موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

الثاني : عدم وصول نجاسة إليه من خارج (١).

الثالث : عدم التعدي الفاحش على وجهٍ لا يصدق معه الاستنجاء (٢).

الرابع : أن لا يخرج مع البول أو الغائط نجاسة أُخرى مثل الدم (٣). نعم ، الدم‌

______________________________________________________

أم لم يتغيّر به ، كما أن الطائفة الثانية دلت على نجاسة الماء المتغيّر كذلك سواء استعمل في الاستنجاء أم لم يستعمل ، فتتعارضان بالإطلاق في مادّة الاجتماع ، والترجيح مع الطائفة الثانية لأن فيها ما هو عام وهو صحيحة حريز : « كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب ... » (١) وبما أن دلالته بالوضع فيتقدم على إطلاق الطائفة الاولى لا محالة ، وبذلك يحكم بنجاسة ماء الاستنجاء عند تغيّره بأوصاف النجس.

(١) بأن كانت يده متنجسة قبل الاستنجاء أو كان المحل كذلك أو تنجس بشي‌ء أصابه حال الاستنجاء ، والوجه في هذا الاشتراط هو أن أدلّة طهارة ماء الاستنجاء إنما تقتضي عدم انفعاله بملاقاة عين الغائط أو البول حال الاستنجاء ، وأمّا عدم انفعاله بوصول النجاسة إليه خارجاً فلم يقم عليه دليل ، فيشمله عموم انفعال الماء القليل بملاقاة النجس.

(٢) هذا في الحقيقة مقوّم لصدق عنوان الاستنجاء وليس من أحد الشروط وإنما ذكروه تنبيهاً ، وحاصله اعتبار أن يكون الماء المستعمل مما يصدق عليه أنه ماء مستعمل في الاستنجاء الذي هو بمعنى غسل موضع الغائط المعبّر عنه بالنجو وهذا إنما يصدق فيما إذا لم يتجاوز الغائط عن الموضع المعتاد ، وأمّا إذا تجاوز عنه كما إذا كان مبتلى بالاسهال فأصاب الغائط فخذه أيضاً ، فلا يصدق على غسل الفخذ عنوان الاستنجاء بوجه فيبقى الماء تحت عموم ما دلّ على انفعال الماء القليل ، ولعلّ هذا مما لا خلاف فيه.

(٣) بمعنى أنه كما يشترط في طهارة ماء الاستنجاء أن لا تصل إليه نجاسة من‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٧ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١.

٣٢١

الذي يعد جزءاً من البول (*) أو الغائط لا بأس به (١).

الخامس : أن لا يكون فيه الأجزاء من الغائط (٢) بحيث يتميز أمّا إذا كان معه‌

______________________________________________________

الخارج ، كذلك يشترط فيها عدم وصول النجاسة إليه من الداخل كالدم الخارج مع الغائط أو البول وهذا كما أفادوه ، لما مرّ من أن الاستنجاء بمعنى غسل موضع النجو وهو الغائط ، وأمّا غسل الدم فهو ليس من الاستنجاء في شي‌ء.

(١) لا وجه لهذا الاستثناء ، لأن الدم الخارج من الغائط مثلاً إن كان منعدماً في ضمنه بالاستهلاك فلا كلام في طهارة الماء حينئذٍ ، إلاّ أنه خارج عن اختلاط الدم بالغائط حيث لا دم ليعد جزءاً من الغائط. وأمّا إذا لم يستهلك فيه وكان موجوداً معه فتعود المناقشة المتقدمة ويقال : الاستنجاء بمعنى غسل موضع النجو ، ولا يصدق على غسل الدم وموضعه ، فلا مناص من الحكم بنجاسته فهذا الاستثناء مشكل.

وأشكل منه ما إذا خرج الدم مع البول ، وذلك لأنه لم يدل دليل لفظي على الماء المستعمل في إزالته ، إذ الاستنجاء كما مرّ بمعنى غسل موضع النجو أو مسحه بالأحجار ، والنجو هو ما يخرج من الموضع المعتاد من غائط أو ريح وهو لا يشمل البول. وغسله ليس من الاستنجاء في شي‌ء إلاّ أنّا ألحقنا البول بالغائط من جهة الملازمة العرفية ، لعدم معهودية الاستنجاء من الغائط في مكان ، ومن البول في مكان آخر إذا العادة جرت على الاستنجاء منهما في مكان واحد ، وقد حكم على الماء المستعمل في إزالتهما بالطهارة ، فيستفاد من ذلك طهارة الماء المستعمل في إزالة البول أيضاً ، والمقدار المسلّم من هذه الملازمة هو طهارة الماء المستعمل في إزالة نفس البول. وأمّا المستعمل في البول مع الدم فلم تتحقق فيه ملازمة ، فان خروج الدم معه أمر قد يتفق ، وليس أمراً دائمياً أو غالبياً ، فلا يمكن الحكم بطهارته.

(٢) والوجه في هذا هو أنّ المتعارف في الاستنجاء ما إذا بقي من النجاسة في الموضع شي‌ء يسير بحيث لا يوجد شي‌ء من أجزائها المتمايزة في الماء وهو الذي حكمنا‌

__________________

(*) على نحو يستهلك في البول أو الغائط.

٣٢٢

دود أو جزء غير منهضم من الغذاء أو شي‌ء آخر لا يصدق عليه الغائط فلا بأس به.

[١٣٦] مسألة ٣ : لا يشترط في طهارة ماء الاستنجاء سبق الماء على اليد وإن كان أحوط (١).

[١٣٧] مسألة ٤ : إذا سبق بيده بقصد الاستنجاء ثم أعرض ثم عاد لا بأس إلاّ إذا عاد بعد مدة ينتفي معها صدق التنجس بالاستنجاء فينتفي حينئذٍ حكمه (٢).

[١٣٨] مسألة ٥ : لا فرق في ماء الاستنجاء بين الغسلة الأُولى والثانية في البول الذي يعتبر فيه التعدّد (٣).

______________________________________________________

فيه بالطهارة ، وأمّا إذا كان الباقي في الموضع كثيراً خارجاً عن العادة على نحو وجد بعض أجزائها في الماء متميزاً حين الاستنجاء أو بعد الفراغ عنه ، فلا يمكن الحكم فيه بطهارة الماء وذلك لأن الأجزاء الموجودة في الماء نجاسة خارجية ، وملاقاتها توجب الانفعال فلا مناص من الحكم بنجاسته. وأمّا ما دلّ على طهارة ماء الاستنجاء فهو إنما دلّ على أن ملاقاة الماء القليل لعين النجاسة في موضعها لا توجب الانفعال ، دون ما إذا كانت الملاقاة في غير موضع النجس.

