موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

الشهادة من الرجال في ثبوت الهلال وأسقط شهادة النساء في ذلك.

وللمناقشة في هذه الأولوية مجال واسع ، لأن الخصومة والمرافعة لا بدّ من حلّها وفصلها بشي‌ء ، حيث إن في بقائها بحالها ينجر الأمر إلى اختلال النظام ، فما به ترتفع المخاصمات لا يلزم أن يكون حجة على الإطلاق حتى في غير موارد المرافعة ، ومن هنا ترى أن الأيمان مما تفصل به الخصومات شرعاً مع أنها لا تعتبر في غير موارد المرافعة ، وعلى الجملة لا تقاس الخصومة بغيرها فالأولوية لا أساس لها.

الوجه الثالث : رواية مسعدة بن صدقة : « كل شي‌ء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك وهي أُختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيِّنة » (١).

فإنّها اشتملت على أُمور ثلاثة ، ودلت على أن اليد في الثوب وأصالة عدم تحقق النسب أو الرضاع في المرأة ، والإقرار على العبودية في العبد حجة معتبرة لا بدّ من العمل على طبقها إلاّ أن يعلم أو تقوم البيِّنة على خلافها ، فمنها يستفاد أن البيِّنة حجة شرعاً ومعتبرة في إثبات الموضوعات المذكورة في الحديث من الملكية والأُختية والحرية ، فيترتب عليها أحكامها وحيث إن كلمة « الأشياء » جمع محلّى باللاّم وهو من ألفاظ العموم ولا سيما مع تأكيده بكلمة « كلّها » فنتعدى عنها إلى سائر الموضوعات التي لها أحكام ومنها النجاسة ، لأنها يترتب عليها جملة من الأحكام كحرمة الشرب والأكل وعدم جواز الوضوء والغسل به ، وإذا قامت البيِّنة على نجاسة شي‌ء فلا مانع من أن نرتب عليها أحكامها.

ودعوى : أن الرواية إنما دلت على اعتبار البيِّنة في الأحكام فلا يثبت بها اعتبارها في غيرها.

مدفوعة : بأن موردها خصوص الموضوعات التي لها أحكام حيث وردت في ثوب‌

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

٢٦١

يشك في كونه ملكاً للبائع أو مغصوباً ، وفي عبد لا يدرى أنه حر أورق وفي امرأة يشك في أنها أجنبية أو من المحارم ، وكل ذلك من الموضوعات التي يترتّب عليها أحكام وعلى الجملة أن الرواية تقتضي حجية البيِّنة في الموضوعات.

ويؤيدها رواية عبد الله بن سليمان الواردة في الجبن : « كل شي‌ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أن فيه ميتة » (١) وموردها الجبن الذي يشك في حرمة أكله ، إلاّ أنها ضعيفة السند ومن هنا جعلناها مؤيدة للمدعى.

ولا يخفى عليك ضعف هذا الاستدلال وذلك : لأن الرواية وإن عبّر عنها في كلام شيخنا الأنصاري قدس‌سره بالموثقة (٢) إلاّ أنّا راجعنا إلى حالها فوجدناها ضعيفة (٣) حيث لم يوثق مسعدة في الرجال ، بل قد ضعفه المجلسي (٤) والعلاّمة (٥) وغيرهما. نعم ، ذكروا في مدحه أن رواياته غير مضطربة المتن ، وأن مضامينها موجودة في سائر الموثقات. ولكن شيئاً من ذلك لا يدل على وثاقة الرجل ، فهو ضعيف على كل حال ولا يعتمد على مثلها في استنباط الحكم الشرعي ، وعليه فلا دليل على اعتبار البيِّنة في الموضوعات.

والذي يمكن أن يقال : إن لفظة « البيِّنة » لم تثبت لها حقيقة شرعية ولا متشرعية وإنما استعملت في الكتاب والأخبار بمعناها اللغوي وهو ما به البيان وما به يثبت الشي‌ء ، ومنه قوله تعالى ( بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ ) (٦) ، وقوله ( حَتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ) (٧)

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ١١٨ / أبواب الأطعمة المباحة ب ٦١ ح ٢.

(٢) فرائد الأُصول ٢ : ٧٣٤.

(٣) الأمر وإن كان كما قررناه إلاّ أن الرجل ممن وقع في أسانيد كامل الزيارات وقد بنى أخيراً سيِّدنا الأُستاذ دام ظلّه على وثاقة الرواة الواقعين في أسانيد الكتاب المذكور ومن هنا عدل عن تضعيف الرجل وبنى على وثاقته. إذن فالرواية موثقة.

(٤) رجال المجلسي ( الوجيزة ) : ٣٢٠.

(٥) الخلاصة : ٢٦٠.

(٦) فاطر ٣٥ : ٢٥.

(٧) البيِّنة ٩٨ : ١.

٢٦٢

وقوله ( إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ) (١) وغيرها من الموارد ، ومن الظاهر أنها ليست في تلك الموارد إلاّ بمعنى الحجة وما به البيان ، وكذا فيما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » (٢) أي بالأيمان والحجج وما به يبيّن الشي‌ء ، ولم يثبت في شي‌ء من هذه الموارد أن البيِّنة بمعنى عدلين ، وغرضه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : « إنما أقضي ... » على ما نطقت به جملة من الأخبار (٣) بيان أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الأئمة عليهم‌السلام سوى خاتم الأوصياء ( عجّل الله في فرجه ) لا يعتمدون في المخاصمات والمرافعات على علمهم الوجداني المستند إلى النبوة أو الإمامة ، وإنما يقضون بين الناس باليمين والحجة سواء أطابقت للواقع أم خالفته كما هو صريح ما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مخاصمة امرئ القيس (٤) نعم ، يقضي قائمهم عليه‌السلام على طبق الواقع من دون أن يعتمد على شي‌ء (٥).

وعلى الجملة لم يثبت أن البيِّنة بمعنى عدلين في شي‌ء من تلك الاستعمالات وإنما هي بمعناها اللغوي كما مر ، والبيِّنة بهذا المعنى اصطلاح بين العلماء ، ولعلّه أيضاً كان ثابتاً في الدور الأخير من زمانهم عليهم‌السلام. وعلى ما ذكرناه فالرواية المتقدمة لا دلالة‌

__________________

(١) هود ١١ : ٢٨.

