موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

بالنجس. وهذه جملة الأخبار الواردة في عدم انفعال البئر بملاقاة النجاسة. ولمكان إطلاقها لا يفرق في الحكم بالاعتصام بين قلة مائها وكثرته.

نعم ، ورد في موثقة عمار تقييد الحكم باعتصام البئر بما إذا كان فيها ماء كثير. حيث قال : « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن البئر يقع فيها زبيل عذرة يابسة ، أو رطبة ، فقال : لا بأس إذا كان فيها ماء كثير » (١) وبها يقيد إطلاقات سائر الأخبار ويفصّل بين ما إذا كان ماء البئر كثيراً فيعتصم وما إذا كان قليلاً فيحكم بانفعاله ، وفي الحدائق أسند الرواية إلى أبي بصير (٢) إلاّ أنه من اشتباه القلم.

والجواب عن ذلك بوجهين : أحدهما : أن لفظة الكثير لم تثبت لها حقيقة شرعية ولا متشرعية بمعنى الكر ، وإنما هي باقية على معناها اللغوي. ولعلّ الوجه في تقييده عليه‌السلام بذلك أن ماء البئر لو كان في مورد الرواية بقدر كر أو أقل ، لتغيّر بوقوع زبيل العذرة عليه لكثرتها. ومن هنا قيّده بما إذا كان ماؤها غزيراً وأكثر من الكر فهي في الحقيقة مفصلة بين صورتي تغيّر ماء البئر وعدمه لا أنها تفصل بين الكر والقليل.

وثانيهما : أن صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قد حصرت سبب الانفعال في ماء البئر بالتغيّر ، ودلت على طهارته بزوال تغيّره مطلقاً بلغ حدّ الكر أم لم يبلغه ولصراحتها نرفع اليد عما دلّ على اشتراط الكرية في البئر ونحمل الرواية المتقدمة على ما ذكرناه آنفاً. وأمّا رواية الحسن بن صالح الثوري (٣) التي دلت على عدم انفعال الماء في الركي إذا بلغ كراً فقد عرفت أنها ضعيفة لا نعمل بها في موردها فضلاً عن أن نقيد بها الروايات المتقدمة.

هذا كلّه فيما دلّ على عدم انفعال ماء البئر مطلقاً ، وقد عرفت أنها تامة سنداً ودلالة ، فلا بدّ بعد ذلك من صرف عنان الكلام إلى بيان ما يعارضها من الأخبار‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٤ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١٥.

(٢) الحدائق ١ : ٣٦٢.

(٣) الوسائل ١ : ١٦٠ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٨.

٢٤١

الواردة في انفعاله ليرى أن الترجيح معها أو مع معارضها.

أدلّة انفعال ماء البئر بالملاقاة‌

فنقول : قد استدلوا على نجاسة ماء البئر بملاقاة النجاسة بأربع طوائف من الأخبار :

الطائفة الأُولى : الروايات المتضافرة البالغة حدّ التواتر إجمالاً التي دلت على وجوب نزح المقدرات المختلفة باختلاف النجاسات الواقعة في البئر ، لأنها ظاهرة في أن الأمر بالنزح إرشاد إلى نجاسة البئر والنزح مقدمة لتطهيرها ، لا أن النزح واجب شرطي للوضوء والغسل والشرب من ماء البئر عند وقوع النجاسة عليه مع بقائه على الطهارة في نفسه. هذا على أن في الروايات قرائن دلتنا على أن النزح إنما وجب لإزالة النجاسة عن البئر.

فمنها : تفصيله عليه‌السلام في غير واحد من الروايات المذكورة بين تغيّر ماء البئر بالنجاسة فأوجب فيه النزح إلى أن يزول عنه تغيّره ، وبين عدم تغيّره فأمر فيه بنزح أربعين دلواً أو سبعة دلاء أو غير ذلك على حسب اختلاف النجاسات. وهذه قرينة قطعية على أن الغرض من إيجاب النزح إنما هو التطهير ، لأن البئر إذا تغيّرت بالنجاسة لا تطهر إلاّ بزواله كما تطهر في غير صورة التغيّر بنزح المقدرات.

فمن تلك الأخبار موثقة سماعة ، قال : « سألته عن الفأرة تقع في البئر أو الطير؟ قال : إن أدركته قبل أن ينتن نزحت منها سبع دلاء » (١). وما عن أبي خديجة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سئل عن الفأرة تقع في البئر قال : إذا ماتت ولم تنتن فأربعين دلواً ، وإذا انتفخت فيه أو نتنت نزح الماء كلّه » (٢).

ومنها : أي من جملة القرائن ترخيصه عليه‌السلام في التوضؤ من البئر التي وقع فيها حيوان مذبوح بعد نزح دلاء يسيرة منها وهذا كما في صحيحة علي بن جعفر‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٨٦ / أبواب الماء المطلق ب ١٨ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ١٨٨ / أبواب الماء المطلق ب ١٩ ح ٤.

