موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

يفرض العلم بحرمته كعدمه ، فكأنه لا علم بحرمتها من الابتداء فحالها حال الشبهات البدوية فلا مناص من الرجوع إلى الأُصول العملية المختلفة حسب اختلاف مواردها ففي المثال يرجع إلى أصالة الحل لأجل الشك في حرمتها ، أو أن الشبهة يفرض كلا شبهة ، فكأنّ الفرد المحرم غير متحقق واقعاً فلا محرّم في البين ، ولا بدّ من الحكم بحلية الجميع إذ المحرّم محكوم بالعدم على الفرض وغيره حلال.

وعلى هذا فان قلنا في المقام إن العلم بإضافة ما في أحد الأواني كلا علم فلا يمكننا الحكم بصحة التوضؤ من شي‌ء منها لأن العلم بإضافة واحد منها وإن كان كالعدم إلاّ أن الأصل الجاري في المقام إنما هو أصالة الاشتغال ، وذلك لاحتمال إضافة كل واحد من الأطراف ، ومعه لا يمكن الحكم بصحة الوضوء ، فلا بدّ من الاحتياط بمقتضى قاعدة الاشتغال حتى يقطع بطهارته وفراغ ذمته.

وأمّا إذا قلنا إن الشبهة كلا شبهة ، وأن المضاف الموجود في البين كالعدم فنحكم بصحة التوضؤ من كل واحد من الأواني ، وذلك للعلم بإطلاق الجميع ، فان المضاف منها معدوم والباقي كلّه ماء مطلق ، فلا تدخل الأطراف في الشبهات البدوية ولا نحتاج فيها إلى إجراء الأُصول.

هذا ولا يخفى أنه إن كان ولا بدّ من تعيين أحد هذين الاحتمالين فالمتعين منهما هو الأوّل ، وذلك لأن احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل واحد من الأطراف أمر وجداني فلا بدّ معه من وجود المؤمّن ، ولا مؤمّن إلاّ الأصل الجاري فيه ، وقد فرضنا أن الأصل في المقام هو أصالة الاشتغال دون البراءة.

نعم ، لو تمّ ما ذكروه في وجه عدم وجوب الاجتناب عن أطراف العلم الإجمالي من أن العقلاء لا يعتنون بالاحتمال إذا كان ضعيفاً من جهة كثرة الأطراف ، صح ما ذكر من أن الشبهة في أطراف الشبهة غير المحصورة كلا شبهة ، إلاّ أنه لا يتم لما ذكرناه في محلّه من أن ضعف الاحتمال إنما يوجب عدم الاعتناء به فيما إذا تعلق بمضرة دنيوية. وأمّا إذا تعلق بأمر أُخروي أعني به العقاب فلا يفرق في لزوم الحاجة معه إلى المؤمّن بين ضعفه وقوته ، فان احتمال العقاب ولو كان ضعيفاً يجب دفعه عقلاً وتمام الكلام في محلّه.

٣٤١

[١٥١] مسألة ٣ : إذا لم يكن عنده إلاّ ماء مشكوك إطلاقه وإضافته ولم يتيقن أنه كان في السابق مطلقاً (١) يتيمم للصلاة ونحوها (٢) ، والأولى الجمع بين التيمّم والوضوء به.

[١٥٢] مسألة ٤ : إذا علم إجمالاً أن هذا الماء إما نجس أو مضاف يجوز شربه (٣)

______________________________________________________

والذي يهوّن الأمر أن العلم الإجمالي منجّز للتكليف مطلقاً كانت الشبهة محصورة أم غير محصورة ، فلا تصل النوبة إلى تعيين أحد الاحتمالين المتقدمين.

(١) وإلاّ يجب التوضؤ به لاستصحاب إطلاقه.

(٢) لأن مقتضى استصحاب العدم الأزلي عدم اتصاف المائع بالإطلاق ، لأنه صفة وجودية كنّا على يقين من عدمها ومن عدم اتصاف المائع بها قبل وجوده ونشك في اتصافه بها حين حدوثه ، والأصل عدم حدوثها وعدم اتصاف المائع بها ، ومع عدم تمكن المكلف من الطهارة المائية ينتهي الأمر إلى الطهارة الترابية وهذا مما لا إشكال فيه على ما اخترناه من جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية.

وأمّا إذا قلنا بعدم جريانه أو فرض الكلام فيما إذا كانت للمائع حالتان مختلفتان فكان متصفاً بالإطلاق في زمان وبالإضافة في زمان آخر واشتبه المتقدم منهما بالمتأخر ففيه اشكال ، حيث لا مجرى لاستصحاب العدم الأزلي في هذه الصورة ، للقطع بتبدله إلى الوجود واتصاف المائع به جزماً ، وإنما لا ندري زمانه ، ويتولّد من ذلك علم إجمالي بوجوب الوضوء في حقه كما إذا كان المائع مطلقاً أو بوجوب التيمم لاحتمال كونه مضافاً ، ولا أصل يحرز به أحدهما فهل مثل هذا العلم الإجمالي أعني ما كانت أطرافه طولية كالوضوء والتيمم يقتضي التنجيز ويترتب عليه وجوب الاحتياط؟ يأتي حكمه في المسألة الخامسة إن شاء الله.

العلم الإجمالي بالنجاسة والإضافة :

(٣) إذ لا علم تفصيلي ولا إجمالي بحرمته ، لأن العلم الإجمالي بأنه نجس أو مضاف لا أثر له بالإضافة إلى جواز شربه لعدم فعلية متعلقه على كل تقدير فان المضاف ممّا‌

٣٤٢

ولكن لا يجوز التوضؤ به (١) ، وكذا إذا علم أنه إما مضاف أو مغصوب (٢) ، وإذا علم أنه إما نجس أو مغصوب ، فلا يجوز شربه أيضاً ، كما لا يجوز التوضؤ به (٣) والقول بأنه يجوز التوضؤ به ضعيف جدّاً (٤).

______________________________________________________

يجوز شربه. نعم ، نحتمل حرمته بدواً وهو مدفوع بأصالة الإباحة.

(١) للعلم التفصيلي ببطلانه ، فإنّه كما لا يجوز الوضوء بالماء النجس كذلك يبطل بالماء المضاف.

(٢) فيجوز شربه إذ لا علم بحرمته تفصيلاً ولا على نحو الإجمال ، ويدور أمره بين الإباحة والحرمة ابتداء ومقتضى أصالة الحل إباحته ، ولكن لا يجوز الوضوء به ، للعلم ببطلانه على كل تقدير ، إذ الوضوء بكل من المضاف والمغصوب باطل.

