موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

مشتبهين وأُريق أحدهما ، فإنّه يجب الاجتناب عن الباقي ، والفرق أن الشبهة في هذه الصورة بالنسبة إلى الباقي بدوية ، بخلاف الصورة الثانية فإن الماء الباقي كان طرفاً للشبهة من الأوّل وقد حكم عليه بوجوب الاجتناب (١).

[١٥٧] مسألة ٩ : إذا كان هناك إناء لا يعلم أنه لزيد أو لعمرو والمفروض أنه مأذون من قبل زيد فقط في التصرف في ماله ، لا يجوز له استعماله (٢) وكذا إذا علم أنه لزيد مثلاً لكن لا يعلم أنه مأذون من قبله أو من قبل عمرو (٣).

______________________________________________________

أن يكون للمراق ملاق لأنه يولّد علماً إجمالياً بنجاسة الملاقي للمراق أو الإناء الباقي والأصلان فيهما متعارضان فلا مناص من تساقطهما ، وبذلك تتنجز النجاسة في كل واحد من الطرفين.

(١) لأن العلم الإجمالي قد نجز متعلقه في كل واحد من الطرفين وتساقطت الأُصول فيهما بالمعارضة ، وقد مرّ أن التنجز لا ينفك عن العلم الإجمالي ما دام باقياً وهو باق بعد إهراق أحدهما كما كان قبله ولا يرتفع بإراقته.

التردّد في متعلق الإذن‌

(٢) ذلك لعموم أدلّة حرمة التصرف في مال الغير ، وإنما خرجنا عنه في صورة إذن المالك في التصرفات ، وإذن مالك هذا المال المعيّن الشخصي مشكوك فيه والأصل عدمه ، ولا ينافيه العلم خارجاً بإذن زيد في التصرف في ماله ، لأن الاعتبار في جريان الأصل في مورد إنما هو بالشك فيما يترتب عليه الأثر ، وهو إذن المالك في مفروض المسألة بما هو مالك دون إذنه بما هو زيد ، وإذن المالك مشكوك فيه والأصل يقتضي عدمه ، وهو نظير ما إذا رأينا أحداً قد مات وشككنا في حياة زيد وهو مقلَّدنا فان العلم بموت من لا ندري أنه زيد لا يمنع عن جريان الاستصحاب في حياة زيد لإثبات جواز تقليده وحرمة تزويج زوجته وغيرهما من الأحكام.

(٣) للشك في إذن مالكه وهو زيد والأصل عدمه ، وأصالة عدم إذن غيره وهو عمرو مما لا أثر له ، واستصحابه لإثبات أن الآذن هو زيد يتوقف على القول بالأُصول المثبتة.

٣٦١

[١٥٨] مسألة ١٠ : في الماءين المشتبهين إذا توضأ بأحدهما أو اغتسل وغسل بدنه من الآخر ثم توضأ به أو اغتسل صحّ وضوءه أو غسله على الأقوى (*) ، لكن الأحوط ترك هذا النحو مع وجدان ماء معلوم الطهارة ، ومع الانحصار الأحوط ضم التيمم أيضاً (١).

[١٥٩] مسألة ١١ : إذا كان هناك ماءان توضأ بأحدهما أو اغتسل ، وبعد الفراغ حصل له العلم بأن أحدهما كان نجساً ولا يدري أنه هو الذي توضأ به أو غيره ، ففي صحة وضوئه أو غسله إشكال ، إذ جريان قاعدة الفراغ هنا محل إشكال (**) (٢)

______________________________________________________

(١) قدمنا وجه ذلك في المسألة المتقدمة.

العلم بالنجاسة إجمالاً بعد العمل‌

(٢) الإشكال في جريان قاعدة الفراغ في وضوئه وغسله يبتني على اعتبار الالتفات حال العمل في جريانها ، وحيث إن مفروض المسألة عدم التفات المكلف إلى نجاسة أحد الماءين حال العمل فلا تجري فيها قاعدة الفراغ. وأمّا إذا لم نعتبر الالتفات في جريانها فلا إشكال في صحة وضوئه وغسله بمقتضى تلك القاعدة ، ولتحقيق الحال في اعتبار الالتفات وعدمه في جريان القاعدة محل آخر يطول بذكره الكلام ، إلاّ أنه لا بأس بالإشارة إلى القول المختار على وجه الاختصار فنقول :

الصحيح عدم جريان القاعدة في غير ما إذا كان العامل ملتفتاً حال عمله ، لأن منصرف الإطلاقات الواردة في جريانها أن تلك القاعدة أمر ارتكازي طبعي وليست قاعدة تعبدية محضة ، لأن كل من عمل عملاً ثم التفت إليه بعد إتيانه ولو بعد مدة‌

__________________

(*) نعم الأمر كذلك إلاّ أنه لا تصح الصلاة عندئذٍ للعلم الإجمالي بنجاسة بدنه بملاقاة الماء الأول أو الثاني وإن كان الثاني كراً على ما بيّناه في محله ، وحينئذٍ فلا بدّ من غسل تمام المحتملات حتى يحكم بصحة الصلاة ، وبذلك يظهر الحال في صورة الانحصار.

(**) والأظهر بطلان الوضوء فيما إذا كان الطرف الآخر أو ملاقيه باقياً ، وإلاّ فالوضوء محكوم بالصحة.

٣٦٢

وأمّا إذا علم بنجاسة أحدهما المعيّن ، وطهارة الآخر فتوضأ ، وبعد الفراغ شكّ في أنه توضأ من الطاهر أو من النجس ، فالظاهر صحة وضوئه لقاعدة الفراغ (١). نعم ، لو علم أنه كان حين التوضؤ غافلاً عن نجاسة أحدهما يشكل جريانها.