٢٤٢

قال : « وسألته عن رجل ذبح دجاجة أو حمامة فوقعت في بئر ، هل يصلح أن يتوضأ منها؟ قال : ينزح منها دلاء يسيرة ثم يتوضأ منها ... » (١) لأن قوله عليه‌السلام ثم يتوضأ منها قرينة على أن نزح الدلاء المذكورة إنما كان مقدمة لتطهير البئر ومن هنا جاز التوضؤ منها بعده ولم يجز قبل نزحها.

ومنها : ما اشتملت عليه بعض الأخبار من كلمة « يطهرها » كما في صحيحة علي ابن يقطين ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن البئر تقع فيها الحمامة ، والدجاجة والفأرة أو الكلب ، أو الهرة؟ فقال : يجزيك أن تنزح منها دلاء ، فإن ذلك يطهّرها إن شاء الله تعالى » (٢) وصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : « كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن البئر تكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول ، أو دم ، أو يسقط فيها شي‌ء من عذرة كالبعرة ونحوها ، ما الذي يطهّرها حتى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقّع عليه‌السلام بخطه في كتابي : ينزح دلاء منها » (٣). فان قوله عليه‌السلام في الرواية الأُولى « يطهرها » صريح في نجاسة البئر بوقوع شي‌ء من النجاسات المذكورة فيها وأن النزح يطهرها ، كما أن قول السائل في الرواية الثانية « ما الذي يطهرها » يكشف عن أن نجاسة البئر بملاقاة النجاسة كانت مفروغاً عنها عنده ، وقرره الإمام عليه‌السلام على اعتقاده حيث بيّن مطهّرها وهو نزح دلاء يسيرة ، ولم يردع عن اعتقاده ذلك.

وعلى الجملة أن هذه الأخبار بضميمة القرائن المتقدمة صريحة الدلالة على أن البئر تنفعل بملاقاة النجس ، وأن النزح لإزالة النجاسة عنها.

الطائفة الثانية : ما دلّ على منع الجنب من أن يقع في البئر ويفسد ماءها ، كما في صحيحة عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام المروية بطريقين قال : « إذا أتيت البئر وأنت جنب فلم تجد دلواً ولا شيئاً تغرف به ، فتيمّم بالصعيد فان ربّ‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٩٣ / أبواب الماء المطلق ب ٢١ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ١٨٣ / أبواب الماء المطلق ب ١٧ ح ٢.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٦ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٢١.

٢٤٣

الماء ربّ الصعيد ، ولا تقع في البئر ، ولا تفسد على القوم ماءهم (١) وقد مرّ أن الإفساد بمعنى التنجيس على ما بيّناه في شرح قوله عليه‌السلام « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء » في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع ، فالرواية دلت على أن البئر تنفعل بوقوع الجنب فيها ، لنجاسة بدنه.

الطائفة الثالثة : ما دلّ على لزوم التباعد بين البئر والبالوعة (٢) بخمسة أذرع أو بسبعة على اختلاف الأراضي من كونها سهلة أو جبلاً ، واختلاف البئر والبالوعة من حيث كون البئر أعلى من البالوعة أو العكس ، ولا وجه لهذا الاعتبار إلاّ انفعال البئر بالملاقاة ، إذ لو كانت معتصمة لم يفرق في ذلك بين تقارب البالوعة منها وتباعدها عنها. على أن في بعضها تصريحاً بالانفعال إذا كان البعد بينهما أقل من الحد المعتبر.

الطائفة الرابعة : ما دلّ بمفهومه على انفعال البئر إذا وقع فيها ما له نفس سائلة كصحيحة أبي بصير ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عما يقع في الآبار ، فقال : أمّا الفأرة وأشباهها فينزح منها سبع دلاء إلى أن قال : وكل شي‌ء وقع في البئر ليس له دم مثل العقرب ، والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس » (٣). ومفهومها أن الشي‌ء الواقع في البئر إذا كان له دم ففيه بأس. وهذه جملة ما استدل به على عدم اعتصام ماء البئر.

أمّا الطائفة الأُولى : فأُورد عليها تارة : بأن اختلاف الأخبار الواردة في النزح يشهد على أن النزح مستحب ، ومن هنا لم يهتموا عليهم‌السلام بتقديره على وجه دقيق ، وقد حدّد في بعض الأخبار (٤) بمقدار معيّن في نجاسة ، وحدّد في بعض آخر بمقدار آخر في تلك النجاسة بعينها ، وبهذا تحمل الروايات المذكورة على الاستحباب هذا.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٧ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٢٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٩٧ / أبواب الماء المطلق ب ٢٤ ح ١ ، ٢ ، ٣.