العلم الإجمالي بتنجس الماء أو غصبيته :

(٣) للعلم بحرمة شربه وبعدم جواز الوضوء به إما من جهة كونه نجساً وإما لكونه غصباً.

(٤) ذهب إلى ذلك بعض المحققين وهو الشيخ محمد طه نجف وتبعه المحقق الشيخ علي آل صاحب الجواهر قدس‌سرهما في هامش المتن ، وقد جوّزا التوضؤ بالماء في مفروض المسألة ومنعا عن شربه ، وقد بنيا هذه المسألة على ما ذكره المشهور في مبحث اجتماع الأمر والنهي ، وادعى عليه الإجماع في مفتاح الكرامة من أن الغصب لا يمنع عن صحة العبادة بوجوده الواقعي ، وإنما يمنع عنها بوجوده العلمي المحرز للمكلف ، وبما أن الغصب غير محرز في المقام لا على نحو التفصيل وهو ظاهر. ولا على نحو الإجمال لأن العلم الإجمالي إنما يتعلق بالجامع بين الأطراف أعني الجامع بين الغصب والنجس ، ولم يتعلق بخصوص الغصب ولا بخصوص النجس وعليه فلا يترتب أثر على أحد طرفي العلم الإجمالي في المقام ، لعدم بطلان الوضوء على تقدير كون الماء مغصوباً. نعم ، يبطل على تقدير كونه نجساً ، إلاّ أن نجاسته مشكوك فيها ومقتضى أصالة الطهارة طهارته من جهة التوضؤ به.

٣٤٣

وبتقريب آخر : تنجيز العلم الإجمالي يتوقف على تعارض الأُصول في أطرافه وتساقطها ومع عدم جريانها لا يكون مؤمّن في البين ، واحتمال التكليف من دون مؤمّن يقتضي تنجز الواقع فلا محيص من الاحتياط ، وليس الأمر كذلك في المقام فإن حرمة شربه لا شك فيها ، وأصالة الإباحة لصحة الوضوء به لا مجرى لها في نفسها لما مرّ من أن الغصب بوجوده الواقعي غير مانع من صحة العبادة فلا تجري فيه أصالة الإباحة للقطع بصحة العبادة معه ، فتبقى أصالة الطهارة بالنسبة إلى الوضوء بلا معارض ، ومقتضاها جواز الوضوء به.

وبما ذكرناه في تقريب ما ذهبا إليه يندفع ما قد يورد عليهما من النقض بما إذا علم إجمالاً بغصبية أحد الماءين ، فإنّه لا خلاف عندهم في عدم جواز التوضؤ من الماءين حينئذٍ والمقام أيضاً كذلك.

والوجه في الاندفاع أن الغصبية في المثال محرزة وواصلة إلى المكلف بالعلم الإجمالي وبه تتنجز في حقه ، ويجب الاجتناب عن المغصوب من الماءين ، وقد عرفت أن الغصب المحرز بشي‌ء من علمي التفصيلي والإجمالي مانع عن صحة العبادة.

فالصحيح في دفع ذلك أن يقال : أوّلاً : أن ما ذهبا إليه فاسد مبنى ، ولا يمكن المساعدة عليه بوجه ، لما بيّناه في بحث اجتماع الأمر والنهي (١) من أنّا إذا قلنا بالامتناع وتقديم جانب الحرمة ، وكانت المبغوضية ناشئة عن مثل الماء في الوضوء والمكان في المسجد ، فلا محالة تكون المبغوضية مانعة عن صحة العبادة بوجودها الواقعي وإن لم يعلم بها المكلف ، وذلك لعدم إمكان التقرب بما هو مبغوض واقعاً.

وثانياً : أن تطبيق المبنى المتقدم لو تمّ في نفسه على محل الكلام غير صحيح وذلك لأن الغصب بوجوده الواقعي وإن لم يمنع عن صحة العبادة كما هو المفروض ، إلاّ أنه مانع لا محالة عن جواز سائر التصرفات من رشّه واستعماله في إزالة القذارة وسقيه للحيوان أو للمزارع وغيرها من الانتفاعات لحرمة التصرف في مال الغير من دون اذنه ، كما أن النجاسة الواقعية مانعة عن صحة العبادة بلا خلاف. ومن هذا يتولّد‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٤ : ٢٣٣.

٣٤٤

[١٥٣] مسألة ٥ : لو أُريق أحد الإناءين المشتبهين من حيث النجاسة أو الغصبية لا يجوز التوضؤ بالآخر وإن زال العلم الإجمالي (١) ، ولو أُريق أحد المشتبهين من حيث الإضافة لا يكفي الوضوء بالآخر ، بل الأحوط الجمع (*) بينه وبين التيمم (٢).

______________________________________________________

علم إجمالي بأن الماء في مفروض المسألة إما لا يجوز التوضؤ به كما إذا كان نجساً وإما لا يجوز التصرف فيه كما إذا كان مغصوباً وإجراء أصالة الطهارة حينئذٍ لإثبات طهارته من جهة الوضوء معارضة بأصالة الإباحة الجارية لإثبات حلّية التصرّف فيه ، ومع تعارض الأُصول وتساقطها لا مناص من الاحتياط لعدم المؤمّن في البين.

زوال أحد طرفي العلم :

(١) والوجه في ذلك هو ما ذكرناه في الأُصول من أن تنجيز الواقع لا ينفك عن العلم الإجمالي ما دام باقياً ، وإراقة أحد الماءين لا توجب زوال العلم وارتفاعه ، لأن العلم بحدوث نجاسة مرددة بين الماء المراق وغيره موجود بعد الإراقة أيضاً. نعم ، ليس له علم فعلي بوجود النجاسة في البين لاحتمال أن يكون النجس هو المراق إلاّ أنه لا ينافي بقاء العلم الإجمالي بالنجاسة. وبعبارة أخصر أصالة الطهارة في أحد الإناءين حدوثاً معارضة بأصالة الطهارة في الآخر حدوثاً وبقاءً.

(٢) ما أفاده قدس‌سره من أحد المحتملات في المسألة ، وهناك احتمالان آخران :

أحدهما : جواز الاكتفاء بالتوضؤ بالباقي منهما من غير حاجة إلى ضم التيمم إليه.

وثانيهما : وجوب التيمم فحسب. وهذه هي الوجوه المحتملة في المسألة.

والوجه فيما ذهب إليه في المتن من إيجاب الجمع بين الطهارتين هو دعوى أن العلم الإجمالي كما يقتضي التنجيز فيما إذا كانت أطرافه عرضية كذلك يقتضي تنجيز متعلقه‌

__________________

(*) وإن كان لا يبعد جواز الاكتفاء بالتيمم‌

٣٤٥

فيما إذا كانت طولية كالوضوء والتيمم في هذه المسألة وفي المسألة الثالثة ، وذلك للعلم بوجوب الوضوء إن كان الباقي مطلقاً وبوجوب التيمم إن كان مضافاً ، ومقتضاه الجمع بين الطهارتين.

