موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

بخاراً ثم ماء (١).

______________________________________________________

طهارة المائع المتنجِّس بالتصعيد‌

(١) قد عرفت أن هذا هو الحق الصراح الذي يدعمه البرهان ، فإن الحاصل بالتصعيد موجود مغاير للموجود السابق وهو ماء مطلق ، فلا وجه للتوقف في الحكم بطهوريته ، إذ لا تختص ذلك بالماء النازل من السماء كما مرّ إلاّ أن له لازماً لا ندري أن السيد قدس‌سره هل يلتزم به أو لا ، وهو الحكم بطهارة الماء المصعّد من الأعيان النجسة ، كالمصعد من الخمر والبول والميتة النجسة كالكلب ، وإن كان مقتضى ما ذكره قدس‌سره في الكلام على الاستحالة من طهارة بخار البول هو الالتزام بذلك مطلقاً.

والحق أنّه لا مانع من الحكم بطهارته في جميع الموارد ، اللهم إلاّ أن ينطبق على المصعّد عنوان آخر نجس ، وهذا كما في المصعّد من الخمر المعبّر عنه عندهم بالعَرَق فإنّه كأصله مسكر محكوم بالنجاسة شرعاً (١).

__________________

(١) وهذا لا ينافي ما ذكرناه في الجزء الثاني من كتاب الطّهارة ذيل مسألة ٢٠١ من أنّ مقتضى القاعدة طهارة المادّة المتّخذة من الخمر المعبّر عنها بجوهر الخمر ( اسپرتو ) التي تتحصّل بتبخيرها ، وذلك لأنّ العَرَق الذي حكمنا بنجاسته هو الذي يُعدّ من جملة الخمور وشربه أمر متعارف عند أهله ، ولا فرق بينه وبين غيره من الخمور إلاّ في أنّه يشتمل على المادة الألكليّة بنسبة الأربعين في المائة في العَرَق العراقي فما زاد ، وأمّا بقيّة الخمور فمنها ما يشتمل على المادة الألكليّة بنسبة العشرة في المائة ، ومنها غير ذلك ممّا لا حاجة إلى ذكره. كما أنها في الفقّاع بنسبة الخمسة في المائة كذا في بعض الكتب الكيمياوية الحديثة وأمّا الاسپرتو وجوهر الخمر فهو عبارة عن نفس المادّة الألكليّة التي منها تتكوّن المسكرات على اختلاف أقسامها وهي غير قابلة للشرب بوجه ، وهذا هو الذي حكمنا بطهارته على طبق القاعدة. فالعَرَق والأسپرتو موضوعان متغايران وإن اشتركا في بعض مقدّمات صنعهما وتحصيلهما.

٤١

[٧٧] مسألة ٥ : إذا شكّ في مائع أنّه مضاف أو مطلق فإن علم حالته السابقة أُخذ بها (*) وإلاّ فلا يحكم عليه بالإطلاق ولا بالإضافة ، لكن لا يرفع الحدث والخبث ، وينجس بملاقاة النجاسة إن كان قليلاً ، وإن كان بقدر الكر لا ينجس ، لاحتمال (**) كونه مطلقاً والأصل الطّهارة (١).

______________________________________________________

صور الشكّ في الإضافة والإطلاق‌

(١) للمسألة صور عديدة :

الصورة الأُولى : الشكّ في إطلاق المائع وإضافته من جهة الشبهة الموضوعية. وهو قسمان :

أحدهما : ما إذا علم إطلاق الماء سابقاً ، ثم القي عليه مقدار ملح أو غيره ، وشكّ في أن الخليط هل كان بمقدار منّ مثلاً كي يخرجه عن الإطلاق ، أو أنّه أقل من ذلك فالماء باقٍ على إطلاقه؟ ففي هذه الصورة لا إشكال في جواز الرجوع إلى استصحاب بقاء الإطلاق السابق.

ثانيهما : عكس ذلك بأن علم إضافة الماء سابقاً ، ثم صبّ عليه مقدار من الماء فشكّ في أن الماء هل كان بمقدار كر مثلاً حتى يخرجه من الإضافة إلى الإطلاق ، أو أنّه كان أقل من ذلك فهو باق على إضافته؟ وفي هذه الصورة يرجع إلى استصحاب بقاء الإضافة السابقة ، ويترتب عليه جميع أحكام المضاف كما كان يترتب عليه أحكام الماء المطلق في الصورة المتقدمة.

الصورة الثانية : ما إذا كان الشكّ في الإطلاق والإضافة من جهة الشبهة الحكمية كما إذا ألقينا مناً من الحليب على منّ من الماء ، وشككنا في أن المركب منهما هل هو من‌

__________________

(*) هذا إذا كان الشكّ لأمر خارجي كما لعلّه المراد في المسألة ، وأمّا إذا كانت الشبهة مفهومية فلا يجري الاستصحاب.

(**) الظاهر أنّه ينجس ، ولا أثر للاحتمال المزبور.

٤٢

مصاديق الماء عرفاً ، أو لا ينطبق عليه هذا المفهوم وإن لم يطلق عليه الحليب أيضاً فالشبهة مفهومية حكمية ، وقد تعرضنا لتفصيلها في محلّه ولا نعيد وحاصله : أن الاستصحاب لا يجري في الشبهات المفهومية في شي‌ء ، أمّا الاستصحاب الحكمي فلأجل الشكّ في بقاء موضوعه وارتفاعه ، وأمّا الاستصحاب الموضوعي فلأنه أيضاً ممنوع إذ لا شكّ لنا في الحقيقة في شي‌ء ، لأن الأعدام المنقلبة إلى الوجود كلّها والوجودات الصائرة إلى العدم بأجمعها معلومة محرزة عندنا ، ولا نشكّ في شي‌ء منهما ومعه ينغلق باب الاستصحاب لا محالة لأنّه متقوّم بالشكّ في البقاء. وقد مثّلنا له في محلّه بالشكّ في الغروب ، كما إذا لم ندر أنّه هو استتار قرص الشمس أو ذهاب الحمرة عن قمة الرأس ، فاستصحاب وجوب الصوم أو الصلاة لا يجري لأجل الشكّ في بقاء موضوعه ، والموضوع أيضاً غير قابل للاستصحاب إذ لا شكّ لنا في شي‌ء ، فإن غيبوبة القرص مقطوعة الوجود وذهاب الحمرة مقطوع العدم ، فلا شكّ في أمثال المقام إلاّ في مجرد الوضع والتسمية ، وأن اللفظ هل وضع على مفهوم يعم استتار القرص أو لا؟

هذا وإن شئت قلنا : إن استصحاب الحكم لا يجري في الشبهات المفهومية ، لأنّه من الشبهة المصداقية لدليل حرمة نقض اليقين بالشكّ ، وذلك لأجل الشكّ في بقاء موضوع الحكم وارتفاعه ، فلا ندري أن رفع اليد عن الحكم في ظرف الشكّ نقض لليقين بالشكّ ، كما إذا كان الموضوع باقياً بحاله ، أو أنّه ليس من نقض اليقين بالشكّ كما إذا كان الموضوع مرتفعاً وكان الموجود موضوعاً آخر غير الموضوع المحكوم بذلك الحكم ، فلم يحرز اتحاد القضيتين : المتيقنة والمشكوكة ، وهو معتبر في جريان الاستصحاب.