(٣) الوسائل ١ : ١٨٥ / أبواب الماء المطلق ب ١٧ ح ١١.

(٤) كما في رواية ابن أبي عمير عن كردويه وصحيحة حريز عن زرارة فإن الأُولى دلّت على وجوب نزح ثلاثين دلواً والثانية على وجوب نزح عشرين دلواً في نجاسة واحدة كالدم والخمر ، ونظيرهما غيرهما. المرويّتين في الوسائل ١ : ١٧٩ / أبواب الماء المطلق ب ١٥ ح ٢ ، ٣.

٢٤٤

ولا يخفى أن اختلاف الأخبار في بيان الضابطة والمقادير على ما ذكرناه غير مرة لا يكون قرينة على حملها على الاستحباب بوجه ، بل الصناعة العلمية تقتضي الأخذ بالأقل وحمله على الوجوب إذ لا معارض له في شي‌ء ، ويحمل المقدار الأكثر على الاستحباب فهذا الجمع غير وجيه.

وأُخرى : بأن مقتضى الجمع العرفي بين الطائفتين هو حمل أخبار الطهارة على طبيعيها في مقابل النجاسة ، وحمل أخبار النجاسة على مرتبة ضعيفة منها لا تمنع عن شربه ولا عن الوضوء والغسل به ، ولا ترتفع بغير النزح ، ولا نحملها على مرتبة قوية من النجاسة كي تمنع عن استعمال الماء مطلقاً ، وتقع المعارضة بين الطائفتين.

وفيه أولاً : أن الجمع على هذا الوجه ليس بجمع عرفي يفهمه أهل اللسان إذا عرضنا عليهم المتعارضين ولا يكادون يفهمون من الطهارة طبيعيها ولا من النجاسة مرتبة ضعيفة منها.

وثانياً : أن الجمع بذلك جمع غير معقول ، لاستحالة اجتماع الطهارة مع النجاسة ولو بمرتبة ضعيفة منها لأنهما ضدّان واجتماعهما مستحيل ، وهل يجتمع البياض مع مرتبة ضعيفة من السواد.

فالصحيح في المقام أن يقال : إن الطائفتين من أظهر أنحاء المتعارضين فان كل واحدة منهما تنفي ما تثبته الأُخرى فلا محيص فيهما من الترجيح بمرجحات باب المعارضة المقررة في بحث التعادل والترجيح فان قلنا بدلالة الآية المباركة ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) (١) وقوله تعالى ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) (٢) على طهارة جميع أقسام المياه فالترجيح مع الطائفة الدالّة على طهارة ماء البئر لأنها موافقة للكتاب والطائفة الأُخرى مخالفة له ، وموافقة الكتاب أوّل مرجح في باب المعارضة. وأمّا إذا لم نقل بذلك وناقشنا في دلالتهما على الطهارة بالمعنى المصطلح‌

__________________

(١) الفرقان ٢٥ : ٤٨.

(٢) الأنفال ٨ : ١١.

٢٤٥

عليه كما قدّمناه سابقاً (١) فلا محالة تصل النوبة إلى المرجح الثاني وهو مخالفة العامة. وقد مرّ (٢) أن المذاهب الأربعة مطبقة على انفعال ماء البئر بالملاقاة وكذا غيرها من المذاهب على ما وقفنا عليه من أقوالهم ، فالترجيح أيضاً مع ما دلّ على طهارة البئر لأنها مخالفة للعامة فلا مناص حينئذٍ من حمل أخبار النجاسة على التقية.

هذا على أن في الأخبار المذكورة قرينة على أنهم عليه‌السلام لم يكونوا بصدد بيان الحكم الواقعي وإنما كانوا في مقام الإجمال والتقية ، وهذا كما في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع حيث سأل عما يطهّر البئر فأجاب عليه‌السلام بقوله : « ينزح دلاء منها » (٣) ، فان الدلاء جمع يصدق على الثلاثة لا محالة. ولا قائل من الفريقين بمطهرية الدلاء الثلاثة للبئر والزائد عنها غير مبين في كلامه عليه‌السلام. فمن ذلك يظهر أنه عليه‌السلام لم يكن في مقام بيان الحكم الواقعي لأن الإجمال غير مناسب لمقام الإمامة ولمقام البيان ، بل ولا يناسب لمقام الإفتاء أيضاً ، فإن فقيهاً إذا سئل عن الغسل الذي يطهر به الثوب لم يناسبه أن يجيب بأن الثوب إذا غسل يطهر ، مع أنه يعتبر التعدّد في غسله ، فإنّه مجمل وهو في مقام الإفتاء وبصدد البيان.