(١) هذا هو الشرط السادس الذي اشترطه بعضهم في طهارة ماء الاستنجاء إلاّ أن جملة من المحققين ( قدس الله أسرارهم ) لم يرتضوا باشتراطه ، وهو الصحيح فان كلا من سبق الماء على اليد وسبق اليد على الماء أمر متعارف في الاستنجاء ، والإطلاق يشملهما وهو المحكم في كلتا الصورتين. نعم ، لو أصابت يده الغائط لا لأجل الاستنجاء بل بداعي أمر آخر لم يحكم عليها بالطهارة ، لعدم صدق الاستنجاء عليه.

(٢) لأجل عدم صدق الاستنجاء في حقه.

(٣) ليس الوجه في ذلك هو الإطلاق كما في بعض الكلمات ، حيث لا دليل لفظي على طهارة الماء المستعمل في إزالة البول حتى يتمسك بإطلاقه ، بل مستنده هو الملازمة العرفية التي قدمنا تقريبها آنفاً ، فإن العادة جرت على الاستنجاء من البول والغائط في‌

٣٢٣

[١٣٩] مسألة ٦ : إذا خرج الغائط من غير المخرج الطبيعي فمع الاعتياد كالطبيعي (*) ومع عدمه حكمه حكم سائر النجاسات في وجوب الاحتياط من غسالته (١).

[١٤٠] مسألة ٧ : إذا شكّ في ماء أنه غسالة الاستنجاء أو غسالة سائر النجاسات يحكم عليه بالطهارة (**) (٢) وإن كان الأحوط الاجتناب.

______________________________________________________

مكان واحد مرة أو مرتين ، وقد حكم على المستعمل في إزالتهما بالطهارة.

(١) قد فصّل الماتن قدس‌سره بين ما إذا كان خروج الغائط من غير الموضع المعتاد اعتيادياً ، كما إذا انسد مخرجه لمرض أو علاج ، وجعلت له ثقبة اخرى ليخرج منها غائطه فحكم فيه بطهارة الغسالة ، وما كان خروجه عنه اتفاقياً ، كما إذا أصاب بطنه سكين فخرج من موضع إصابته غائط فحكم في غسالته بالنجاسة ، لأنه أمر اتفاقي لا يطلق عليه الاستنجاء.

ولكن ما أفاده في نهاية الإشكال ، لأن الاستنجاء لا يصدق على غسل موضع الغائط أو مسحه في ما إذا خرج من غير موضعه ، إذ النجو هو ما خرج من الموضع المعتاد من ريح أو غائط ، وليس معناه مطلق ما خرج من البطن ، فالغائط الخارج من غير موضعه ليس بنجو ، وغسله أو مسحه لا يسمى استنجاء ، من دون فرق في ذلك بين كون الموضع العرضي اعتيادياً وعدمه ، هذا ولا أقل من انصراف الأخبار إلى الاستنجاء المتعارف.

ما شكّ في كونه ماء الاستنجاء :

(٢) لقاعدة الطهارة لأجل الشك في تأثر الماء وانفعاله ، أو لاستصحابها لعلمه بطهارة الماء قبل استعماله ، وما ذكره قدس‌سره يتوقف على القول بأن التخصيص ولو كان بمنفصل يوجب تعنون الباقي تحت العام بعنوان وجودي أو ما هو كالوجودي‌

__________________

(*) فيه إشكال بل منع.

(**) بل يحكم عليه بالنجاسة إذا كان طرف العلم الإجمالي من الغسالات النجسة.

٣٢٤

[١٤١] مسألة ٨ : إذا اغتسل في كر كخزانة الحمام أو استنجى فيه لا يصدق عليه غسالة الحدث الأكبر أو غسالة الاستنجاء أو الخبث (١).

______________________________________________________

وعليه فان عموم انفعال الماء القليل بملاقاة النجس قد خصص بماء الاستنجاء ، فلا محالة يتعنون الباقي بعنوان المستعمل في سائر النجاسات ، أو بغير المستعمل في الاستنجاء ، لأن عنوان الغير نظير العنوان الوجودي ، فيقال القليل المستعمل في سائر النجاسات أو غير المستعمل في الاستنجاء ينفعل بملاقاة النجس ، ومن الظاهر أن صدق هذا العنوان على الغسالة المفروضة غير محرز ، لاحتمال أنه من المستعمل في الاستنجاء ، ومع الشك في الانطباق لا يمكن التمسك بالعام ، فيرجع فيه إلى قاعدة الطهارة كما مر.

وأمّا بناء على ما سلكناه من أن التخصيص بعنوان وجودي إنما يوجب تعنون العام بالعنوان العدمي ، فإذا ورد أكرم العلماء ثم خصص بلا تكرم فساقهم ، يكون الباقي تحت العموم معنوناً بالعالم الذي ليس بفاسق على نحو سلب الوصف ، لأن الظاهر من مثله عرفاً أن صفة الفسق مانعة من الإكرام ، فالعالم الذي لا تكون معه تلك الصفة هو الباقي تحت العموم لا العالم المقيد بالعدالة أو بغير الفسق ، وعليه فالماء القليل في المقام المحكوم بالانفعال على تقدير ملاقاة النجس إنما يتقيد بأن لا يكون مستعملاً في الاستنجاء وهو عنوان عدمي ولا وجه لتقييده بما يكون مستعملاً في سائر النجاسات أو بغير المستعمل في الاستنجاء.

وحينئذٍ لا مانع من إحراز أن المشكوك من أفراد العموم بالاستصحاب ، لأن الماء المشكوك فيه لم يكن متصفاً بصفة ماء الاستنجاء في زمان وهو الآن كما كان ، فهو ماء قليل لاقى نجساً بالوجدان وليس بماء الاستنجاء بحكم الاستصحاب ، فبضم الوجدان إلى الأصل نحرز أنه من الأفراد الباقية تحت العام ويحكم عليه بالانفعال ، ومعه لا يبقى لقاعدة الطهارة أو لاستصحابها مجال.

