موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

فتكون الجملتان من قبيل الخبرين المتعارضين.

ويؤيد تعدّدها قوله : « وقال لا بأس ... » لأنها لو كانت رواية واحدة لم يكن وجه لقوله وقال ، بل الصحيح أن يقول حينئذ حرام بيعها وثمنها ولا بأس ببيع العذرة ويؤكده أيضاً الإتيان بالاسم الظاهر في قوله : « لا بأس ببيع العذرة » فإنّها لو كانت رواية واحدة لكان الأنسب أن يأتي بالمضمر بدلاً عن الاسم الظاهر بأن يقول لا بأس ببيعها ، وكيف كان فالظاهر أنها روايتان متعارضتان ومقتضى الجمع العرفي بينهما حمل المنع على الكراهة بإرادة المكروه من كلمة الحرام بقرينة قوله لا بأس ببيع العذرة كما هو الحال في كل مورد تعارض فيه كلمة الحرام ونفي البأس ، فإنّهم يجعلون الثاني قرينة على إرادة الكراهة من الحرام ، كما ذهب إليه السبزواري قدس‌سره ، هذا كلّه مع قطع النظر عن رواية يعقوب بن شعيب. وأمّا إذا اعتمدنا عليها فالأمر أيضاً كما عرفت فنحمل كلمة السحت أو الحرام على الكراهة بقرينة نفي رواية الجواز.

إلاّ أن شيخنا الأنصاري قدس‌سره استبعد حمل السحت على الكراهة (١) ولعلّه من جهة أن السحت بمعنى الحرام الشديد ، ولكن الأمر ليس كما أُفيد ، لأن السحت قد استعمل بمعنى الكراهة في عدة روايات :

منها : ما ورد من أن ثمن جلود السباع سحت (٢).

ومنها : ما دلّ على أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن من السحت (٣).

__________________

(١) المكاسب ١ : ٢٤.

(٢) المستدرك ١٣ : ١٢٠ / أبواب ما يكتسب به ب ٣١ ح ٢ عن دعائم الإسلام عن علي عليه‌السلام أنه قال : « من السحت ثمن جلود السباع ». وفي المصدر السابق ص ١٠٦ ب ٢٢ ح ٣ عن الجعفريات عن علي عليه‌السلام قال : « من السحت ثمن الميتة إلى أن قال : ثمن القرد وجلود السباع ».

(٣) المستدرك ١٣ : ١١٦ / أبواب ما يكتسب به ب ٢٦ ح ٢ عن ابن عباس في قوله تعالى ( أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ ) قال : اجرة المعلمين الذين يشارطون في تعليم القرآن وفي ص ١١٧ ح ٥ عن الجعفريات عن عليّ عليه‌السلام قال : « من السحت ثمن الميتة إلى أن قال وأجر القارئ الذي لا يقرأ القرآن إلاّ بأجر ».

٤٠١

ومنها : ما ورد من أن ما يأخذه الحجام مع المشارطة سحت (١) وقد حملوه على الكراهة الشديدة لمعارضتها بما دلّ على الجواز (٢) بل وفي لسان العرب انّ السحت يستعمل في الحرام تارة ويستعمل في المكروه اخرى (٣) ، ومع ورود استعمال السحت بمعنى الكراهة في الأخبار ، وتصريح أهل اللغة بصحته لا محذور في حمله على الكراهة الشديدة في المقام.

هذا ثم لو سلمنا عدم إمكان الجمع العرفي بينهما فلا بدّ من الرجوع إلى المرجحات والترجيح مع الروايات الدالة على الجواز لأنها مخالفة للعامة ، كما أن ما دلّ على عدم جوازه موافق معهم لذهابهم قاطبة إلى بطلان بيع النجس (٤) ، وما نسبه العلاّمة قدس‌سره إلى أبي حنيفة من ذهابه إلى جواز بيع الغائط (٥) على خلاف الواقع ، لأن بطلان بيع النجاسات إجماعي بينهم. بل يمكن ترجيح المجوّزة من جهة موافقتها للكتاب لأنها موافقة لعمومات حل البيع والتجارة عن تراض ، ومع التنزل عن ذلك‌

__________________

(١) المستدرك ١٣ : ٧٤ / أبواب ما يكتسب به ب ٨ ح ١ عن الجعفريات عن علي عليه‌السلام أنه قال : « من السحت كسب الحجام » وعن العياشي عن الصادق والكاظم عليهما‌السلام انّهما قالا : « إن السحت أنواع كثيرة منها كسب الحجام ».

(٢) الوسائل ١٧ : ١٠٤ / أبواب ما يكتسب به ب ٩ ح ١ ، ٤ وغيرهما.

(٣) لسان العرب ٢ : ٤١.

(٤) ففي الوجيز للغزالي ج ١ ص ٨٠ لا يجوز بيع الأعيان النجسة. وفي تحفة المحتاج لابن حجر الشافعي ج ٢ ص ٨ يشترط في المبيع طهارة عينه فلا يجوز بيع سائر نجس العين كالخمر والميتة والخنزير ولا يجوز بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره بالغسل كالخل واللبن والدهن في الأصح. وفي بداية المجتهد لابن رشد المالكي ج ٢ ص ١٣٦ الأصل في تحريم بيع النجاسات حديث جابر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. وفي المغني لابن قدامة الحنبلي ج ٤ ص ٣٠٢ أنه لا يجوز بيع السرجين النجس وعليه مالك والشافعي وجوزه أبو حنيفة ، ولنا أنه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة. ونقل في حياة الحيوان للدميري ص ٢٢٠ ٢٢١ عن أبي حنيفة القول بجواز بيع السرجين ثم أورد عليه بأنه نجس العين فلم يجز بيعه كالعذرة فإنّهم وافقونا على بطلان بيعها ...

(٥) المنتهي ٢ : ١٠٠٨ السطر ٤١.

٤٠٢

نعم ، يجوز الانتفاع بهما في التسميد ونحوه (١).

______________________________________________________

أيضاً فلا مناص من تساقطهما ، ومعه يرجع إلى العموم الفوق أعني إطلاقات حل البيع والتجارة وهي مقتضية لجواز بيع العذرة.

فالمتحصل أن الأبوال والغائط مما لا يؤكل لحمه كالأبوال والغائط من الحيوانات المحللة فلا إشكال في جواز بيعهما.