وكيف كان فهذه الأخبار محمولة على التقية. وبهذا يشكل الإفتاء باستحباب النزح أيضاً ، إذ بعد ما سقطت أخبار وجوب النزح عن الاعتبار ، وحملناها على التقية لم يبق هناك شي‌ء يدل على الاستحباب. وبعبارة اخرى الأخبار الآمرة بالنزح ظاهرة في الإرشاد إلى نجاسة البئر بالملاقاة ، وقد رفعنا اليد عن ظاهرها بما دلّ على طهارة البئر وعدم انفعالها بشي‌ء ، وعليه فحمل تلك الأخبار على خلاف ظاهرها من الاستحباب أو الوجوب التعبديين مع بقاء البئر على طهارتها يتوقف على دليل. نعم ، لو كانت ظاهرة في وجوب النزح تعبّداً لحملناها على الاستحباب بعد رفع اليد عن ظواهرها بما دلّ على طهارة البئر ، وعدم وجوب النزح تعبّداً.

__________________

(١) في ص ٩.

(٢) قد قدّمنا تفاصيل أقوال العامة في أوائل البحث ، فراجع ص ٢٣٥.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٦ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٢١.

٢٤٦

ونظير المقام الأخبار الواردة من طرقنا في أن القي‌ء ، والرعاف (١) ومسّ الذّكر والفرج والقبلة (٢) يوجب الوضوء كما هي كذلك عند العامّة (٣). فإنّها ظاهرة في الإرشاد إلى ناقضية الأُمور المذكورة للوضوء ، فاذا رفعنا اليد عن ظواهرها بالأخبار الدالّة على حصر النواقض في ست (٤) وليس منها تلك الأُمور ، وبنينا على أن الرعاف وأخواته لا تنقض الوضوء ، فلا يمكن حمل الأخبار المذكورة على استحباب الوضوء بعد الرعاف وأخواته ، فإنّه إنما يمكن فيما إذا كانت الأخبار ظاهرة في وجوب الوضوء بتلك الأُمور ، وإذا لم نتمكن من العمل بظاهرها لأجل معارضها فلنحملها على الاستحباب ، وأمّا بعد تسليم أنها ظاهرة في الإرشاد إلى الناقضية فلا يبقى في البين ما يدل على استحباب الوضوء إذا رفعنا اليد عنها بمعارضها ، وحيث إنه خلاف ظاهر الأخبار فلا يصار إليه إلاّ بدليل.

وتوهّم أن أخبار الطهارة معرض عنها عند أصحابنا الأقدمين ، يندفع بما قدمناه في‌

__________________

(١) كما في موثقة زرعة عن سماعة ، قال : « سألته عما ينقض الوضوء قال : الحدث تسمع صوته أو تجد ريحه ، والقرقرة في البطن إلاّ شيئاً تصبر عليه ، والضحك في الصلاة والقي‌ء. وموثقة أبي عبيدة الحذاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الرعاف والقي‌ء والتخليل يسيل الدم إذا استكرهت شيئاً ينقض الوضوء ». وصحيحة الحسن بن علي بن بنت إلياس قال : « سمعته يقول : رأيت أبي صلوات الله عليه وقد رعف بعد ما توضأ دماً سائلاً فتوضأ ». المرويات في الوسائل ١ : ٢٦٣ / أبواب نواقض الوضوء ب ٦ ح ١١ ، ١٢ ، وفي المصدر نفسه ص ٢٦٧ ب ٧ ح ١٣.

(٢) كما في صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا قبّل الرجل المرأة من شهوة أو مس فرجها أعاد الوضوء ». وفي الموثق عن عمار بن موسى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « سئل عن الرجل يتوضأ ثم يمس باطن دبره؟ قال : نقض وضوءه ، وإن مسّ باطن إحليله فعليه أن يعيد الوضوء ، وإن كان في الصلاة قطع الصلاة ويتوضأ ويعيد الصلاة وإن فتح إحليله أعاد الوضوء وأعاد الصلاة ». المرويتين في الوسائل ١ : ٢٧٢ / أبواب نواقض الوضوء ب ٩ ح ٩ ، ١٠.

(٣) راجع المجلد ١ من الفقه على المذاهب الأربعة ص ٨١ ٨٥.

(٤) الوسائل ١ : ٢٤٨ / أبواب نواقض الوضوء ب ٢ ، ٣ ، ٤.

٢٤٧

الاستدلال على طهارة البئر من المناقشة فيه كبرى وصغرى ، فراجع (١).