(٢) كما في صحيحة هشام عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان ... » الوسائل ٢٧ : ٢٣٢ / أبواب كيفية الحكم ب ٢ ح ١.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٢٣٣ / أبواب كيفية الحكم ب ٢ ح ٣ ، ب ١ ح ٤.

(٤) عن عدي عن أبيه قال : « اختصم امرئ القيس ورجل من حضرموت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أرض. فقال : ألك بيِّنة؟ قال : لا ، قال : فيمينه ، قال : إذن والله يذهب بأرضي ، قال : إن ذهب بأرضك بيمينه كان ممّن لا ينظر الله إليه يوم القيامة ، ولا يزكيه وله عذاب أليم قال : ففزع الرجل وردها إليه » الوسائل ٢٧ : ٢٣٥ / أبواب كيفية الحكم ب ٣ ح ٧.

(٥) صحيحة أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال : « إذا قام قائم آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم بحكم داود عليه‌السلام لا يسأل بيِّنة. المروية في الوسائل ٢٧ : ٢٣٠ / أبواب كيفية الحكم ب ١ ح ٤.

٢٦٣

وبالعدل الواحد على إشكال (*) لا يترك فيه الاحتياط (١).

______________________________________________________

لها على اعتبار البيِّنة بمعنى شهادة عدلين بل لا بدّ من إحراز حجيتها من الخارج.

نعم ، لما علمنا خارجاً أن الشارع كان يعتمد على إخبار العدلين في المخاصمات وفي موارد القضاء بين الناس استكشفنا من ذلك أن إخبار العدلين أيضاً من مصاديق الحجة وما به البيان ، وبهذا نحرز أنه حجة على نحو الإطلاق من غير أن يختص اعتباره بموارد الخصومة والقضاء ، لأن اعتماد الشارع عليه يدلنا على أن إخبار العدلين حجّة معتبرة في مرتبة سابقة على القضاء ، لا أنه صار حجة بنفس القضاء.

ويؤيده مقابلة الأيمان بالبينات في الرواية المتقدمة ، فإن الأيمان تختص بموارد القضاء ، وقد وقعت في مقابلة البيِّنات : أي أقضي بينكم بما يعتبر في خصوص القضاء وبما هو معتبر في نفسه على نحو الإطلاق ، وهذا غاية ما أمكننا من إقامة الدليل على حجية البيِّنة في الموضوعات ، وما ذكرناه إن تمّ فهو وإلاّ فلا دليل على ثبوت النجاسة بالبينة كما عرفت.

ثم انّ هذا كلّه فيما إذا لم نقل باعتبار خبر العدل الواحد في الموضوعات وإلاّ فلا حاجة إلى إثبات حجية البيِّنة فيها كما هو ظاهر. نعم ، تظهر ثمرة حجية البيِّنة في نفسها فيما إذا قامت على نجاسة ما أخبر ذو اليد عن طهارته وسيجي‌ء بيان ذلك عن قريب.

ثبوت النجاسة باخبار العدل‌

(١) المعروف أن خبر الواحد لا يكون حجّة في الموضوعات ، وذهب جماعة إلى حجّيته فيها كما هو حجّة في الأحكام وهذا هو الصحيح ، والدليل على اعتباره في الموضوعات هو الدليل على حجيته في الأحكام ، والعمدة في ذلك هو السيرة العقلائية القطعية ، لأنهم لا يزالون يعتمدون على أخبار الآحاد فيما يرجع إلى معاشهم‌

__________________

(*) الأظهر ثبوتها به بل لا يبعد ثبوتها بمطلق قول الثقة وإن لم يكن عدلاً.

٢٦٤

ومعادهم ، وحيث لم يردع عنها في الشريعة المقدسة فتكون حجّة ممضاة من قبل الشارع بلا فرق في ذلك بين الموضوعات والأحكام.

وقد يتوهّم كما عن غير واحد منهم أن السيرة مردوعة بما ورد في ذيل رواية مسعدة المتقدِّمة من قوله عليه‌السلام « والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيِّنة » حيث حصر ما يثبت به الشي‌ء في الاستبانة وقيام البيِّنة عليه فلو كان خبر العادل كالبينة معتبراً شرعاً لبيّنه عليه‌السلام لا محالة ، ويدفعه :

أوّلاً : أن الرواية ليست بصدد حصر المثبت فيهما لوضوح أن النجاسة وغيرها كما تثبت بهما كذلك تثبت بالاستصحاب وبأخبار ذي اليد كما يأتي عن قريب.

وثانياً : أن الرواية غير صالحة للرادعية لضعفها.

وثالثاً : أن عدم ذكر إخبار العادل في قبال البيِّنة والعلم إنما هو لأجل خصوصية في مورد الرواية ، وهي أن الحلية في مفروض الرواية كانت مستندة إلى قاعدة اليد في مسألة الثوب ومن المعلوم أنه لا اعتبار لإخبار العادل مع اليد ، وكأنه عليه‌السلام بصدد بيان ما هو معتبر في جميع الموارد على وجه الإطلاق.

ورابعاً : البيِّنة في الرواية كما تقدم بمعنى الحجة وما به البيان وهو الذي دلت الرواية على اعتباره في قبال العلم الوجداني ، وأمّا أن الحجة أي شي‌ء فلا دلالة للرواية عليه ، ولا بدّ من إحراز مصاديقها من الخارج ، وقد استكشفنا حجية إخبار العدلين من اعتمادهم عليهم‌السلام عليه في المخاصمات ، فاذا أقمنا الدليل من السيرة أو غيرها على اعتبار خبر العدل أيضاً فلا محالة يدخل تحت كبرى الحجة وما به البيان ، ويكون معتبراً في جميع الموارد على نحو الإطلاق بلا فرق في ذلك بين الموضوعات والأحكام.

بل يمكن أن يستدل على حجية إخبار العادل في الموضوعات بمفهوم آية النبإ على تقدير أن يكون لها مفهوم. نعم ، الاستدلال على حجية الخبر في الموضوعات الخارجية بالأخبار الواردة في موارد خاصة في غاية الإشكال فلا يمكن أن يستدل عليه بما دلّ‌

٢٦٥

وبقول ذي اليد وإن لم يكن عادلاً (١).