______________________________________________________

يشك في كيفية عمله ، وأنه أتى به بأي وجه إلاّ أنه لو كان ملتفتاً حال عمله ، وكان غرضه هو الامتثال وإفراغ ذمته عن التكليف لم يحتمل في حقه النقص عمداً لأنه خلاف فرض التفاته ، ونقض لغرضه أعني إفراغ ذمّته واحتمال نقصه غفلة مندفع بأصالة عدم الغفلة ، وبهذا يحكم بصحة عمله إلاّ أن ذلك يختص بصورة التفات الفاعل حال عمله ، وكذلك الحال فيما إذا احتمل الالتفات حال عمله. وأمّا إذا كان عالماً بغفلته حين عمله ، فاحتمال عدم النقيصة في عمله لا يستند إلاّ إلى احتمال الصدفة غير الاختيارية ، وليس إتيانه العمل صحيحاً مطابقاً للارتكاز ، وعلى هذا لا بدّ من اعتبار احتمال الالتفات حال العمل في جريان القاعدة.

هذا على أن هناك روايتين : إحداهما : موثقة بكير بن أعين قال : « قلت له : الرجل يشك بعد ما يتوضأ ، قال : هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » (١).

وثانيتهما : صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : « إن شكّ الرجل بعد ما صلّى فلم يدر أثلاثاً صلّى أم أربعاً وكان يقينه حين انصرف أنه كان قد أتم ، لم يعد الصلاة ، وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك » (٢). وهما تدلان على اعتبار الأذكرية والأقربية حال العمل أعني الالتفات إلى ما يأتي به من العمل في مقام الامتثال في جريان قاعدة الفراغ ، فلو تمّ إطلاق بقية الأخبار ولم تكن منصرفة إلى ما ذكرناه ففي هاتين الروايتين كفاية لتقييد إطلاقاتها بصورة الالتفات.

(١) لالتفات المكلف إلى نجاسة أحدهما المعيّن وطهارة الآخر ، وإنما يشك في صحة وضوئه بعد الفراغ ، للشك في أنه هل توضأ من الطاهر أو من النجس ، وهو مورد‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٧.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٤٦ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٧ ح ٣.

٣٦٣

[١٦٠] مسألة ١٢ : إذا استعمل أحد المشتبهين بالغصبية ، لا يحكم عليه بالضمان إلاّ بعد تبين أن المستعمل هو المغصوب (١).

______________________________________________________

لقاعدة الفراغ كغيره من مواردها ، اللهم إلاّ أن يعلم بغفلته عن نجاسة أحدهما المعيّن حال العمل.

استعمال أحد المشتبهين بالغصبية‌

(١) وذلك لأن العلم الإجمالي إنما يكون منجزاً فيما إذا تعلق بحكم فعلي على كل تقدير أو بغيره مما هو تمام الموضوع للحكم الفعلي. وأمّا إذا لم يكن المعلوم بالإجمال حكماً فعلياً ولا تمام الموضوع للحكم الفعلي فلا يترتب عليه التنجز بوجه ، وهذا كما إذا علم أن أحد الميتين ميت آدمي ، فإن الميت الآدمي وإن كان تمام الموضوع لوجوب الدفن والكفن إلاّ أنه ليس بتمام الموضوع لوجوب غسل مس الميت ، لأن موضوعه هو مس الميت الإنساني ، ومن الظاهر أنه إذا مس أحد الميتين لا يحرز بذلك أنه مس بدن الميت الآدمي ، لاحتمال أن يكون الميت ميتاً غير آدمي. فالعلم الإجمالي المذكور لا يترتّب عليه أثر بالإضافة إلى وجوب غسل مس الميت.

ولهذه الكبرى أمثلة كثيرة ومنها ما مثل به في المتن ، لأن العلم بغصبية أحد الماءين مثلاً وإن كان يترتب عليه التنجيز بالإضافة إلى حرمة التصرف في المشتبهين ، لأن الغصب بما هو تمام الموضوع للحكم بحرمة التصرفات إلاّ أنه لا يترتب عليه أثر بالإضافة إلى الضمان ، لأن موضوع الحكم بالضمان مركب من أمرين : مال الغير وإتلافه أو الاستيلاء عليه ، وإتلاف أحد المشتبهين في المثال لا يوجب العلم بتحقق كلا جزئي الموضوع للحكم بالضمان ، لاحتمال أنه إتلاف لملك نفسه فلا يحرز به الاستيلاء على مال الغير ، وحيث إن الضمان مشكوك الحدوث فالأصل يقتضي عدمه.

ثم إن وجوب الموافقة القطعية في موارد العلم الإجمالي غير مستند إلى نفسه كما ذكرناه غير مرة ، وإنما يستند إلى تساقط الأُصول في أطرافه ، وهذا إنما يتحقق فيما إذا‌

٣٦٤

كانت الأُصول الجارية في أطراف العلم الإجمالي نافية للتكليف. وأمّا إذا كانت مثبتة وموافقة للعلم الإجمالي أو اختلفت وكان بعضها مثبتاً له ، فلا مانع من جريان المثبت منها في أطراف العلم الإجمالي ، حيث لا يترتب عليه محذور على ما ذكرناه في محلّه وبذلك يبقى الأصل النافي سليماً عن المعارض ويسقط العلم الإجمالي عن التأثير. ومثاله ما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين إذا كان كلاهما أو أحدهما مسبوقاً بالنجاسة حيث لا مانع حينئذٍ من استصحاب النجاسة فيما هو مسبوق بها ، وبعد ذلك لا مانع من الرجوع إلى أصالة الطهارة في الإناء الآخر لأنها غير معارضة بشي‌ء ، ومن هذا تعرف أنه لا فرق فيما أفاده الماتن قدس‌سره من عدم الحكم بالضمان بين صورتي سبق العلم الإجمالي بالغصبية عن التصرف في أحدهما وتأخره عنه.

وأمّا ما قد يقال : من التفصيل في الضمان بين الصورتين بالحكم بعدم الضمان في صورة تقدم العلم الإجمالي على التصرّف في أحدهما ، لاستصحاب عدم حدوث الحكم بالضمان بعد تساقط أصالة الإباحة في كل واحد من الطرفين بالمعارضة ، والحكم بالضمان عند تقدم التصرف على العلم الإجمالي نظراً إلى أن العلم بغصبية الطرف المتلف أو الباقي يولد العلم بالضمان على تقدير أن يكون ما أتلفه هو المغصوب أو بحرمة التصرف في الطرف الباقي إذا كان هو المغصوب ، وهذا العلم الإجمالي يقتضي التنجيز ، لمعارضة أصالة عدم حدوث الضمان لأصالة الإباحة في الطرف الآخر.