وأمّا مبنى جواز الاكتفاء بخصوص التوضؤ من الباقي فالظاهر انحصاره في الاستصحاب ، حيث إن التوضؤ به كان واجباً قبل فقدان أحدهما للاحتياط واشتباه المطلق بالمضاف ، والأصل أنه باق على وجوبه بعد فقدان أحد الطرفين.

ويدفعه : أن الوضوء لا بدّ من أن يكون بالماء المطلق شرعاً ، واستصحاب وجوب التوضؤ بالباقي لا يثبت أنه ماء مطلق فلا يحرز بهذا الاستصحاب أنه توضأ بالماء المطلق.

وأمّا مبنى الاحتمال الأخير وهو الذي نفينا عنه البعد في تعليقتنا فهو أن العلم الإجمالي لا ينجز متعلقه فيما إذا كانت أطرافه طولية. بيان ذلك : أن وجوب الوضوء إنما هو مترتب على عنوان واجد الماء ، كما أن وجوب التيمم مترتب على عنوان فاقد الماء ، لأنه مقتضى التفصيل في قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) إلى قوله ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (١). ثم إن المراد بالفقدان ليس هو الفقدان الحقيقي ، وإنما أُريد به عدم التمكن من استعمال الماء وإن كان حاضراً عنده وذلك للقرينة الداخلية والخارجية.

أمّا القرينة الداخلية : فهي ذكر المرضي في سياق المسافر والجنب فان الغالب وجود الماء عند المريض ، إلاّ أنه لا يتمكن من استعماله لا أنه لا يجده حقيقة. نعم ، لو كان اقتصر في الآية المباركة بذكر المسافر فقط دون المرضى لكان حمل عدم الوجدان على الفقدان الحقيقي بمكان من الإمكان ، فإن المسافر في البراري والفلوات كثيراً ما لا يجد الماء حقيقة.

وأمّا القرينة الخارجية : فهي الأخبار الواردة في وجوب التيمم على من عجز عن‌

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

٣٤٦

[١٥٤] مسألة ٦ : ملاقي الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة لكن الأحوط الاجتناب (*) (١)

______________________________________________________

استعمال الماء لمرض أو ضرر ونحوهما. والمراد بالتمكن من استعمال الماء ليس هو التمكن من غسل بدنه ، بل المراد به أن يتمكن المكلف من استعماله في خصوص الغسل أو الوضوء ، لوضوح أن الماء إذا انحصر بماء الغير وقد أذن مالكه في جميع التصرفات في مائه ولو في غسل بدنه ، ولكنه منعه عن استعماله في خصوص الغسل والوضوء يتعيّن عليه التيمم لصدق عدم تمكنه من استعمال الماء وإن كان متمكناً من غسل بدنه فاذا تمهد ذلك فنقول :

المكلف في مفروض المسألة يشك في ارتفاع حدثه على تقدير التوضؤ بالمائع الآخر لاحتمال أن يكون مضافاً ، ومعه لا مناص من استصحاب حدثه ، لما بنينا عليه في محله من جريان الاستصحاب في الأُمور المستقبلة ، ومقتضى هذا الاستصحاب أن التوضؤ من الباقي كعدمه ، وأن الشارع يرى أن المكلف فاقد الماء حيث إنه لو كان واجداً بتمكنه من استعمال المائع الباقي لم يبطل غسله أو وضوؤه ولم يحكم الشارع ببقاء حدثه ، فبذلك يظهر أنه فاقد الماء ووظيفته التيمم فحسب سواء توضأ بالباقي أم لم يتوضأ به ، ولا يعارض هذا الاستصحاب باستصحاب بقاء حدثه على تقدير التيمم ، إذ لا يثبت به أن المكلف واجد للماء وأن المائع الباقي مطلق. وعلى الجملة وجوب التيمم مترتب على عدم تمكن المكلف من رفع حدثه بالماء ، فاذا حكم الشارع ببقاء حدثه وعدم ارتفاعه بالتوضؤ من المائع الباقي يترتب عليه وجوب التيمم لا محالة.

حكم ملاقي الشبهة المحصورة

(١) لا يمكن الحكم بنجاسة كل واحد من الأطراف في موارد العلم بنجاسة أحد‌

__________________

(*) هذا إذا كانت الملاقاة بعد العلم الإجمالي ، وإلاّ وجب الاجتناب عن الملاقي أيضاً على تفصيل ذكرناه في محلّه.

٣٤٧

شيئين أو أشياء ، لعدم إحراز نجاسته واقعاً لفرض الجهل به ، ولا بحسب الظاهر لعدم ثبوتها بأمارة ولا أصل فالحكم بنجاسة كل واحد منهما تشريع محرم. نعم ، إنما نحتمل نجاسته ، لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل واحد من الأطراف ، إلاّ أنه محض احتمال ، فاذا كان هذا حال كل واحد من الأطراف فما ظنك بما يلاقي أحدها ، فإن الحكم بنجاسته من التشريع المحرم. فاذا وقع في كلام فقيه كالمتن أن ملاقي الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة فليس معناه أن أطراف الشبهة محكومة بالنجاسة دون ملاقي بعضها كما قد يوهمه ظاهر العبارة في بدء النظر ، بل معناه أن الملاقي لا يجب الاجتناب عنه ويجوز استعماله فيما هو مشروط بالطهارة بخلاف نفس الأطراف وإن شئت قلت : إن ملاقي الشبهة يحكم بطهارته دون أطرافها ، وفي الاستدراك بكلمة « لكن » أيضاً إشعار بما بيّناه من المراد وإلاّ فلا معنى لكون الاجتناب أحوط.

ثم انّ صور المسألة خمس :

الصورة الأُولى : ما إذا حصلت الملاقاة بعد حدوث العلم الإجمالي بالنجاسة ، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين مثلاً ، وبعد ما تنجز الحكم وسقطت الأُصول فيهما بالمعارضة لاقى أحدَهما شي‌ء ثالث فهل يحكم بطهارة الملاقي حينئذٍ للشك في نجاسته أو يجب الاجتناب عنه كالملاقى؟

الصحيح أن يفصّل في هذه الصورة بين ما إذا لم يختص أحد الأطراف بأصل غير معارض فنلتزم فيه بطهارة الملاقي وبين ما إذا كان لبعض الأطراف أصل كذلك فنلتزم فيه بوجوب الاجتناب عنه.