الماء المستعمل الكثير :

(١) إذا بنينا على أن الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر أو في الاستنجاء أو في‌

٣٢٥

سائر الأخباث على تقدير طهارته كما في الغسلة المتعقبة بطهارة المحل لا يرفع الحدث فهل يختص هذا بالماء القليل أو يعم الكثير أيضاً؟

الصحيح أن المنع يختص بالقليل ، والمسألة اتفاقية بين الأصحاب. وقد ذكر المحقق قدس‌سره في المعتبر أن هذا المنع عن الاستعمال حتى في الكثير لو تمّ لمنع من الاغتسال في البحر أيضاً فيما اغتسل فيه جنب أو استنجى به أحد ، فإنّه على هذا لا يفرق بين كر وأكرار ، وهو مما لا يمكن الالتزام به ، فالمنع مختص بالقليل.

بل إن رواية عبد الله بن سنان (١) التي هي سند القول بالمنع إنما دلت على تقدير تسليم دلالتها على عدم جواز رفع الحدث بالماء الذي اغتسل به الجنب أو أُزيل به الخبث ، ومن الظاهر أن هذا كما ذكره شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٢) يختص بالماء الذي مسّ بدن الجنب وأصابه ، إذ لو لا مماسته وإصابته للبدن إما بوروده على الماء أو بورود الماء عليه لم يصدق عليه أنه ماء اغتسل به الجنب ، ومن الظاهر أن ذلك لا يصدق في مثل البحر والنهر والخزانة ونحوها إلاّ على خصوص الناحية التي اغتسل فيها الجنب ، ولا يصدق على الناحية الأُخرى التي لم يمس بدنه ولا أصابه فهل ترى صدق عنوان الاغتسال به على كأس منه إذا أخذناه من غير الناحية التي اغتسل فيها الجنب. وكذا الحال فيما إذا صبّ الكر على بدنه ، لأن ما ارتفع به حدثه ، واغتسل به هو المقدار الذي مسّ بدنه دون غيره.

نعم ، لو كانت العبارة المذكورة في الرواية « اغتسل فيه » بدل جملة « اغتسل به » لصدق ذلك على جميع ماء النهر فإنّه ماء اغتسل فيه الجنب. فعلى هذا فالمقتضي للمنع في غير الطرف الذي اغتسل فيه الجنب قاصر في نفسه ، بل نقول إذا كان الماء القليل في ساقية طولها عشرون ذراعاً مثلاً ، واغتسل الجنب في طرف منه لا يصدق على الطرف الآخر عنوان الماء الذي اغتسل به جنب ، وكذا فيما إذا استنجى أو غسل ثوبه في ناحية منه ، وعليه فالمنع يختص بالأجزاء التي مست بدن الجنب عرفاً دون غيره.

__________________

(١) المتقدمة في ص ٢٨٣.

(٢) كتاب الطهارة : ٥٨ السطر ١٩.

٣٢٦

ثم لو تنزّلنا عن ذلك فهناك صحيحتان قد دلتا على عدم المنع من استعمال الماء الكثير في غسل الجنابة وإن اغتسل به الجنب.

إحداهما : صحيحة صفوان بن مهران الجمال قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحياض التي ما بين مكة إلى المدينة تردها السباع ، وتلغ فيها الكلاب ، وتشرب منها الحمير ، ويغتسل فيها الجنب ويتوضأ منها؟ قال : وكم قدر الماء؟ قال : إلى نصف الساق وإلى الركبة ، فقال : توضأ منه » (١) وذلك لوضوح أنه لا موضوعية لبلوغ الماء نصف الساق أو الركبة بل المراد بذلك بلوغه حدّ الكر ، فان الماء الذي يرده الجنب في الصحاري ويغتسل فيه يبلغ حدّ الكر لا محالة ، وقد رخّص عليه‌السلام في رفع الحدث به ، وإن اغتسل فيه الجنب.

وثانيتهما : صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : « كتبت إلى من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء ، ويستقى فيه من بئر فيستنجي فيه الإنسان من بول أو يغتسل فيه الجنب ما حدّه الذي لا يجوز؟ فكتب لا توضأ من مثل هذا إلاّ من ضرورة إليه » (٢) والوجه في الاستدلال بها أن النهي فيها محمول على الكراهة ، لعدم الفرق عند القائلين بالمنع بين حالتي التمكن والاضطرار.

وقد ورد في رواية محمّد بن علي بن جعفر المتقدمة (٣) « من اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومنّ إلاّ نفسه ... » (٤) وهي أيضاً قرينة على إرادة الكراهة من النهي في الصحيحة المتقدمة ، لأنها في مقام الإرشاد إلى التحفظ من سراية الجذام.

ثم إنه إذا بنينا على أن الماء الذي رفع به الحدث الأكبر أو استعمل في إزالة الخبث لا يجوز استعماله في رفع الحدث ثانياً ، وقلنا باختصاص هذا الحكم بغير الكر من جهة الصحيحتين فلا موجب للتعدي من الكر إلى غيره من المعتصمات ، لأن الدليل قد دلّ‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦٢ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٦٣ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١٥.

(٣) في ص ٢٨٠.

(٤) الوسائل ١ : ٢١٩ / أبواب الماء المضاف ب ١١ ح ٢.

٣٢٧

[١٤٢] مسألة ٩ : إذا شكّ في وصول نجاسة من الخارج أو مع الغائط يبني على العدم (١).

[١٤٣] مسألة ١٠ : سلب الطهارة أو الطهورية عن الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر أو الخبث استنجاءً أو غيره ، إنما يجري في الماء القليل دون الكر فما زاد كخزانة الحمّام ونحوها (٢).

[١٤٤] مسألة ١١ : المتخلّف في الثوب بعد العصر من الماء طاهر فلو أُخرج بعد ذلك لا يلحقه حكم الغسالة. وكذا ما يبقى في الإناء بعد إهراق ماء غسالته (٣).

______________________________________________________

بإطلاقه على المنع من رفع الحدث بكل ماء استعمل في غسل الجنابة أو في رفع الخبث ، وإنما خرجنا عن هذا العموم بهاتين الصحيحتين في خصوص الكر ، وأمّا بقية المعتصمات فلم يقم على عدم المنع منها دليل ، فان اعتصام ماء وعدم انفعاله لا ينافي عدم جواز استعماله في رفع الحدث ، فالمطر وذو المادّة وإن كانا لا ينفعلان بشي‌ء إلاّ أن ذلك لا يوجب ارتفاع الحدث بهما فيما إذا صدق عليهما عنوان الماء المستعمل في غسل الجنابة أو في رفع الخبث ، اللهمّ إلاّ أن يقوم إجماع قطعي على عدم الفرق في ذلك بين الكر وغيره من المياه المعتصمة.