فممّا لا يمكن المساعدة عليه لأن العلم بغصبية أحد الطرفين إذا كان متأخراً عن الإتلاف فهناك أصلان :

أحدهما : أصالة عدم حدوث الحكم بالضمان وهو أصل ناف مخالف للعلم الإجمالي.

وثانيهما : أصالة عدم كون الباقي ملكاً له أو لمن أذن له في التصرف فيه لو كان هناك مجيز حيث إن جواز التصرف في الأموال المتعارفة التي بأيدينا يحتاج إلى سبب محلل له من اشترائها وهبتها وإجازة مالكها وغيرها من الأسباب ، والأصل عدم تحقق السبب المحلل عند الشك فيه ، وهو أصل مثبت على وفق العلم الإجمالي بالتكليف ، فلا مانع من جريانه كما مر ، وبهذا تبقى أصالة عدم حدوث الضمان في‌

٣٦٥

فصل

[ فصل في الأسآر ]

سؤر (١) نجس العين كالكلب والخنزير والكافر (*) نجس (٢)

______________________________________________________

الطرف المتلف سليمة عن المعارض فلا يترتب على العلم الإجمالي بالضمان أو بحرمة التصرف في الطرف الآخر أثر.

وقياس المقام بالملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة ، فإن الملاقاة إذا كانت متأخرة عن العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر يحكم بطهارة الملاقي لتساقط الأُصول في الطرفين ، فيبقى الأصل في الملاقي سليماً عن المعارض. وإذا كانت متقدمة على العلم الإجمالي يحكم بنجاسته فيما إذا فقد الملاقي أو خرج عن محل الابتلاء ، لتعارض الأصل في الملاقي مع الأصل الجاري في الطرف الآخر ، قياس مع الفارق فإن الأصلين في المقيس عليه نافيان للتكليف وهما على خلاف المعلوم بالإجمال ، وأين هذا من المقام الذي عرفت أن الأصل فيه مثبت للتكليف في أحد الطرفين ، ومعه لا تتساقط الأُصول ، وقد مرّ أن وجوب الموافقة القطعية مستند إلى تساقط الأُصول في أطراف العلم الإجمالي وغير مستند إلى نفسه.

فصل في الأسآر‌

(١) المراد بالسؤر في الاصطلاح (١) هو مطلق ما باشره جسم حيوان ، كان ذلك ماء أم غيره وسواء أكانت المباشرة بالفم أم بغيره من أعضائه.

(٢) لأنه لاقى نجساً ، وقد قدمنا في بحث انفعال الماء القليل ، ويأتي في محله أيضاً أن ملاقاة النجس إذا كانت برطوبة مسرية تقتضي الحكم بنجاسة ملاقيه ، بلا فرق في‌

__________________

(*) على الأحوط في الكتابي.

(١) وفي اللغة : البقية من كل شي‌ء والفضلة. كذا في تاج العروس ٣ : ٢٥١ ، وفي لسان العرب ٤ : ٣٣٩ ، السؤر : بقيّة الشي‌ء.

٣٦٦

وسؤر طاهر العين طاهر (١) وإن كان حرام اللحم (٢)

______________________________________________________

ذلك بين الماء القليل وغيره من الأجسام الرطبة. فإذا كان الحيوان المباشر من الأعيان النجسة كالكلب والخنزير فلا محالة ينجس الماء كما ينجس غيره من الأجسام الرطبة ، وكذا الحال في ملاقاة الكافر والمقدار المتيقن منه هو المشرك ومنكر الصانع وأمّا الكتابي فهو وإن كان مورد الخلاف من حيث طهارته ونجاسته على ما يأتي تفصيله في محلّه إن شاء الله (١) إلاّ أنه أيضاً على تقدير الحكم بنجاسته كبقية الحيوانات النجسة بالذات يوجب نجاسة ما باشره من الماء القليل ، وسائر الأجسام الرطبة.

(١) لطهارة الحيوان في ذاته ، ومعه لا مقتضي لنجاسة سؤره.

(٢) ذهب بعضهم إلى وجوب الاجتناب عن سؤر الحيوانات الطاهرة التي لا يؤكل لحمها فيما عدا الإنسان والطيور وما لا يمكن التحرز عنه كالفأرة والهرة والحية ، من دون أن يحكم بنجاسة أسآرها وقد نسب ذلك إلى الشيخ في المبسوط (٢) وغيره.

وعن الحلِّي قدس‌سره القول بنجاسة أسآرها بدعوى أنها وإن كانت طاهرة إلاّ أنه لا ملازمة بين طهارتها وطهارة أسآرها ، وأيّ مانع من أن تكون ملاقاة الحيوان الطاهر موجبة لنجاسة ملاقيه. (٣) ويمكن أن يستدل على هذا بروايتين :

إحداهما : موثقة عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سئل عما تشرب منه الحمامة ، فقال : كل ما أكل لحمه فتوضأ من سؤره واشرب ... » (٤).

وثانيتهما : صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا بأس أن تتوضأ مما شرب منه ما يؤكل لحمه » (٥) حيث قد علق جواز استعمال السؤر فيهما على كون الحيوان مأكول اللّحم.

__________________

(١) في المسألة [١٩٧].

(٢) المبسوط ١ : ١٠.

(٣) السرائر ١ : ٨٥.

(٤) الوسائل ١ : ٢٣٠ / أبواب الأسآر ب ٤ ح ٢.

(٥) الوسائل ١ : ٢٣١ / أبواب الأسآر ب ٥ ح ١.

٣٦٧

أو كان من المسوخ (١) أو كان جلاّلاً (٢).

______________________________________________________

ولا إشكال في سندهما وكذلك دلالتهما أمّا على القول بمفهوم الوصف ودلالته على الانتفاء عند الانتفاء على ما قربناه أخيراً في بحث الأُصول (١) فظاهر ، وأمّا بناء على القول بعدم المفهوم للوصف فلأن الروايتين واردتان في مقام التحديد ، ولا مناص من الالتزام بالمفهوم في موارد التحديد ، ومقتضاه ثبوت البأس في سؤر الحيوانات الطاهرة التي لا يؤكل لحمها وعدم جواز استعماله في شي‌ء ، هذا.