وتوضيحه : أن لهذه الصورة شقين لأن الأُصول في أطراف العلم الإجمالي قد تكون متعارضة بأجمعها سببية كانت أم مسببية ، موضوعية أم حكمية ، عرضية أم طولية كما إذا علمنا بنجاسة أحد الماءين ، لأن استصحاب عدم ملاقاة النجس في كل واحد منهما وهو أصل موضوعي وفي مرتبة سابقة على غيرها من الأُصول معارض باستصحاب عدم الملاقاة في الآخر وهما أصلان عرضيان ، وكذا الحال في استصحاب الطهارة في كل واحد منهما وهما أصلان حكميان ثم في المرتبة الثانية قاعدة الطهارة‌

٣٤٨

في كل منهما تعارضها قاعدة الطهارة في الآخر وهي أصل سببي ، وفي المرتبة الثالثة تتعارض أصالة الإباحة في أحدهما بأصالة الإباحة في الآخر ، وعلى الجملة لا يمكن الرجوع في هذه الصورة إلى شي‌ء من تلك الأُصول.

وقد يختص أحد أطرافه بأصل غير معارض بشي‌ء ، وهذا كما إذا علمنا بنجاسة هذا الماء أو ذاك الثوب ، فان استصحاب عدم ملاقاة النجاسة في أحدهما معارض باستصحاب عدمها في الآخر ، كما أن قاعدة الطهارة كذلك ، إلاّ أن الماء يختص بأصل آخر لا معارض له في طرف الثوب ، وهو أصالة الإباحة المقتضية لحلّية شربه ، وحيث إنها غير معارضة بأصل آخر فلا مانع من جريانها ، وذلك لما ذكرناه في محله من أن تنجز الحكم في أطراف العلم الإجمالي غير مستند إلى نفسه وإنما هو مستند إلى تعارض الأُصول في أطرافه وتساقطها ، فان احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل واحد من الأطراف حينئذٍ من غير مؤمّن عبارة أُخرى عن تنجز الواقع بحيث يترتب العقاب على مخالفته ، وأمّا إذا جرى في أحد أطرافه أصل غير معارض فلا يكون العلم الإجمالي منجزاً فإن الأصل مؤمّن من احتمال العقاب على تقدير مصادفته الواقع وبما أنه غير معارض فلا مانع من جريانه لعدم العلم التفصيلي ولا العلم الإجمالي في مورده. وقد ذكرنا في محله أن الأصل الجاري في كل من الطرفين إذا كان مسانخاً للأصل الجاري في الآخر واختص أحدهما بأصل طولي غير معارض بشي‌ء لا مانع من شمول دليل ذلك الأصل الطولي للطرف المختص به بعد تساقط الأصلين العرضيين بالمعارضة فنقول :

أمّا الشق الأوّل : فملاقي أحد أطراف الشبهة محكوم بالطهارة فيه وذلك لقاعدة الطهارة واستصحاب عدم ملاقاته النجس ، فإنّهما في الملاقي غير متعارضين بشي‌ء لأنه على تقدير نجاسته يكون فرداً آخر من النجس غير الملاقي ، واستناد نجاسته إليه لا يقتضي أن تكون نجاسته هي بعينها نجاسة الملاقي الذي هو طرف للعلم الإجمالي لأن النجاسة كالطهارة ، فكما إذا طهّرنا متنجساً بالماء نحكم بطهارته كما كنّا نحكم بطهارة الماء ، فكل واحد من الماء والمغسول به فرد من الطاهر باستقلاله ، إذ ليست طهارة الثوب بعينها طهارة الماء وإن كانت ناشئة منها ، فكذلك الحال في نجاسة الملاقي‌

٣٤٩

الناشئة من نجاسة الملاقي ، وحيث إنّا نشك في حدوث فرد آخر من النجس ، ولا علم بحدوثه لاحتمال طهارة الملاقي واقعاً فالأصل يقتضي عدمه.

ودعوى : أن هناك علماً إجمالياً آخر ، وهو العلم بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر ومقتضاه الحكم بوجوب الاجتناب عن الملاقي كالملاقى.

مدفوعة : بأن العلم الإجمالي وإن كان ثابتاً كما ذكر إلاّ أن العلم الإجمالي بنفسه قاصر عن تنجيز الحكم في جميع أطرافه ، بل التنجيز مستند إلى تساقط الأُصول في أطراف العلم الإجمالي بالمعارضة ، وعليه فلا يترتب أثر على هذا العلم الإجمالي الأخير ، لأن الحكم قد تنجز في الطرف الآخر بالعلم الإجمالي السابق ونحتمل انطباق النجاسة المعلومة بالإجمال عليه ، والمتنجز لا يتنجز ثانياً ، فيبقى الأصل في الملاقي غير مبتلى بالمعارض فلا مانع من جريان قاعدة الطهارة أو استصحاب عدم ملاقاة النجس فيه.

وأمّا الشق الثاني : فلا مناص فيه من الاجتناب عن الملاقي كالملاقى ، وذلك لأن استصحاب عدم الملاقاة في الماء أو قاعدة الطهارة فيه وإن كان معارضاً بمثله في الثوب فيتساقطان بالمعارضة وتبقى أصالة الحلية في الماء لجواز شربه سليمة عن المعارض إلاّ أن الثوب إذا لاقاه شي‌ء ثالث يتشكل من ذلك علم إجمالي آخر ، وهو العلم بنجاسة الملاقي للثوب أو بحرمة شرب الماء ، فالأصل الجاري في الماء يعارضه الأصل الجاري في ملاقي الثوب ، للعلم بمخالفة أحدهما للواقع ، وبذلك يتنجز الحكم في الأطراف فيجب الاجتناب عن ملاقي الثوب كما يجب الاجتناب عن الماء.

الصورة الثانية : ما إذا حصلت الملاقاة والعلم بها قبل حدوث العلم الإجمالي ، كما إذا علمنا بملاقاة شي‌ء لأحد الماءين في زمان وبعد ذلك علمنا بنجاسة أحدهما إجمالاً فهل يجب الاجتناب عن الملاقي في هذه الصورة؟

قد اختلفت كلمات الأعلام في المقام فذهب صاحب الكفاية قدس‌سره (١) إلى وجوب الاجتناب عن الملاقي حينئذٍ من جهة أن العلم الإجمالي قد تعلق بنجاسة هذا‌

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٦٣.