واستصحاب الموضوع أيضاً لا يجري في تلك الشبهات ، لعدم اشتماله على بعض أركانه وهو الشكّ ، فلا شكّ إلاّ في مجرد التسمية ، وعليه فلا بدّ من مراجعة سائر الأُصول ، وهي تقتضي في المقام بقاء الحدث والخبث وعدم ارتفاعهما بما يشكّ في كونه ماء.

وأمّا انّه هل ينفعل بملاقاة النجاسة أو لا ينفعل ، وتجري فيه قاعدة الطهارة أو‌

٤٣

لا تجري؟ ففيه تفصيل وذلك لأنّا إن قلنا بما بنى عليه شيخنا الأُستاذ قدس‌سره (١) من أن الاستثناء إذا علّق على عنوان وجودي وكان المستثنى منه حكماً إلزامياً أو ملزوماً له كما في المقام ، فلا بدّ من إحراز ذلك العنوان الوجودي في الخروج عن الإلزام أو ملزومه ، مثلاً إذا نهى السيد عبده عن أن يأذن لأحد في الدخول عليه إلاّ لأصدقائه فلا يجوز له الإذن لأحد في الدخول إلاّ بعد إحراز صداقته ، فلا محالة نلتزم بعدم جريان قاعدة الطهارة في المقام ، لأن المستثنى من الحكم بالانفعال عنوان وجودي أعني الكر من الماء وهو غير محرز على الفرض ، وإحرازه معتبر في الحكم بعدم الانفعال. وأمّا إذا لم يتم ما أفاده كما لا يتم ذلك لما بيناه في الأُصول ويأتي تفصيله في محلّه فلا مانع من جريان قاعدة الطهارة فيه للشك في طهارته ، هذا فيما إذا كان الخليط بمقدار كر ، وأمّا إذا كان أقل منه فهو محكوم بالانفعال بالملاقاة مطلقاً كان أم مضافاً ولا شكّ في نجاسته.

الصورة الثالثة : ما إذا توارد على المائع الملاقي للنجس حالتان متضادتان ، كما إذا علمنا بإطلاقه في زمان وإضافته في زمان آخر وشككنا في المتقدم والمتأخر منهما ، وقد عرفت أن الاستصحاب الحكمي غير جار في المقام لأجل الشكّ في بقاء موضوعه وارتفاعه ، ومعه لا يجري الاستصحاب في الأحكام لأنّه من الشبهة المصداقية. وأمّا الاستصحاب الموضوعي فهو أيضاً لا يجري في المقام ، لأنّه بناء على ما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس‌سره لا مجرى له أصلاً ، لعدم إحراز اتصال زمان اليقين بالشكّ وإحرازه معتبر عنده (٢) ، وأمّا بناء على المختار فهو وإن كان يجري في نفسه ، إلاّ أنّه يسقط من جهة المعارضة باستصحاب مقابله ، والنتيجة على كلا المسلكين عدم جريان الاستصحاب على كل تقدير.

وأمّا قاعدة الطهارة في نفس الماء عند الشكّ في انفعاله فالكلام فيها هو الكلام المتقدم في الصورة الثانية ، إذ لا مجرى لها على مسلك شيخنا الأُستاذ قدس‌سره كما‌

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٦٤.

(٢) كفاية الأُصول : ٤١٩.

٤٤

لا مانع من جريانها على مسلكنا. وكذا الحال في الرجوع إلى سائر الأُصول من استصحاب الحدث والخبث ، فإن حالها حال الصورة المتقدمة من هذه الجهات.

الصورة الرابعة : ما إذا شكّ في إطلاق المائع وإضافته من غير علم بحالته السابقة أو من غير وجود الحالة السابقة أصلاً ، وجريان الاستصحاب في هذه الصورة لإثبات النجاسة مبني على القول بجريان الأصل في الأعدام الأزلية كما بنينا عليه في محلّه وفاقاً لصاحب الكفاية قدس‌سره (١) وعليه فلا بدّ من الحكم بنجاسة المائع المشكوك بالملاقاة.

وذلك لأن مقتضى الأدلة المتقدمة أن المائعات كلّها يتنجس بالملاقاة وإنّما خرج عنها عنوان الكر من الماء ، فهناك عام قد خصص بعنوان وجودي والمفروض أنا أحرزنا وجود الكر خارجاً ، ولا ندري هل وجد معه الاتصاف بصفة المائية أيضاً أم لم يوجد معه ذاك الاتصاف؟ والأصل أنّه لم يتصف به ولم يوجد معه الاتصاف ، لأنّه قبل أن يوجد لم يكن متصفاً بالماء ، والاتصاف إنّما هو بعد خلقته لا قبلها ، فإن الاتصاف بالماء ليس قديماً بل هو أمر حادث مسبوق بالعدم بالضرورة فيستصحب عدم اتصافه به ، وأنّه الآن كما كان لا اتصافه بعدمه كما لا يخفى ، فإذا ثبت عدم اتصافه بعنوان المخصص وهو الماء الكر ، فيبقى المائع تحت عموم ما دلّ على انفعال المائعات بالملاقاة ، كما ذكرنا نظيره في الشكّ في قرشية المرأة وعدمها.

وأمّا إذا منعنا عن جريان الأصل في الأعدام الأزلية كما عليه شيخنا الأُستاذ قدس‌سره (٢) خلافاً لصاحب الكفاية وما اخترناه ، فلا مانع من الحكم بطهارة المائع المشكوك بقاعدة الطهارة أو استصحابها ، فإن المانع عنهما ليس إلاّ استصحاب عدم المائية المقتضي لإحراز موضوع النجاسة ، وقد فرضنا عدم جريانه ، وكم لجريان الأصل في الأعدام الأزلية من فوائد وثمرات في باب الطهارة ، وتأتي الإشارة إليها في مواردها إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٢٣.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٤٦٤.