إلاّ أن هناك روايات كثيرة قد دلت على عدم البأس بسؤر ما لا يؤكل لحمه ومعها لا بدّ من حمل الروايتين على الكراهة ، ومن تلك الأخبار صحيحة البقباق قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع فلم أترك شيئاً إلاّ سألته عنه؟ فقال : لا بأس به ... » (٢) وهي صريحة الدلالة على طهارة سؤر السباع وإن لم يؤكل لحمها.

سؤر المسوخ‌

(١) قد وقع الكلام في طهارة سؤره ونجاسته ، ومنشأ الخلاف في ذلك هو الخلاف في طهارة نفس المسوخ ، وعلى القول بنجاسته لا إشكال في نجاسة سؤره كبقية الحيوانات النجسة ، وتحقيق الكلام في طهارته ونجاسته يأتي في بحث النجاسات إن شاء الله.

سؤر الجلال‌

(٢) وسؤره أيضاً من جملة موارد الخلاف ، ومنشأه الخلاف في طهارة نفسه ، فان قلنا بنجاسته فهو ، وإلاّ فلا مقتضي للحكم بنجاسة سؤره وإن كان محرم الأكل.

وقد يقال : بنجاسة سؤره حتى على القول بطهارة نفسه نظراً إلى أن ريق فمه قد‌

__________________

(١) لاحظ المحاضرات في أُصول الفقه ٥ : ١٣٣.

(٢) الوسائل ١ : ٢٢٦ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٤.

٣٦٨

نعم ، يكره سؤر حرام اللّحم (١) ما عدا المؤمن (٢) والهرّة على قول (٣) ، وكذا يكره‌

______________________________________________________

تنجس بإصابة عين النجس فإذا أصاب شيئاً آخر ينجسه لا محالة ، إلاّ أنّ هذا الكلام ممّا لا ينبغي التفوّه به.

أولاً : فلأن هذا لو تمّ لما اختص بالجلال وأتى في كل حيوان أصاب فمه نجساً من الجيف أو غيرها من النجاسات ولو مرة واحدة ، لأنها تكفي في نجاسة ريقه.

وثانياً : أنه إنما يقتضي نجاسة سؤر الجلال فيما إذا باشر الماء أو غيره من الأجسام الرطبة بفمه ولسانه دون ما إذا باشره بسائر أعضائه ، وقد عرفت أن السؤر بحسب الاصطلاح مطلق ما باشره جسم حيوان ولو بغير فمه.

وثالثاً : لم يدل دليل على نجاسة داخل الفم وريقه بعد زوال العين عنه ، فلا يوجب مباشرة الجلال نجاسة الماء ولا نجاسة غيره من الأجسام ، ولو كانت مباشرته بفمه ولسانه.

(١) لمفهوم صحيحة عبد الله بن سنان وموثقة عمار المتقدمتين في المسألة السابقة ومرسلة الوشاء عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أنه كان يكره سؤر كل شي‌ء لا يؤكل لحمه » (١).

سؤر المؤمن‌

(٢) للنصوص الواردة في استحباب التبرك بسؤر المؤمن وشربه وقد عقد له في الوسائل باباً ، ففي صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن « في سؤر المؤمن شفاء من سبعين داء » (٢).

سؤر الهرّة‌

(٣) لما ورد في صحيحة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « في كتاب عليّ‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٣٢ / أبواب الأسآر ب ٥ ح ٢ وغيرها.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٢٦٣ / أبواب الأشربة المباحة ب ١٨ ح ١.

٣٦٩

سؤر مكروه اللحم كالخيل والبغال والحمير (١). وكذا سؤر الحائض المتهمة (٢)

______________________________________________________

( عليه‌السلام ) أن الهر سبع ولا بأس بسؤره ، وإني لأستحي من الله أن أدع طعاماً لأن الهر أكل منه » (١).

سؤر مكروه اللحم‌

(١) لم ترد كراهة سؤر المذكورات في شي‌ء من الأخبار. نعم ، يمكن أن يستدل عليه بما ورد في موثقة سماعة قال : « سألته هل يشرب سؤر شي‌ء من الدواب ويتوضأ منه؟ قال : أمّا الإبل والبقر والغنم فلا بأس (٢) حيث إنها في مقام البيان فيستفاد من اقتصاره على ذكر الأنعام الثلاثة أن في سؤر غيرها بأساً ، وبما أن صحيحة البقباق المتقدمة صريحة الدلالة على طهارة سؤر الحيوانات الطاهرة محرم الأكل ومحلّله فيكون هذا قرينة على أن المراد بالبأس في غير الأنعام الثلاثة هو الكراهة ، وبهذا يمكن الحكم بكراهة سؤر ما يكره أكل لحمه من الفرس والبغال والحمير لأنها غير الأنعام الثلاثة.

سؤر الحائض‌

(٢) لم ترد كراهة سؤر الحائض في شي‌ء من رواياتنا ، وإنما دلت الأخبار على النهي عن التوضؤ بسؤرها ، وهو أجنبي عن المقام كيف وقد ورد التصريح بجواز شربه في جملة من الروايات (٣).

ثم إنّ تقييد الحائض بالمتهمة لا دليل عليه. نعم ، ورد في موثقة عليّ بن يقطين (٤)

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢٧ / أبواب الأسآر ب ٢ ح ٢.

(٢) الوسائل ١ : ٢٣٢ / أبواب الأسآر ب ٥ ح ٣.

(٣) كما في رواية عنبسة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « اشرب من سؤر الحائض ولا تتوضّ منه وفي صحيحة الحسين بن أبي العلاء « عن الحائض يشرب من سؤرها؟ قال : نعم ولا تتوضّ منه » الوسائل ١ : ٢٣٦ / أبواب الأسآر ب ٨ ح ١ ، ٢ إلى غير ذلك من الأخبار.

(٤) عليّ بن يقطين عن أبي الحسن عليه‌السلام « في الرجل يتوضأ بفضل الحائض؟ قال : إذا

٣٧٠

تقييد الحائض بما إذا كانت مأمونة ومقابلها ما إذا لم تكن بمأمونة ، لا ما إذا كانت متهمة ، فإنّها أخص من الأُولى ، فإذا وردتك امرأة ضيفاً وأنت لا تعرفها فهي غير مأمونة عندك لجهلك بحالها ولكنها ليست بمتهمة.