٣٥٠

الطرف أو بنجاسة الملاقي والملاقي معاً ، فأحد طرفي العلم واحد والطرف الآخر اثنان لتقدم الملاقاة والعلم بها على حدوث العلم الإجمالي. وهو نظير العلم الإجمالي بنجاسة هذا الإناء الكبير أو ذينك الإناءين الصغيرين ، أو العلم بفوات صلاة الفجر أو بفوات صلاتي الظهرين بعد خروج وقتها ، فإن قاعدة الحيلولة كما لا تجري بالإضافة إلى صلاة الظهر ، لمعارضتها بمثلها بالإضافة إلى صلاة الفجر كذلك لا تجري بالنسبة إلى صلاة العصر ، لتعارضها بمثلها بالإضافة إلى صلاة الفجر. وعلى الجملة : وحدة أحد طرفي العلم الإجمالي وتعدد الآخر لا يمنع عن تنجز الحكم في الجميع.

وقد تنظّر في ذلك شيخنا الأُستاذ (١) تبعاً لشيخنا الأنصاري قدس‌سرهما (٢) وذهبا إلى عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي في هذه الصورة أيضاً. وذلك من جهة أن العلم الإجمالي وإن كان حاصلاً بوجوب الاجتناب عن هذا الماء أو الماء الآخر وملاقيه ، إلاّ أن الشك في نجاسة الملاقي مسبب عن الشك في نجاسة الملاقي ، والأصل الجاري في السبب متقدم بحسب المرتبة على الأصل الجاري في المسبب ، وبما أن الأصل السببي الجاري في الملاقي في المرتبة السابقة مبتلى بالمعارض أعني الأصل الجاري في الطرف الآخر فيتساقطان ويبقى الأصل في المسبب سليماً عن المعارض وأمّا العلم الإجمالي الآخر المتعلق بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر فقد عرفت الجواب عنه في الصورة الاولى فلا نعيد.

ومما ذكرناه يظهر فساد قياس المقام بالعلم الإجمالي بفوات صلاة الفجر أو الظهرين أو بنجاسة الإناء الكبير أو الإناءين الصغيرين ، فان الشك في إحدى صلاتي الظهرين أو الإناءين الصغيرين غير مسبب عن الشك في الآخر بل كلاهما في عرض واحد وطرف للعلم الإجمالي في مرتبة واحدة ، وهذا بخلاف المقام لأن الشك في الملاقي مسبب عن الشك في الملاقي ، والأصلان الجاريان فيهما طوليان فاذا سقط الأصل المتقدم بالمعارضة فلا محالة يبقى الأصل المسببي سليماً عن المعارض.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦٣.

(٢) فرائد الأُصول ٢ : ٤٢٥.

٣٥١

هذا ولكن الظاهر أنه لا يمكن تتميم شي‌ء من هذين القولين على إطلاقهما ، لأن لهذه الصورة أيضاً شقين :

أحدهما : ما إذا كان المنكشف بالعلم الإجمالي المتأخر عن الملاقاة وعن العلم بها متقدماً عليهما ، كما إذا علمنا بحدوث الملاقاة يوم الخميس وفي يوم الجمعة حصل العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين يوم الأربعاء فالكاشف وهو العلم الإجمالي وإن كان متأخراً عن الملاقاة والعلم بها إلاّ أن المنكشف متقدم عليهما.

وثانيهما : ما إذا كان المنكشف بالعلم الإجمالي المتأخر عن الملاقاة وعن العلم بها مقارناً معهما ، وهذا كما إذا علمنا بوقوع ثوب في أحد الإناءين يوم الخميس وفي يوم الجمعة حصل العلم الإجمالي بوقوع قطرة دم على أحد الإناءين حين وقوع الثوب في أحدهما.

أمّا الشق الأول : فالحق فيه هو ما ذهب إليه شيخنا الأنصاري قدس‌سره من عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي ، وهذا لا من جهة تقدم الأصل الجاري في الملاقي على الأصل في الملاقي رتبة ، فإن ذلك لا يستقيم من جهة أن أدلّة اعتبار الأُصول إنما هي ناظرة إلى الأعمال الخارجية ومتكفلة لبيان أحكامها ، ومن هنا سميت بالأُصول العملية ، وغير ناظرة إلى أحكام الرتبة بوجه ، ومع فعلية الشك في كل واحد من الملاقي والملاقى لا وجه لاختصاص المعارضة بالأصل السببي بعد تساوي نسبة العلم الإجمالي إليه وإلى الأصل المسببي.

نعم ، التقدم الرتبي إنما يجدي على تقدير جريان الأصل في السبب بمعنى أن الأصل السببي على تقدير جريانه لا يبقي مجالاً لجريان الأصل المسببي ، وأمّا على تقدير عدم جريانه فهو والأصل المسببي على حد سواء. بيان ذلك : أن الأصل السببي إنما يرفع موضوع الأصل الجاري في المسبب فيما إذا كانت بينهما معارضة ، والمعارضة في المقام غير واقعة بين الأصل السببي والمسببي ، وإنما المعارضة بين كل من الأصل الجاري في السبب والمسبب وبين الأصل الجاري في الطرف الآخر ، ومن الظاهر أن نسبة العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي والملاقى أو الطرف الآخر على حد سواء بالإضافة إلى الجميع وليست فيها سببية ولا مسببية. نعم ، الشك في الملاقي مسبب عن الشك في الملاقي.

٣٥٢

وبعبارة أُخرى أحد طرفي العلم مركب من أمرين يكون الشك في أحدهما مسبباً عن الشك في الآخر ، والأصل الجاري فيه متأخر عن الأصل الجاري في الآخر. وأمّا بالإضافة إلى الأصل الجاري في الطرف الآخر للعلم الإجمالي فلا تأخر ولا تقدم في البين ، وعليه فمقتضى العلم الإجمالي وجوب الاجتناب عن الجميع.

ودعوى : أن الأصل الجاري في الملاقي كما أنه متأخر عن الأصل في الملاقي كذلك متأخر عن الأصل في الطرف الآخر ، وذلك لتساوي الملاقي مع الطرف الآخر رتبة والمتأخر عن أحد المتساويين متأخر عن الآخر أيضاً.

تندفع : بأنها دعوى جزافية. إذ لا بدّ في التقدم والتأخر من ملاك يوجبه كأن يكون أحدهما علة والآخر معلولاً له وهذا إنما هو بين الملاقي والملاقى لا بين الملاقي والطرف الآخر ، حيث لا علّية ولا معلولية بينهما. بل الوجه في عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي حينئذٍ إنما هو تقدم المنكشف بالعلم الإجمالي على الملاقاة والعلم بها ، وإن كان الكاشف وهو العلم متأخراً عنهما ، فان الاعتبار بالمنكشف لا بالكاشف لوجوب ترتيب آثار المنكشف وهو نجاسة أحد الإناءين من زمان حدوثه فيجب في المثال ترتيب آثار النجاسة المعلومة بالإجمال من يوم الأربعاء لا من زمان الكاشف كما لا يخفى ، وعلى هذا فقد تنجزت النجاسة بين الإناءين والشك في طهارة كل منهما يوم الأربعاء قد سقط الأصل الجاري فيه بالمعارضة في الآخر ، وبقي الشك في حدوث نجاسة أُخرى في الملاقي ، والأصل عدم حدوثها ، ولا معارض لهذا الأصل لما عرفت من أن العلم الإجمالي الثاني المتولد من الملاقاة بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر مما لا أثر له.