الانتفاع بالبول والغائط :

(١) هذه هي المسألة الثالثة ، والمعروف فيها بين الأصحاب حرمة الانتفاع بالأعيان النجسة إلاّ في موارد استثنوها في كلماتهم ، ويظهر من ملاحظتها أن منعهم عن الانتفاع يشمل المتنجسات أيضاً كما في الدهن المتنجس حيث رخصوا في الانتفاع به بالاستصباح مطلقاً أو مقيداً بكونه تحت السماء كما اعتبره بعضهم. ولكن الأظهر وفاقاً لشيخنا الأنصاري قدس‌سره عدم حرمة الانتفاع بالمتنجسات ولا بالأعيان النجسة ، ولا ملازمة بين نجاسة الشي‌ء وحرمة الانتفاع به (١).

أمّا في المتنجسات : فلأنه لم يدل دليل على حرمة الانتفاع بها ، وما استدلّ به على حرمة الانتفاع بالأعيان النجسة على تقدير تماميته يختص بها كقوله عزّ من قائل ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) (٢) بدعوى أن المراد بالرجز هو الرجس وهو يشمل المتنجس أيضاً ، وإطلاق الأمر بهجره يقتضي الاجتناب عن مطلق الانتفاع به. والوجه في اختصاصه بالعين النجسة أن الرجس بمعنى الدني‌ء « پليد » وهو لا يطلق على النجس بالعرض كالفاكهة المتنجسة ، هذا.

والصحيح أنّ الآية أجنبيّة عن الدلالة على حرمة الانتفاع بشي‌ء من الأعيان‌

__________________

(١) المكاسب ٢ : ٨٢.

(٢) المدثر ٧٤ : ٥.

٤٠٣

[١٦٣] مسألة ٣ : إذا لم يعلم كون حيوان معيّن أنه مأكول اللحم أو لا لا يحكم بنجاسة بوله وروثه (١).

______________________________________________________

النجسة أو المتنجسة ، وذلك لأن المراد بالرجز في الآية المباركة إنما هو الفعل القبيح أو أنه بمعنى العذاب ، لأن إسناد الأمر بالهجر إليه بأحد هذين المعنيين إسناد إلى ما هو له من غير حاجة فيه إلى إضمار وتقدير ، وهذا بخلاف ما إذا أُريد به الأعيان القذرة ، لأنه إسناد إلى غير ما هو له ويحتاج فيه إلى الإضمار ، هذا على أن هجر الشي‌ء عبارة عن اجتناب ما يناسبه من الآثار الظاهرة فلا يعم مطلق الانتفاع به وتفصيل الكلام في الجواب عن الاستدلال بالآية المباركة موكول إلى محلّه (١).

وأمّا النجاسات : فهي أيضاً كالمتنجسات لم يقم دليل على حرمة الانتفاع بها إلاّ في موارد خاصة كما في الانتفاع بالميتة بأكلها ، وفي الخمر بشربه أو بغيره من الانتفاعات ، وأمّا حرمة الانتفاع من النجس بعنوان أنه نجس فلم تثبت بدليل ، ومعه يبقى تحت أصالة الحل لا محالة.

وأحسن ما يستدل به على حرمة الانتفاع بالأعيان النجسة رواية تحف العقول لاشتمالها على النهي عن بيع وجوه النجس معللاً بعدم جواز الانتفاع به (٢) ويدفعه : أنها ضعيفة وغير قابلة للاعتماد. وقد يستدل على ذلك بغير ما ذكرناه من الوجوه إلاّ أنها ضعيفة لا ينبغي تضييع الوقت الثمين بالتصدي لنقلها ودفعها.

الشك في حلية حيوان وحرمته :

(١) الشك في ذلك تارة من جهة الشبهة الحكمية ، كما إذا ولد حيوان مما يؤكل لحمه‌

__________________

(١) مصباح الفقاهة ١ : ١٧٢.

(٢) حيث قال عليه‌السلام « أو شي‌ء من وجوه النجس فهذا كلّه حرام ومحرم لأن ذلك كلّه منهي عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلب فيه. [ تحف العقول : ٣٣١ ] ورواها في الوسائل ١٧ : ٨٣ / أبواب ما يكتسب به ب ٢ ح ١.

٤٠٤

وما لا يؤكل ولم يشبه أحدهما ، وكما إذا شككنا في الأرنب مثلاً أنه يحل أكل لحمه أو يحرم. وأُخرى من جهة الشبهة الموضوعية ، كما إذا شككنا في أن الموجود في الخارج غنم أو قرد ولم يعلم حاله لظلمة ونحوها.

أمّا الشبهات الحكمية : فالمرجع فيها إنما هو قاعدة الطهارة في كل من البول والخرء ، لأن النجاسة إنما علقت على كون الحيوان محرم الأكل شرعاً ولم نحرزه في المقام ، ولذا نشك في طهارة بوله ونجاسته ومقتضى قاعدة الطهارة طهارة كل من بوله وخرئه. نعم ، إنما يحكم بذلك بعد الفحص عن تشخيص حال الحيوان من حيث حرمة أكل لحمه وإباحته كما هو الحال في جريان الأصل في جميع الشبهات الحكمية.

وأمّا الشبهات الموضوعية : فحالها حال الشبهات الحكمية ، فيرجع فيها أيضاً إلى قاعدة الطهارة من غير اشتراط ذلك بالفحص نظير غيرها من الشبهات الموضوعية.

وقد خالف في ذلك صاحب الجواهر قدس‌سره حيث احتمل عدم جواز الرجوع إلى أصالة الطهارة قبل الفحص والاختبار بدعوى : أن الاجتناب عن بول ما لا يؤكل لحمه يتوقّف على الاحتراز عن بول ما يشك في حلية أكله ، وذكر أن حال المقام حال الشك في القبلة أو الوقت أو غيرهما مما علق الشارع عليه أحكاماً ، فكما أن الرجوع فيهما إلى الأصل غير سائغ قبل الفحص فكذلك الحال في المقام. نعم ، لا مانع من الحكم بطهارة ملاقيه لاستصحاب طهارته ، وقال إن المسألة غير منقحة في كلماتهم (١).

ولكن الصحيح عدم اعتبار الفحص في المقام نظير غيره من الشبهات الموضوعية لإطلاق الدليل أعني قوله عليه‌السلام « كل شي‌ء نظيف ... » (٢) وأمّا القبلة والوقت وأمثالهما فقياس المقام بها قياس مع الفارق ، لأنها من قيود المأمور به والتكليف فيها معلوم ، والتردد في متعلقه فلا بدّ فيها من الاحتياط ، وأمّا النجاسة في مدفوعي ما لا يؤكل لحمه فهي حكم انحلالي ، ولكل فرد من أفرادهما حكم مستقل ، وهي كغيرها‌

__________________

(١) الجواهر ٥ : ٢٨٩.