وأمّا الطائفة الثانية : وهي ما دلّ على منع الجنب من الوقوع في البئر ، فالجواب عنها أن صحيحة ابن أبي يعفور لم تفرض نجاسة بدن الجنب والغالب طهارته ، ولا سيما في الأعصار المتقدمة ، حيث كانوا يغتسلون بعد تطهير مواضع النجاسة من أبدانهم إذ لم يكن عندهم خزانة ولا كر آخر وانّما كانوا يغتسلون بالماء القليل ، ومعه لا محيص من تطهير مواضع النجاسة قبل الاغتسال حتى لا يتنجس به الماء ولا يبطل غسله ومع عدم نجاسة بدن الجنب لا وجه لانفعال البئر بوقوعه فيها ، إلاّ أن نلتزم بما ذهب إليه أبو حنيفة وبعض أصحابه من نجاسة الماء المستعمل في غسل الجنابة ولو مع طهارة بدن الجنب (٢) إلاّ أنه كما سنوقفك عليه في محلّه مما لا يمكن التفوه به ، فان اغتسال الجنب ليس من أحد المنجسات شرعاً.

ثم لو سلمنا نجاسة بدن الجنب فلما ذا لم يعلل عليه‌السلام منعه من الاغتسال في الآبار ببطلان الغسل حينئذٍ ، إذ لو كان بدن الجنب متنجساً فلا محالة يتنجس به الماء والغسل بالماء المتنجس باطل ، وإنما علله بقوله « ولا تفسد على القوم ماءهم » مع أن الغسل قد يتحقق في مورد لا قوم فيه ، أو نفرضه في بئر داره وهي ملكه ، وبهذا وذاك يظهر أن المراد بالإفساد في الرواية ليس هو التنجيس ، بل المراد به أحد أمرين :

أحدهما : أن الطباع البشرية تنزعج عن الماء الذي اغتسل فيه أحد ، وتتنفر عن شربه واستعماله في الأغذية ، ولا سيما بملاحظة أن البدن لا يخلو عن العرق والدسومة والوساخة ، وعليه فالمراد بالإفساد إلغاء الماء عن قابلية الانتفاع به ، فغرضه عليه‌السلام نهي الجنب عن الوقوع في البئر كي لا يستلزم ذلك تنفر القوم وعدم رغبتهم في استعمال مائها وبقاء الماء بذلك بلا منفعة.

وثانيهما : أن الآبار كالأحواض تشتمل على مقدار من الوحل والوساخة المجتمعة في قعرها ، فلو ورد عليها أحد لأوجب ذلك إثارة الوحل وبه يتلوث الماء ويسقط عن‌

__________________

(١) ص ٢٣٧.

(٢) قدّمنا نقل أقوالهم في هذه المسألة في ص ١٢٥ ، فراجع.

٢٤٨

الانتفاع به ، وهو معنى الإفساد.

وأمّا الطائفة الثالثة : وهي الأخبار الواردة في لزوم التباعد بين البئر والبالوعة فهي أيضاً على طائفتين : فمنها ما لا تعرّض فيه لنجاسة ماء البئر بعد كون البالوعة قريبة منها ، وإنما اشتمل على لزوم التباعد بينهما بمقدار ثلاثة أذرع أو أكثر. ومنها ما اشتمل على نجاسة البئر أيضاً بتقاربها من البالوعة.

أمّا الطائفة الأُولى : فهي لا تدل على نجاسة ماء البئر بالملاقاة وإنما اعتبر التباعد بينه وبين البالوعة تحفظاً على نظافة مائها وذلك بقرينية طائفتين من الأخبار إحداهما ما دلّ على عدم انفعال البئر بالملاقاة. وثانيتهما : ما دلّ على أن تقارب البالوعة من البئر لا يوجب كراهة الوضوء ولا الشرب من مائها ، وهي صحيحة محمد بن القاسم عن أبي الحسن عليه‌السلام « في البئر يكون بينها وبين الكنيف خمس أذرع ، أقل أو أكثر ، يتوضأ منها؟ قال : ليس يكره من قرب ولا بعد يتوضأ منها ويغتسل ما لم يتغيّر الماء » (١) فهاتان الطائفتان قرينتان على حمل هذه الطائفة من أخبار تباعد البئر والبالوعة على التنزه من الأقذار ، والتحفظ على النظافة التي ندب إليها في الشرع واهتم بها الشارع المقدس ، ولأجل هذا الاهتمام حكم بلزوم التباعد بينهما بمقدار ثلاثة أذرع أو سبعة حيث إن عروق الأرض متصلة والقذارة تسري من بعضها إلى بعض ، فالاستدلال بهذه الطائفة على انفعال البئر ساقط.

وأمّا الطائفة الثانية : فهي صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم ، وأبي بصير كلهم قالوا : « قلنا له : بئر يُتوضأ منها يجري البول قريباً منها أينجّسها؟ قال : فقال : إن كانت البئر في أعلى الوادي والوادي يجري فيه البول من تحتها فكان بينهما قدر ثلاثة أذرع ، أو أربعة أذرع لم ينجّس ذلك شي‌ء وإن كان أقل من ذلك نجّسها » (٢) وهي كما ترى صريحة في نجاسة البئر بتقاربها من البالوعة فيما إذا لم يكن بينهما قدر ثلاث أذرع أو أربعة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧١ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٤ ، وص ٢٠٠ ب ٢٤ ح ٧.