______________________________________________________

على اعتبار خبر الثقة في دعوى أن المرأة امرأته (١) ، وما ورد في جواز الاعتماد على أذان المؤذن الثقة (٢) وغير ذلك مما ورد في موارد معينة. فإن غاية ما يثبت بذلك هو اعتبار خبر الثقة في تلك الموارد خاصة ولا يمكن التعدي عنها إلى غيرها ، والعمدة في اعتباره هو السيرة العقلائية وهي كما مرّ غير مختصة بمورد دون مورد.

بل وعليها لا نعتبر العدالة أيضاً في حجية الخبر لأن العقلاء لا يخصصون اعتباره بما إذا كان المخبر متجنباً عن المعاصي وغير تارك للواجبات ، إذ المدار عندهم على كون المخبر موثوقاً به وإن كان فاسقاً أو خارجاً عن المذهب ، بل ولا نعتبر الوثوق الفعلي أيضاً في إخباره ، فان اللاّزم أن يكون المخبر موثوقاً به في نفسه سواء أفاد إخباره الوثوق للسامع فعلاً أم لم يفده.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في اعتبار خبر العدل في الموضوعات ومع ذلك فالأولى رعاية الاحتياط.

ثبوت النجاسة بقول ذي اليد‌

(١) اعتبار قول ذي اليد في طهارة ما بيده ونجاسته على ما ذكره صاحب الحدائق قدس‌سره أمر اتفاقي بين الأصحاب ولا خلاف فيه عندهم (٣) وإنما الكلام في‌

__________________

(١) موثقة زرعة عن سماعة قال : « سألته عن رجل تزوّج أمة ( جارية ) أو تمتع بها ، فحدثه رجل ثقة أو غير ثقة فقال : إن هذه امرأتي وليست لي بيِّنة ، فقال : إن كان ثقة فلا يقربها وإن كان غير ثقة فلا يقبل منه » المروية في الوسائل ٢٠ / ٣٠٠ أبواب عقد النكاح ب ٢٣ ح ٢.

(٢) كما ورد في جملة من الأخبار وقد عقد لها في الوسائل باباً وفي بعضها : « المؤذن مؤتمن » وفي آخر : « المؤذنون أُمناء المؤمنين على صلاتهم وصومهم ولحومهم ودمائهم ... » المرويتين في الوسائل ٥ : ٣٧٨ / أبواب الأذان والإقامة ب ٣ ح ٢ ، ٧. ويستفاد اعتبار أذان الثقة أيضاً عما ورد في عيون الأخبار عن أحمد بن عبد الله القزويني ( القروي ) عن أبيه المروية في الوسائل ٤ : ٢٨١ / أبواب المواقيت ب ٥٩ ح ٢. وما رواه الفضل بن شاذان في العلل عن الرضا عليه‌السلام المروي في الوسائل ٥ : ٤١٨ / أبواب الأذان والإقامة ب ١٩ ح ١٤.

(٣) الحدائق ٥ : ٢٥٢.

٢٦٦

مدركه ، والمستند في ذلك هو السيرة العقلائية القطعية ، ولعلّ منشأها أن ذا اليد أعرف بطهارة ما في يده وأدرى بنجاسته ، هذا. على أنه يمكن أن يستدل على اعتبار إخباره بالطهارة بما علل به جواز الشهادة استناداً إلى اليد من أنه « لو لا ذلك لما بقي للمسلمين سوق » (١) وتقريب ذلك : أنّا نعلم بنجاسة جملة من الأشياء بالوجدان كنجاسة يد زيد ولباسه ولا سيما في الذبائح ، للعلم القطعي بنجاستها بالدم الذي يخرج عنها بعد ذبحها ، فلو لم نعتمد على إخبار ذي اليد بطهارة تلك الأشياء بعد تنجسها للزم الحكم بنجاسة أكثر الأشياء وهو يوجب اختلال النظام ، ومعه لا يبقى للمسلمين سوق.

وأمّا إخباره بالنجاسة فيمكن أن يستدل على اعتباره بالأخبار الناهية عن بيع الدهن المتنجس للمشتري إلاّ مع الاعلام بنجاسته ليستصبح به تحت السماء (٢) لأنها دلت دلالة تامّة على أن إخبار البائع وهو ذو اليد بنجاسة المبيع حجة على المشتري ومعتبر في حقه ، ومعه لا يجوز للمشتري أكل الدهن المتنجس ، ولا غيره من التصرّفات المتوقفة على طهارته التي كانت جائزة في حقه لولا إعلام البائع بنجاسته فلو لم يكن إخباره حجة على المشتري لكان إخباره بها كعدمه ولم يكن لحرمة استعماله فيما يشترط فيه الطهارة وجه ، ولم أرَ من استدل بهذه الأخبار على اعتبار قول ذي اليد ، مع أنها هي التي ينبغي أن يعتمد عليها في المقام ، وأمّا غيرها من الأخبار التي استدل بها على اعتباره فلا يخلو عن قصور في سندها أو في دلالتها.

__________________

(١) وهو رواية حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال له رجل : إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنه له؟ قال : نعم ، قال الرجل : أشهد أنه في يده ولا أشهد أنه له فلعلّه لغيره ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أفيحل الشراء منه؟ قال : نعم ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فلعلّه لغيره ، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه ، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق » المروية في الوسائل ٢٧ : ٢٩٢ / أبواب كيفية الحكم ب ٢٥ ح ٢.

(٢) ففي صحيحة معاوية بن وهب : « والزيت يستصبح به ». وفي موثقته : « وبينه لمن اشتراه ليستصبح به ». وفي بعض الروايات : « فأسرج به ». وفي بعضها الآخر : « فيبتاع للسراج ». المرويات في الوسائل ١٧ : ٩٧ / أبواب ما يكتسب به ب ٦ ح ١ ، ٤ ، ٣ ، ٥.

٢٦٧

منها : ما رواه عبد الله بن بكير قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أعار رجلاً ثوباً فصلى فيه وهو لا يصلي فيه قال : لا يُعلمه ، قال : قلت : فإن أعلمه؟ قال : يعيد » (١) حيث دلت على أن إخبار المعير أعني من بيده الثوب بأنه مما لا يصلي فيه حجة في حق المستعير وأنه يوجب الإعادة في حقه ، إلاّ أنها قاصرة الدلالة على اعتبار قول ذي اليد ، إذ لا تجب إعادة الصلاة على من صلّى في النجس جاهلاً ثم علم بوقوعها فيه ، فضلاً عمّا إذا لم يعلم بذلك بل أخبر به ذو اليد.