(٢) كما في موثقة عمار المروية في الوسائل ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤.

٤٠٥

من الأحكام الشرعية مجعولة على نحو القضايا الحقيقية التي مرجعها إلى قضايا شرطية مقدمها وجود موضوعاتها كالبول والخرء في المقام وتاليها ثبوت محمولاتها ، وعليه فاذا وجد في الخارج شي‌ء وصدق عليه أنه بول ما لا يؤكل لحمه فيترتّب عليه حكمه.

وأمّا إذا شككنا في ذلك ولم ندر أنه بول ما لا يؤكل لحمه ، فلا محالة نشك في نجاسته وهو من الشك في أصل توجه التكليف بالاجتناب عنه ، وغير راجع إلى الشك في المكلف به مع العلم بالتكليف ، لأن العلم بالحكم في بقية الموارد لا ربط له بالحكم في مورد الشك ، فلا وجه معه للزوم الاحتياط قبل الفحص ، هذا.

وقد يورد على الحكم بطهارة مدفوعي الحيوان المشكوك حرمته بوجهين :

أحدهما : أن ذلك إنما يتم فيما إذا قيل بحلية أكل لحمه بأصالة الحلية لأنه حينئذٍ محلل الأكل ، ومدفوع الحيوانات المحللة طاهر ، ولا يوافق القول بحرمة أكله كما في المتن لأصالة عدم التذكية أو استصحاب حرمته حال الحياة ، لنجاسة مدفوع الحيوانات المحرمة فكيف يحكم بطهارة بوله وخرئه؟.

والجواب عن ذلك أن نجاسة البول والخرء إنما تترتب على الحرمة الثابتة على الحيوان في نفسه ، لا من جهة عدم وقوع التذكية عليه أو من جهة حرمة أكل الحيوان حال حياته ، والحرمة الثابتة بالأصل ليست من هذا القبيل ، لأنها إنما ثبتت للحيوان بلحاظ الشك في حليته وحرمته من جهة الشك في التذكية أو من جهة استصحاب الحرمة الثابتة حال حياة الحيوان ، وعلى كل حال فهي أجنبية عن الحرمة الثابتة للحيوان في ذاته ونفسه.

وثانيهما : أن الحكم بطهارة البول والخرء مما يشك في حليته إنما يتم فيما إذا لم يكن هناك ما يقتضي نجاسة مطلق البول ، وأمّا معه كقوله عليه‌السلام في السؤال عن بول أصاب بدنه أو ثيابه : « صبّ عليه الماء أو اغسله مرّتين » (١) وغيره مما دلّ على‌

__________________

(١) كما في صحيحة محمّد بن مسلم ورواية ابن أبي نصر البزنطي المرويتين في الوسائل ٣ : ٣٩٥ / أبواب النجاسات ب ١ ح ١ ، ٧ ، وغيرهما.

٤٠٦

وإن كان لا يجوز أكل لحمه بمقتضى الأصل (*) (١).

______________________________________________________

نجاسة البول مطلقاً فلا يمكن الحكم بطهارتهما. وهذه المطلقات وإن كانت مخصّصة ببول ما يؤكل لحمه بلا خلاف ، والحيوان المشكوك إباحته من الشبهات المصداقية حينئذٍ ، إلاّ أن مقتضى استصحاب عدم كونه محلل الأكل على نحو العدم الأزلي أنه من الأفراد الباقية تحت العام ، لأن الخارج وهو الحيوان المحلّل أكله عنوان وجودي وهو قابل لإحراز عدمه بالاستصحاب الجاري في الأعدام الأزلية ، وبه يحكم بدخوله تحت العمومات ومقتضاها نجاسة بوله وخرئه كما مرّ.

ويردّه : أن جريان الاستصحاب بلحاظ مقام الجعل يختص بما إذا كان المشكوك فيه من الأحكام الإلزامية أو ما يرجع إليها لأنها هي التي يتعلق عليها الجعل المولوي ، وأمّا الأحكام الترخيصية كالإباحة والحلية فهي غير محتاجة إلى الجعل ، بل يكفي في ثبوتها عدم جعل الإلزام من الوجوب أو التحريم ، وعليه فاستصحاب العدم الأزلي لإثبات عدم حلية الحيوان غير جار في نفسه ، ولا يمكن معه إحراز كون الفرد المشتبه من الأفراد الباقية تحت العام ولا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ولا مناص حينئذٍ من الرجوع إلى قاعدة الطهارة للشك في طهارة البول.

وعلى الجملة لا ملازمة بين القول بحرمة أكل الحيوان وبين القول بنجاسة بوله فيمكن الحكم بطهارة بوله مع الحكم بحرمة لحمه ، كما يمكن الحكم بحلية لحمه لأصالة الحلية ونحوها مع الحكم بنجاسة بوله بمقتضى العمومات المتقدمة مع قطع النظر عما ذكرناه في الجواب.

الشك في الحلِّيّة مع العلم بالقابلية‌

(١) الشك في حرمة الحيوان على تقدير ذبحه قد يكون من جهة الشبهة الحكمية‌

__________________

(*) لا أصل في المقام يقتضي الحرمة ، أمّا مع العلم بقبول الحيوان للتذكية فالأمر ظاهر ، وأمّا مع الشك فيه فلأن المرجع حينئذٍ هو عموم ما دلّ على قبول كل حيوان للتذكية إذا كانت الشبهة حكمية ، واستصحاب عدم كون الحيوان المشكوك فيه من العناوين الخارجة إذا كانت الشبهة موضوعية.

٤٠٧

وقد يكون من جهة الشبهة الموضوعية ، وعلى كلا التقديرين فقد يعلم قبوله للتذكية وقد يشك في ذلك.

أمّا إذا كان الشك من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية مع العلم بقبول الحيوان للتذكية كما إذا شككنا في حرمة لحم الأرنب أو شككنا في أن الحيوان شاة أو ذئب لظلمة ونحوها ، وكثيراً ما يتفق ذلك في الطيور لأنها قابلة للتذكية إلاّ أن بعضها محرم الأكل ، فقد ذهب جماعة من المحققين قدس‌سرهم إلى حرمة كل لحم يشك في حلية حيوانه ، وذلك للأصل الثانوي ، إلاّ أنّا لم نقف على وجهه. مع أن مقتضى أصالة الإباحة حليته كغيره مما يشك في حرمته ، وغاية الأمر أن يقال إن الحرمة بعد ذبحه هي التي يقتضيها استصحاب الحرمة الثابتة عليه قبل ذبحه ، إلاّ أنه مما لا يمكن المساعدة عليه.