(٢) الوسائل ١ : ١٩٧ / أبواب الماء المطلق ب ٢٤ ح ١.

٢٤٩

ويدفعها : أن الرواية مخالفة لضرورة المذهب وللإجماع القطعي بين المسلمين لبداهة أن التقارب من البئر بما هو تقارب ليس من أحد المنجسات شرعاً فان المناط في التنجيس إنما هو سراية النجاسة إلى ملاقيها ، وعليه فان علمنا بالسراية في المقام فنحكم بنجاسة البئر لا محالة وإلاّ فلا موجب للحكم بنجاستها ، وهذا كما إذا وقعت النجاسة في البالوعة في زمان قريب بحيث لا تسري منها إلى البئر في تلك المدة اليسيرة.

ودعوى أن الإمام عليه‌السلام بصدد بيان الضابط للعلم بسراية النجاسة على غالب الناس ، فان كون التباعد أقل من ثلاثة أذرع أو أربعة يوجب العلم بالسراية في الأغلب ، كما أن كونه أكثر منهما يوجب عدم حصول العلم بالسراية.

مندفعة : أولاً : بأن تحديد حصول العلم بالسراية بذلك جزاف لأن العلم بالسراية قد يحصل في ثلاثة أذرع ، وقد يحصل العلم بعدم السراية في أقل منها ، فدعوى أن العلم بعدم السراية يحصل في الثلاثة ولا يحصل في أقل منها ولو بنصف ذراع مما لا أساس له.

وثانياً : أن حمل تحديده عليه‌السلام على ذلك ليس بأولى من حمله على ما ذكرناه آنفاً من إرادة التحفظ على نظافة الماء ، لأنها مورد لاهتمام الشارع حتى لا يستقذره الناس فيحمل التنجيس على القذارة العرفية دون الشرعية ، ومن هنا ورد الأمر بسكب الماء فيما إذا وقع فيه فأرة أو عقرب وهي صحيحة هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حياً هل يشرب من ذلك الماء ويتوضأ منه؟ قال : يسكب منه ثلاث مرات ، وقليله وكثيره بمنزلة واحدة ... » (١). فان من الضروري الذي لم يختلف فيه اثنان في الآونة الأخيرة عدم نجاسة العقرب ، ولا سيما إذا خرج عن الماء حياً وكذلك الفأرة إذا خرجت حية ، فلا وجه لحكمه عليه‌السلام بالسكب ثلاث مرات إلاّ دفع الاستقذار عن السطح الظاهر من الماء ، فان الطباع البشرية مجبولة على التنفر‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٨٨ / أبواب الماء المطلق ب ١٩ ح ٥.

٢٥٠

عن السطح الظاهر من الماء عند وقوع شي‌ء عليه كالذباب إذا وقع في الماء ولا يستقذرون جميعه على ما يدعون. وحيث إن الأمر كما سمعت والنظافة مورد لاهتمام الشارع ، فلا مانع من حمل الطائفة الثانية أيضاً من روايات تباعد البئر والبالوعة على التحفظ على نظافة الماء وعدم قذارته ، فلو أبيت إلاّ عن صراحة الرواية في نجاسة البئر فلا محيص من حملها على التقية ، لأنها موافقة للعامة إذ الرواية حينئذٍ نظير غيرها من الأخبار الدالّة على نجاسة البئر بالملاقاة وقد مرّ أنها محمولة على التقية.

فالضابط الكلي في جميع الطوائف المتقدمة المدعى دلالتها على نجاسة البئر ، أنها إن لم تكن صريحة في نجاسة البئر وكانت قابلة لضرب من التأويل ، فنحملها على تحصيل النظافة ودفع الاستقذار الطبعي عن الماء. وإذا كانت صريحة الدلالة على النجاسة أو كالصريح بحيث لم يمكن رفع اليد عن ظهورها فلا بدّ من حملها على التقية ، فأمر الأخبار المذكورة يدور بين التقية والتأويل ، وكل ذلك لتمامية الروايات الدالّة على طهارة البئر ، ولا محيص من الالتزام بذلك ما لم تتغيّر البئر بالنجاسة.

وتوهّم أن طهارة البئر على خلاف إجماع المتقدمين من الأصحاب ، والالتزام بها خرق للاتفاق القطعي بينهم. يندفع : بأن إجماعهم على نجاسة البئر ليس إجماعاً تعبدياً كاشفاً عن قول المعصوم عليه‌السلام لأن مستند حكمهم هو الروايات المتقدمة ومع وضوح المستند أو احتماله لا وقع للإجماع بوجه ولا بدّ من مراجعة ذلك المستند ، وقد أسمعناك بما لا مزيد عليه عدم دلالة شي‌ء من الأخبار المتقدمة على المدعى لحملها على التقية أو على التحفظ على نظافة الماء.