٤٥

[٧٨] مسألة ٦ : المضاف النجس يطهر بالتصعيد كما مرّ (١) ، وبالاستهلاك في الكر أو الجاري (٢)

______________________________________________________

هذا كلّه إذا كان المائع المشكوك بمقدار الكر ، وهو الذي أفتى فيه السيد قدس‌سره بالطهارة بقاعدة الطهارة أو باستصحابها ، وذكرنا نحن أنّها تبتني على القول بعدم جريان الأصل في الأعدام الأزلية ، وأمّا إذا كان قليلاً فلا ينبغي الإشكال في الحكم بانفعاله بالملاقاة ماء كان أم مضافاً.

ثم إنّه إذا حكمنا بطهارة المائع المشكوك فيه بأصالة الطهارة أو باستصحابها فلا يثبت بها أنّه ماء ليرتفع به الحدث أو الخبث وعليه فلا مانع من استصحاب بقائهما ، والحكم بعدم كفاية المائع المشكوك فيه في رفعهما.

(١) قد قدّمنا الكلام في ذلك وذكرنا أن هذا هو الصحيح ، لأجل استحالة المضاف بخاراً وانقلاب البخار ماء بتأثير الهواء ، وهو عند العرف ماء جديد حصل من البخار وليس عين الماء السابق كما لا يخفى.

طهارة المضاف بالاستهلاك‌

(٢) غرضه منهما هو التمثيل ، ومراده مطلق العاصم ولو كان ماء بئر أو مطر ، ونظره في ذلك إلى حصر طريق التطهير في المائعات المضافة المتنجسة بالتصعيد والاستهلاك في ماء معتصم.

وقد حكي عن العلاّمة قدس‌سره أنّها كما تطهر بهما تطهر بأمر ثالث أيضاً ، وهو اتصالها بما له الاعصام من كر أو مطر ونحوهما ، ولم نعثر على من يوافقه في ذلك من الأصحاب ، كما لم يقم دليل على مدعاه فإن الآيات المتقدمة قد عرفت عدم دلالتها على مطهرية الماء من الأخباث شرعاً ، وعلى تقدير دلالتها على ذلك لا تعرض لها على كيفية التطهير كما مرّ.

وأمّا الروايات فلا دلالة فيها أيضاً على مدعاه. أمّا ما ورد من « أن الله وسّع عليكم‌

٤٦

بجعل الماء طهوراً فإن بني إسرائيل ... » (١) فلأنها لو دلّت على أن الماء مطهّر من الأخباث فلا تدل على كيفية التطهير بالماء ، إذ لا تعرض فيها لذلك بوجه. وأمّا قوله عليه‌السلام الماء يطهّر ولا يطهر (٢) فلأنه إنّما يدل على أن الماء طهور ، وأمّا أنّه مطهر لأي شي‌ء أو بائه كيفية فلا ، وهو نظير أن يقال : إن الله سبحانه يرزق ولا يُرزق فإنّه يدل على استناد الرزق إلى الله تعالى وأمّا أنّه يرزق أي شي‌ء ، بنتاً أو ابناً أو مالاً وأن رزقه على نسق واحد ، فلا يمكن استفادته منه بوجه لإمكان اختلافه حسب اختلاف الموارد كما هو الواقع.

نعم ، يمكن الاستدلال على ما ذهب إليه العلاّمة بما رواه هو قدس‌سره في مختلفه مرسلاً عن بعض علماء الشيعة عن أبي جعفر عليه‌السلام من أنّه أشار إلى غدير ماء وقال : إن هذا لا يصيب شيئاً إلاّ وطهّره (٣) كما استدلّ بها على كفاية مجرد الاتصال بالكر في تطهير القليل كما يأتي في محلّه.

وبمرسلة الكاهلي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث « .... أن كل شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر » (٤) والاستدلال بهما مع ما فيهما من الإرسال يتوقف على حمل الإصابة والرؤية فيهما على مفهومهما العرفي ، ولا نحملهما على معنى آخر بقرينة حالية أو مقالية حتى ولو كانت هي المناسبة بين الحكم وموضوعه ، وحينئذٍ يمكن أن يقال : المضاف المتصل بالكر أو المطر مما أصابه الكر أو رآه المطر.

إلاّ أن إبقاءهما على معناهما العرفي غير ممكن لاستلزامه القول بطهارة مثل الخشب ، فيما إذا كان كلا طرفيه نجساً واتصل أحدهما بالكر أو المطر دون الآخر ، أو‌

__________________

(١) وهي صحيحة داود بن فرقد المروية في الوسائل ١ : ١٣٣ / أبواب الماء المطلق ب ١ ح ٤.

(٢) المصدر السابق ح ٦.

(٣) المختلف ١ : ١٥ ذكر بعض علماء الشيعة : أنّه كان بالمدينة رجل يدخل إلى أبي جعفر محمد ابن عليّ عليهما‌السلام وكان في طريقه ماء فيه العذرة والجيف ، وكان يأمر الغلام يحمل كوزاً من ماء يغسل رجله إذا أصابه فأبصره يوماً أبو جعفر عليه‌السلام فقال : إن هذا لا يصيب شيئاً إلاّ طهّره فلا تعد منه غسلاً.

(٤) الوسائل ١ : ١٤٦ / أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ٥.

٤٧

كان المتنجس أحد طرفيه خاصة واتصل طرفه الطاهر بالكر أو المطر دون الطرف المتنجس ، حيث يصح أن يقال عرفاً إنه مما أصابه الماء أو رآه المطر ، مع أنّه لا وجه لطهارة الطرف الآخر الذي لم يلاقه الماء أو المطر ، وهل يطهر المتنجس من دون أن يلاقي شيئاً من المطهرات؟ فدعوى أن الماء أو المطر إذا أصابا السطح العالي من المضاف يحكم بطهارة السطح السافل منه أمر لا وجه له ، وعليه فلا بدّ بملاحظة المناسبة بين الحكم وموضوعه من حمل الإصابة والرؤية في المرسلتين على معناهما التحقيقي دون العرفي المسامحي ، وأن إصابة كل موضع من الأجسام المتنجسة للماء أو رؤية المطر له إنّما توجب طهارة ذلك الموضع بخصوصه ، دون الموضع الذي لم يصبه الماء أو لم يره المطر ، هذا كلّه في المضاف.

وأمّا الماء المتنجس فهو وإن التزمنا بطهارته بمجرد الاتصال بالعاصم كراً كان أو مطراً ، ولا نعتبر في تطهيره ملاقاة العاصم بجميع أجزائه ، إلاّ أنّه إما من جهة الإجماع ولا إجماع في المضاف لاختصاصه بالماء ، وإما من جهة صحيحة ابن بزيع (١) الدالّة على طهارة ماء البئر بعد ذهاب تغيره معللاً بأن له مادة ، لأن العلّة متحققة في غير البئر أيضاً ، كما يأتي تفصيله في محلّه ، واختصاصها بالماء ظاهر.