أمّا أوّلاً : فلتوقفه على حرمة لحم الحيوان حال حياته ، ولم نعثر على دليل يدل عليها ، فان قوله تعالى ( إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (١) ناظر إلى الحيوان الذي طرأ عليه الموت فإنّه على قسمين : قسم تقع عليه التذكية وهو حلال ، وقسم لا تقع عليه وهو حرام وأمّا أكله من دون أن يطرأ عليه الموت قبل ذلك كابتلاع السمكة الصغيرة أو غيرها حية مما يحل أكل لحمه فلا دلالة للآية المباركة على حرمته.

وأمّا حرمة القطعة المبانة من الحي فهي مستندة إلى كون القطعة المبانة ميتة ، وكلامنا في حرمة أكل الحيوان دون الميتة. وعلى الجملة لم تثبت حرمة أكل الحيوان قبل ذبحه حتى نستصحبها عند الشك بعد ذبحه ، هذا كله على مسلك القوم وأمّا على مسلكنا من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية الإلهية فعدم إمكان إثبات حرمة الأكل بالاستصحاب بعد ذبح الحيوان أظهر.

وأمّا ثانياً : فلأن الحرمة على تقدير تسليمها حال الحياة إنما تثبت على الحيوان بعنوان عدم التذكية ، وبعد فرض وقوع التذكية عليه خارجاً وقابليته لها يتبدل عدم التذكية إلى التذكية ، ومع زوال عنوان عدم التذكية تنتفي حرمته لا محالة.

وأمّا ثالثاً : فلأن استصحاب حرمة الأكل على تقدير جريانه في نفسه محكوم‌

__________________

(١) المائدة ٥ : ٣.

٤٠٨

بالعمومات الواردة في حلية كل حيوان وقعت عليه التذكية إلاّ ما خرج بالدليل كما دلّ على حلية ما يتصيد من الحيوانات البرية والبحرية (١) وكقوله تعالى ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ... ) (٢) فإن مقتضاهما حلية جميع الحيوانات بالتذكية إلاّ ما خرج بالدليل ، وبما أن الشبهة حكمية فلا بدّ فيها من التمسك بالعام ما لم يقم دليل على خلافه.

وعليه فالأصل العملي واللفظي يقتضيان حلية الحيوان المشكوك فيه عند العلم بقابليته للتذكية ، وهذا من غير فرق بين الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية. نعم ، تمتاز الثانية من الاولى في أن التمسك بالعمومات فيها إنما هو ببركة الاستصحاب الجاري في العدم الأزلي ، لأن أصالة العدم الأزلي تقتضي عدم كونه من الحيوانات الخارجة عن تحتها كالكلب والخنزير وأشباههما.

الشك في الحلية مع عدم العلم بالقابلية‌

وأمّا إذا شككنا في حرمته وحليته مع الشك في قابليته للتذكية كما في المسوخ فهل تجري حينئذٍ أصالة عدم التذكية؟

التحقيق عدم جريانها من دون فرق في ذلك بين كون الشبهة حكمية وكونها موضوعية ، وذلك لأن التذكية إن قلنا بكونها عبارة عن الأفعال الخارجية الصادرة من الذابح من فري الأوداج الأربعة بالحديد كما هو المستفاد من قوله عليه‌السلام « بلى » في رواية علي بن أبي حمزة قال « سألت أبا عبد الله وأبا الحسن ( عليهما‌السلام )

__________________

(١) كصحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « من جرح صيداً بسلاح وذكر اسم الله عليه ثم بقي ليلة أو ليلتين لم يأكل منه سبع وقد علم أن سلاحه هو الذي قتله فليأكل منه إن شاء » الحديث. وما عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « كل من الصيد ما قتل السيف والرمح والسهم » الحديث. المرويتين في الوسائل ٢٣ : ٣٦٢ / أبواب الصيد ب ١٦ ح ١ ، ٢. وفي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « سألته عن صيد الحيتان وإن لم يسم عليه قال : لا بأس به » المروية في الوسائل ٢٣ : ٣٨٥ / أبواب الصيد ب ٣٣ ح ١.

(٢) الأنعام ٦ : ١٤٥.

٤٠٩

عن لباس الفراء والصلاة فيها؟ فقال : لا تصل فيها إلاّ فيما كان منه ذكيا ، قال قلت : أو ليس الذكي مما ذكي بالحديد؟ قال : بلى إذا كان مما يؤكل لحمه » (١) وقوله عليه‌السلام « ذكّاه الذبح أو لم يذكه » (٢) في موثقة ابن بكير حيث أسند التذكية إلى الذابح فلا شكّ لنا في التذكية للعلم بوقوعها على الحيوان ، وإنما نشك في حليته فنرجع فيه إلى أصالة الحل.

وإن قلنا إن التذكية أمر بسيط أو أنها مركبة من الأُمور الخارجية ومن قابلية المحل ، فأصالة عدم تحقق التذكية وإن كانت جارية في نفسها إلاّ أنها محكومة بالعمومات الدالة على قابلية كل حيوان للتذكية ، ففي صحيحة علي بن يقطين قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن لباس الفراء والسمور والفنك والثعالب وجميع الجلود قال : لا بأس بذلك » (٣) ومعنى نفي البأس في جميع الجلود أنه لا مانع من لبسها مطلقاً ولو في حال الصلاة ، فتدل بالدلالة الالتزامية على تذكيتها ، إذ لو لم تكن كذلك لم يجز لبسها إما مطلقاً لو قلنا بعدم جواز الانتفاع بالميتة كما يأتي عن قريب أو في خصوص حال الصلاة.

وعلى الجملة الجلود على قسمين : فمنها ما نقطع بعدم قبول حيوانه للتذكية وإن وقع عليه الذبح بجميع ما يعتبر فيه شرعاً كما في جلد الكلب والخنزير ، أو نقطع بعدم تذكيته وإن كان قابلاً لها ومنه ما يقطع من الحي ، ولا إشكال في خروج جميع ذلك عن عموم نفي البأس في الجلود ، وقسم نقطع بوقوع التذكية عليه مع الشك في قابليته لها وعموم نفي البأس في جميع الجلود يشمله وبه نحكم بقبول كل حيوان للتذكية إلاّ ما خرج بالدليل ، ومع هذا العموم لا مجال لاستصحاب عدم التذكية.