وأمّا الطائفة الرابعة : وهي صحيحة أبي بصير المتقدمة فقد يجاب عنها بأن البأس ليس بمعنى النجاسة ولا يدل عليها بوجه ، وإنما معناه أن وقوع ما له نفس سائلة ليس كوقوع ما لا نفس سائلة له ، بل فيه بأس وشي‌ء ، وليكن هذا هو استحباب النزح في مثله ، فان وقوع ما لا نفس له لا يوجب استحباب النزح ولا شيئاً آخر. وفيه : أن الرواية بقرينة سائر الأخبار الدالّة على نجاسة البئر بوقوع الميتة فيها ظاهرة في أن ما وقع في البئر إذا كان له نفس سائلة يوجب نجاستها.

٢٥١

فالصحيح في الجواب أن يقال : إن الجمع بينهما وبين ما دلّ على عدم انفعال ماء البئر يقتضي حمل الرواية على ما إذا أثّر وقوع ما له نفس سائلة في تغيّر ماء البئر لأن ما دلّ على عدم انفعالها قد استثنى صورة التغيّر كما مرّ ، فالمعنى حينئذٍ أن ما وقع في البئر إذا لم يكن له نفس سائلة كميتة السمك ونحوها فلا يتنجس به البئر مطلقاً أوجب تغيّرها أم لم يوجبه. إذن التغيّر بغير النجس لا يقتضي النجاسة وهو ظاهر. وأمّا إذا وقع فيها ما له نفس سائلة فان أوجب تغيّرها فيحكم بنجاستها وإلاّ فهي باقية على طهارتها.

ثم إن أبيت إلاّ عن أن ظاهر الرواية نجاسة البئر بوقوع ما له نفس سائلة مطلقاً تغيّر به ماء البئر أم لم يتغيّر وأن الجمع بالوجه المتقدم على خلاف ظاهرها فلا محيص من حمل الرواية على التقية ، كما صنعناه في بعض الطوائف المتقدمة ، وبما ذكرناه يمكن الحكم باستحباب النزح شرعاً لأن النظافة أمر مرغوب فيه وقد ندب إليها في الشريعة المقدّسة.

وعلى الجملة لا دلالة في شي‌ء من الطوائف المتقدمة على انفعال البئر بالملاقاة ، فما ذهب إليه المتأخرون من اعتصامها مطلقاً هو الصحيح. هذا كلّه في المقام الأوّل ومنه يظهر الحال في المقام الثاني أيضاً كما يأتي تفصيله.

بقي في المقام فروع‌

الأوّل : أنه إذا قلنا بانفعال البئر ، ووجوب نزح المقدرات فهل تطهر الآلات‌ من الدلو والحبل بل وأطراف البئر ولباس النازح ويداه وغيرها مما يلاقي الماء بنزحه عادة تبعاً لطهارة البئر؟ نعم ، لا وجه لتوهّم الطهارة بالتبع في ما يلاقي الماء على خلاف الغالب والعادة ، كما إذا طفرت قطرة من ماء البئر ووقعت على ثوب غير النازح.

الحق كما ذهب إليه المشهور طهارة الآلات وكل ما يلاقي ماء البئر عادة تبعاً لطهارة البئر بالنزح ، والوجه في ذلك أن الآلات وملحقاتها مورد للابتلاء غالباً ، كما أن نجاستها مما يغفل عنه عامة الناس ، ومثلها لو كان نجساً لنبّه عليه في الروايات‌

٢٥٢

فالسكوت وعدم البيان آيتا طهارة الآلات وأخواتها بتبع طهارة البئر.

وفي الحدائق استدل على ذلك بالبراءة عن وجوب الاجتناب عن الآلات بعد نزح المقدرات (١) ، إلاّ أن فساده غني عن البيان ، لأن النجاسة بعد ما ثبتت يحتاج رفعها إلى مزيل ، ومع الشك في بقائها لا مجال لإجراء البراءة عنها كما لا يخفى.