ومنها : غير ذلك من الروايات فليلاحظ. وعلى الجملة إن السيرة العقلائية ولزوم الاختلال ، والأخبار الواردة في وجوب إعلام المشتري بنجاسة الدهن ، تقتضي اعتبار قول ذي اليد مطلقاً.

وقد استثني من ذلك مورد واحد وهو إخبار ذي اليد بذهاب ثلثي العصير بعد غليانه فيما إذا كان ممن يرى حلية شربه قبل ذهاب الثلثين أو كان يرتكبه لفسقه وذلك لأجل النص (٢). بل وفي بعض الأخبار اشتراط الايمان والورع أيضاً في اعتبار الإخبار عن ذهاب ثلثي العصير (٣) الذي هو إخبار عن حليته وعن طهارته أيضاً إذا قلنا بنجاسة العصير العنبي بالغليان ، وهذه مسألة أُخرى سنتكلّم عليها في محلّها (٤) إن شاء الله ، والكلام فعلاً في اعتبار قول ذي اليد في غير ما قام الدليل فيه على عدم اعتباره.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٨٨ / أبواب النجاسات ب ٤٧ ح ٣.

(٢) صحيحة معاوية بن عمار قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج ويقول قد طبخ على الثلث وأنا أعرف أنه يشربه على النصف أفأشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال : لا تشربه ، قلت : فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث ولا يستحله على النصف ، يخبرنا أن عنده بختجاً على الثلث وقد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه؟ قال : نعم. المروية في الوسائل ٢٥ : ٢٩٣ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٧ ح ٤.

(٣) ففي موثقة عمار : « إن كان مسلماً ورعاً ( مأموناً ) فلا بأس » وفي رواية على بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام « لا يصدق إلاّ أن يكون مسلماً عارفاً » المرويتين في الوسائل ٢٥ : ٢٩٤ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٧ ح ٦ ، ٧.

(٤) ذيل المسألة [٣٧٠] السادس : ذهاب الثلثين ....

٢٦٨

ولا تثبت بالظن المطلق على الأقوى (١).

[١٣٠] مسألة ٧ : إذا أخبر ذو اليد بنجاسته وقامت البيِّنة على الطهارة قدّمت البيِّنة (*) (٢). وإذا تعارض البيِّنتان تساقطتا إذا كانت بيِّنة الطهارة مستندة إلى العلم وإن كانت مستندة إلى الأصل تقدّم بيِّنة النجاسة (٣).

______________________________________________________

(١) قد تقدّم الكلام في وجه ذلك ، فراجع.

(٢) فان قلنا إن البيِّنة بما هي لا اعتبار بها والمعتبر هو إخبار العادل والثقة وبهذا صارت البيِّنة أيضاً حجة ، لأنها إخبار عادل انضم إليه إخبار عادل آخر ، فأخبار ذي اليد متقدم على البيِّنة وذلك : لأن مدرك اعتبار الخبر الواحد هو السيرة وبناء العقلاء ومن الظاهر أنه لا بناء منهم على اعتباره عند معارضة أخبار ذي اليد ، ومن هنا لا يعتنى بإخبار العادل إذا أخبر بغصبية ما في يد أحد أو بوقفيته.

وأمّا إذا قلنا باعتبار البيِّنة بما هي بيِّنة ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقضي بالحجج وقد طبّقها على شهادة عدلين ، فالبينة تتقدم على إخبار ذي اليد لإطلاق دليل اعتبارها ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقدّمها على قول ذي اليد في موارد المخاصمة وكان يقضي فيها بالبيِّنات. مع أن الغالب فيها قيام البيِّنة على خلاف قول ذي اليد. وهذه ثمرة مهمة بين القول باعتبار البيِّنة بما هي ، والقول باعتبارها من أجل حجّية خبر العادل.

تعارض البيِّنتين‌

(٣) إذا قامت بيِّنة على نجاسة شي‌ء وبيِّنة اخرى على طهارته فلا يخلو : إما أن تستند إحدى البيِّنتين إلى العلم الوجداني وثانيتهما إلى الأصل بناء على جواز الشهادة استناداً إلى الأصل ، وإمّا أن يستند كل منهما إلى الأصل ، وإما أن يستندا إلى العلم الوجداني فالصور ثلاث :

__________________

(*) هذا إذا علم أو احتمل استناد البيِّنة إلى الحس أو ما بحكمه ، وبذلك يظهر الحال في بقية المسائل.

٢٦٩

[١٣١] مسألة ٨ : إذا شهد اثنان بأحد الأمرين وشهد أربعة بالآخر (١) يمكن بل لا يبعد (*) تساقط الاثنين بالاثنين ، وبقاء الآخرين.

______________________________________________________

أمّا الصورة الاولى : فلا كلام في أن البيِّنة المستندة إلى العلم متقدمة على البيِّنة الأُخرى المستندة إلى الأصل ، لأن الأصل إنما يجري مع الشك ، ولا شك مع قيام البيِّنة على طهارة شي‌ء أو نجاسته ، فلا مستند للشهادة في البيِّنة المستندة إلى الأصل.

وأمّا الصورة الثانية : وهي صورة استناد البينتين إلى الأصل ، فإن استندت بيِّنة الطهارة إلى أصالة الطهارة ، واستندت بيِّنة النجاسة إلى الاستصحاب قدمت بيِّنة النجاسة ، فإنّه تثبت بها النجاسة السابقة فيجري في مورده الاستصحاب ، وهو حاكم على أصالة الطهارة. وإن استند كل منهما إلى الاستصحاب فلا محالة يقع التعارض بينهما بالإضافة إلى الحالة السابقة ، فإن إحدى البينتين تخبر بالدلالة الالتزامية عن نجاسة الشي‌ء سابقاً كما أن البيِّنة الأُخرى تخبر عن طهارته السابقة بالدلالة الالتزامية ومن الظاهر أن الشي‌ء الواحد يستحيل أن يتصف بحالتين متضادتين في زمان واحد فتتعارض البيِّنتان وتتساقطان بالمعارضة ، ويرجع إلى قول ذي اليد إن كان ، أو إلى غيره من مثبتات الطهارة أو النجاسة.