نعم ، التفصيل الذي قدمناه هناك بين ما إذا اختص أحد الأطراف بأصل غير معارض وما إذا لم يختص به ، يأتي في هذه الصورة أيضاً حرفاً بحرف.

وأمّا الشق الثاني : فالحق فيه هو ما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس‌سره من وجوب الاجتناب عن الملاقي أيضاً ، وذلك لاتحاد زمان حدوث النجاسة بين الإناءين والملاقاة ، فاذا علمنا بطرو نجاسة يوم الخميس إما على الملاقي والملاقى وإما على الطرف الآخر فهو علم إجمالي أحد طرفيه مركب من أمرين ، وطرفه الآخر متحد‌

٣٥٣

نظير العلم الإجمالي بنجاسة الإناء الكبير أو الإناءين الصغيرين ، أو العلم بفوات صلاة الفجر أو صلاتي الظهرين. وأمّا اختلاف مرتبة الأصل في الملاقي والأصل الجاري في الملاقي فقد عرفت عدم الاعتبار به.

الصورة الثالثة : ما إذا حصلت الملاقاة قبل حدوث العلم الإجمالي وكان العلم بها متأخراً عن حدوثه ، كما إذا لاقى الثوب أحد الماءين يوم الأربعاء ولكنه لم يعلم بها وحصل العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما إجمالاً يوم الخميس وحصل العلم بالملاقاة يوم الجمعة ، فهل يحكم بطهارة الملاقي في هذه الصورة؟ فيه خلاف بين الأصحاب ولها أيضاً شقان.

أحدهما : ما إذا كان المنكشف بالعلم الإجمالي متقدماً على الملاقاة بحسب الزمان وإن كان الكاشف أعني العلم الإجمالي متأخراً عنهما ، كما إذا لاقى الثوب أحد الماءين يوم الأربعاء ، وعلمنا يوم الخميس بطروّ نجاسة على أحدهما يوم الثلاثاء وحصل العلم بالملاقاة يوم الجمعة.

وثانيهما : ما إذا كان المنكشف بالعلم الإجمالي متحداً مع الملاقاة زماناً بأن لاقى الثوب أحد الإناءين يوم الخميس ، وعلمنا يوم الجمعة بطروّ نجاسة على أحد الإناءين يوم الخميس ، وحصل العلم بالملاقاة حال طروّ النجاسة يوم السبت.

أمّا الشق الأوّل : فلا يجب فيه الاجتناب عن الملاقي ، فإن النجاسة المرددة قد تنجزت بالعلم الإجمالي المتأخر من حين حدوثها ، وبه تساقطت الأُصول في كل واحد من الإناءين ، فالعلم بالملاقاة بعد ذلك لا يولد إلاّ احتمال حدوث نجاسة جديدة في الملاقي ، والأصل عدم حدوثها.

وبعبارة اخرى : لم يتعلّق العلم الإجمالي إلاّ بنجاسة أحد الإناءين ولم يتعلّق بالملاقي بوجه. بل في زمان حدوثه قد يكون الملاقي مقطوع الطهارة ، أو لو كان مشكوك النجاسة كان يجري فيه الاستصحاب ، فالعلم بالملاقاة بعد ذلك لا يترتّب عليه غير احتمال حدوث فرد آخر من النجس والأصل عدمه. والتفصيل الذي قدمناه في الصورة الأُولى بين عدم اختصاص بعض الأطراف بأصل غير معارض‌

٣٥٤

واختصاصه به جار في المقام أيضاً.

وأمّا الشق الثاني : فقد يقال بطهارة الملاقي فيه أيضاً ، ويظهر ذلك من بعض كلمات صاحب الكفاية قدس‌سره حيث ذكر أن العبرة بالكاشف دون المنكشف ، وبما أن العلم الإجمالي كان متقدماً على حصول العلم بالملاقاة فقد تنجزت النجاسة بذلك في الطرفين وتساقطت الأُصول قبل حدوث العلم بالملاقاة ، وعليه فلا يترتب على العلم بها إلاّ احتمال حدوث نجاسة جديدة ، والأصل عدمها وبذلك يفرق بين صورتي تقدم العلم بالملاقاة على العلم الإجمالي وتأخره عنه.

إلاّ أن هذا الكلام بمعزل عن التحقيق ، والسر في ذلك أن أي منجّز عقلي أو شرعي إنما يترتب عليه التنجيز ما دام باقياً ففي زمان حدوثه يترتب عليه التنجيز بحسب الحدوث فقط ، ولا يبقى أثره وهو التنجّز بعد زواله وانعدامه ، وعلى هذا بنينا انحلال العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرمات في الشريعة المقدسة بالظفر بواسطة الأمارات على جملة من الأحكام لا يقصر عددها عن المقدار المعلوم بالإجمال ، حيث قلنا إن التكليف فيما ظفرنا به من الأحكام متيقن الثبوت ، وفيما عداه مشكوك بالشك البدوي يرجع فيه إلى البراءة ، لارتفاع أثر العلم الإجمالي وهو التنجز بانعدامه.

وعلى الجملة أن العلم الإجمالي لا يزيد عن العلم التفصيلي بشي‌ء ، فكما إذا علمنا بنجاسة شي‌ء تفصيلاً ثم تبدل إلى الشك الساري يرجع إلى مقتضيات الأُصول ، ولا يمكن أن يقال إن النجاسة متنجزة بحدوث العلم التفصيلي ولا يرتفع أثره بعد ارتفاعه لوضوح أنه إنما يمنع عن جريان الأُصول ما دام باقياً لا مع زواله وانعدامه ، فكذلك العلم الإجمالي لا يترتب عليه أثر بعد انعدامه ، وفي المقام وإن حصل العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين ابتداء إلاّ أنّه يرتفع بعد العلم بالملاقاة المقارنة لحدوث النجاسة ويوجد علم إجمالي آخر متعلق بنجاسة الملاقي والملاقى أو الطرف الآخر ومقتضى ذلك وجوب الاجتناب عن كل واحد من الملاقي والملاقى.