(١) قد عرفت أن طهارة ماء الاستنجاء مشروطة بعدم وصول نجاسة خارجية إليه فإن أحرزنا ذلك فهو ، وأمّا إذا شككنا في إصابتها فالأصل أنه لم يلاق نجاسة أُخرى وأنها لم تصل إليه ، وبالجملة النجاسة التي قد استنجى منها غير مؤثرة في نجاسة الماء ، وغيرها مدفوع بالأصل.

(٢) هذا على سبيل منع الخلو ، يريد بذلك سلب الطهارة والطهورية عن بعض أقسامه وسلب الطهورية عن بعضها الآخر ، ولكنه تكرار للمسألة المتقدمة.

الماء المتخلّف بعد العصر‌

(٣) هناك أمران :

أحدهما : طهارة المتخلف في الثوب بعد عصره بالمقدار المتعارف.

وثانيهما : أن المتخلف فيه إذا أخرج بعد ذلك لا يكون غسالة فلا يلحقه حكمها‌

٣٢٨

[١٤٥] مسألة ١٢ : تطهر اليد تبعاً بعد التطهير فلا حاجة إلى غسلها ، وكذا الظرف الذي يغسل فيه الثوب ونحوه (١).

______________________________________________________

وليس الأمر الثاني متفرعاً على الأول بأن يكون عدم كونه غسالة مستنداً إلى طهارته لأنه ليس كل غسالة نجسة حتى يتوهّم أن الماء إذا حكم عليه بالطهارة فهو ليس بغسالة ، وهذا كغسالة الاستنجاء وغسالة الغسلة المتعقبة بطهارة المحل على ما اخترناه.

وعليه فتفريعه قدس‌سره بقوله : فلو أُخرج ... إلخ في غير محله ، فلو انّه كان عكس الأمر وقال إن المتخلف في الثوب ليس بغسالة فهو طاهر كان أولى ، وكيف كان فلا إشكال في حكم المسألة ، فإنّه لا إشكال في أن المتخلف في الثوب بعد عصره ماء آخر وليس من الغسالة في شي‌ء ، فإن الغسالة هي ما يغسل به الشي‌ء ، والذي غسل به الثوب مثلاً هو الماء المنفصل عنه بالعصر المتعارف ، ولم يغسل بالماء الذي لم ينفصل عنه ، لما تقدم من أن مفهوم الغسل متقوم بإصابة الماء للمغسول به وانفصاله عنه ، فلا يتحقق الغسل من دون انفصال الماء ، فالغسالة هي الماء المنفصل عنه بالعصر ، وبخروجها يتصف المحل بالطهارة وإن كان رطباً ، لوضوح عدم اشتراط صدق الغسل بيبوسة المحل ، ومع صدقه لا مناص من الحكم بطهارة المحل ، ومعه تتصف الأجزاء المتخلفة فيه بالطهارة ، ولا يصدق عليها عنوان الغسالة إذا انفصلت عن الثوب بعد ذلك. وكذا الحال في غسل الأواني إذ الماء بعد إصابتها وانفصاله عنها وهما المحققان لمفهوم الغسل يبقى فيها شي‌ء من أجزائه وهو طاهر ولا يعدّ من الغسالة كما مرّ ، فلو كثرت الأواني أو الثياب واجتمع من مياهها المتخلّفة فيها مقدار أمكن به الوضوء أو الغسل ، لم يكن مانع من استعماله فيهما بعد الحكم بطهارته وعدم صدق الغسالة عليه.

طهارة اليد ونحوها بالتبع‌

(١) وقد استدلّ على طهارة اليد والظرف بالملازمة ، واستبعاد الحكم بنجاستهما مع طهارة المغسول من دون أن يتنجس بهما ، فبالسكوت في مقام الحكم بطهارة المغسول‌

٣٢٩

وعدم التعرّض لحكم اليد والظرف يستكشف طهارتهما بتبع طهارة المغسول ، وقد ذكروا نظير ذلك في يد الغاسل وفي السدة والخرقة في غسل الميت ، وحكموا بطهارتها بالتبعية ، هذا.

ولكن الصحيح أنه لا دليل على طهارة اليد والظرف بتبع طهارة المتنجس المغسول. نعم ، الغالب غسلهما حين غسل المتنجس ، وعليه فطهارتهما مستندة إلى غسلهما كما أن طهارة المغسول مستندة إلى غسله ، حيث لا يعتبر غسلهما عليحدة ولا مانع من تطهيرهما معه فيحكم بطهارة الجميع مرة واحدة. نعم ، لو أصاب الماء أعالي اليد والظرف في الغسلة الأُولى فيما يحتاج فيه إلى تعدد غسله ، ولم يبلغه الماء في الغسلة المطهّرة لم يمكن الحكم بطهارتهما بالتبعية لعدم الدليل عليه ، وبعبارة اخرى إنما نحكم بطهارة اليد والمركن عند تطهير الثياب مثلاً ، لانغسالهما بغسل الثوب ، لا لأجل تبعيتهما للثوب في الطهارة إذ لا شاهد على الطهارة بالتبعية في المقام ، هذا كلّه في اليد والظرف. وأمّا طهارة يد الغاسل أو السدة والخرقة فسيأتي الكلام عليها في محلّه إن شاء الله.

بقيت هناك شبهة وهي أن مقتضى صحيحة محمّد بن مسلم (١) كفاية غسل المتنجس بالبول في المركن مرتين في تطهيره ، ومقتضى ما قدمناه هو الحكم بطهارة المركن أيضاً ، لانغساله بغسل الثوب فيه مرتين ، مع أن الحكم بطهارة مثله لا يستقيم إلاّ على القول بالتبعية ، فإن الوجه في طهارته لو كان هو انغساله بغسل الثوب فيه لم يمكن الحكم بطهارته بمجرد غسله مرّتين ، لأن المركن من قبيل الأواني ، وهي لا تطهر إلاّ بغسلها ثلاث مرات على ما نطقت به موثقة عمار (٢) فالحكم بطهارته بغسل الثوب فيه مرّتين لا وجه له غير القول بطهارته بتبع طهارة الثوب.

ويدفعها : أن الآنية في لغة العرب عبارة عن الظروف المستعملة في خصوص الأكل والشرب أو فيما هو مقدمة لهما كالقدر ، ولم يظهر لنا مرادفها في الفارسية وليس معناها‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٩٧ / أبواب النجاسات ب ٢ ح ١.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٩٦ / أبواب النجاسات ب ٥٣ ح ١.