وقد تبيّن أن ما ادعاه العلاّمة في المقام مما لم يقم عليه دليل ، فطريق تطهير المضاف منحصر بالتصعيد واستهلاكه في ماء معتصم.

ثم إن في المقام عنوانين : أحدهما : المضاف وثانيهما : التغير. وأحكام التغير وإن كانت تأتي في محلّها على وجه البسط إن شاء الله إلاّ أنّا نشير إلى بعضها في المقام على وجه الاختصار فنقول :

تارة : يمتزج المضاف النجس بالمطلق المعتصم ويستهلك فيه ، بمعنى أنّه ينعدم في المطلق بنفسه ووصفه من غير أن يؤثر فيه شيئاً بل هو باق على إطلاقه ، غير أنّه كان منّاً مثلاً قبل الامتزاج ، وقد زاد على وزنه بذلك فصار منّاً وزيادة ، ومثل هذا الماء لا إشكال في طهارته لا من جهة طهارة المضاف النجس بالامتزاج ، بل من جهة ارتفاع‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤١ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١٢ وص ١ : ١٧٢ ب ١٤ ح ٦.

٤٨

[٧٩] مسألة ٧ : إذا القي المضاف النجس في الكر فخرج عن الإطلاق إلى الإضافة تنجس إن صار مضافاً قبل الاستهلاك وإن حصل الاستهلاك والإضافة دفعة لا يخلو الحكم بعدم تنجسه عن وجه ، لكنّه مشكل (*) (١)

______________________________________________________

الموضوع إذ لا وجود للمضاف النجس أصلاً ، والماء مطلق معتصم تشمله الإطلاقات. ومن هنا يظهر أن قولنا : يطهر المضاف النجس بالاستهلاك مبني على المسامحة فإنّه لا مضاف حتى يطهر.

وأُخرى : يمتزج المضاف بالمطلق ويستهلك فيه أيضاً ولكنه بنفسه لا بوصفه فيحدث أثراً في لون المطلق أو طعمه أو غير ذلك من التغيرات. وهل هذا يوجب تنجس المطلق بتغيره بأوصاف المتنجس أو لا يوجبه؟ فيه وجهان مبنيان على ما يأتي في محلّه من أن التغير يقتضي نجاسة الماء مطلقاً أو أنّها تختص بالتغير بأوصاف النجس ، وأمّا التغير بالمتنجس فلا دليل على كونه موجباً للنجاسة ، ويأتي منّا في محلّه إن شاء الله تعالى أن الثاني هو الصحيح ، وعليه فلا يكون تأثير المضاف في تغيّر المطلق موجباً لانفعاله بعد وضوح أن التغير غير الإضافة ، وهي لا تحصل بالتغيّر وإنّما يحدث التغير أثراً في وصف المطلق ، لا أنّه يسبب الإضافة كما نشاهده في ماء الشط فإن لونه متغيّر بالوحل مع انه مطلق ، ولا يعد من المضاف. وستعرف ان التغير بأوصاف غير النجس لا يوجب التنجيس.

وثالثة : يمتزج المضاف بالمطلق ، ويستهلك الماء في المضاف على عكس الصورتين المتقدمتين ، ولا كلام في انفعال الماء في هذه الصورة ، لأنّه مضاف وقد لاقى نجساً فيتنجس لا محالة.

إلقاء المضاف النجس في الكر‌

(١) قد خص الكلام بالكر وهو المعتصم بنفسه ولم يعممه إلى المعتصم بمادته‌

__________________

(*) الظاهر أنّ يحكم بنجاسته على تقدير إمكان الفرض ، لكن الأظهر استحالته كما يستحيل الفرض الأول‌

٤٩

كالجاري وإن عممه إليه في الفرع المتقدم ، حيث قال : وبالاستهلاك في الكر والجاري وسيتّضح وجه تخصيصه هذا في طي تفاصيل الصور إن شاء الله تعالى.

ثم إن للمسألة صوراً ثلاثاً لم يتعرض الماتن لإحداها :

الصورة الأُولى : ما إذا حصل الاستهلاك قبل الإضافة بأن يستهلك المضاف في الكر أوّلاً ثم يوجب إضافته ثانياً بعد مدّة وزمان ، وتصوير ذلك من الوضوح بمكان كما إذا مزجنا نصف مثقال من النشاء في مقدار قليل من الماء ، فإنّه يستهلك في الماء حين امتزاجهما ، ثم إذا أوصلنا إليه حرارة يتثخن بذلك وينقلب الماء مضافاً ، وهذه الصورة هي التي لم يتعرض السيد قدس‌سره لحكمها ، ولعلّه من أجل وضوح المسألة حيث لا موجب للحكم بالنجاسة في مفروض الكلام ، فإن المضاف النجس بعد ملاقاته الكر وقبل انقلاب الكر مضافاً قد حكم عليه بالطهارة لاستهلاكه في الكر ، فإذا انقلب الكر إلى الإضافة فهو ماء مضاف لم يلاق نجساً ، فلا وجه للحكم بنجاسته.

الصورة الثانية : ما إذا حصلت الإضافة قبل الاستهلاك على عكس الصورة المتقدمة ، وقد حكم في المتن بنجاسة الكر في هذه الصورة لأنّه خرج عن الإطلاق إلى الإضافة حين ملاقاته للمضاف النجس ، وغير المطلق ينفعل بملاقاة النجاسة ولو كان بمقدار كر وهو ظاهر ، ولا ينفع استهلاك المضاف بعد ذلك إذ لم يرد عليه مطهر شرعي بعد نجاسته ، وخروج الماء من الإضافة إلى الإطلاق ليس من أحد المطهرات شرعاً فهو ماء مطلق محكوم بالنجاسة على كل حال.

الصورة الثالثة : ما إذا حصلت الإضافة والاستهلاك في زمان واحد معاً وذكر في المتن أن الحكم بطهارة الماء حينئذٍ لا يخلو عن وجه ولكنه مشكل ، والوجه الذي أشار إليه هو أن الماء في حال الملاقاة وقبل استهلاك المضاف فيه ماء مطلق معتصم فلا وجه لانفعاله ، وأمّا بعد استهلاك المضاف فيه المساوق لانقلاب المطلق مضافاً فلا مضاف نجس حتى يلاقي الماء وينجسه لاستهلاكه في المطلق على الفرض ، هذا.

وقد أورد عليه شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في هامش العروة بأن المضاف في كلا الشقين يستحيل أن يستهلك في الماء الملقى عليه وذكرنا نحن أيضاً في تعليقتنا على‌

٥٠

الكتاب أن الصورة الثانية كالثالثة غير معقولة ، ثم على تقدير إمكان الصورتين فالماء محكوم بالنجاسة دون الطهارة.

فلنا في المقام دعويان إحداهما : أن الصورتين مستحيلتان ، وثانيتهما : أن الحكم فيهما على تقدير إمكانهما هو النجاسة دون الطهارة.