هذا تمام الكلام في صور ملاقي الشبهة المحصورة والغالب منها هو الصورة الأُولى وقد مرّ أن الملاقي فيها محكوم بالطهارة.

٣٥٥

[١٥٥] مسألة ٧ : إذا انحصر الماء في المشتبهين تعيّن التيمم (١).

______________________________________________________

انحصار الماء في المشتبهين

(١) الكلام هنا في مقامين :

الأوّل : في مشروعية التيمم وجوازه ، وهو مما لا إشكال فيه وقد ثبت ذلك بالنص ففي موثقة سماعة قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيهما هو ، وليس يقدر على ماء غيره؟ قال : يهريقهما جميعاً ويتيمم » (١) وبمضمونها موثقة عمار (٢) وهل الحكم المذكور على طبق القاعدة أو أنه تعبّدي؟.

تظهر ثمرة الخلاف في إمكان التعدي عن موردهما وهو الماءان القليلان بمقتضى قوله : وقع في أحدهما قذر ، لأن الذي ينفعل بوقوع القذر فيه ليس إلاّ القليل فيصح على الأوّل دون الثاني ، ولا بدّ لتحقيق الحال في المقام من بيان صور التوضؤ والاغتسال بالماءين المشتبهين فنقول : إن لاستعمالهما صوراً ثلاثاً :

الاولى : أن يتوضأ بأحدهما ويصلي أوّلاً ، ثم يغسل مواضع إصابة الماء الأوّل بالماء الثاني ، ويتوضأ منه ويصلي ثانياً.

الثانية : أن يتوضأ بكل واحد من المشتبهين ، ويصلي بعد كل واحد من الوضوءين من غير تخلل غسل مواضع إصابة الماء الأول بالثاني بين الوضوءين ، أو يصلي بعدهما مرة واحدة.

الثالثة : أن يتوضأ بأحدهما من غير أن يصلي بعده ، ثم يغسل مواضع إصابة الماء الأول بالماء الثاني ، ويتوضأ منه ويصلي بعد الوضوءين مرة واحدة.

أمّا الصورة الاولى : فلا إشكال في أنها توجب القطع بفراغ الذمّة وإتيان الصلاة متطهراً بالطهارة الحدثية والخبثية حيث إنه طهّر مواضع إصابة الماء الأوّل بالثاني‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥١ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٥ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ١٤.

٣٥٦

وهي نظير اشتباه المطلق بالمضاف فان الوضوء منهما يوجب القطع بحصول الطهارة لا محالة ، ومعه لا ينبغي التأمّل في إجزاء ذلك ، بل لولا جواز التيمم حينئذٍ بمقتضى الروايتين المتقدمتين لقلنا بوجوب التوضؤ من المشتبهين على الكيفية المتقدمة لتمكن المكلف من الماء وعدم كونه فاقداً له ، إلاّ أن ملاحظة المشقة النوعية على المكلفين في التوضؤ بتلك الكيفية المتقدمة من الماءين المشتبهين دعت الشارع إلى عدم الحكم بتعيّن الوضوء حينئذٍ بتجويز التيمم في حقهم ، وما ذكرناه في هذه الصورة لا يختص بالماءين القليلين ويأتي في الكثيرين أيضاً كما هو ظاهر.

أمّا الصورة الثانية : فهي غير موجبة للقطع بإتيان الصلاة متطهراً ، لاحتمال أن يكون الماء الأوّل هو النجس ، ومعه يحتمل بطلان كلا وضوئيه ، أمّا وضوؤه الأوّل فمن جهة احتمال نجاسة الماء ، وأمّا وضوؤه الثاني فلأجل احتمال نجاسة مواضع الوضوء. وهذا أيضاً غير مختص بالقليلين كما هو ظاهر. فالمتعين حينئذٍ أن يتيمم أو يتوضأ على كيفية اخرى ، ولا يمكنه الاكتفاء بالتوضؤ من الماءين بهذه الكيفية وهذا أيضاً لا كلام فيه.

وإنما الإشكال في الصورة الثالثة : وأنه هل يمكن الاكتفاء بصلاة واحدة بعد التوضؤ من كلا الماءين المشتبهين وتخلل الغسل بينهما مع قطع النظر عن النص؟

ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أن الماءين إن كانا قليلين فوجوب التيمم حينئذٍ على طبق القاعدة من غير حاجة فيه إلى النص ، وذلك للعلم التفصيلي بنجاسة بدن المتوضي أو المغتسل عند إصابة الماء الثاني إما لنجاسته أو لنجاسة الماء الأوّل وبما أن الثاني ماء قليل لا يكفي مجرد إصابته في طهارة بدنه فبعد غسل مواضع الوضوء أو الغسل بالماء الثاني يشك في طهارة بدنه فيستصحب نجاسته المتيقنة حال إصابة الماء الثاني. ولا يعارضه استصحاب طهارته المعلومة إجمالاً إما قبل الغسل بالماء الثاني أو بعده ، وذلك للجهل بتاريخها وعدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين فيها ، وهذا بخلاف النجاسة فإن تاريخها معلوم ، وهو أول آن إصابة الماء الثاني بدنه‌

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٧٩.

٣٥٧

ولأجل أن التوضؤ من المشتبهين يوجب ابتلاء بدن المتوضئ بالنجاسة والخبث ، أمره الشارع بالتيمم حينئذٍ ، لأن الطهارة المائية لها بدل وهو التيمم ، ولا بدل للطهارة الخبثية فهي متقدمة على الطهارة المائية في نظر الشارع.

وأمّا إذا كانا كرين فوجوب التيمم على خلاف القاعدة ، ولا نلتزم به مع قطع النظر عن النص ، وذلك لأن ثاني الماءين إذا كان كراً ، ولم يشترط في التطهير به تعدد الغسل كان مجرد وصوله على تقدير طهارته إلى أعضاء المتوضئ موجباً لطهارتها ، ومعه يقطع بصحة الوضوء إما لطهارة الماء الأول فالتوضؤ به تام ، وإما لطهارة الماء الثاني وقد فرضنا أنه غسل به أعضاء الوضوء ثم توضأ فوضوؤه صحيح على كل تقدير.

نعم ، له علم إجمالي بنجاسة بدنه في أحد الزمانين إما عند وصول الماء الأول إلى بدنه أو حال وصول الماء الثاني إليه ، إلاّ أن هذا العلم الإجمالي لا أثر له ، للعلم الإجمالي بطهارة بدنه أيضاً ، ومع العلم بالحادثين والشك في المتقدم والمتأخر منهما لا يجري الاستصحاب في شي‌ء منهما ، ومع عدم جريان الاستصحاب يرجع إلى قاعدة الطهارة ، وهي تقتضي الحكم بطهارة بدنه. هذا كلّه على مسلكه قدس‌سره من عدم جريان الأصل فيما جهل تاريخه.

