت عليه سيرة المسلمين لأنه لم يعهد منهم السؤال عن كفر البائع وإسلامه في شي‌ء من أسواقهم ، وعليه فلا وجه للمناقشة في اعتبارها كما عن بعضهم.

ثم ان أمارية السوق لا يعتبر فيها الايمان لأن الأسواق في تلك الأزمنة كان أهلها من العامة الذين يرون طهارة الميتة بالدبغ لقلة الشيعة وتخفيهم في زمانهم عليهم‌السلام ومع هذا حكموا باعتبارها. هذه خلاصة أمارات التذكية وسوف نستوفي البحث عنها في مبحث الصلاة إن شاء الله (٣).

ما يوجد في أرض المسلمين :

(١) وتدل عليه صحيحة إسحاق بن عمار المتقدمة كما عرفت وجهها آنفاً.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٩٢ / أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ٦ ، ٩.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٩٢ / أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ٦ ، ٩.

(٣) في المسألة [١٢٧٧].

٤٥٤

محكوم بالنجاسة (*) إلاّ إذا علم سبق يد المسلم عليه (١).

[١٧٢] مسألة ٨ : جلد الميتة لا يطهر بالدبغ (٢).

______________________________________________________

(١) المنع عن ترتيب آثار الطهارة فيما هو مفروض المسألة وإن كان بالإضافة إلى حرمة أكله وعدم جواز الصلاة فيه مما لا غبار عليه ، لأنه مقتضى أصالة عدم التذكية فإن يد الكافر كلا يد ، إلاّ أنه بالإضافة إلى نجاسته وحرمة الانتفاع مما لا يمكن المساعدة عليه إذ ليست يد الكافر أمارة على أن ما فيها ميتة. نعم ، هي ليست بأمارة على التذكية فحسب واستصحاب عدمها لا يثبت أنه ميتة وهي الموضوع للحكم بالنجاسة وحرمة الانتفاع ، ومن هذا يظهر الحال في مثل الخف والجلد واللحم ونظائرها مما يجلب من بلاد الكفر فإنّه إذا احتملنا سبقها بيد المسلم أو بسوقه يحكم بطهارتها وجواز الانتفاع بها ، إذ لا يترتب على أصالة عدم التذكية إلاّ حرمة أكلها وعدم جواز الصلاة فيها.

عدم مطهّريّة الدبغ :

(٢) لم يستشكل أحد من الأصحاب في طهارة ميت المسلم بعد غسله كما لا خلاف في أن ميتة غير الآدمي غير قابلة للطهارة بشي‌ء في غير جلدها فهذان حكمان اتفاقيان بينهم ، وإنما النزاع والخلاف في جلد ميتة غير الآدمي وأنه هل يقبل الطهارة بالدبغ؟

ذهب أكثر العامّة إلى أن ذكاة الجلد دباغته (١) ولم ينقل ذلك من أحد من أصحابنا‌

__________________

(*) لا يخلو الحكم بالنجاسة من إشكال بل منع ، لأن النجاسة مترتبة على عنوان الميتة وهو لا يثبت باستصحاب عدم التذكية. نعم ، المأخوذ من يد الكافر أو ما يوجد في أرضهم لا يجوز أكله ولا الصلاة فيه ، وبذلك يظهر الحال في كل ما يشك في تذكيته وعدمها وإن لم يكن مأخوذاً من يد الكافر كاللّقطة في البر ونحوها في غير بلاد المسلمين.

(١) ذهبت الحنفية إلى أن الدباغ يطهر جلود الميتة إذا كانت تحتمل الدبغ ووافقتهم الشافعية على ذلك إلاّ أنهم خصوا الدبغ المطهر بما له خرافة ولذع في اللسان وأيضاً نسب القول بمطهرية الدبغ إلى المحققين من المالكية كما في الفقه على المذاهب الأربعة ج ١ ص ٢٦ ٢٧.

٤٥٥

سوى ابن الجنيد (١) وعن المحدث الكاشاني الميل إليه (٢) وأيضاً نسب ذلك إلى الصدوق قدس‌سره نظراً إلى أنّ فتاواه تتحد غالباً مع الفقه الرضوي وقد ورد التصريح فيه بطهارة الجلد بالدبغ كما يأتي عن قريب ، ولأجل أنه قدس‌سره أفتى في مقنعه (٣) بجواز التوضؤ من الماء إذا كان في زق من جلد الميتة ، فإنّه لم يرد بذلك مطلق الميتة لأن القول بطهارتها مخالف للإجماع القطعي بينهم فيتعيّن إرادة الميتة المدبوغة لا محالة هذا.

وقد استدل على ذلك بأُمور :

منها : مرسلة الصدوق « سئل الصادق عليه‌السلام عن جلود الميتة يجعل فيها اللبن والماء والسمن ما ترى فيه؟ فقال : لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن وتتوضأ منه وتشرب ولكن لا تصلي فيها » (٤). فإن إطلاقها وإن كان يشمل الميتات كلها سواء دبغت أم لم تدبغ إلاّ أن قيام الإجماع القطعي ودلالة الأخبار المتقدمة على نجاسة الميتة يجعلان الرواية صريحة في إرادة خصوص الميتة المدبوغة. هذا على أن الجلود تفسد وتنتن بمرور الزمان ولا يمكن إبقاؤها من غير دباغة فجعل الماء أو غيره في الجلد يكشف عن أنه كان مدبوغاً في مورد السؤال.