وقبل الشروع في إثبات الدعويين ينبغي أن يعلم أن مفروض كلام السيد قدس‌سره هو صورة ملاقاة المضاف النجس للماء الذي هو بمقدار الكر خاصة ، لا ما يزيد عليه ولا الجاري ولا غيرهما مما له مادة أو ما في حكمها مما يعتصم به على تقدير انفعاله ، وذلك لأن الماء إذا كان أكثر من كر واحد وحصلت الإضافة في مقدار منه بحيث كان غير المتغير كراً فلا يبقى وجه للحكم بالانفعال في الجميع ، فإن غير المقدار المضاف منه باق على طهارته وهذا ظاهر. نعم ، المقدار المتغير منه محكوم بالنجاسة ما دام متغيراً فإذا زال عنه تغيره بنفسه نحكم عليه بالطهارة لاتصاله بالكر. وقد دلتنا على ذلك صحيحة ابن بزيع الواردة في البئر (١) ، لدلالتها على أن ماء البئر إذا تغير ينزح حتى يذهب ريحه ويطيب طعمه ، وانّه يطهر بذلك معللاً بأن له مادة ، والعلّة المذكورة متحققة في المقام أيضاً ، ولأجل هذا لم يضف قدس‌سره الجاري على الكر في عنوان المسألة كما أضافه عليه في الفرع المتقدم على هذا الفرع. وإذا عرفت ذلك فلنرجع إلى ما كنّا بصدده فنقول :

أمّا الصورة الأُولى : وهي ما إذا استهلك المضاف في الماء ولم يوجب إضافته بالفعل وإنّما صار سبباً لصيرورته مضافاً بعد زمان ، فلا إشكال في معقوليتها وإمكانها ، وأن حكمها هو الطهارة وسيأتي نظيره في أحكام التغير فيما إذا لاقت النجاسة ماء ولم تغيره حين ملاقاته وإنّما أوجبت تغيره بعد مضي زمان.

وأمّا الصورة الثالثة : فهي كما أشرنا إليه غير معقولة ، بيان ذلك : أن المراد بالاستهلاك هو انعدام المستهلك انعداماً عرفياً ، على نحو يعد المركب من المضاف والماء شيئاً واحداً عرفاً فكأن المضاف لا وجود له أصلاً ، لاندكاكه في ضمن المطلق‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤١ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١٢ ، وفي ص ١٧٢ ب ١٤ ح ٦.

٥١

إذا كان قليلاً بالإضافة إلى الماء بحيث لا يقال إن المركب منهما شيئان ، ومن هنا لو باع حليباً مزجه بشي‌ء من الماء فليس للمشتري دعوى بطلان المعاملة ، وأن المبيع ليس بحليب بل حليب وغير حليب والوجه فيه : أن الماء بعد استهلاكه واندماجه في الحليب يعد المركب منهما شيئاً واحداً. نعم ، يثبت للمشتري في المثال خيار تخلف الشرط وهو أمر آخر ، ولو لا ما ذكرناه لبطل أغلب البيوع ، فإن المبيع كالخبز والسمن وأمثالهما يختلط بشي‌ء آخر غالباً ولو بمثقال من تراب أو مقدار من الدردي والمفروض أنّه يوجب تعدّد المركّب وبه تفسد البيوع ، مع أن صحة المعاملة في مثلهما ليست مورداً للخلاف ، ولا وجه له إلاّ أن المركب من الدقيق والتراب أو السمن والدردي شي‌ء واحد عرفاً من جهة الاستهلاك والاندماج ، وإن كان لا يخرج بذلك عن التعدّد عقلاً والتركب من جزئين واقعاً ولكنهما شي‌ء واحد عرفاً كما مرّ ، وليس ذلك من جهة التسامحات العرفية في التطبيق وإنّما هو كما ذكرناه في محلّه من جهة سعة المفهوم عندهم على نحو يعم الماء المختلط بمقدار يسير من التراب ، أو السمن الممتزج بشي‌ء قليل من الدردي وهكذا ... فإذا تبينت ذلك فنقول :

إن ملاقاة المضاف للمطلق لا يخلو عن إحدى صور ثلاث لا رابع لها :

الاولى : أن يستهلك المضاف في المطلق لكثرته وقلّة المضاف على وجه يراهما العرف ماء واحداً ، ولا يكون بنظرهم مركباً من ماء ومضاف ، ولا تأمّل في مثله في الحكم بطهارة الماء ، إذ لا وجود للمضاف والمفروض أن الماء عاصم لا ينفعل بشي‌ء.

الثانية : أن يستهلك المطلق في المضاف لكثرته وقلة المطلق ، وفي هذه الصورة أيضاً لا إشكال في الحكم بنجاسة الماء وانفعاله لأنّه مضاف ولو كان ذلك بضرب من المسامحة ، إذ لا وجود حينئذٍ للمطلق حتى ينفعل فإنّه انعدم في المضاف عرفاً.

الثالثة : أن لا يستهلك شي‌ء منهما في الآخر لتوازنهما في الكثرة والقلة وعدم غلبة أحدهما على الآخر بحيث يراهما العرف شيئين ، وربّما يولد اجتماعهما أمراً ثالثاً نظير اجتماع الخل والسكر في السكنجبين ، والماء في هذه الصورة أيضاً محكوم بالنجاسة إذ لا يطلق عليه الماء ، لأن الفرض عدم استهلاك المضاف في الماء وتعددهما بالنظر العرفي ، فإذا لم يكن مطلقاً فهو مضاف لا محالة غاية الأمر لا بمرتبة عالية منه تستهلك‌

٥٢

المطلق ، بل بمرتبة نازلة من ذلك وملاقاة مثله للنجس توجب الانفعال ، وهذه الصور هي التي نتعقلها في المقام ولا نتعقل صورة رابعة لها بأن يفرض حصول كل من الاستهلاك والإضافة في زمان واحد معاً ، والوجه في استحالتها أن فرض استهلاك المضاف في المطلق فرض أن المضاف لا وجود له مع المطلق عرفاً كما عرفت في معنى الاستهلاك. وفرض حصول الإضافة أن العرف لا يرى للمطلق وجوداً وانّه عندهم مضاف ، وهما أمران لا يجتمعان ففرض الاستهلاك والإضافة معاً خلف ظاهر.