وكذلك الحال في الصورة الثالثة أعني صورة استناد البينتين إلى العلم الوجداني لأن الشي‌ء الواحد لا يمكن أن يكون طاهراً ونجساً في زمان واحد فتتعارض البيِّنتان وتتساقطان ، لما قدّمناه في محله من أن دليل الاعتبار لا يشمل كلا المتعارضين لاستحالة اجتماع الضدين أو النقيضين ، ولا أحدهما المعيّن لأنه بلا مرجح ، ولا أحدهما لا بعينه لأنه ليس فرداً ثالثاً غيرهما ، سواء أكانت الشبهة موضوعية أم كانت حكمية فلا بدّ من الرجوع إلى غير البيِّنة من المثبتات.

أكثرية إحدى البيِّنتين عدداً‌

(١) بأن كان عدد إحدى البينتين أكثر من عدد الأُخرى ، وقد احتمل في المتن بل لم‌

__________________

(*) بل هو بعيد جدّاً.

٢٧٠

يستبعد تقديم بيِّنة الأكثر بدعوى : أن الاثنين يعارض الاثنين من الأربعة فيبقى الاثنان الآخران منها سليماً عن المعارض.

إلاّ أن هذه الدعوى لا يمكن تتميمها بدليل ، وذلك لأن دليل اعتبار البيِّنة إنما دل على اعتبار الشهادات والبيِّنات الخارجية ، ومن الظاهر أنه يستحيل أن يشمل كل بيِّنة خارجية حتى ما كان منها متعارضاً ، لأن شموله لأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، وشموله لهما مستلزم للجمع بين المتناقضين أو الضدين فلا محيص من سقوط المتعارضين عن الاعتبار ، ونسبة دليل الاعتبار إلى كل من الأكثر والأقل على حد سواء ، فان كل اثنين من الأربعة تعارض شهادتهما شهادة البيِّنة الأُخرى ، فمقتضى المعارضة سقوط المتعارضين عن الاعتبار كانا متساويين في العدد أم كانا مختلفين.

وعلى الجملة حال البيِّنتين المتعارضتين حال الخبرين المتعارضين ، فكما أن رواية إذا عارضها روايتان لا يمكن أن يقال : إن واحدة منهما تعارض الرواية الواحدة وتبقى الثانية سليمة عن المعارض ، لأن نسبة دليل الاعتبار إلى كل من المتعارضين على حد سواء ، والرواية الواحدة معارضة لكل من الروايتين فيسقط المتعارضان معاً عن الاعتبار ، فكذلك الحال في البيِّنتين المتعارضتين ، ومن الغريب أنه قدس‌سره لم يلتزم بذلك في الخبرين والتزم به في المقام.

نعم ، ذكرنا في محلّه أن إحدى الروايتين المتعارضتين إذا كانت مشهورة أي واضحة وظاهرة عند الجميع سقطت النادرة من الاعتبار إلاّ أن هذا أجنبي عن الترجيح بالأكثرية ، حيث إنها لا توجب سقوط معارضها عن الاعتبار فالشهرة الموجبة للترجيح أو السقوط بمعنى الظهور والوضوح لا بمعنى الكثرة العددية.

أجل ، ورد في بعض فروع القضاء وهو ما إذا ادعى أحد مالاً على آخر وأقام بيِّنة وأقام من عليه المال أيضاً بيِّنة على خلاف المدعي ، ووصلت النوبة إلى الاستحلاف ولم يكن ترجيح لأحدهما على الآخر ، أن الحلف يتوجه إلى من كانت بينته أكثر (١)

__________________

(١) صحيحة أبي بصير قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يأتي القوم فيدعي داراً

٢٧١

[١٣٢] مسألة ٩ : الكرية تثبت بالعلم والبيِّنة (١) وفي ثبوتها بقول صاحب اليد وجه (*) وإن كان لا يخلو عن إشكال (٢).

______________________________________________________

ولكن ذلك ليس من جهة أن الكثرة العددية توجب سقوط معارضتها عن الاعتبار وإلاّ لم تصل النوبة إلى الاستحلاف بل هو من جهة الترجيح في الاستحلاف مع فرض بقاء البينتين على اعتبارهما في ذاتهما ، وفي بعض الروايات أن الاستحلاف يستخرج بالقرعة (١). وكيف كان الترجيح بالكثرة العددية لا يرجع إلى محصل.

ما تثبت به الكرِّيّة‌

(١) إذ لا امتياز للكرية من بين سائر الموضوعات الخارجية فلا إشكال في أنها تثبت بالبينة كما تثبت بالعلم الوجداني.

(٢) التحقيق أن الكرية لا تثبت باخبار ذي اليد ، ولا تقاس الكرية بالطهارة والنجاسة ، حيث إنّا أثبتنا اعتبار قوله فيهما بالسيرة المستمرة إلى زمانهم عليهم‌السلام وببعض الأخبار المتقدمة ، وأمّا في المقام فلم ترد فيه رواية وأمّا السيرة فهي أيضاً غير متحققة ، فإن السيرة العملية مقطوعة العدم إذ الكرية بالكيفية المتعارفة في زماننا لم تكن ثابتة في زمانهم عليهم‌السلام حتى يقال بأن السيرة العملية جرت على قبول قول ذي اليد في الكرية ، فلو أخبر مالك الدار عن أن الماء الموجود في الحوض كر لا دليل على اعتبار قوله.

__________________

في أيديهم ويقيم البيِّنة ، ويقيم الذي في يده الدار البيِّنة أنه ورثها عن أبيه ولا يدري كيف كان أمرها؟ قال : أكثرهم بيِّنة يستحلف وتدفع إليه » المروية في الوسائل ٢٧ : ٢٤٩ / أبواب كيفية الحكم ب ١٢ ح ١.

(*) لكنه ضعيف.

(١) كما يستفاد من صحيحتي عبد الرحمن بن أبي عبد الله وداود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه‌السلام وغيرهما مما نقله في الوسائل ٢٧ : ٢٥١ / أبواب كيفية الحكم ب ١٢ ح ٥ ، ٦.

٢٧٢

وأمّا دعوى السيرة الارتكازية بتقريب أن المتشرعة بارتكازهم لا يفرّقون في قبول قول ذي اليد بين الطهارة والكرية ، وأن الكرية أيضاً لو كانت متحققة في زمانهم عليهم‌السلام لكانوا يعتمدون على إخباره بالكرية نظير الإجماع التقديري الذي ادعاه شيخنا الأنصاري قدس‌سره في دليل الانسداد (١).