ثم على تقدير جريانه فهل يترتب عليه النجاسة أيضاً أو لا يترتب عليه غير آثار عدم التذكية؟ فيه بحث طويل تعرضنا له في المباحث الأُصولية ، وحاصله : أن النجاسة لم تترتّب في شي‌ء من الأدلّة على عنوان غير المذكى وإنما هي مترتبة على عنوان الميتة ، وهي كما نصّ عليه في المصباح عنوان وجودي وهو غير عنوان عدم‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلِّي ب ٢ ح ٢ ، ١.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلِّي ب ٢ ح ٢ ، ١.

(٣) الوسائل ٤ : ٣٥٢ / أبواب لباس المصلِّي ب ٥ ح ١.

٤١٠

وكذا إذا لم يعلم أن له دماً سائلاً أم لا ، كما أنه إذا شكّ في شي‌ء أنه من فضلة حلال اللّحم أو حرامه ، أو شكّ في أنه من الحيوان الفلاني حتى يكون نجساً أو من الفلاني حتى يكون طاهراً كما إذا رأى شيئاً لا يدري أنه بعرة فأر أو بعرة خنفساء ففي جميع هذه الصور يبني على طهارته (١).

______________________________________________________

التذكية (١). نعم ، هما متلازمان إلاّ أن عنوان الميتة لا يثبت باستصحاب عدم التذكية فلا يترتب على استصحاب عدمها الحكم بالنجاسة بوجه. نعم ، يترتب عليه الآثار المترتبة على عنوان عدم التذكية من حرمة أكله وبطلان الصلاة فيه ، ومن ثمة حكمنا بطهارة الجلود المجلوبة من بلاد الكفر وكذا اللحوم المشكوكة من حيث التذكية.

(١) قد يفرض هذا فيما إذا دار أمر الفضلة بين حيوان له نفس سائلة كالفأرة وبين ما لا نفس له كالخنفساء ، وقد يفرض مع العلم بأنه من الحيوان المعين كالحية ولكن يشك في أن لها نفساً سائلة حيث ادعى بعضهم أن لها نفساً سائلة وأنكره بعض آخر والمرجع في كلا الفرضين هو قاعدة الطهارة.

وقد يتخيل أنه بناء على جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية لا بدّ من الحكم بالنجاسة مع الشك ، لأن ما دلّ بعمومه على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه وخرئه وإن خصص بما لا نفس له ، إلاّ أن استصحاب العدم الأزلي يقتضي بقاء الحيوان المشكوك فيه تحت العام وبذلك يحكم بنجاسة بوله وخرئه.

ولكن هذا الكلام بمعزل عن التحقيق ، لأن حال الموضوع وإن صحّ تنقيحه بإجراء الاستصحاب في العدم الأزلي وكبرى ذلك مما لا إشكال فيه ، إلاّ أن التمسك به في المقام ينتج إحراز خروج الفرد المشكوك فيه عن العام لإبقائه تحته ، وذلك لأن الخارج عنوان عدمي أعني ما لا نفس له ، فاذا شككنا في أنه مما له نفس سائلة فمقتضى الأصل أنه مما لا نفس له ، ويحرز بذلك دخوله تحت الخاص ويحكم عليه بطهارة بوله وخرئه ، والتمسك باستصحاب العدم الأزلي إنما ينتج في جواز التمسك بالعام فيما إذا كان‌

__________________

(١) المصباح المنير : ٥٨٤.

٤١١

[١٦٤] مسألة ٤ : لا يحكم بنجاسة فضلة الحية لعدم العلم بأن دمها سائل نعم ، حكي عن بعض السادة أن دمها سائل ، ويمكن اختلاف الحيات في ذلك. وكذا لا يحكم بنجاسة فضلة التمساح ، للشك المذكور وإن حكي عن الشهيد رحمه‌الله أن جميع الحيوانات البحرية ليس لها دم سائل إلاّ التمساح لكنه غير معلوم ، والكلية المذكورة أيضاً غير معلومة (١).

الثالث : المني من كل حيوان له دم سائل حراماً كان أو حلالاً (*) ، برياً أو بحرياً (٢).

______________________________________________________

الخارج عن عمومه عنواناً وجودياً حتى يحرز عدمه بالاستصحاب.

(١) قد ظهر حكم هذه المسألة مما أسلفناه في المسألة المتقدمة فلا نعيد.

نجاسة المنيّ :

(٢) يقع الكلام في هذه المسألة في مسائل أربع :

الأُولى : في نجاسة المني من الإنسان.

والثانية : في نجاسة المنيّ من الحيوانات التي لا يؤكل لحمها مما له نفس سائلة كالسباع.

والثالثة : في نجاسة المنيّ من الحيوانات المحللة التي لها نفس سائلة.

والرابعة : في مني ما لا نفس له محلّلاً كان أم محرّماً.

أمّا المسألة الاولى : فلا ينبغي الإشكال في نجاسة المني من الإنسان رجلاً كان أو امرأة ، بل نجاسته مما قامت عليه ضرورة الإسلام ولم يخالف فيه أحد من أصحابنا وتدل على ذلك صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « سألته عن المذي يصيب الثوب؟ فقال : ينضحه بالماء إن شاء وقال : في المني يصيب الثوب قال : إن عرفت مكانه فاغسله وإن خفي عليك فاغسله كلّه » (١) وبهذا المضمون غيرها من الروايات.

__________________

(*) على الأحوط.

(١) الوسائل ٣ : ٤٢٣ / أبواب النجاسات ب ١٦ ح ١.

٤١٢

وفي قبالها جملة من الأخبار تقتضي طهارة المني :

منها : صحيحة زرارة قال : « سألته عن الرجل يجنب في ثوبه أيتجفف فيه من غسله؟ فقال : نعم لا بأس به إلاّ أن تكون النطفة فيه رطبة ، فإن كانت جافة فلا بأس » (١).

ومنها : موثقة زيد الشحام قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الثوب تكون فيه الجنابة فتصيبني السماء حتى يبتل عليّ ، قال : لا بأس » (٢) ومنها غير ذلك من الأخبار التي ظاهرها طهارة المني.