فإذا عرفت استحالة هذه الصورة وأن فرض الاستهلاك فرض عدم حصول الإضافة وفرض الإضافة فرض عدم حصول الاستهلاك ، تظهر لك استحالة الصورة الثانية أيضاً وذلك لأنّا إذا فرضنا خروج المطلق إلى الإضافة لغلبة المضاف ، فكيف يتصوّر انقلابه إلى الإطلاق بعد ذلك بالاستهلاك إذ المطلق قد استهلك في المضاف ولا وجود له كما تقدم في معنى الاستهلاك ، وما لا وجود له كيف يتغلّب على المضاف ويقلبه إلى الإطلاق بالاستهلاك. نعم ، لا مانع من انقلاب المضاف مطلقاً على غير وجه الاستهلاك كما إذا اختلط الوحل بالماء وأوجب إضافته ، فإنّه إذا مضى عليه زمان تترسب الأجزاء الترابية وتنفك عن الماء لا محالة وبه ينقلب إلى الإطلاق ولكنّه لا بالاستهلاك كما لا يخفى ، هذا كلّه في الدعوى الاولى واستحالة الصورتين.

وأمّا الدعوى الثانية : وهي أنّه على تقدير إمكان حصول الإضافة والاستهلاك معاً لا وجه لحكمه قدس‌سره بالطهارة ، فالوجه فيها أن مستند حكم الماتن بطهارة الماء حينذاك ، أن المطلق قبل ملاقاته للمضاف باق على إطلاقه واعتصامه ، وأمّا بعد ملاقاتهما وانقلاب المطلق مضافاً فلأنّه وإن انقلب إلى الإضافة على الفرض إلاّ أنّه بعد كونه كذلك لم يلاق مضافاً آخر نجساً حتى يحكم بنجاسته ، فالماء محكوم بالطهارة لا محالة.

وهذا الذي اعتمد عليه الماتن في المقام لا يتم إلاّ بالالتزام بإمكان أمر مستحيل ووقوعه ، وهو فرض ملاقاة المضاف النجس للمطلق بجميع أجزائه دفعة واحدة حقيقية ، بأن يلاقي كل جزء من المضاف لكل جزء من المطلق دفعة واحدة ويستهلك كل جزء منه في جزء من المضاف في آن واحد عقلي.

٥٣

[٨٠] مسألة ٨ : إذا انحصر الماء في مضاف مخلوط بالطين ففي سعة الوقت يجب عليه أن يصبر حتى يصفو ويصير الطين إلى الأسفل ، ثم يتوضّأ على الأحوط (*) وفي ضيق الوقت يتيمم ، لصدق الوجدان مع السعة دون الضيق (١).

______________________________________________________

وهذا كما ترى أمر مستحيل ، إذ لا يمكن تلاقي كل واحد من أجزاء أحدهما لجزء من أجزاء الآخر دفعة ، وإنّما يلاقي بعض أجزاء المضاف لبعض أجزاء المطلق أوّلاً ثم تلاقي الأجزاء الباقية منه لأجزاء المطلق ثانياً وهكذا ، فالدفعة العقلية غير ممكنة إلاّ في مثل تكهرب الماء وسراية القوة الكهربائية إلى جميع الأجزاء المائية فإن الدفعة فيه أوضح ، ولكنها فيه أيضاً غير عقلية لأن للقوة الكهربائية أيضاً سيراً لا محالة لاستحالة الطفرة إلاّ أنّه سريع. نعم ، الدفعة العرفية معقولة كما ذكروها في الغسل ارتماساً ، لتعذر وصول الماء إلى جميع البدن دفعة حقيقية ، فإذا استحالت ملاقاة أجزاء كلّ منهما مع الآخر دفعة حقيقية فلا محيص من الحكم بنجاسة الماء ، وذلك لأن الجزء الأوّل من المطلق إذا لاقاه جزء من المضاف النجس وصيّره مضافاً يتنجّس لا محالة وإذا تنجس جزء منه تنجست الأجزاء الباقية منه أيضاً لأنّها أقل من كر ، فتنفعل بملاقاة النجاسة لما مرّ من أن مفروض كلام الماتن ( طاب ثراه ) هو الماء البالغ كراً خاصة ، فإن الباقي إذا كان بمقدار كر أيضاً لما كان لنجاسة الجزء الملاقي للمضاف وجه بعد زوال تغيره ، لاتصاله بالعاصم وهو مانع من انفعال الجزء المضاف. وعلى الجملة الماء في الصورة المفروضة محكوم بالنجاسة ، والذي يسهل الخطب أن الفرض فرض أمر مستحيل.

(١) لا تبتني هذه المسألة على تفسير الوجدان بوجود الماء خارجاً أو بالقدرة عليه ، ليكون عدم الوجدان بمعنى عدم الماء في الخارج أو عدم القدرة عليه (١) بل تبتني بكلا هذين المعنيين على أن الاعتبار في وجوب الوضوء على الواجد بالمعنيين ووجوب التيمم على الفاقد بالمعنيين ، بمجموع الوقت أو بخصوص زمان العمل‌

__________________

(*) بل على الأظهر.

(١) المستمسك ١ : ١١٨.

٥٤

والامتثال ، فإن جعلنا المناط بالوجدان والفقدان في تمام الوقت فلا إشكال في وجوب الوضوء على المكلف في المقام ، فلا بدّ له من أن يصبر حتى يصفو الماء فإن المفروض أنّه يصير واجداً إلى آخر الوقت بكلا معنيي الوجدان ، كما أنّه إذا جعلنا المناط بالوجدان والفقدان في خصوص وقت العمل فلا تأمل في وجوب التيمم عليه في المسألة لأنّه حين قيامه إلى الصلاة ليس بواجد بكلا المعنيين ، لفرض إضافة الماء حينذاك فلا قدرة له على الماء كما أن الماء ليس بموجود خارجاً.

ومقتضى ظهور الآية المباركة ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ... فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (١) هو الثاني وأن الاعتبار في الوجدان والفقدان بزمان القيام إلى العمل ، نظير وجوب القصر على المسافر والتمام على الحاضر ، فإن المدار فيهما على كون المكلف حاضراً أو مسافراً في زمان العمل ، فعلى الأول يتم وعلى الثاني يقصّر وإن صار مسافراً أو حاضراً بعد ذلك ، هذا كلّه حسبما تقتضيه القاعدة.

وأمّا ما يستفاد من الأخبار : فقد ورد في بعضها الأمر بالانتظار فيما إذا احتمل الوجدان إلى آخر الوقت (٢) ومعه لا يجوز البدار ، وقد أفتى السيد قدس‌سره بجوازه في مبحث التيمم عند احتمال الوجدان إلى آخر الوقت ، وعدمه فيما إذا علم بحصوله على تقدير الانتظار إلى آخر الوقت (٣) كما في ما نحن فيه إلاّ أنّه لم يجر على هذا في المقام حيث لم يفت بوجوب الانتظار للوضوء جزماً وإنّما أوجبه احتياطاً ، ولعلّ الوجه في ذلك ظهور الآية المتقدمة في أن الاعتبار في وجوب التيمم بفقدان الماء حين القيام إلى العمل ، وقد استظهرنا نحن من روايات هذا الباب أن المدار في وجوب التيمّم على الفقدان في تمام الوقت ، ومن هنا نحكم في المقام بوجوب الانتظار للوضوء. هذا كلّه مع سعة الوقت ، وأمّا مع الضيق فلا ينبغي التأمل في وجوب التيمم لأنّه فاقد للماء‌

__________________

(١) المائدة : ٥ : ٦.