فالصحيح أن الكراهة إنما تختص بالتوضؤ بسؤرها إذا لم تكن بمأمونة ، وذلك لأن الأخبار الواردة في المقام على طوائف :

منها : ما دلّ على كراهة التوضؤ من سؤر الحائض مطلقاً كرواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته هل يتوضأ من فضل وضوء الحائض قال : لا » (١).

ومنها : ما دلّ على كراهته إذا لم تكن بمأمونة كما في موثقة علي بن يقطين المتقدمة وبها نقيد إطلاق الطائفة الأُولى فتختص الكراهة بما إذا كانت الحائض غير مأمونة.

وهناك طائفة أُخرى وهي صحيحة العيص بن القاسم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن سؤر الحائض ، فقال : لا توضأ منه وتوضأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة ... » (٢) ، والمستفاد منها أن التوضؤ من سؤر الحائض مكروه مطلقاً ولو كانت مأمونة ، وذلك لأن التفصيل قاطع للشركة وقد فصلت الرواية بين الحائض والجنب ، وقيّدت جواز التوضؤ من سؤر الجنب بما إذا كانت مأمونة ولم تقيد الحائض بذلك ، فدلالة هذه الرواية على الكراهة مطلقاً أقوى من دلالة سائر المطلقات.

إلاّ أن الشيخ قدس‌سره نقل الرواية في كتابيه الاستبصار (٣) والتهذيب (٤) بإسقاط كلمة « لا » الواقعة في صدر الحديث ، وعليه فتدل الرواية على تقييد جواز الوضوء من سؤر كل من الحائض والجنب بما إذا كانت مأمونة ، ومعه إن قلنا بسقوط‌

__________________

كانت مأمونة فلا بأس » المروية في الوسائل ١ : ٢٣٧ / أبواب الأسآر ب ٨ ح ٥. ثم إنّ الرواية وإن كانت موثقة من ابن فضال إلى آخر السند كما وصفناها إلاّ أن طريق الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضال ضعيف بعلي بن محمد بن الزبير ، فليلاحظ.

(١) الوسائل ١ : ٢٣٧ / أبواب الأسآر ب ٨ ح ٧.

(٢) الوسائل ١ : ٢٣٤ / أبواب الأسآر ب ٧ ح ١.

(٣) الاستبصار ١ : ١٧ / ٣١.

(٤) التهذيب ١ : ٢٢٢ / ٦٣٣.

٣٧١

بل مطلق المتهم (١).

______________________________________________________

الرواية عن الاعتبار وعدم إمكان الاعتماد عليها من أجل اضطراب متنها حسب نقلي الشيخ والكليني (١) قدس‌سرهما فهو. وأمّا إذا احتفظنا باعتبارها وقدمنا رواية الكافي المشتملة على كلمة « لا » على رواية التهذيب والاستبصار ، لأنه أضبط من كليهما ، فلا مناص من الالتزام بتعدد مرتبتي الكراهة ، وذلك لأن دلالة الرواية على الكراهة مطلقاً أقوى من غيرها كما مر ، لاشتمالها على التفصيل القاطع للشركة فنلتزم بمرتبة من الكراهة في سؤر مطلق الحائض كما نلتزم بمرتبة أشد منها في سؤر الحائض غير المأمونة جمعاً بين الطائفتين.

ولا يخفى أن الرواية وإن كانت صحيحة على طريق الكليني قدس‌سره فان تردد محمد بن إسماعيل بين النيسابوري البندقي والبرمكي المعروف بصاحب الصومعة غير مضر بصحة السند على ما نبهنا عليه في محله لوقوع هذا الطريق أعني محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان بعينه في أسانيد كامل الزيارات ، فلا مناص من الحكم باعتباره سواء أكان محمد بن إسماعيل الواقع فيه هو النيسابوري أو البرمكي أو غيرهما. إلاّ أنها قابلة للمناقشة على طريق الشيخ قدس‌سره فان في طريقه إلى علي بن الحسن بن فضال ، علي بن محمد بن الزبير وهو لم يوثق.

(١) قد عرفت أن الاتهام ليس بموضوع للحكم بالكراهة في الحائض فضلاً عن أن يتعدى عنها إلى غيرها ، وأمّا غير المأمون من مباشرة النجاسات فالتعدي عن الحائض إلى غيرها مشكل ، اللهمّ إلاّ أن يستفاد من تعليق الحكم بالكراهة على وصف غير المأمونة أنه العلّة في الحكم بالكراهة حتى تدور مدار وصف الائتمان من مباشرة النجاسات.

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٠ / ٢.

٣٧٢

فصل

[ في النجاسات ]

النجاسات اثنتا عشرة : الأول والثاني : البول والغائط من الحيوان الذي لا يؤكل لحمه (١)

______________________________________________________

فصل في النجاسات

البول والغائط ممّا لا يؤكل لحمه

(١) لا كلام ولا خلاف في نجاسة البول والغائط من كل حيوان لا يؤكل لحمه بل كادت أن تكون ضرورية عند المسلمين في الجملة ، ومعها لا حاجة في إثبات نجاستهما إلى إقامة دليل عليها. إلاّ أنه مع هذا يمكن أن يستدل على نجاسة البول بما عن عبد الله بن سنان قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (١) وهي حسنة (٢) وإن عبّر عنها بالصحيحة في بعض الكلمات ، وفي روايته الأُخرى « اغسل ثوبك من بول كل ما لا يؤكل لحمه » (٣) وقد اكتفى في الحدائق بنقل الرواية الأُولى ولم يتعرض للثانية ، ولعلّه للمناقشة في سندها.

وتقريب الاستدلال بهما أن الأمر بغسل الثوب من البول يدل على نجاسة البول بالملازمة العرفية ، لأن وجوب غسله لو كان مستنداً إلى شي‌ء آخر غير نجاسة البول لوجب أن ينبه عليه. وحيث لم يبينه عليه‌السلام في كلامه فيستفاد منه عرفاً أن وجوب غسل الثوب مستند إلى نجاسة البول.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٠٥ / أبواب النجاسات ب ٨ ح ٢.