ومنها : رواية الفقه الرضوي : دباغة الجلد طهارته (٥).

ومنها : خبر الحسين بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في جلد شاة ميتة يدبغ فيصب فيه اللّبن أو الماء فأشرب منه وأتوضأ؟ قال : نعم وقال : يدبغ فينتفع به ولا يصلّى فيه » الحديث (٦).

ولا يخفى أن هذه الأخبار مضافاً إلى ضعف أسنادها بل وعدم ثبوت كون بعضها‌

__________________

(١) المختلف ١ : ٣٤٢.

(٢) مفاتيح الشرائع ١ : ٦٨.

(٣) المقنع : ١٨.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٦٣ / أبواب النجاسات ب ٣٤ ح ٥.

(٥) فقه الرضا : ٣٠٢.

(٦) الوسائل ٢٤ : ١٨٦ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣٤ ح ٧.

٤٥٦

رواية فلا يمكن الاعتماد عليها في الخروج عن عمومات نجاسة الميتة معارضة بعدة روايات مستفيضة ، وفيها ما هو صريح الدلالة على عدم طهارة الجلد بالدباغة فتتقدم على تلك الأخبار ومعها لا مناص من حملها على التقية وإليك بعضها :

منها : صحيحة محمد بن مسلم قال : « سألته عن جلد الميتة أيلبس في الصلاة إذا دبغ؟ قال : لا وإن دبغ سبعين مرة » (١).

ومنها : ما رواه علي بن أبي المغيرة قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الميتة ينتفع منها بشي‌ء؟ فقال لا ، قلت : بلغنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بشاة ميتة فقال : ما كان على أهل هذه الشاة إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها؟ فقال : تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتى ماتت فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما كان على أهلها إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها أي تذكى » (٢) فقد دلّت على حرمة الانتفاع بإهاب الميتة سواء دبغ أم لم يدبغ.

ومنها : خبر عبد الرحمن بن الحجاج قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إني أدخل سوق المسلمين أعني هذا الخلق الذين يدّعون الإسلام فأشتري منهم الفراء للتجارة ، فأقول لصاحبها : أليس هي ذكية؟ فيقول : بلى فهل يصلح لي أن أبيعها على أنها ذكية؟ فقال : لا ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول : قد شرط لي الذي اشتريتها منه أنها ذكية قلت : وما أفسد ذلك؟ قال استحلال أهل العراق للميتة ، وزعموا أن دباغ جلد الميتة ذكاته ، ثم لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك إلاّ على رسول الله » (٣).

ومنها : ما عن أبي بصير قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في الفراء فقال : كان علي بن الحسين عليه‌السلام رجلاً صرداً لا يدفئه فراء الحجاز لأن دباغها بالقَرَظ فكان يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه ، فاذا‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٥٠١ / أبواب النجاسات ب ٦١ ح ١.

(٢) الوسائل ٣ : ٥٠٢ / أبواب النجاسات ب ٦١ ح ٢ ، وكذا ٢٤ : ١٨٤ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣٤ ح ١.

(٣) الوسائل ٣ : ٥٠٣ / أبواب النجاسات ب ٦١ ح ٤.

٤٥٧

ولا يقبل الطهارة شي‌ء من الميتات سوى ميت المسلم ، فإنّه يطهر بالغسل (١).

[١٧٣] مسألة ٩ : السَّقط قبل ولوج الروح (٢). نجس‌

______________________________________________________

حضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه فكان يسأل عن ذلك فقال : إن أهل العراق يستحلون لباس الجلود الميتة ويزعمون أن دباغه ذكاته » (١).

ومنها : صحيحة أو موثقة أبي مريم قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام السخلة التي مرّ بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي ميتة ، فقال : ما ضر أهلها لو انتفعوا بإهابها ، قال : فقال أبو عبد الله عليه‌السلام لم تكن ميتة يا أبا مريم ولكنها كانت مهزولة فذبحها أهلها فرموا بها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان على أهلها لو انتفعوا بإهابها » (٢).

ومنها : موثقة سماعة قال : « سألته عن جلود السباع أينتفع بها؟ فقال : إذا رميت وسميت فانتفع بجلده ، وأمّا الميتة فلا » (٣) هذا على أنّا لو سلمنا مكافئتها مع الأخبار المتقدمة فتتعارضان والترجيح مع الطائفة الدالة على نجاسة الجلد ولو كان مدبوغاً لموافقتها السنة أعني عمومات نجاسة الميتة مطلقاً ، ومخالفتها للعامة كما مرّ.

(١) قد عرفت أن المسألة اتفاقية وتشهد لها جملة من النصوص منها : رواية إبراهيم بن ميمون قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل يقع ثوبه على جسد الميت ، قال : إن كان غسل فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه ، وإن كان لم يغسل فاغسل ما أصاب ثوبك منه ، يعني إذا برد الميت » (٤) ومنها غير ذلك من الأخبار.