فهي أيضاً لا ترجع إلى ركن وثيق وذلك : لأن الارتكاز إن رجع إلى المكلفين بأنفسهم كان حكمه حكم الأُمور الموجودة خارجاً ، نظير اشتراط التساوي في المالية في باب المعاملات ، لأن المعاملة مبادلة في أشخاص العوضين مع التحفظ على مقدار ماليتهما ، حيث إن البشر يحتاج إلى تبديل الأعيان بالضرورة لاحتياج بعضهم إلى اللباس وآخر إلى الفراش ، وثالث إلى المأكول ، فيتبادلون لرفع احتياجاتهم مع التحفظ على مالية الأموال ، فاشتراط التساوي بين العوضين أمر ارتكازي للعقلاء بأنفسهم ، فلو باع ما يسوى فلساً بدرهم يثبت للمشتري خيار تخلف الشرط الارتكازي وهو كالشرط المصرح به حقيقة ، وبهذا أثبتنا خيار الغبن في محله حيث لم نجد دليلاً آخر عليه هذا ، فيما إذا كان الارتكاز راجعاً إلى نفس المكلفين.

وأمّا إذا لم يرجع إلى المكلفين بأنفسهم فلا اعتبار به وهذا كالارتكاز على قبول قول ذي اليد في الإخبار عن الكرية ، إذ السيرة بما هي لا تكون حجة بل يتوقف اعتبارها على أمر آخر أجنبي عن المكلفين ، وهو تقريرهم وعدم ردعهم عليهم‌السلام عنها ، واستكشاف ذلك إنما يمكن فيما إذا كان العمل بمرأى ومسمع منهم عليهم‌السلام فان في مثله إذا لم يردعوا عنها استكشف عنه إمضاؤهم بذلك العمل وهذا غير متحقق في السيرة الارتكازية ، لأنّا لو سلمنا أن المتشرعة في عصرهم عليهم‌السلام لو أخبرهم ذو اليد بكرية ماء لعملوا به لم يترتب على ذلك أثر شرعي فإن السيرة بما هي لا حجية فيها كما مر بل تتوقف على الإمضاء وعدم الردع عنها ، ولا علم لنا بأن الأئمة لم يكونوا يردعون عن عملهم بإخبار ذي اليد عن الكرية‌

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ١٨٤.

٢٧٣

كما أن في إخبار العدل الواحد أيضاً إشكالاً (*) (١).

[١٣٣] مسألة ١٠ : يحرم شرب الماء النجس (٢) إلاّ في الضرورة‌

______________________________________________________

على تقدير تحقّقها في زمانهم ، فالإنصاف أن السيرة في الكرية غير تامّة.

ويزيد هذا الاشكال ويقوى في إخبار ذي اليد عما هو خارج عن تحت اختياره بالقبلة في داره أو في غيرها ، لأن الدار وإن كانت تحت يده إلاّ أن كون الكعبة في هذا الطرف أو في الجانب الآخر أمر أجنبي عنه بالمرة فلا تثبت القبلة باخباره ، اللهم إلاّ أن يوجب الوثوق أو كان المخبر بنفسه موثوقاً به.

(١) قد عرفت عدم الإشكال في اعتبار خبر العدل الواحد في الموضوعات الخارجية كالأحكام ، وأسلفنا أن الكرية لا امتياز لها عن بقية الموضوعات وعليه فخبر العدل الواحد مما لا إشكال في اعتباره في الكرية كغيرها.

حرمة شرب الماء النجس‌

(٢) للروايات المتضافرة (١) وإن لم ينقل صاحب الوسائل في هذا الباب غير رواية‌

__________________

(*) ولا يبعد ثبوتها به بل باخبار مطلق الثقة.

(١) كصحيحة حريز ورواية أبي خالد القماط الناهيتين عن شرب الماء الذي تغيّر بريح الجيفة أو بغيرها من النجاسات المرويتين في الوسائل ١ : ١٣٧ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١ ، ٤ ونظيرهما موثقة سماعة المروية في الباب المذكور [ ح ٦ ] وصحيحة علي بن جعفر وموثقة سعيد الأعرج الناهيتان عن شرب ماء الجرة التي فيها ألف رطل وقع فيه أوقية بول أو التي تسع مائة رطل يقع فيها أوقية من دم ، المرويتان في الوسائل ١ : ١٥٦ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ١٦ ، ٨. وموثقتا سماعة وعمار الساباطي الآمرتان بإهراق الماءين اللذين وقع في أحدهما قذر لا يدري أيهما هو والتيمم بعد ذلك المرويتان في الوسائل ١ : ١٥١ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ٢ ، ١٤. وموثقة أبي بصير حيث ورد في ذيلها : « فإن أدخلت يدك في الماء وفيها شي‌ء من ذلك ( قذر بول أو جنابة ) فأهرق ذلك الماء ». ونظيرها صحيحة ابن أبي نصر

٢٧٤

ويجوز سقيه للحيوانات (١) بل وللأطفال أيضاً (٢).

______________________________________________________

واحدة (١) على أن حرمة شرب الماء النجس مما لم يقع فيه خلاف بين الأصحاب بل كادت أن تلحق بالواضحات.

(١) وهذا للاتفاق على جواز سقي الماء النجس للحيوانات ، لأنها خارجة عن سنخ البشر ولم يدلنا دليل على حرمة سقيه للحيوان. نعم ، لا تبعد كراهته كما تستفاد من بعض الأخبار (٢).

(٢) قد وقع الإشكال في جواز سقي الماء النجس للأطفال بعد الاتفاق على جواز سقيه للحيوان وعلى حرمة سقيه للمكلفين. وربما قيل بعدم الجواز نظراً إلى أن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيتين ، وحرمة شرب النجس على المكلفين تكشف عن وجود مفسدة في شربه ، وعليه فلا يجوز سقيه للأطفال لأنهم وإن لم يكلفوا بالاجتناب عن شربه ، لعدم قابليتهم للتكليف إلاّ أن مفسدة شربه باقية بحالها ، ولا يرضى الشارع بإلقاء الأطفال في المفسدة.

وللمناقشة في ذلك مجال واسع :

أمّا أوّلاً : فلأن المفاسد والمصالح إنما نعترف بهما في الأحكام أو في متعلقاتها ، ومع عدم الحكم لا طريق إلى كشف المفسدة والمصلحة ، ولعلّ المفسدة مختصة بالشرب‌

__________________

وموثقة سماعة المرويات في الوسائل ١ : ١٥٢ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ٤ ، ٧ ، ١٠ فان الماء النجس لو جاز شربه لم يكن لأمره عليه‌السلام بالإهراق في تلك الروايات وجه إلى غير ذلك من الأخبار.