(٢) وهذا من جهة إبراهيم بن هاشم والبناء على حسنه ولكنه ( مدّ ظلّه ) قد عدل عن ذلك وبنى على وثاقته إذن فالرواية صحيحة.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٠٥ / أبواب النجاسات ب ٨ ح ٣.

٣٧٣

وبصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « سألته عن البول يصيب الثوب قال : اغسله مرّتين » (١) وغيرها من الأخبار الدالة على وجوب غسل الثوب أو البدن من البول.

وأمّا الخرء المعبّر عنه بالعذرة والغائط فلم ترد نجاسته في رواية عامة إلاّ أن عدم الفرق بين الغائط والبول بحسب الارتكاز المتشرعي كاف في الحكم بنجاسته ، هذا على أنه يمكن أن يستدل على نجاسته بالروايات الواردة في موارد خاصة من عذرة الإنسان والكلب ونحوهما (٢) بضميمة عدم القول بالفصل بين أفراده. ويمكن أن يستأنس على ذلك بعدّة روايات أُخر.

منها : ما دلّ على أنه لا بأس بمدفوع ما يؤكل لحمه (٣) لأنه يشعر بوجود البأس في مدفوع غيره.

ومنها : ما ورد من أنه لا بأس بمدفوع الطيور (٤) فان فيه أيضاً إشعاراً بوجود البأس في مدفوع غير الطير مما لا يؤكل لحمه من الحيوانات.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٩٥ / أبواب النجاسات ب ١ ح ١.

(٢) كصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل يصلي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب أيعيد صلاته؟ قال : إن كان لم يعلم فلا يعيد » الوسائل ٣ : ٤٧٥ / أبواب النجاسات ب ٤٠ ح ٥ وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : « سألته عن الدجاجة والحمامة وأشباههما تطأ العذرة ثم تدخل في الماء يتوضأ منه للصلاة؟ قال : لا إلاّ أن يكون الماء كثيراً قدر كر من ماء ... » الوسائل ١ : ١٥٩ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٤ وصحيحة موسى بن القاسم عن علي بن محمّد عليه‌السلام في حديث قال : « سألته عن الفأرة والدجاجة والحمام وأشباهها تطأ العذرة ثم تطأ الثوب أيغسل؟ قال : إن كان استبان من أثره شي‌ء فاغسله وإلاّ فلا بأس » الوسائل ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٣ إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في موارد خاصة.

(٣) كما في موثقة عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه » المروية في الوسائل ٣ : ٤٠٩ / أبواب النجاسات ب ٩ ح ١٢.

(٤) كما في صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كل شي‌ء يطير فلا بأس ببوله وخرئه » المروية في الوسائل ٣ : ٤١٢ / أبواب النجاسات ب ١٠ ح ١.

٣٧٤

إنساناً أو غيره ، برياً أو بحرياً ، صغيراً أو كبيراً (١) بشرط أن يكون له دم سائل حين الذبح (٢) نعم ، في الطيور المحرمة الأقوى عدم النجاسة لكن الأحوط فيها أيضاً الاجتناب (٣).

______________________________________________________

(١) وذلك لإطلاق حسنة عبد الله بن سنان وعموم روايته الأُخرى ، فإن مقتضاهما نجاسة البول من كل ما يصدق عليه عنوان ما لا يؤكل لحمه ، برِّياً كان أم بحرياً صغيراً كان أم كبيراً إنساناً أو غيره ، وهذا بحسب الكبرى مما لا إشكال فيه. نعم ، يمكن المناقشة صغروياً في خصوص الحيوانات البحرية نظراً إلى أنه لم يوجد من الحيوانات البحرية ما يكون له نفس سائلة. نعم ذكر الشهيد قدس‌سره أن التمساح كذلك (١) إلاّ أنه على تقدير صحته يختص بالتمساح. وأمّا ما ذهب إليه ابن الجنيد من عدم نجاسة بول الصبي قبل أن يأكل اللحم أو الطعام (٢) فسيأتي بطلان مستنده في محلّه إن شاء الله.

(٢) لما دلّ على طهارة البول والغائط مما لا نفس له كما يأتي عن قريب إن شاء الله.

(٣) هل الطيور المحرمة كغيرها محكومة بنجاسة خرئها وبولها؟ فيه أقوال ثلاثة :

أحدها : ما ذهب إليه المشهور من نجاسة بولها وخرئها.

وثانيها : طهارة مدفوعها مطلقاً ذهب إليه العماني (٣) والجعفي (٤) والصدوق (٥) وجملة من المتأخرين كالعلاّمة (٦) وصاحب الحدائق (٧) وغيرهما قدس‌سرهم.

وثالثها : التفصيل بالحكم بطهارة خرئها والتردد في نجاسة بولها ذهب إليه‌

__________________

(١) الذكرى : ١٣ سطر ١٢.

(٢) المختلف ١ : ٣٠١.

(٣) المختلف ١ : ٢٩٨.

(٤) الجواهر ٥ : ٢٧٥.

(٥) الفقيه ١ : ٤١.

(٦) لاحظ المختلف ١ : ٢٩٨ ، المنتهي ٣ : ١٧٦ ، التذكرة ١ : ٤٩ ، نهاية الأحكام ١ : ٢٢٦.

(٧) الحدائق ٥ : ١١.

٣٧٥

المجلسي (١) وصاحب المدارك قدس‌سرهما (٢).

ومنشأ الخلاف في ذلك هو اختلاف الأخبار فإن جملة منها دلت على نجاسة البول مطلقاً كصحيحة محمد بن مسلم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الثوب يصيبه البول ، قال : اغسله في المركن مرتين فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة » (٣) فإنّها بإطلاقها تشمل بول المأكول لحمه وغيره كما يشمل بول الطيور وسائر الحيوانات ، إذا لم نقل بانصرافها إلى بول الآدمي.

وجملة اخرى دلت على نجاسة البول في خصوص ما لا يؤكل لحمه كحسنة عبد الله ابن سنان المتقدمة ، وقد ألحقنا الخرء بالبول بعدم القول بالفصل.