٣٣٠

[١٤٦] مسألة ١٣ : لو اجري الماء على المحل النجس زائداً على مقدار يكفي في طهارته فالمقدار الزائد بعد حصول الطهارة طاهر وإن عدّ تمامه غسلة واحدة ولو كان بمقدار ساعة ، ولكن مراعاة الاحتياط أولى (١).

[١٤٧] مسألة ١٤ : غسالة ما يحتاج إلى تعدد الغسل كالبول مثلاً إذا لاقت شيئاً ، لا يعتبر فيها التعدد وإن كان أحوط (٢).

______________________________________________________

مطلق الظروف ، وعليه فلا يعتبر في تطهير المركن غسله ثلاث مرات ، لاختصاص ذلك بالآنية. بل وكذلك الحال في ما ورد من النهي عن استعمال أواني الذهب والفضة فإن الحرمة مختصة بما هو معد للأكل والشرب أو لما هو مقدمة لهما ، ولا تعم مطلق الظروف وإن لم تكن آنية. وعلى الجملة ينحصر الوجه في طهارة المركن واليد بما أشرنا إليه آنفاً من انغسالهما بغسل الثوب ونحوه.

(١) فان الماء الجاري عليه زائداً على المقدار المعتبر في غسله وطهارته لا يعد من الغسالة في شي‌ء فلا يحكم بنجاسته على تقدير القول بنجاستها ، كما لا نمنع عن جواز استعماله في رفع الحدث إذا قلنا بالمنع في الغسالات ، والوجه فيه : أن المعتبر في تطهير المتنجس هو إجراء الماء عليه على نحو يعدّ غسلاً عرفاً ، وقد أسلفنا أن الغسل يتحقّق بخروج الغسالة وانفصال الماء عن المغسول به ، وعليه إذا أجرينا الماء على متنجس وأزلنا به عين النجس ثم انفصلت عنه غسالته فقد طهر بحكم الشرع ، فالماء الجاري عليه بعد المقدار الكافي في طهارته ماء ملاق للجسم الطاهر ، ولا يعد من الغسالة كي لا يرتفع بها الحدث على القول به ، بل الغسالة هي الماء الخارج بعد إجراء الماء عليه بمقدار يكفي في غسله ، وأمّا ما ذكره الماتن من الاحتياط باحتمال عد مجموع ما يخرج منه غسالة لاتصاله فهو ضعيف غايته.

عدم اعتبار التعدّد في ملاقي الغسالة‌

(٢) إنما تعرض قدس‌سره لهذه المسألة في المقام لمناسبة طفيفة ، وحقها أن تؤخر إلى مبحث المطهرات ، ويتكلّم هناك في أن التعدد في الغسل يعتبر في أي غسالة ولا‌

٣٣١

يعتبر في أيها ، وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى محلّه ، وإنما نتكلّم عنها بمقدار يناسب المقام فنقول : الكلام في هذه المسألة يقع من جهتين :

إحداهما : من جهة الأصل العملي ، وأنه إذا شككنا في طهارة شي‌ء ونجاسته بعد غسله مرة واحدة لاختلاف النجاسات في ذلك حيث يعتبر في بعضها الغسل مرتين كما في البول ، وتكفي المرة الواحدة في بعضها الآخر كما يعتبر في بعضها الغسل سبع مرّات فهل يرجع فيه إلى استصحاب النجاسة للعلم بتحققها سابقاً والشك في زوالها بالغسل مرة ، أو أن المرجع حينئذٍ هي قاعدة الطهارة؟ وهذه المسألة تبتني على جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية الإلهية وعدمه ، فعلى الأول يرجع في المقام إلى استصحاب النجاسة حتى نتيقن بزوالها ، كما أنه على الثاني يرجع إلى قاعدة الطهارة.

وثانيتهما : من جهة الدليل الاجتهادي وأنه إذا بنينا على جريان استصحاب النجاسة في أمثال المقام فهل هناك دليل اجتهادي من عموم أو إطلاق يقتضي كفاية الغسل مرة كي يمنع عن جريان الأصل العملي حينئذٍ؟ هذه الجهة هي التي يقع الكلام فيها في المقام ، وأمّا الجهة الأُولى فتحقيقها موكول إلى محلّه وقد ذكرنا فيه أن الصحيح عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية الإلهية فنقول :

الصحيح أن في المقام إطلاقات تقتضي الاكتفاء في تطهير المتنجسات بالغسل مرة واحدة وهي مانعة عن جريان استصحاب النجاسة ، وبها نحكم بكفاية الغسل مرة فيما لاقته غسالة متنجسة ، ولا تجري أحكام المتنجس إلى غسالته فلا نعتبر التعدد في غسالة ما يعتبر فيه التعدّد. ومن هنا اتفق الأصحاب قدس‌سرهم على عدم وجوب التعفير فيما لاقاه الماء المستعمل في تطهير ما ولغ فيه الكلب وعلى كفاية غسله مرّة واحدة. وعلى الجملة أن مقتضى تلك الإطلاقات الاكتفاء بالغسل مرة واحدة في تطهير أي متنجس من أي نجس. وتستفاد هذه الإطلاقات من الأوامر الواردة في غسل المتنجسات من دون تقييده بمرّتين أو أكثر ، وإليك بعضها :

منها : صحيحة زرارة قال : « قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي‌ء من مني فعلّمت أثره إلى أن أُصيب له الماء فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت أن بثوبي شيئاً وصلّيت ثم إني ذكرت بعد ذلك؟ قال : تعيد الصلاة وتغسله. قلت : فانّي لم أكن رأيت‌

٣٣٢

[١٤٨] مسألة ١٥ : غسالة الغسلة الاحتياطيّة استحباباً يستحب الاجتناب عنها (١).

______________________________________________________

موضعه وعلمت أنه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلما صليت وجدته ، قال : تغسله وتعيد ... » الحديث (١) حيث اشتملت على الأمر بغسل الثوب المتنجس من دون أن يقيده بمرتين أو أكثر.

ومنها : موثقة عمار الساباطي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أنه سئل عن رجل ليس عليه إلاّ ثوب ولا تحل الصلاة فيه ، وليس يجد ماء يغسله كيف يصنع؟ قال : يتيمم ويصلي فإذا أصاب ماءً غسله وأعاد الصلاة » (٢) وقد دلت على أن الثوب إذا لم تحل فيه الصلاة لنجاسته لا لأجل مانع آخر ككونه مما لا يؤكل لحمه بقرينة قوله بعد ذلك : وليس يجد ماء يغسله يطهر بمطلق غسله من دون تقييده بمرتين أو أكثر.