ويمكن تأويلها على نحو لا تنافي الأخبار الدالة على نجاسته ولو على وجه بعيد فتحمل الرواية الأُولى على تجففه بالموضع الطاهر من الثوب ، والثانية على صورة زوال عين المني فيطهر الثوب باصابته المطر.

هذا على أنه يمكن حملهما على التقية ، لذهاب جماعة من العامة إلى طهارة المني إما مطلقاً كما ذهب إليه الشافعي (٣) واستدل عليه بوجهين : أحدهما : ما رواه البيهقي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنه قال : « لا بأس بالمني فإنّه من الإنسان بمنزلة البصاق والمخاط » وثانيهما : أن الحيوان من المني ولا إشكال في طهارته فكيف يزيد الفرع على أصله.

وإما في خصوص المني من الإنسان ومن سائر الحيوانات المحلّلة دون ما لا يؤكل لحمه كما التزم به الحنابلة واستدلوا عليها بما رووه عن عائشة « من أنها كانت تفرك المني من ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم يذهب فيصلي فيه » (٤) والشافعي وقرينه وإن كانا متأخرين عن عصر الصادق عليه‌السلام إلاّ أن مستندهما لعلّه كان شائعاً في ذلك العصر وكان العامل به كثيراً ، وبذلك صحّ حمل أخبار الطهارة على التقية. وكيف كان فهذه الأخبار مضافاً إلى معارضتها مع‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٤٦ / أبواب النجاسات ب ٢٧ ح ٧.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٤٦ / أبواب النجاسات ب ٢٧ ح ٦.

(٣) و (٤) راجع المجلد الأول من الفقه على المذاهب الأربعة ص ١٣.

٤١٣

الأخبار الكثيرة الواردة في نجاسة المني مخالفة لضرورة الإسلام ، ومعها لا يمكن الاعتماد عليها بوجه.

أمّا المسألة الثانية : فقد ادعي الإجماع على نجاسة المني من الحيوانات المحرمة التي لها نفس سائلة ، ويمكن أن يستدل عليها بصحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « ذكر المني وشدده وجعله أشد من البول ... » (١). فان الظاهر أن اللاّم في كل من المني والبول للجنس لبعد أن يكون للعهد الخارجي ، فتدل حينئذٍ على أن طبيعي المني أشد من طبيعي البول سواء أكانا من الإنسان أم من الحيوان ، وحيث إن بول الحيوانات المحرمة التي لها نفس سائلة نجس فلا محالة يحكم بنجاسة منيها لأنه أشد من بولها.

وملاحظة ذيل الصحيحة وإن كانت موجبة لصرفها إلى مني الإنسان حيث قال : « إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة ، وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا اعادة عليك وكذلك البول » لأن ما يصيب ثوب المصلي من المني يبعد أن يكون من غيره من الحيوانات المحرمة ، إلاّ أن ذيلها مشتمل على حكم آخر غير الحكم الذي تكفله صدر الرواية فهو باق على عمومه ولا موجب لحملة على مني الإنسان.

ومن ذلك يظهر أنه لا وجه للاستدلال على نجاسة المني في هذه المسألة بالأخبار المتقدمة في المسألة الأُولى ، وذلك لانصرافها إلى مني الإنسان ، وبعد أن يصيب ثوب المصلي مني غيره من الحيوانات المحرمة ، بل نقل في الجواهر عن بعضهم أن الانصراف كالعيان (٢) ، وعليه ينحصر مدرك القول بنجاسة المني في هذه المسألة بما قدمناه من صحيحة محمد بن مسلم.

وأمّا المسألة الثالثة : أعني نجاسة المني من الحيوانات المحللة التي لها نفس سائلة‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٢٤ / أبواب النجاسات ب ١٦ ح ٢.

(٢) الجواهر ٥ : ٢٩٠.

٤١٤

فلا دلالة في شي‌ء من الأخبار على نجاسة المني في هذه المسألة ، أمّا الأخبار المتقدمة في المسألة الأُولى فلانصرافها إلى مني الإنسان كما مرّ ، وأمّا صحيحة محمد بن مسلم التي اعتمدنا عليها في المسألة الثانية ، فلاختصاصها بما إذا كان البول نجساً ، لأن معنى الأشدية أن المني يشترك مع البول في نجاسته إلاّ أن هذا أشدّ من ذاك ، وأبوال الحيوانات المحللة طاهرة فلا يكون المني منها نجساً.

وقد يتوهّم : أن الأشدية بلحاظ نجاسة المني منها مع طهارة أبوالها. ويندفع : بأن الأشدية لو كان هو ذلك لوجب أن يقول : نجاسة المني أوسع من نجاسة البول لاختصاصها بما لا يؤكل لحمه بخلاف نجاسة المني ، ولا يناسبه التعبير بالأشدية ، فان معناها كما عرفت هو اشتراك المني مع البول في نجاسته وكون أحدهما أشد من الثاني هذا.

ثم لو قلنا بشمول إطلاق الصحيحة للمقام أعني مني الحيوانات المحللة فتعارضها موثقتان :

إحداهما : موثقة عمار « كل ما أُكل لحمه لا بأس بما يخرج منه » (١) لأن إطلاقها يشمل المني أيضاً.

وثانيتهما : موثقة ابن بكير حيث ورد في ذيلها « فان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شي‌ء منه جائز » (٢) وعموم كل شي‌ء يشمل المني أيضاً وبعد تساقطهما يرجع إلى قاعدة الطهارة.

نعم ، قد استشكلنا سابقاً في الموثقة الأخيرة بأنها ناظرة إلى بيان صحة الصلاة في أجزاء ما يؤكل لحمه من ناحية عدم كونها مما لا يؤكل لحمه لا من سائر الجهات ، وإلاّ فعموم كل شي‌ء شامل للدم أيضاً ، مع أن الصلاة فيه باطلة لنجاسته. نعم ، تصح فيه أيضاً من حيث عدم كونه من أجزاء ما لا يؤكل ، ولكن في الموثقة الاولى غنى وكفاية.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٠٩ / أبواب النجاسات ب ٩ ح ١٢.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ١ ، وكذا ٣ : ٤٠٨ / أبواب النجاسات ب ٩ ح ٦.

٤١٥

وأمّا المذي والوذي والودي فطاهر من كل حيوان إلاّ نجس العين (١)

______________________________________________________

فلو كنّا نحن وهذه الأخبار لحكمنا بطهارة المني في هذه المسألة إلاّ أن الإجماع القطعي قام على نجاسة المني من كل ما له نفس سائلة وإن كان محلل الأكل ، وهذا الإجماع يصير قرينة على التصرف في الموثقة بحملها على غير المني من البول والروث ونحوهما.