(١) وهي موثقة سعيد الأعرج التي قدمنا نقلها وقد رواها في الوسائل في الباب المتقدم وأيضاً في ص ١٦٩ ب ١٣ ح ٢.

(٢) هو ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن البهيمة تسقى أو تطعم ما لا يحل للمسلم أكله أو شربه أيكره ذلك؟ قال : نعم ، يكره ذلك » المروية في الوسائل ٢٥ : ٣٠٩ / أبواب الأشربة المحرمة ب ١٠ ح ٥.

٢٧٥

الصادر عن المكلفين فلا مفسدة في شرب الأطفال أصلاً ، فحكمه حكم شرب الماء الطاهر بالإضافة إليهم.

وأمّا ثانياً : فلأ لو سلمنا وجود المفسدة في شرب غير المكلفين فلا نسلم أنها بمرتبة تقتضي حرمة التسبيب إليها ، فلا يحرم على المكلفين إيجادها بواسطة الأطفال والمجانين وذلك لأن المفسدة الكائنة في الأفعال على نحوين :

فتارة : تبلغ مفسدتها من الشدة والقوة مرتبة لا يرضى الشارع بتحققها خارجاً ولو بفعل غير المكلفين ، وهذا نظير شرب الخمر حيث يحرم سقيه الصبيان ، وفي مثله يجب الردع والزجر فضلاً عن جواز التسبيب إليه ، وكذا في مثل اللواط والزنا ونظائرهما ، وقد لا يرضى بمطلق وجوده وصدوره ولو من غير الإنسان فضلاً عن الأطفال كما في القتل فإنّه مبغوض مطلقاً ولا يرضى بصدوره ولو كان بفعل حيوان أو جماد ، فيجب على المكلفين ردع الحيوان ومنع الجماد عن مثله.

وأُخرى : لا تبلغ المفسدة تلك الدرجة من الشدّة ، وفي مثلها لم يدل دليل على حرمة إيجادها بفعل غير المكلفين ، لأن المبغوض إنما هو صدورها عن المكلفين ، ولا دليل على مبغوضية مطلق وجودها عند الشارع ، وما نحن فيه من هذا القبيل حيث لم يقم دليل على مبغوضية شرب النجس على الإطلاق فلا مانع من سقيه للأطفال ، ولا سيما إذا كانت النجاسة مستندة إلى نفس الأطفال ، لتنجس أيديهم أو أفواههم الموجب لتنجس الماء بملاقاتهما ، هذا كله في السقي.

وهل يجب الإعلام بنجاسته إذا شربه أحد المكلفين جهلاً أو نسياناً؟

الظاهر عدم وجوبه ، وذلك لعدم الدليل عليه ، لأن أدلّة وجوب النهي عن المنكر مختصة بما إذا كان الفاعل عالماً ملتفتاً إلى حرمة عمله ، بل قد تجب مدافعته حينئذٍ وردعه مع تحقق شرائطه ، وأمّا إذا صدر عن الجاهل بحرمته فلم يدل دليل على وجوب إعلامه وردعه ، ولو مع العلم بفعلية المفسدة في حقه ، لأنه لا يصدر على وجه مبغوض لجهل فاعله وهو غير محرم عليه ظاهراً ، فلا يدخل اعلامه تحت عنوان‌

٢٧٦

ويجوز بيعه مع الإعلام (١).

______________________________________________________

النهي عن المنكر لعدم كون الفعل منكراً في حقه ، ولا تحت عنوان تبليغ الأحكام الكلية الإلهية وهو ظاهر.

هذا كلّه في موارد إباحة الفعل ظاهراً وأظهر منه الحال في موارد الإباحة الواقعية كما إذا صدر الفعل عن نسيان أو غفلة ، فإن الناسي والغافل غير مكلّفين واقعاً ، ولا يصدر الفعل عنهما على وجه حرام.

وهل يحرم التسبيب إلى شرب الماء النجس وإصداره عن المكلّفين ، كما إذا قدّم الماء النجس إلى غيره ليشربه وهو جاهل؟

الأوّل هو الصحيح ، لأن التسبيب إلى الحرام حرام وإن قلنا بعدم وجوب الاعلام وذلك : لأن النهي المتعلق بشي‌ء يدلنا بحسب الارتكاز العرفي أن مبغوض الشارع مطلق وجوده سواء أكان مستنداً إلى المباشرة أم إلى التسبيب ، فاذا نهى السيد عبده عن الدخول عليه فيستفاد منه بالارتكاز العرفي أن المبغوض عنده مطلق الدخول سواء أكان بمباشرة العبد كما إذا دخل عليه بنفسه أم كان بتسبيبه ، كما إذا غرّ غيره وأدخله على مولاه ، وقد ذكرنا في محله أن الأخبار الناهية عن بيع الدهن المتنجس إلاّ مع الإعلام للمشتري (١) شاهدة على أن النهي عن عمل يكشف عن مبغوضية إيجاده على الإطلاق من دون فرق في ذلك بين صدوره عنه بالمباشرة وصدوره بالتسبيب.

(١) وهو كما أفاده في المتن ، وتفصيل الكلام فيه موكول إلى محلّه (٢). ويأتي إجمال القول فيه عند تعرّض الماتن لحكم بيع الميتة إن شاء الله.

__________________

(١) قد قدّمنا الأخبار الواردة في ذلك في ذيل الصفحة ٢٦٧ ، فراجع.

(٢) مصباح الفقاهة ١ : ١٥١.

٢٧٧

[ فصل في الماء المستعمل ]

الماء المستعمل في الوضوء طاهر مطهِّر من الحدث والخبث (١).