(٢) كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سمعته يقول إذا لم تجد ماءً وأردت التيمم فأخر التيمم إلى آخر الوقت ، فإن فاتك الماء لم تفتك الأرض » وغيرها المروية في الوسائل ٣ : ٣٨٤ / أبواب التيمم ب ٢٢ ح ١.

(٣) يأتي في المسألة [١١٤١].

٥٥

[٨١] مسألة ٩ : الماء المطلق بأقسامه (١)

______________________________________________________

بكلا معنيي الفقدان.

ثمّ لا يخفى ان ذكر هذه المسألة في المقام في غير محلّه ، لأنّها من فروع مسألة التيمم ولا ربط لها بمسألة المضاف ، فكان الأولى تأخيرها إلى بحث التيمم.

أحكام الماء المتغيِّر‌

(١) قد قسمنا الماء بلحاظ الانفعال وعدمه إلى أقسام ثلاثة :

أحدها : ما لا ينفعل لاعتصامه بمادته كما في البئر ، والجاري ، والحمّام.

وثانيها : ما لا ينفعل لاعتصامه بنفسه وكثرته كما في الكر.

وثالثها : ما لا مادّة له ولا كثرة فيه وهو قابل للانفعال.

وهذه الأقسام بأجمعها ينفعل إذا تغير بأحد أوصاف النجس من الطعم والرائحة واللون بملاقاته. والمستند في ذلك هو الروايات المستفيضة الواردة من طرقنا وهي من الكثرة بمكان ربّما يدعى تواترها ، ومعها لا حاجة إلى الاستدلال بالنبويات المروية بطرق العامة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شي‌ء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (١) ولا يحتمل فيها الانجبار لوجود ما يعتمد عليه من طرقنا ، كما لا نحتاج إلى التمسك بما رواه في دعائم الإسلام عن علي عليه‌السلام « في الماء الجاري يمر بالجيف والعذرة والدم يتوضأ منه ويشرب وليس ينجسه شي‌ء ما لم يتغير أوصافه : طعمه ولونه وريحه » (٢) لإرسال رواياته ، وإن كان مصنفه وهو قاضي نعمان المصري فاضلاً ومن أجلاء عصره. والأخبار الواردة من طرقنا على طوائف ثلاث :

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٥ / أبواب الماء المطلق ب ١ ح ٩. وقد قدّمنا نقلها [ في ص ١١ ] عن كنز العمّال وموضعين من سنن البيهقي.

(٢) المستدرك ١ : ١٨٨ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١. وعن دعائم الإسلام ١ : ١١١.

٥٦

الطائفة الأُولى : ما دلّ على انفعال طبيعي الماء بالتغير بأحد أوصاف النجس كصحيحة حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب ، فإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا توضّأ منه ولا تشرب » (١) وموثقة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل يمر بالماء وفيه دابة ميتة قد أنتنت؟ قال : إذا كان النتن الغالب على الماء فلا يتوضّأ ولا يشرب » (٢) والمذكور فيهما كما ترى طبيعي الماء على وجه الإطلاق.

الطائفة الثانية : ما دلّ على انفعال ما لا مادّة له وهو الكر بالتغير بأوصاف النجس ، كصحيحة عبد الله بن سنان قال : « سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا حاضر عن غدير أتوه وفيه جيفة؟ فقال : إن كان الماء قاهراً ولا توجد منه الريح فتوضأ » (٣) وما رواه زرارة قال قال أبو جعفر عليه‌السلام : « إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شي‌ء تفسخ فيه أو لم يتفسخ إلاّ أن يجي‌ء له ريح تغلب على ريح الماء » (٤) ورواية حريز عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أنّه سُئل عن الماء النقيع تبول فيه الدواب؟ فقال : إن تغيّر الماء فلا تتوضأ منه ، وإن لم تغيره أبوالها فتوضأ منه ، وكذلك الدم إذا سال في الماء وأشباهه » (٥). ومحل الاستشهاد فيها هو قوله عليه‌السلام وكذلك الدم إلى قوله وأشباهه. وأمّا صدرها وهو الذي دلّ على نجاسة أبوال الدواب فلعلّه محمول على التقيّة ، لأن العامّة ذهبوا إلى نجاسة أبوال البغال والحمير ونحوهما (٦) وهذه الروايات قد اشتملت على الماء النقيع وهو الماء النازح‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٧ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٩ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ٦.

(٣) الوسائل ١ : ١٤١ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١١.

(٤) الوسائل ١ : ١٤٠ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ٨.

(٥) الوسائل ١ : ١٣٨ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ٣.

(٦) قال ابن حزم في المحلّى المجلد ١ ص ١٦٨ البول كلّه من كل حيوان : إنسان أو غير إنسان ممّا يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه نحو ما ذكرنا كذلك ، أو من طائر يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه

٥٧

حتى الجاري منه ينجس إذا تغير بالنجاسة في أحد أوصافه الثلاثة من الطعم‌

______________________________________________________

المجتمع في الغدران وماء الغدير وغير ذلك من المياه البالغة كراً من دون أن تكون لها مادّة.

الطائفة الثالثة : ما دلّ على انفعال ماله مادّة كالبئر إذا تغير بأحد أوصاف النجس ، وهي كصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه‌السلام قال : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأن له مادّة » (١) وهي واردة في ماله مادّة وهو ظاهر ، وبهذه الطوائف الثلاث نبني على انفعال مطلق الماء إذا تغيّر بأحد أوصاف النجس.