ومنها : ما عن أبي الحسن عليه‌السلام « في طين المطر أنه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيام إلاّ أن يعلم أنه قد نجسه شي‌ء بعد المطر ، فإن أصابه بعد ثلاثة أيام فاغسله وإن كان الطريق نظيفاً لم تغسله » (٣) ومنها غير ذلك من الأخبار الواردة في أبواب النجاسات الآمرة بمطلق الغسل في تطهير المتنجسات يقف عليها المتتبع في تلك الأبواب ، هذا كلّه على أن القذارة الشرعية كالقذارات العرفية ، فكما يكتفى في الثانية بإزالتها بالغسل فلتكن الأُولى أيضاً كذلك من دون أن يتوقف على تعدد الغسل.

(١) وذلك لأن حال ماء الغسالة حينئذٍ حال المغسول به بعينه فكما أن استحباب الاجتناب عنه بملاك احتمال نجاسته ، لأن قاعدة الطهارة أو استصحابها تقتضي طهارته فكذلك غسالته بناء على نجاسة الغسالة أو عدم جواز استعمالها في رفع الحدث ، فإن قاعدة الطهارة وإن كانت تقتضي طهارتها إلاّ أن ملاك استحباب الاجتناب وهو احتمال نجاسة الغسالة أو عدم كفايتها في رفع الحدث يرجح الاجتناب عنها ، كما كان يقتضي ذلك في نفس المغسول به.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٧٩ / أبواب النجاسات ب ٤٢ ح ٢.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٨٥ / أبواب النجاسات ب ٤٥ ح ٨.

(٣) الوسائل ٣ : ٥٢٢ / أبواب النجاسات ب ٧٥ ح ١.

٣٣٣

فصل [ في الماء المشكوك ]

الماء المشكوك نجاسته طاهر (١) إلاّ مع العلم بنجاسته سابقاً ، والمشكوك إطلاقه لا يجري عليه حكم المطلق (٢) إلاّ مع سبق إطلاقه ، والمشكوك إباحته محكوم بالإباحة إلاّ مع سبق ملكية الغير أو كونه في يد الغير المحتمل كونه له (٣).

______________________________________________________

فصل في الماء المشكوك‌

(١) حتى يعلم نجاسته ولو بالاستصحاب كما إذا كان مسبوقاً بالنجاسة ويدلُّ على ذلك قوله عليه‌السلام في موثقة عمار : « كل شي‌ء نظيف حتى تعلم أنه قذر فإذا علمت فقد قذر ... » (١) وقوله عليه‌السلام « الماء كلّه طاهر حتى يعلم أنه قذر » (٢) ويدلُّ عليه أيضاً جميع ما دلّ على حجية الاستصحاب بضميمة ما دلّ على طهارة الماء في نفسه.

(٢) لأن الشك في إطلاق مائع وإضافته بعينه هو الشك في أنه ماء أو ليس بماء فلا بدّ في ترتيب الآثار المرغوبة من الماء عليه من رفع الحدث أو الخبث من إثبات أنه ماء ، فإن أحرزنا ذلك ولو بالاستصحاب فهو ، وإلاّ فلا يمكننا ترتيب شي‌ء من آثار الماء عليه.

(٣) للبحث في ذلك جهتان :

إحداهما : حلية التصرفات فيه من أكله وشربه وصبه وغيرها من الانتفاعات المترقبة منه.

وثانيتهما : صحة بيعه وغيرها من الآثار المتوقفة على الملك.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٤ / أبواب الماء المطلق ب ١ ح ٥.

٣٣٤

أمّا الجهة الاولى : فلا ينبغي الإشكال في جواز الانتفاعات والتصرفات الواقعة فيه ، لقوله عليه‌السلام : « كل شي‌ء لك حلال حتى تعلم أنه حرام » (١) وقد يقال كما أشار إليه شيخنا الأنصاري قدس‌سره في ذيل تنبيهات البراءة بأن الأموال خارجة عن أصالة الحلية والأصل فيها حرمة التصرف حتى يعلم حليته للإجماع ولرواية محمّد بن زيد الطبري : « لا يحل مال إلاّ من وجه أحلّه الله » (٢) حيث دلت على أن الأموال محكومة بالحرمة حتى يتحقق سبب حليتها ، ومع الشك في وجود السبب المحلل يجري الأصل في عدمه (٣).

ولكن الصحيح أن الأموال كغيرها فتجري فيها أصالة الحل ما لم يعلم حرمتها بدلالة دليل أو قيام أصل مثبت لحرمتها ، وذلك لأن الإجماع المدعى لا نطمئن بكونه تعبدياً كاشفاً عن رأي الإمام.

وأمّا الرواية فيدفعها : أوّلاً : ضعف سندها حيث إن جملة ممن وقع في طريقها مجاهيل والمجلسي قدس‌سره وإن قوّى وثاقة سهل بن زياد (٤) ، إلاّ أنها لم تثبت كما لم تثبت وثاقة غيره من رجال السند.

وثانيا : أن الرواية قاصرة الدلالة على المدعى ، لأن المراد من قوله عليه‌السلام « لا يحل مال ... » إلخ لو كان هو ما ادعاه المستدل من أن كل مال محكوم بحرمة التصرّف فيه حتى يتحقق سبب حليته لم تكن فيه جهة ارتباط بالسؤال ، حيث إن‌

__________________

(١) قدّمنا أن هذه الجملة وردت في عدة روايات وبيّنا مواضعها في تعليقة ص ٢٥٩ ، فراجع.

(٢) والرواية هي عن محمد بن الحسن وعن علي بن محمد جميعاً عن سهل عن أحمد بن المثنى عن محمد بن زيد الطبري قال : « كتب رجل من تجّار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا عليه‌السلام يسأله الاذن في الخمس فكتب إليه : بسم الله الرّحمن الرّحيم إن الله واسع كريم ضمن على العمل الثواب ، وعلى الضيق الهم ، لا يحل مال إلاّ من وجه أحله الله ، إن الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالنا ، وعلى موالينا ( أموالنا ) وما نبذله ، ونشتري من أعراضنا ممن نخاف سطوته ... » الحديث المروي في الوسائل ٩ : ٥٣٨ / أبواب الأنفال ب ٣ ح ٢.

(٣) فرائد الأُصول ١ : ٣٧١.

(٤) رجال المجلسي ( الوجيزة ) : ٢٢٤.