وهناك طائفة ثالثة دلت على طهارة خرء الطائر وبوله مطلقاً سواء أكان محرم الأكل أم محلّله كموثقة أبي بصير المتقدِّمة (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كل شي‌ء يطير فلا بأس ببوله وخرئه » (٥). والنسبة بين الطائفة الثانية والثالثة عموم من وجه ، لأن الحسنة أخص من الموثقة من أجل اختصاصها بما لا يؤكل لحمه وأعم منها من جهة شمولها الطائر وغيره ، والموثقة أخص من الاولى لتقيد موضوعها بالطيران وأعم منها لشمولها الطائر بكلا قسميه المحلل والمحرم أكله فتتعارضان في الطائر الذي لا يؤكل لحمه ، فقد ذهب القائلون بعدم الفرق بين الطيور والحيوانات إلى ترجيح الحسنة على الموثقة بدعوى أنّها أشهر وأصح سنداً.

واستدلّ عليه شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٦) بوجه آخر حيث اعتمد على ما نقله العلاّمة في مختلفة من كتاب عمار من أن الصادق عليه‌السلام قال : « خرء الخطاف لا بأس به هو مما يؤكل لحمه ، لكن كره أكله لأنه استجار بك وآوى إلى‌

__________________

(١) البحار ٧٧ : ١١١.

(٢) المدارك ٢ : ٢٦٢.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٩٧ / أبواب النجاسات ب ٢ ح ١.

(٤) في ص ١٦٨ ، وتقدّم أن الرواية صحيحة وأن المكنين بأبي بصير كلّهم ثقاة.

(٥) الوسائل ٣ : ٤١٢ / أبواب النجاسات ب ١٠ ح ١.

(٦) كتاب الطهارة : ٣٣٩ السطر ١٩.

٣٧٦

منزلك ، وكل طير يستجير بك فأجره » (١) بتقريب أنه علل عدم البأس بخرء الخطاف بأنه ممّا يؤكل لحمه ، وظاهره أن الخطاف لو لم يكن محلل الأكل كان في خرئه بأس فالمناط في الحكم بطهارة الخرء هو حلية الأكل من دون فرق في ذلك بين الطيور والحيوانات.

وأمّا المجلسي وصاحب المدارك قدس‌سرهما فقد استندا فيما ذهبا إليه إلى أن نجاسة الخرء في الحيوان إنما ثبتت بعدم القول بالفصل ، وهو غير متحقق في الطيور لوجود القول بالفصل فيها ، وعليه فلا مدرك لنجاسة خرء الطيور. وأمّا بولها فقد ترددا فيه ، للتردد في تقديم الحسنة على الموثقة ، هذا.

ولكن الصحيح من هذه الأقوال هو ما ذهب إليه العماني والصدوق وجملة من المتأخرين من طهارة بول الطيور وخرئها مطلقاً بيان ذلك : أنّ الرواية التي استدلّ بها شيخنا الأنصاري قدس‌سره ممّا لا يمكن الاعتماد عليه.

أمّا أولاً : فلأن الشيخ نقلها بإسقاط كلمة « خرء » (٢) فمدلولها حينئذٍ أن الخطاف لا بأس به فهي أجنبية عن الدلالة على طهارة البول والخرء أو نجاستهما.

وأمّا ثانياً : فلأنها على تقدير أن تكون مشتملة على كلمة « خرء » لا تقتضي ما ذهب إليه ، لأنه لم يثبت أن قوله « هو مما يؤكل لحمه » علة للحكم المتقدم عليه أعني عدم البأس بخرء الخطاف ، ومن المحتمل أن يكون قوله هذا وما تقدمه حكمان بيّنهما الإمام عليه‌السلام من غير صلة بينهما ، بل الظاهر أنه علة للحكم المتأخر عنه أعني كراهة أكله أي الخطاف يكره أكله ، لأنه وإن كان مما يؤكل لحمه إلاّ أنّه يكره أكله لأنه استجار بك ، وفي جملة « ولكن كره أكله ... » شهادة على أن قوله « هو مما يؤكل لحمه » مقدمة لبيان الحكم الثاني كما عرفت فهذا الاستدلال ساقط.

وأمّا ما ذكروه وجهاً لتقديم الحسنة على الموثقة فهو أيضاً لا يرجع إلى محصل : أمّا الترجيح بأنها أشهر فقد ذكرنا في محلّه أنّ الشهرة بمعنى الوضوح والظهور ليست من‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤١١ / أبواب النجاسات ب ٩ ح ٢٠.

(٢) التهذيب ٩ : ٨٠ / ٣٤٥.

٣٧٧

المرجّحات ، وإنما هي تلغي الرواية الشاذة عن الاعتبار رأساً (١) وهي بهذا المعنى غير متحققة في المقام لأن الشهرة في أخبار النجاسة ليست بمثابة تلغي أخبار الطهارة عن الاعتبار ، لأنها أخبار آحاد لا تتجاوز ثلاث أو أربع روايات.

وأمّا الترجيح بموافقة الكتاب والسنة بدعوى : أن ما دلّ على نجاسة بول الطير موافق للسنة أعني المطلقات الدالّة على نجاسة البول مطلقاً.

ففيه أوّلاً : أن المطلقات منصرفة إلى بول الآدمي ، ومعه لا يبقى لها عموم حتى يوافقه ما دلّ على نجاسة بول الطير.

وثانياً : لو لم نبن على الانصراف فأيضاً لا تكون موافقة السنّة مرجحة في أمثال المقام ، لأن موافقة الكتاب والسنّة إنّما توجب الترجيح فيما إذا كان عمومهما لفظياً. وأمّا إذا كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة فلا أثر لموافقتهما ، لأن الإطلاق ليس من الكتاب والسنّة فالموافقة معه ليست موافقة لهما.

وأمّا الترجيح بالأصحية ، وأن الحسنة أصح سنداً من الموثقة فيدفعه : ما ذكرناه في بحث التعادل والترجيح من أن صفات الراوي لا تكون مرجحة في الرواية ، وإنما هي مرجحة في باب القضاء (٢). على أنّا لو قلنا بترجيح الصحيحة على الموثقة فلا نقول بتقديم الحسنة عليها بوجه.