__________________

فكل ذاك حرام أكله وشربه إلى أن قال : وفرض اجتنابه في الطهارة والصلاة ، إلاّ ما لا يمكن التحفّظ منه إلاّ بحرج فهو معفو عنه كونيم الذباب ، ونجو البراغيث. وقال أبو حنيفة : أمّا البول فكله نجس سواء كان مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل لحمه ، إلاّ أن بعضه أغلظ نجاسة من بعض. فبول كل ما يؤكل لحمه من فرس ، أو شاة أو بعير ، أو بقرة. أو غير ذلك لا ينجس الثوب ، ولا تعاد منه الصلاة إلاّ أن يكون كثيراً فاحشاً فينجس وتعاد منه الصلاة أبداً. ولم يحد أبو حنيفة في المشهور عنه في الكثير حداً ، وحده أبو يوسف بان يكون شبراً في شبر. قال : فلو بالت شاة في بئر تنجست وتنزح كلّها. قالوا : وأمّا بول الإنسان وما لا يؤكل لحمه فلا تعاد منه الصلاة ، ولا ينجس الثوب إلاّ أن يكون أكثر من قدر الدرهم البغلي ، فإن كان كذلك نجس الثوب ، وأعيدت منه الصلاة أبداً ، فإن كان قدر الدرهم البغلي فأقل لم ينجس الثوب ولم تعد منه الصلاة وأمّا الروث فإنّه سواء كلّه كان مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل لحمه من بقر كان أو من فرس أو من حمار أو غير ذلك. وإن كان في الثوب منه أو النعل ، أو الخف ، أو الجسد أكثر من قدر الدرهم البغلي بطلت الصلاة وأعادها أبداً وإن كان قدر الدرهم البغلي فأقلّ لم يضرّ شيئاً إلى أن قال : وأمّا بول ما لا يؤكل لحمه ونجوه ، ونجو ما يؤكل لحمه فكل ذلك نجس. وقال مالك : بول ما لا يؤكل لحمه ونجوه نجس وبول ما يؤكل لحمه ونجوه طاهران. وقال داود : بول كل حيوان ونجوه أكل لحمه أو لم يؤكل فهو طاهر ، حاشا بول الإنسان ونجوه فقط ، فهما نجسان. وقال الشافعي : مثل قولنا الذي صدرناه به. راجع المجلد ١ ص ١٦ الفقه على المذاهب الأربعة.

(١) الوسائل ١ : ١٤١ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١٢ ، وص ١٧٢ ب ١٤ ح ٦.

٥٨

والرائحة واللّون (١) بشرط أن يكون بملاقاة النجاسة ، فلا يتنجّس إذا كان

______________________________________________________

التغيّر باللّون‌

(١) وقد وقع النزاع في أن سبب النجاسة بالتغيّر هل هو التغيّر بالطعم والرائحة خاصّة كما هو المصرح بهما في أكثر روايات الباب ، أو أن التغيّر باللون أيضاً سبب للانفعال؟

وقد يدعى (١) عدم ذكر اللون في شي‌ء من الأخبار الواردة في المقام ، ولأجله يستشكل في إلحاقه بالطعم والريح. والتحقيق أن الأمر ليس كما ادعي ، فإن اللون كأخويه مذكور في جمله من الأخبار ، فدونك رواية أبي بصير المتقدمة المشتملة على قوله عليه‌السلام وكذا الدم (٢) فإن التغيّر بالدم على ما يستفاد منه عرفاً ليس إلاّ التغيّر باللون دون الطعم أو الريح ، ورواية العلاء بن الفضيل قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحياض يبال فيها؟ قال : لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول » (٣) لأنّها نصّت على أن التغيّر باللون أيضاً سبب للانفعال.

ثم على تقدير المناقشة في الروايتين بضعفهما فحسبك صحيحة محمد بن الحسن الصفار في كتاب بصائر الدرجات عن محمد بن إسماعيل يعني البرمكي عن علي بن الحكم عن شهاب بن عبد ربّه قال : « أتيت أبا عبد الله عليه‌السلام أسأله ، فابتدأني فقال : إن شئت فسل يا شهاب ، وإن شئت أخبرناك بما جئت له ، قلت : أخبرني ، قال : جئت تسألني عن الغدير يكون في جانبه الجيفة ، أتوضأ منه أو لا؟ قال : نعم قال : توضأ من الجانب الآخر ، إلاّ أن يغلب الماء الريح فينتن. وجئت تسأل عن الماء الراكد من الكر (٤) ممّا (٥) لم يكن فيه تغيّر أو ريح غالبة ، قلت : فما التغيّر؟ قال : الصفرة‌

__________________

(١) ذكره صاحب المدارك ١ : ٥٧.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٨ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ٣.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٩ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ٧.

(٤) وفي طهارة المحقق الهمداني رحمه‌الله [ ص ١٠ سطر ١٠ ] وبعض نسخ الكتاب « من البئر ».

(٥) كذا في النسخة المطبوعة أخيراً من الوسائل والصحيح « ما ».

٥٩

بالمجاورة كما إذا وقعت ميتة قريباً من الماء فصار جائفاً (١).

______________________________________________________

فتوضأ منه ، وكلما غلب [ عليه ] كثرة الماء ، فهو طاهر (١) وهي أيضاً صريحة : في أن التغيّر باللّون وهو الصفرة يوجب الانفعال.

هذا على أن التغيّر باللون في النجاسات يلازم التغيّر بالطعم أو الريح ولا يوجد التغيّر باللون إلاّ والتغيّر بالطعم أو الريح موجود معه ، ولا تقاس النجاسات الخارجية بالإصباغ فإن التغيّر بسببها يمكن أن يكون باللون خاصة ، وهذا بخلاف التغيّر بالنجاسات كما في الميتة واللحم ، لأنّها إذا أثرت في تغيّر لون الماء بالصفرة أو بغيرها فلا ينفك عن التغيّر بالطعم والريح ، ولعلّه لأجل هذا التلازم لم يتعرض عليه‌السلام فيما تقدم من صحيحة ابن بزيع للتغير باللون.

التغيّر بالمجاورة‌

(١) اشترط الفقهاء ( قدس الله أسرارهم ) في انفعال الماء بالتغيّر أن يكون التغيّر مستنداً إلى ملاقاة الماء للنجس ، وأمّا إذا نشأ بغير الملاقاة من المجاورة والسراية فهو لا يؤثر في الانفعال ، كما إذا كانت الميتة قريبة من الماء فأنتنت وسرى النتن إلى الماء وهذا هو الصحيح ، فإنّ الروايات الدالّة على نجاسة الماء بالتغيّر بين ما وردت في خصوص ملاقاة الماء المتغيّر للنجس بوقوع الميتة أو البول في الماء ، كما في بعض الأخبار (٢). أو تفسخ الميتة فيه كما في بعضها الآخر (٣). وصراحتها في ملاقاة الماء للنجس غير محتاجة إلى البيان ، وبين ما لم ترد في ذلك المورد ، إلاّ أنّها دلّت على إرادة الملاقاة بواسطة القرائن الخارجية كصحيحة ابن بزيع ، فإنّها وإن لم ترد في ملاقاة النجس للماء ، وقوله عليه‌السلام فيها « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلاّ أن يتغيّر ... » مطلق يشمل التغيّر بالملاقاة والمجاورة ، إلاّ أن القرينة قامت على ارادة التغيّر بالملاقاة خاصّة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦١ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١١.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٩ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ٤ ، ٦ ، ٧ ، ١١.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٩ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ٨ ، ٩.

٦٠