وأمّا على ما سلكناه في محله (١) من عدم التفرقة في جريان الاستصحاب بين ما علم تأريخه وما جهل فالنص على خلاف القاعدة في كلتا صورتي قلة الماءين وكثرتهما ، وذلك لتعارض استصحاب الطهارة مع استصحاب النجاسة في صورة قلة الماءين ، فان المكلف كما يعلم بنجاسة بدنه في زمان كذلك يعلم بطهارة بدنه في زمان آخر ، لأن المفروض أنه غسل مواضع إصابة الماء الأول بالماء الثاني ، وبعد تساقط الاستصحابين يرجع إلى قاعدة الطهارة في كل من القليلين والكثيرين أو القليل والكثير.

ولكن التحقيق عدم جريان قاعدة الطهارة في شي‌ء من الصورتين وأن النص فيهما على طبق القاعدة ، وذلك لمكان العلم الإجمالي بنجاسة بعض أعضاء المتوضئ ومقتضى ذلك عدم جواز الرجوع إلى أصالة الطهارة. وبيان ذلك : أن الماء الثاني كراً‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ١٩٤.

٣٥٨

كان أم قليلاً إنما يرد على بدن المتوضئ متدرجاً ، لاستحالة وروده على جميع أعضائه دفعة واحدة حقيقة حتى في حالة الارتماس ، لأن الماء حينئذٍ إنما يصيب رجليه مثلاً أوّلاً ثم يصل إلى غيرهما من أعضائه شيئاً فشيئاً ، فيعلم المكلف بمجرد إصابة الماء الثاني لأحد أعضائه بنجاسة هذا العضو على تقدير أن يكون النجس هو الماء الثاني ، أو بنجاسة غيره كما إذا كان النجس هو الماء الأول ، ومقتضى هذا العلم الإجمالي وجوب غسل كل ما أصابه من الماءين ، ومعه لا مجال لقاعدة الطهارة في صورتي قلة الماءين وكثرتهما ، فالرواية في الصورة الثالثة كالثانية على طبق القاعدة ، ولا مانع من التعدي عن موردها إلى غيره.

والمقام الثاني : في أنه هل يجوز التوضؤ من الماءين المشتبهين على الكيفية المتقدمة في الصورة الأُولى أو أن المتعين هو التيمم؟

والأوّل هو الصحيح ، لأن الأمر وإن كان يقتضي التعيين في نفسه إلاّ أنه في المقام لما كان وارداً في مقام توهّم الحظر أوجب ذلك صرف ظهوره من التعيين إلى التخيير وذلك لأن المكلف حينئذٍ واجد للماء حقيقة كما قدمناه ، ومقتضى القاعدة تعيّن الوضوء ، ولكن الشارع نظراً إلى أن في التوضؤ من المشتبهين على الكيفية السابقة حرجاً نوعياً على المكلفين قد رخص في إتيان بدله وهو التيمم ، فالأمر به إنما ورد في مقام توهّم المنع عنه ، وهو قرينة صارفة لظهور الأمر في التعيين إلى التخيير.

وقد ذكر شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في بعض تعليقاته على المتن عند حكم السيد قدس‌سره بجواز التوضؤ في موارد الحرج وتخييره المكلف بين الوضوء والتيمم أن هذا يشبه الجمع بين المتناقضين لأن موضوع وجوب التيمم إنما هو عنوان فاقد الماء كما أن موضوع وجوب الوضوء عنوان واجد الماء ، وكيف يعقل اجتماع عنواني الفاقد والواجد في حق شخص واحد؟ فالتخيير بين الوضوء والتيمم غير معقول.

وقد أجبنا عنه في محله بأن موضوع وجوب التيمم وإن كان فاقد الماء إلاّ أن باب التخصيص واسع ، ولا مانع من تجويز التيمم للواجد في مورد ولو لأجل التسهيل تخصيصاً في أدلة وجوب التوضؤ على الواجد ، فاذا كان الجمع بينهما ممكناً فالمتبع في‌

٣٥٩

وهل يجب إراقتهما أو لا؟ الأحوط ذلك وإن كان الأقوى العدم (١).

[١٥٦] مسألة ٨ : إذا كان إناءان أحدهما المعيّن نجس والآخر طاهر فاريق أحدهما ولم يعلم أنّه أيّهما فالباقي محكوم بالطهارة (*) (٢) وهذا بخلاف ما لو كانا‌

______________________________________________________

وقوعه دلالة الدليل ، وقد دلّ على جواز الاقتصار بالتيمم مع كون المكلف واجداً للماء ومقامنا هذا من هذا القبيل.

ثم إنه إذا كان عند المكلف ماء معلوم الطهارة فهل له أن يتوضأ من المشتبهين على الكيفية المتقدمة أو يجب التوضؤ مما علم طهارته؟

لا مانع من التوضؤ منهما وإن كان متمكناً من التوضؤ بما علم طهارته وذلك لما بنينا عليه في محله من أن الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي ، ولا يتوقف على عدم التمكّن من الامتثال تفصيلاً (١) ، ومقامنا هذا من صغريات تلك الكبرى وإن احتاط الماتن قدس‌سره بترك التوضؤ من المشتبهين. كما يأتي في المسألة العاشرة إلاّ أنه غير لازم كما عرفت.

(١) والوجه في هذا الاحتياط احتمال أن تكون الإراقة واجبة مقدمة لحصول شرط وجوب التيمم وهو كون المكلف فاقداً للماء ، ولكن لمّا كان يحتمل قوياً أن يكون الأمر بالإراقة في الموثقة إرشاداً إلى عدم ترتب فائدة على المشتبهين ، فإن منفعة الماء غالباً إما هو شربه أو استعماله في الطهارة وكلاهما منتفيان في مفروض المسألة لمكان العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، كان ذلك مانعاً عن حمل الرواية على الوجوب ، ومن هنا حكم قدس‌سره بعدم الوجوب.

تردّد الزائل بين الإناء الطاهر والنجس‌

(٢) للشك في نجاسته شكاً بدوياً ، وهو مورد لقاعدة الطهارة ، حيث لا علم بنجاسته إجمالاً حتى يكون الأصل فيه معارضاً بالأصل في الطرف الآخر. اللهمّ إلاّ‌

__________________

(*) هذا إذا لم يكن للماء المراق ملاق له أثر شرعي وإلاّ لم يحكم بطهارة الباقي.

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٧٧.

٣٦٠