وبعد هذا لم يبق في البين سوى دعوى أن الروايتين تتساقطان بالمعارضة ، ويرجع إلى العموم الفوق ، إلاّ أن هذه الدعوى أيضاً ساقطة لأن الرجوع إلى العموم الفوق في المقام بعد الغض عن دعوى الانصراف مبني على القول بعدم انقلاب النسبة بعروض المخصص عليه ، وإلاّ فهو أيضاً طرف للمعارضة كالحسنة ، وذلك للعلم بتخصيص المطلقات بما دلّ على طهارة بول ما يؤكل لحمه من البقر والغنم ونحوهما فيكون حالها بعد هذا المخصص المنفصل حال الحسنة وغيرها مما دلّ على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه. وقد عرفت أن النسبة بينها وبين الموثقة عموم من وجه ، وبعد‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٤١٢.

(٢) مصباح الأُصول ٣ : ٤١٤.

٣٧٨

تساقطهما في مادّة الاجتماع بالمعارضة يرجع إلى قاعدة الطهارة ، هذا كلّه على تقدير معارضة الحسنة والموثقة.

والذي يسهّل الخطب ويقتضي الحكم بطهارة بول الطيور أنه لا تعارض بين الطائفتين ، وذلك لأمرين :

أحدهما : أن الموثقة وإن كانت معارضة للحسنة بالعموم من وجه إلاّ أنها تتقدم على الحسنة ، لأنه لا محذور في تقديمها عليها ولكن في تقديم الحسنة على الموثقة محذور. بيان ذلك : أن تقديم الحسنة على الموثقة يوجب تخصيصها بما يؤكل لحمه من الطيور ، وبها يحكم بطهارة بوله مع أن الطيور المحللة لم يرَ لها بول حتى يحكم بطهارته أو إذا كان طير محلل الأكل وله بول فهو في غاية الندرة ، وعليه فيكون تقديم الحسنة موجباً لإلغاء الموثقة رأساً أو حملها على موارد نادرة وهو ركيك ، فإن الرواية لا بدّ من أن يكون لها موارد ظاهرة ، وهذا يجعل الموثقة كالنص فتتقدم على معارضها.

لكن الإنصاف أنه يمكن المناقشة في هذا الوجه بأن الطير المحلل أكله إنما لم يرَ له بول عليحدة ومستقلاًّ عن ذرقه. وأمّا توأماً معه فهو مشاهد محسوس كذرقه وممّا لا سبيل إلى إنكاره ، ولك أن تختبر ذلك في الطيور الأهلية كالدجاجة فكأنّ الطير ليس له مخرج بول عليحدة ، وإنما يدفعه توأماً لذرقه. ومن هنا يرى فيه مائع يشبه الماء وعليه فلا يوجب تقديم الحسنة جعل الموثقة بلا مورد ولا محذور في تقديمها.

ثانيهما : أن تقديم الحسنة على الموثقة يقتضي إلغاء عنوان الطير عن كونه موضوعاً للحكم بالطهارة ، حيث تدل على تقييد الحكم بطهارة البول والخرء بما إذا كان الطير محلّل الأكل ، وهو في الحقيقة إلغاء لعنوان الطير عن الموضوعية ، فإن الطهارة على هذا مترتبة على عنوان ما يؤكل لحمه سواء كان ذلك هو الطير أم غيره. وهذا بخلاف تقديم الموثقة على الحسنة ، فإنّه يوجب تقييد الحكم بنجاسة البول بغير الطير ، وهذا لا محذور فيه فان عنوان ما لا يؤكل لحمه لا يسقط بذلك عن الموضوعية للحكم بنجاسة البول في غير الطير ، وبما أن الموثقة صريحة في أن لعنوان الطير موضوعية وخصوصية في الحكم بطهارة البول ، فتصير بذلك كالنص وتتقدم على الحسنة.

وهذا الوجه هو الصحيح ، وبذلك يحكم بطهارة بول الطيور وخرئها وإن كانت‌

٣٧٩

خصوصاً الخفّاش وخصوصاً بوله (١).

______________________________________________________

محرمة ، ولا يفرق في ذلك بين كون الحسنة عاما وبين كونها مطلقة وهو ظاهر ، ومن هنا لم يستدل شيخنا الأنصاري قدس‌سره على نجاسة بول الطيور المحرّمة بتقديم الحسنة ، وإنما استدلّ برواية أُخرى وقد قدّمنا نقلها كما قدّمنا جوابها (١).

ومن هذا يظهر أن ما ربّما يقال في المقام من أن الموثقة معرض عنها عند الأصحاب ، وهو موهن للموثقة كلام شعري لا أساس له فان المشهور إنما لم يعملوا بها لتقديم الحسنة بأحد الوجوه المتقدمة من الأشهرية والأصحية وموافقة السنة كما مر ، لا لإعراضهم عن الموثقة حتى تسقط بذلك عن الاعتبار.

هذا على أنّا لو سلمنا إعراضهم عن الموثقة فقد بيّنا في محله أن إعراض الأصحاب عن رواية معتبرة لا يكون كاسراً لاعتبارها كما أن عملهم على طبق رواية ضعيفة لا يكون جابراً لضعفها (٢) ، هذا كله في غير الخفاش.

(١) لا خصوصية زائدة في خرء الخفاش على خرء غيره من الطيور ، ولا وجه للاحتياط فيه بل الأمر بالعكس حتى لو بنينا على نجاسة خرء غيره من الطيور المحرمة كما إذا تمت دلالة الحسنة المتقدمة على نجاسته لا نقول بنجاسة خرء الخفافيش ، والوجه في ذلك أن ما لا نفس له خارج عما دلّ على نجاسة خرء الطيور وبولها ، ونحن قد اختبرنا الخفافيش زائداً على شهادة جماعة ولم نرَ لها نفساً سائلة فخرؤها غير محكوم بالنجاسة.

وأمّا بوله فقد التزم الشيخ قدس‌سره بنجاسته في المبسوط (٣) ، ولكن الصحيح أنه أيضاً كخرئه مما لا خصوصية له ، لعدم نجاسة البول مما لا نفس له حتى على القول بنجاسة بول سائر الطيور المحرمة.

__________________

(١) في ص ٣٧٦.

(٢) مصباح الأُصول ٢ : ٢٠١.

(٣) المبسوط ١ : ٣٩.

٣٨٠