وأمّا المسألة الرابعة : فلم يقم على نجاسة المني مما لا نفس له دليل سواء كان محللاً أم محرماً ، وقد عرفت قصور الأدلة عن إثبات النجاسة في مني ما يؤكل لحمه إذا كان له نفس سائلة فضلاً عما لا نفس له ، مضافاً إلى ما ورد من أنه « لا يفسد الماء إلاّ ما كانت له نفس سائلة » (١) لأنها شاملة للمنيّ منه كما تشمل البول وغيره من أجزائه ، وبذلك نحكم بعدم نجاسة المني في الأسماك والحيات ونظائرهما.

تتميم : أن الفيومي في المصباح فسر المني بماء الرجل (٢) ، وفي القاموس فسره بماء كل من الرجل والمرأة (٣) ، ومن هنا توهّم بعضهم عدم شمول ما دلّ على نجاسة المني لمني غير الإنسان بدعوى قصور الأدلة عن إثبات نجاسته في نفسها إلاّ أن الظاهر أن تعريفهما من باب بيان أظهر الأفراد للقطع بعدم الفرق بين أفراده ، لأنه عبارة عن ماء دافق يخرج عند الشهوة على الأغلب وهذا لا فرق فيه بين الإنسان وغيره من الحيوانات ، فلا إجمال للفظ حتى يرجع فيه إلى تفسير اللغوي.

(١) أمّا المذي فقد ذهب العامة إلى نجاسته (٤) حتى من يقول منهم بطهارة المني‌

__________________

(١) وهو ما رواه حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه. المروية في الوسائل ٣ : ٤٦٤ / أبواب النجاسات ب ٣٥ ح ٢.

(٢) لاحظ المصباح المنير : ٥٨٢.

(٣) القاموس ٤ : ٣٩١.

(٤) أفتى فقهاء المذاهب الأربعة بنجاسة المذي الخارج من الإنسان كما في المهذب للشيرازي الشافعي ج ١ ص ٤٧ وبدائع الصنائع للكاشاني الحنفي ج ١ ح ص ٩٠ والمغني لابن قدامة الحنبلي ج ١ ص ٧٣١ ، وشرح صحيح الترمذي للقاضي ابن العربي المالكي ج ١ ص ١٧٦.

٤١٦

كالشافعية والحنابلة ، ولعمري إنه من عجائب الكلام فكيف يفتي بنجاسة المذي وطهارة المني؟ بل عن بعضهم نجاسة كل ما يخرج من الإنسان (١) حتى الدمعة إذا استندت إلى مرض لا ما استند إلى البكاء.

وأمّا عندنا فلم ينسب إلى أحد الخلاف في طهارته غير ابن الجنيد ، حيث ذهب إلى نجاسة المذي الخارج عقيب شهوة على ما حكي (٢) ، ولعلّه استند في ذلك إلى الأخبار إلاّ أن ما دلّ منها على نجاسة المذي مشتمل على قرائن تقتضي حملها على الاستحباب أو التقية.

فمنها : صحيحة محمد بن مسلم قال : « سألته عن المذي يصيب الثوب؟ فقال عليه‌السلام : ينضحه بالماء إن شاء ... » (٣) وقرينة الاستحباب فيها ظاهرة.

ومنها : صحيحة الحسين بن أبي العلاء قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المذي يصيب الثوب؟ قال : لا بأس به فلما رددنا عليه فقال : ينضحه بالماء » (٤) وهي ظاهرة في طهارة المذي بحسب الحكم الواقعي إلاّ أنه أمره بالنضح لإصرار

السائل مماشاة مع المخالفين.

ومنها : صحيحة أُخرى لحسين بن أبي العلاء قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المذي يصيب الثوب؟ قال عليه‌السلام إن عرفت مكانه فاغسله وإن كان خفي عليك مكانه فاغسل الثوب كلّه » (٥) وهي محمولة على الاستحباب بقرينة روايته المتقدمة.

هذا مضافاً إلى الأخبار الصريحة الواردة في طهارة المذي (٦) وما ورد في طهارة‌

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ج ١ ص ١٢ من الطبعة الاولى الحنفية قالوا : ان ما يسيل من البدن غير القيح والصديد ان كان لعلة ولو بلا ألم فنجس وإلاّ فطاهر وهذا يشمل النفط وهي القرحة التي امتلأت وحان قشرها وماء السرة وماء الاذن وماء العين ، فالماء الذي يخرج من العين المريضة نجس ولو خرج من غير ألم كالماء الذي يسيل بسبب الغرب وهو عرق في العين يوجب سيلان الدمع بلا ألم.

(٢) التذكرة ١ : ٥٤.

(٣) المرويات في الوسائل ٣ : ٤٢٦ / أبواب النجاسات ب ١٧ ح ١ ، ٢ ، ٣.

(٤) المرويات في الوسائل ٣ : ٤٢٦ / أبواب النجاسات ب ١٧ ح ١ ، ٢ ، ٣.

(٥) المرويات في الوسائل ٣ : ٤٢٦ / أبواب النجاسات ب ١٧ ح ١ ، ٢ ، ٣.

(٦) ففي صحيحة بريد بن معاوية قال : « سألت أحدهما عليهما‌السلام عن المذي

٤١٧

وكذا رطوبات الفرج (١)

______________________________________________________

البلل المشتبه الخارج بعد الاستبراء من البول أو المني (١) فإن المذي وأخواته أيضاً لو كانت نجسة لم يكن لطهارة البلل المشتبه وجه ، للعلم حينئذٍ بنجاستها على كل حال كان بولاً أو منياً أم كان مذياً أو شيئاً آخر من أخواته.

وأمّا الوذي والودي فلم يدل دليل على نجاستهما والأصل طهارتهما. بل ويمكن أن يستدل عليها بغير واحد من الأخبار.

منها : صحيحة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إن سال من ذكرك شي‌ء من مذي أو ودي ( وذي ) وأنت في الصلاة فلا تغسله ، ولا تقطع له الصلاة ولا تنقض له الوضوء وإن بلغ عقبيك ، فإنّما ذلك بمنزلة النخامة ، وكل شي‌ء خرج منك بعد الوضوء ، فإنّه من الحبائل ، أو من البواسير ، وليس بشي‌ء فلا تغسله من ثوبك إلاّ أن تقذره » (٢).