(٢) وأمّا بعده أي بعد ما تجاوز أربعة أشهر فلا إشكال في نجاسته لأنه ميتة.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٤٦٢ / أبواب لباس المصلي ب ٦١ ح ٢.

(٢) الوسائل ٢٤ : ١٨٥ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣٤ ح ٣.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٨٩ / أبواب النجاسات ب ٤٩ ح ٢ ، وكذا ٢٤ : ١٨٥ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣٤ ح ٤.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٦١ / أبواب النجاسات ب ٣٤ ح ١.

٤٥٨

وكذا الفرخ في البيض (*) (١)

______________________________________________________

نجاسة الجنين :

(١) قد استدل على نجاسة الجنين إذا سقط قبل ولوج الروح فيه بوجوه :

الأوّل : أن الجنين حينئذٍ قطعة مبانة من الحي وقد تقدم أن حكمها حكم الميتة. وأُجيب عنه :

أولاً : بأن الجنين مخلوق مستقل نظير البيض في الدجاجة فلا يعد جزءاً من الحيوان أو الإنسان.

وثانياً : بأن الجنين على تقدير كونه جزءاً من امه فهو من الأجزاء التي لا تحلها الحياة ، وقد عرفت طهارتها.

وثالثاً : بأنه لا إطلاق فيما دل على نجاسة القطعة المبانة من الحي حتى يتمسك به لأن أدلّتها منحصرة بالأخبار الواردة فيما تقطعه الحبال وما ورد في قطع أليات الغنم ولا يشمل شي‌ء منهما المقام أعني ما لم يسبق بالحياة وكان ميتة من الابتداء.

الثاني : ما استدل به المحقق الهمداني قدس‌سره (١) من قوله عليه‌السلام « ذكاة الجنين ذكاة امه » (٢) بدعوى أن الرواية تدل على أن للجنين قسمين :

أحدهما مذكى والآخر ميتة والأول هو ما ذكي امه والميتة منه هو ما لم تقع على امه ذكاة ، وحيث إن المفروض في إسقاط الجنين عدم تذكية امه فلا محالة يحكم بنجاسته لأنه ميتة.

وهذا الاستدلال منه قدس‌سره غريب ، لأن غاية ما يمكن استفادته من‌

__________________

(*) الحكم بالنجاسة فيهما لا يخلو من إشكال ، والأحوط الاجتناب عنهما.

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٥٣٨ السطر ٢٧.

(٢) كما في صحيحة محمد بن مسلم وموثقة سماعة وغيرهما من الأخبار المروية في الوسائل ٢٤ : ٣٣ / أبواب الذبائح ب ١٨ ح ٣ ، ٢.

٤٥٩

الحديث أن الآثار المترتبة على تذكية الام تترتب على جنينها الخارج من بطنها ميتاً وكذا آثار عدم التذكية مترتبة على الجنين الميت بموت أُمه إذا لم تقع عليها التذكية فالرواية إنما تعرضت لحكم الحيوان الميت في بطن امه ، وأمّا الجنين الخارج عن موضوع الحيوان لعدم ولوج الروح فيه وغير القابل للتذكية في نفسه فهو خارج عن مدلول الرواية رأساً.

الثالث : أن الجنين من مصاديق الميتة حقيقة ، لأن التقابل بين الموت والحياة تقابل العدم والملكة فلا يتوقف صدق الموت على سبق الحياة ، كما أن صدق الموات في الأراضي لا يتوقف على سبق عمرانها وصدق العمى لا يتوقف على سبق البصر وإنما يعتبر فيه قابلية المحل فحسب ، وعليه فتصدق الميتة على الجنين لأنه من شأنه أن يكون ذا حياة.

وردّ : بأنه ليس في شي‌ء من أدلة نجاسة الميتة ما يشمل المقام ، حيث إنها إنما وردت في مثل الفأرة تقع في ماء أو زيت أو بئر أو الدابة الميتة ونحوهما مما كان مسبوقاً بالحياة ، فلا تشمل غير المسبوق بها كما في المقام.

وفيه : أن هذا الجواب إنما يتم بالإضافة إلى بعض الأخبار الواردة في نجاسة الميتة ولا يتم بالنسبة إلى الجميع ، فإن الجيفة في مثل صحيحة حريز عن الصادق عليه‌السلام « كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب فاذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا توضأ منه ولا تشرب » (١) مطلقة تشمل الجنين ، لاشتماله على النتن بل ويشمل المذكى أيضاً إذا أنتن إلاّ أنّا خرجنا عن إطلاقها في المذكى بما دلّ على طهارته مطلقاً ، وأمّا غيره فيبقى تحت إطلاقها ومنه الجنين. وظني أن هذا أحسن استدلال على نجاسة الجنين ، ومن ذلك يظهر حكم الفرخ في البيض ، لأنها أيضاً من الجيفة فلا مناص من الحكم بنجاسته ، هذا مضافاً إلى أن المسألة إجماعية كما ادعي.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٧ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١.

٤٦٠