٣٣٥

السائل إنما سأله عن الإذن في التصرف في الخمس ، وهل له ربط بحرمة التصرف في الأموال حتى يتحقق سبب حليته ، فالظاهر أن مراده عليه‌السلام بذلك الإشارة إلى قوله عزّ من قائل ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (١) فان الخمس ملكهم عليهم‌السلام فلو أرادوا الإذن لأحد في التصرف فيه لم يجز ذلك إلاّ في ضمن معاملة عن تراض من هبة أو بيع أو غيرهما من الأسباب المحللة للتصرف وإلاّ كان من أكل المال بالباطل. ثم اعتذر عليه‌السلام عن إيقاع المعاملة على الخمس بأن الخمس عوننا على ديننا ودنيانا فلا نتمكن من هبته ولا من غيرها من المعاملات ، وهذا لا لأجل عدم جوازها شرعاً ، بل لأن الخمس عونهم على معيشتهم وبذلهم فلو خرج من أيديهم لم يتمكنوا من المعيشة والبذل ، وعليه فالرواية أجنبية عن المقام رأساً.

وثالثاً : لو أغمضنا عن سندها ودلالتها فأصالة الإباحة والحلية من أحد الأسباب المحللة للتصرف في المال المشكوك إباحته ، هذا كلّه في الجهة الأُولى.

وأمّا الجهة الثانية : أعني جواز ترتيب الآثار المتوقفة على الملك فالتردد في أن المال ملكه أو ملك غيره يتصوّر على وجوه :

الأوّل : ما إذا كان المال مسبوقاً بالإباحة والحلية الأصليتين ، وقد علم بسبق أحد إليه بالحيازة ولا يعلم أنه هو نفسه أو غيره ، ولا مانع في هذه الصورة من استصحاب بقاء المال على إباحته السابقة إلى زمان الشك ، وهو يقتضي الحكم بحلية المال له فعلاً ومعناه عدم تسلّط الغير عليه بالحيازة وإلاّ لم يكن مباحاً في حقه ، وبعد ذلك يتملكه بالحيازة ، فيثبت بالاستصحاب أنه مال لم يتملكه غيره وهو الموضوع للتملّك شرعاً وبضمه إلى الوجدان أعني تملكه يثبت أنه ملكه ، ويترتب عليه جميع آثار الملكية من الانتفاعات والمعاملات.

الثاني : ما إذا كان المال حينما وجد وجد مملوكاً له أو لغيره من غير أن تكون له حالة سابقة متيقنة ، ولا يجوز في هذه الصورة ترتيب آثار الملك عليه ، وهذا كما في‌

__________________

(١) النساء ٤ : ٢٩.

٣٣٦

البيضة لا يدري أنها لدجاجته أو لدجاجة غيره أو الثمرة لشجرته أو لشجرة غيره أو الصوف لغنمه أو لغنم غيره ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، وفي هذه الصورة يجري استصحاب عدم دخوله في ملكه بسبب من الأسباب ، فإن الملكية إنما تتحقق بأسبابها وهي مشكوكة التحقق في المقام والأصل عدم تحققها ، ولا يعارض هذا الاستصحاب باستصحاب عدم دخوله في ملك الغير بأسبابه ، فإنّه لا يثبت به دخوله في ملك نفسه.

هذا ثم لو سلمنا جريان كلا الأصلين وتساقطهما بالمعارضة ، فلنا أن نجري الأصل في النتيجة المترتبة عليهما ، لأنه إذا شككنا في صحة بيعه حينئذٍ من جهة تعارض الأصلين نستصحب عدم انتقاله إلى المشتري ، وهو معنى فساد البيع. وعلى الجملة لا يجوز في هذه الصورة شي‌ء من التصرفات المتوقفة على الملك ، وأمّا سائر التصرفات من أكله وشربه وأمثالهما فلا إشكال في جريان أصالة الحل والحكم بجوازها ، لأنها مشكوكة الحرمة حينئذ وكل شي‌ء لك حلال حتى تعلم أنه حرام.

الثالث : ما إذا كان المال ملكاً لأحد سابقاً ثم علم بانتقاله إما إليه أو إلى غيره ، وفي هذه الصورة أيضاً لا يمكن ترتيب شي‌ء من الآثار المتوقفة على الملك ، لاستصحاب عدم دخول المال في ملكه بأسبابه ، لأن الملك يتوقف على سبب لا محالة وهو أمر حادث مشكوك والأصل عدمه ، ولا يعارضه استصحاب عدم دخوله في ملك الغير لأنه لا يثبت دخوله في ملك نفسه ، ثم على تقدير جريانهما وتساقطهما بالمعارضة لا مانع من الرجوع إلى الأصل الجاري في النتيجة أعني أصالة عدم انتقاله إلى المشتري إذا شككنا في صحة بيعه كما ذكرناه في الصورة المتقدمة.

هذا على أنّا لو قلنا بجريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلي لم يكن مانع من استصحاب ملكية الغير في المقام ، لأن ذلك الكلي كان متحققاً في ضمن فرد أعني المالك السابق وهو قد ارتفع قطعاً ، ونشك في قيام غيره مقامه فنستصحب كلي ملك الغير ، وبهذا يثبت عدم كونه ملكاً له ، إلاّ أنّا لا نقول بالاستصحاب في القسم الثالث من الكلي.

وأمّا بالإضافة إلى سائر التصرفات فهل تجري فيها أصالة الحل؟

٣٣٧

قد يقال بجريانها ، لأنها مشكوكة الحرمة والحلية ، ومقتضى عموم كل شي‌ء لك حلال إباحتها كما في الصورتين المتقدمتين ، إلاّ أن الصحيح عدم جريانها في هذه الصورة ، وذلك لأن المال كان ملكاً لغيره على الفرض ، ومقتضى قوله تعالى ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (١) وقوله عليه‌السلام « لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه » (٢) عدم حليته له إلاّ بالتجارة عن تراض أو بطيب نفسه ، والأصل عدم انتقاله بهما ، وبه نحكم بعدم حلية التصرفات في المال ولا يبقى معه مجال لأصالة الحلية كما هو ظاهر ، ولا تقاس هذه الصورة بالصورتين المتقدمتين ، لعدم العلم فيهما بكون المال ملكاً لغيره سابقاً حتى يجري استصحاب عدم انتقاله بالتجارة أو بطيب نفسه.