نعم ، نسب إلى بعض العامّة وإن لم نقف عليه في كلماتهم نجاستهما كما التزموا بها في المذي بدعوى خروجها من مجرى النجاسة ويدفعه : أن البواطن لا دليل على تنجسها كما عرفته في محلّه.

(١) لصحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال : « سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن المرأة وليها ( عليها ) قميصها أو إزارها يصيبه من بلل الفرج وهي جنب ، أتصلِّي‌

__________________

فقال : لا ينقض الوضوء ولا يغسل منه ثوب ولا جسد إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق ». وفي صحيحة محمد بن مسلم ، قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن المذي يسيل حتى يصيب الفخذ ، قال : لا يقطع صلاته ولا يغسله من فخذه ، إنه لم يخرج من مخرج المني ، إنما هو بمنزلة النخامة » وغيرهما من الأخبار المروية في الوسائل ١ : ٢٧٦ / أبواب نواقض الوضوء ب ١٢ ح ١ ، ٣. ومنها : صحيحة زرارة الآتية.

(١) منها ما رواه حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الرجل يبول ، قال : ينتره ثلاثاً ثم إن سال حتى يبلغ السوق فلا يبالي » ومنها غير ذلك من الأخبار المروية في الوسائل ١ : ٢٨٣ / أبواب نواقض الوضوء ب ١٣ ح ٣ ، ١ ، ٢.

(٢) الوسائل ١ : ٢٧٦ / أبواب نواقض الوضوء ب ١٢ ح ٢.

٤١٨

والدبر (١) ما عدا البول والغائط.

الرابع : الميتة من كل ما له دم سائل حلالاً كان أو حراماً (٢).

______________________________________________________

فيه؟ قال : إذا اغتسلت صلت فيهما » (١).

(١) وتدل عليه صحيحة زرارة المتقدمة.

نجاسة الميتة :

(٢) وهو مما لا إشكال فيه ، وقد وردت نجاستها في عدة روايات يمكن دعوى تواترها إجمالاً وإليك بعضها :

منها : ما ورد في السمن أو الزيت أو غيرهما تقع فيه الميتة أو تموت فيه الفأرة أو غيرها ، من الأمر بإهراقه أو الاستصباح به إذا كان مائعاً وإلقائه وما يليه إذا كان جامداً (٢).

ومنها : ما ورد من الأمر بإعادة الوضوء وغسل الثوب فيما إذا توضأ من الماء القليل ثم وجد فيه ميتة (٣).

ومنها : ما ورد في البئر من الأخبار الآمرة بنزحها لموت الفأرة أو الدجاجة‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٩٨ / أبواب النجاسات ب ٥٥ ح ١.

(٢) ورد ذلك في عدّة كثيرة من الأخبار منها صحيحة زرارة أو حسنته عن الباقر عليه‌السلام قال : « إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه فان كان جامداً فألقها وما يليها وكل ما بقي ، وإن كان ذائباً فلا تأكله واستصبح به ، والزيت مثل ذلك ». ومنها غير ذلك من الأخبار المروية في الوسائل ٢٤ : ١٩٤ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٤٣ ح ٢ ، ٣ ، وغيرهما. وكذا في الوسائل ١٧ : ٩٧ / أبواب ما يكتسب به ب ٦ ح ١ ، ٢ ، ٣.

(٣) كموثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام « عن رجل يجد في إنائه فأرة وقد توضأ من ذلك الإناء مراراً أو اغتسل منه أو غسل ثيابه وقد كانت الفأرة متسلخة ، فقال : إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ثم يفعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء ويعيد الوضوء والصلاة ... » المروية في الوسائل ١ : ١٤٢ / أبواب الماء المطلق ب ٤ ح ١.

٤١٩

ونحوهما أو لوقوع الميتة فيها (١) فان النزح وإن لم يكن واجباً حينئذٍ لعدم نجاسة البئر بملاقاة النجس إلاّ أن نزح مائها ولو للاستحباب مستند إلى نجاسة ما وقع فيها من الميتة ، ومنها غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

والإنصاف أنه لم ترد في شي‌ء من أعيان النجاسات بمقدار ما ورد في نجاسة الميتة من الأخبار كما اعترف بذلك المحقق الهمداني قدس‌سره (٢) ومن العجيب ما نسب إلى صاحب المعالم قدس‌سره من أن العمدة في نجاسة الميتة هو الإجماع وقصور الأخبار عن إثبات نجاستها (٣) ، وأعجب من ذلك ما حكي عن صاحب المدارك قدس‌سره (٤) من المناقشة في نجاسة الميتة بدعوى انحصار مدرك القول بنجاستها في الإجماع ، واستظهر عدم تمامية الإجماع في المسألة ، وخروجاً عن وحشة التفرد فيما ذهب إليه نسب القول بطهارة الميتة إلى الصدوق قدس‌سره ، لأنه روى مرسلاً عن الصادق عليه‌السلام « أنه سئل عن جلود الميتة يجعل فيها اللّبن والماء والسمن ما ترى فيه؟ فقال : لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن وتتوضّأ منه وتشرب ، ولكن لا تصلّ فيها » (٥) وقد التزم في أوائل كتابه أن لا يورد فيه إلاّ ما يفتي ويحكم بصحته ويعتقد أنه حجة فيما بينه وبين الله تعالت قدرته ، وبذلك صح إسناد القول بطهارة الميتة إليه ، وفيه :

أوّلاً : أن الدليل على نجاسة الميتة غير منحصر في الإجماع فإن الأخبار في نجاستها كثيرة بل متواترة.

__________________

(١) كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام « عن البئر تقع فيها الميتة فقال : إن كان لها ريح نزح منها عشرون دلواً ... » المروية في الوسائل ١ : ١٩٥ / أبواب الماء المطلق ب ٢٢ ح ١ وعن أبي بصير قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عما يقع في الآبار؟ فقال أمّا الفأرة وأشباهها فينزح منها سبع دلاء إلاّ أن يتغيّر الماء فينزح حتى يطيب ... » إلى غير ذلك من الأخبار المروية في الوسائل ١ : ١٨٥ / أبواب الماء المطلق ب ١٧ ح ١١ ، ٢ ، ٣.

(٢) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٥٢٣ السطر ٤.

(٣) المعالم ( فقه ) : ٢٢٢.

(٤) المدارك ٢ : ٢٦٨.

(٥) الفقيه ١ : ٩ / ١٥.

٤٢٠