______________________________________________________

فصل في الماء المستعمل

(١) قد يستعمل الماء في تنظيف البدن أو اللباس أو غير ذلك من القذارات العرفية من دون أن يحكم بنجاسته ، وقد يستعمل في إزالة الخبث مع الحكم بنجاسته ، وهذان القسمان لا خلاف في حكمهما ، فإن الأول طاهر ومطهّر بخلاف الثاني ، وفي غير ذلك قد يستعمل الماء في رفع الحدث الأصغر ، وقد يستعمل في ما لا يرتفع به الحدث أو الخبث وهذا كالغسل المندوب دون أن يكون المغتسل محدثاً بالأكبر ، أو كان محدثاً به ولكنه بنينا على عدم ارتفاعه به ، وكالوضوء التجديدي. وقد يستعمل في رفع الحدث الأكبر وقد يستعمل في رفع الخبث من دون أن يحكم بنجاسته كماء الاستنجاء فهذه أقسام أربعة ، ويقع الكلام هنا في القسم الأول ، وهو الماء المستعمل في الوضوء وسيجي‌ء الكلام على الأقسام الأُخر إن شاء الله. فنقول :

القسم الأول من الماء المستعمل‌

لا ينبغي الإشكال في طهارة الماء المستعمل في رفع الحدث الأصغر وجواز استعماله في الوضوء والغسل ثانياً ، لإطلاقات طهارة الماء ، ومطهّريته ، ولما ورد في ذيل رواية أحمد بن هلال الآتية (١) حيث قال : « وأمّا الماء الذي يتوضأ الرجل به فيغسل به وجهه ويده في شي‌ء نظيف فلا بأس أن يأخذه غيره ويتوضأ به » (٢) ولما ورد في بعض‌

__________________

(١) في ص ٢٨٣.

(٢) الوسائل ١ : ٢١٥ / أبواب الماء المضاف ب ٩ ح ١٣. ولا يخفى أن الراوي عن الإمام عليه‌السلام هو عبد الله بن سنان لا أحمد بن هلال.

٢٧٨

وكذا المستعمل في الأغسال المندوبة (١)

______________________________________________________

الأخبار من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا توضأ أخذ ما يسقط من وضوئه فيتوضؤون به (١) إلى غير ذلك من الأخبار.

وعلى الجملة أن طهارة المستعمل في الوضوء من ضروريات الفقه بل قيل إنها من ضروريات المذهب.

نعم ، نسب إلى أبي حنيفة (٢) القول بنجاسته نجاسة مغلّظة تارة ومخففة اخرى وإن حكي عنه القول بطهارته أيضاً إلاّ أن الحكاية ضعيفة ، والذي نقله ابن حزم وغيره عنه هو القول بنجاسته نجاسة مغلّظة أو مخففة ، وهو عجيب غايته فإنّه لا مسوّغ للقول بنجاسته فضلاً عن الحكم بغلظتها أو بخفتها. وربما فصل بين ما إذا كان الماء المستعمل بمقدار كثير فحكم بنجاسته ، وما إذا كان بمقدار يسير كالقطرات المترشحة منه على الثوب أو البدن فحكم بطهارته منّة منه على الناس فان نجاسته حرجية.

القسم الثاني من الماء المستعمل‌

(١) هذا هو القسم الثاني من أقسام الماء المستعمل ، وهو الماء الذي يستعمل على وجه الندب أو الوجوب من غير أن يرتفع به حدث أو خبث ، وهذا كالمستعمل في الغسل الواجب بنذر وشبهه والمستعمل في الأغسال المستحبة وفي الوضوء ندباً كالوضوء التجديدي ، فإن الماء لم يستعمل في شي‌ء من هذه الموارد في رفع الحدث أو الخبث. أمّا بالنسبة إلى الوضوء التجديدي فالأمر ظاهر ، وأمّا بالنسبة إلى الأغسال المستحبة سواء وجبت بالعارض أم لم تجب فعدم ارتفاع الحدث بها إما لفرض أن‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٠٩ / أبواب الماء المضاف ب ٨ ح ١.

(٢) نقله عنه في المحلى جلد ١ ص ١٨٥ وص ١٤٧ على ما قدّمنا حكايته وحكاية غيره من أقوال العامّة في تعليقة ص ١٢٥ ١٢٧.

٢٧٩

المغتسل لم يكن محدثاً ، أو من جهة البناء على أنها لا تؤثر في رفع الحدث ، وسيأتي الكلام على هذا في محلّه (١).

وحكم هذا القسم حكم الماء غير المستعمل ، فيصح استعماله في رفع الحدث بكلا قسميه كما يكتفى به في إزالة الأخباث. وبالجملة أن حاله بعد الاستعمال كحاله قبله فلا مانع من استعماله ثانياً فيما قد استعمل فيه أوّلاً من الغسل المستحب والوضوء التجديدي وهكذا ثالثاً ورابعاً ... والوجه في ذلك هو إطلاقات مطهرية الماء ، هذا.

وقد نسب إلى المفيد قدس‌سره استحباب التنزه عن المستعمل في الطهارة المندوبة من الغسل والوضوء بل المستعمل في الغسل المستحب كغسل اليد للأكل (٢) وأورد عليه الأصحاب بأنه لا دليل من الأخبار ولا من غيرها على استحباب التنزه عن الماء المستعمل ، وأجاب عن ذلك شيخنا البهائي قدس‌سره في الحبل المتين (٣) بأن المستند فيما ذكره المفيد هو ما رواه محمد بن علي بن جعفر عن الرضا عليه‌السلام في حديث قال : « من اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومن إلاّ نفسه ... » (٤) فإن إطلاق الغسل في قوله « من اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه ... » يعم الغسل الواجب والمندوب ، وتعجب عن أن الأصحاب كيف لم يلتفتوا إلى هذا الحديث قائلاً بأن أكثرهم لم يتنبهوا له.

وأورد عليه في الحدائق (٥) بأن صدر الرواية وإن كان مطلقاً كما عرفت إلاّ أن ذيلها قرينة على أن مورد الرواية إنما هو ماء الحمام ، حيث ورد في ذيلها : « فقلت : إن أهل المدينة يقولون : إن فيه شفاء من العين فقال : كذبوا ، يغتسل فيه الجنب من الحرام والزاني والناصب الذي هو شرهما وكل من خلق الله ، ثم يكون فيه شفاء من العين » وعليه فظاهر الرواية كراهة الاغتسال من ماء الحمام الذي يغتسل فيه الجنب وغيره‌

__________________

(١) في المسألة [٤٨٧].

(٢) المقنعة : ٦٤.

(٣) حبل المتين : ١١٦.

(٤) الوسائل ١ : ٢١٩ / أبواب الماء المضاف ب ١١ ح ٢.

(٥) الحدائق ١ : ٤٣٧.

٢٨٠