الرابع : ما إذا كان المال مسبوقاً بملكيتين بأن علم أنه كان ملكه في زمان وكان ملك غيره في زمان آخر ، واشتبه المتقدم منهما بالمتأخر ، ففي هذه الصورة يجري استصحاب كل واحد من الملكيتين ويتساقطان بالمعارضة على مسلكنا ، ولا يجري شي‌ء منهما على مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره لعدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، فلا أصل بالإضافة إلى الملكية ولا سبيل لإثباتها ، فلا يجوز في هذه الصورة شي‌ء من التصرفات المتوقفة على الملك ، وأمّا سائر التصرفات فتجري أصالة الحل بالإضافة إليها كما مرّ للشك في حرمتها ، وليس في البين أصل يحرز به بقاء ملك الغير حتى يوجب حرمتها كما في الصورة المتقدمة.

__________________

(١) النساء ٤ : ٢٩.

(٢) قد ورد مضمونه في موثقة زرعة عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث قال : من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها فإنّه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلاّ بطيبة نفس منه ». ورواه في الكافي بسند صحيح وفيما عن الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال في خطبة الوداع « أيها الناس ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلاّ عن طيب نفس منه » المرويتين في الوسائل ٥ : ١٢٠ / أبواب مكان المصلِّي ب ٣ ح ١ ، ٣. وفي الباب ٣ من أبواب الأنفال في حديث محمد بن زيد الطبري « ولا يحل مال إلاّ من وجه أحله الله » كما قدمنا نقلها في تعليقة ص ٣٣٥. وغيره من الأخبار المروية في الباب المذكور.

٣٣٨

[١٤٩] مسألة ١ : إذا اشتبه نجس أو مغصوب في محصور كإناء في عشرة يجب الاجتناب عن الجميع (١) وإن اشتبه في غير المحصور كواحد في ألف (*) مثلاً لا يجب الاجتناب عن شي‌ء منه (٢).

______________________________________________________

الشبهة المحصورة‌

(١) أمّا في المشتبه بالنجس فلاحتمال نجاسة كل واحد من المشتبهين ، والوضوء بالنجس غير سائغ. وهل يتمكن من التوضؤ بكل منهما بأن يتوضأ من أحدهما ثم يغسل مواضع الوضوء بالماء الثاني ، ويتوضأ منه حتى يقطع بالتوضؤ من ماء طاهر؟ فهي مسألة أُخرى يأتي عليها الكلام في محلّها إن شاء الله. وأمّا في المشتبه بالمغصوب فلاحتمال حرمة التصرف في كل واحد من المشتبهين فضلاً عن التوضؤ به.

الشبهة غير المحصورة‌

(٢) ما أفاده قدس‌سره يتوقف على مقدمتين :

إحداهما : إثبات التفرقة بين الشبهة المحصورة وغير المحصورة بوجوب الاجتناب في الأُولى دون الثانية ، وهي ممنوعة لما حققناه في محلّه (١) من أن العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي منجّز لمتعلقه مطلقاً كانت أطرافه كثيرة أم لم تكن ، فيما إذا أمكنت الموافقة والمخالفة القطعيتين أو إحداهما ولم يكن في البين مانع من ضرر أو حرج ، فلا اعتبار بكثرة الأطراف ولا بقلتها. بل لا مفهوم محصل للشبهة غير المحصورة في نفسها أصلاً فضلاً عن الحكم بعدم وجوب الاجتناب فيها ، وتحقيق الحال في ذلك موكول إلى علم الأُصول.

وثانيتهما : إثبات أن الألف دائماً من الشبهة غير المحصورة بعد تسليم سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز في مثلها ، ودون إثبات ذلك خرط القتاد ، لأن الألف في مثل‌

__________________

(*) في كون اشتباه الواحد في ألف من الشبهة غير المحصورة دائماً وفي عدم وجوب الاجتناب عنها إشكال بل منع.

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٣٧٥.

٣٣٩

[١٥٠] مسألة ٢ : لو اشتبه مضاف في محصور يجوز أن يكرّر الوضوء أو الغسل إلى عدد يعلم استعمال مطلق في ضمنه فاذا كانا اثنين يتوضأ بهما ، وإن كانت ثلاثة أو أزيد يكفي التوضؤ باثنين ، إذا كان المضاف واحداً ، وإن كان المضاف اثنين في الثلاثة يجب استعمال الكل ، وإن كان اثنين في أربعة تكفي الثلاثة. والمعيار أن يزاد على عدد المضاف المعلوم بواحد (١). وإن اشتبه في غير المحصور جاز استعمال كل منها (*) كما إذا كان المضاف واحداً في ألف. والمعيار أن لا يعدّ العلم الإجمالي علماً ، ويجعل المضاف المشتبه بحكم العدم ، فلا يجري عليه حكم الشبهة البدوية أيضاً ولكن الاحتياط أولى (٢).

______________________________________________________

العلم بنجاسة إناء واحد من ألف إناء ليس من غير المحصورة في شي‌ء. بل قد يكون أكثر من الألف أيضاً كذلك ، كما إذا علم بنجاسة حبة من حبات الأرز في طعامه ، وهو مشتمل على آلاف حبة ، ولا نظن أحداً يفتي بعدم وجوب الاجتناب حينئذٍ بدعوى أنه من الشبهة غير المحصورة. نعم ، لا مانع من عدّ العلم بحرمة امرأة من ألف نساء من الشبهة غير المحصورة ، إلاّ أنك عرفت عدم الفرق في تنجيز العلم الإجمالي بين المحصورة وغيرها فعلى ما ذكرناه لا يجوز التوضؤ من شي‌ء من الأواني في ما مثّل به في المتن.

(١) وذلك لأنه يوجب القطع بالتوضؤ من المطلق. ثم إن الوجه في جواز الوضوء منها بتلك الكيفية هو أن التوضؤ من المضاف ليس كالوضوء من المغصوب محرماً شرعاً ، فلا مانع من التوضؤ به مقدمة للعلم بالتوضؤ من المطلق ، وهذا بخلاف المشتبه بالمغصوب ، لأن التوضؤ منه حرام فلا يجوز جعله مقدمة للعلم بالامتثال.

(٢) هذه المسألة تبتني على ما هو محل الخلاف بين الأعلام من أن الشبهة غير المحصورة بناء على عدم وجوب الاجتناب عن أطرافها هل يكون العلم فيها كلا علم ، أو أن الشبهة فيها كلا شبهة؟ مثلاً إذا علمنا بحرمة أحد أُمور غير محصورة‌

__________________

(*) بل اللاّزم هو الاحتياط بتكرار الوضوء حتى يعلم بحصول التوضؤ بالماء المطلق.

٣٤٠