واستدل المحقق قدس‌سره على طهارة الآلات على ما حكي عنه وهو من جملة القائلين بانفعال البئر من المتأخرين بأن الآلات ونظائرها لو لم تطهر بتبع طهارة البئر لم يبق لاستحباب نزح الزائد مجال (٢) ، وتوضيح ذلك : أن الأخبار كما مرّ قد اختلفت في بيان نزح المقدرات ففي نجاسة واحدة ورد تقديران مختلفان أحدهما أكثر من الآخر ، وقد جمعوا بينهما بحمل الأقل على الوجوب وحمل الأكثر على الاستحباب ، فاذا بنينا على انفعال ماء البئر بالملاقاة وعلى عدم طهارة الدلو وغيره من الآلات بالتبع ، ونزحنا المقدار الواجب كثلاثين دلواً مثلاً ، فبمجرد ملاقاة الدلو للماء يتنجس ماء البئر ثانياً فيجب تطهيرها بنزح مقدرها ، ومعه لا يبقى مجال للعمل بالاستحباب بنزح الزائد عن المقدار الواجب كأربعين دلواً ونحوها. وما أفاده قدس‌سره في غاية المتانة ، فما ذهب إليه الأصحاب من طهارة الآلات وأخواتها بالتبع هو المتعيّن.

الثاني : إذا تغيّر ماء البئر فلا إشكال في كفاية إخراج الجميع‌ أو المقدار الذي يزول به التغيّر ولو بغير النزح المتعارف من الأسباب ، كما إذا نزحنا ماءها بالمكائن الجديدة أو غار ماؤها ثم ترشح منها ماء جديد لا تغيّر فيه ، أو ألقينا فيها دواء أوجب فيها التبخير فنفد ماؤها بذلك إلى غير ذلك من الأسباب. والوجه في كفاية مطلق الإخراج وعدم لزوم النزح شيئاً فشيئاً ، هو أن المستفاد من صحيحة محمد بن إسماعيل ابن بزيع أن البئر إذا تغيّر لا بدّ من إعدام مائها إلى أن يطيب طعمه ويزول عنه الريح وهذا هو المحصل للغرض سواء أكان بسبب النزح أم بالدواء أو بغيرهما من الأسباب‌

__________________

(١) الحدائق ١ : ٣٧٣.

(٢) المعتبر ١ : ٧٩.

٢٥٣

وكذا الحال فيما وجب نزح الجميع ، وذلك للعلم بأن الغرض منه عدم بقاء شي‌ء من الماء النجس في البئر بلا فرق في ذلك بين الأسباب.

وأمّا إذا وقع فيها ما يوجب نزح أربعين أو خمسين أو غيرهما من المقدرات غير نزح الجميع ، فهل يكفي في تطهيرها نزح المقدر مرة واحدة بمثل دلو كبير يسع الأربعين أو غيره من المقدرات أو بالمكائن الجديدة ونحوها ، أو لا بدّ فيه من نزح المقدر دلواً فدلواً إلى أن ينتهي ويتم؟

التحقيق هو الثاني ، لأنه مقتضى الجمود على ظواهر الأخبار حيث دلت على نزح أربعين دلواً ونحوه ، ولا يستفاد منها كفاية مطلق الإخراج والإعدام ، ولا سيما أنّا نحتمل بالوجدان أن يكون للنزح التدريجي خصوصية دخيلة في حصول الغرض واقعاً ، فإن المادّة يمكن أن تدفع بدل المتحلل من الماء إذا نزح شيئاً فشيئاً ، وليس الأمر كذلك فيما إذا نزح منها مقدار ثلاثين أو أربعين دلواً مرة واحدة ، فإن المادّة لا تدفع الماء بهذا المقدار دفعة ، ومن المحتمل أن يكون لخروج الماء من المادّة بمقدار المتحلل بالنزح مدخلية في حصول الغرض شرعاً.

ثم إن صريح رواية الفقه الرضوي (١) أن المراد بالدلو في مقدرات البئر هو ما يسع أربعين رطلاً من الماء ، ولكن المشهور لم يعملوا على طبقها بل أفتوا بكفاية الدلو المتعارف. على أن الرواية كما نبهنا عليه غير مرة ضعيفة في نفسها بل لم يثبت كونها رواية أصلاً ، فالصحيح كفاية أقل الدلاء المتعارفة ، وذلك لما أشرنا إليه مراراً من أن المقادير المختلفة بحسب القلة والكثرة أو الزائد والناقص لا بدّ من أن يكتفى فيها بالمتعارف الأقل نظراً إلى أنه تقدير في حق عامة الناس ، وغير مختص بطائفة دون طائفة.

الثالث : أن اتصال الماء النجس بالكر أو الجاري وغيرهما من المياه العاصمة يطهّره‌ كما عرفت ، فهل يكفي ذلك في تطهير الآبار المتنجسة أيضاً على القول بانفعالها‌

__________________

(١) فقه الرضا : ٩٢ « وإذا سقط في البئر فأرة أو طائر أو سنور وما أشبه ذلك فمات فيها ولم يتفسخ نزح منه سبعة أدل من دلاء هجر والدلو أربعون رطلاً ».

٢٥٤

ونزح المقدرات في صورة عدم التغيّر مستحب (١) وأمّا إذا لم يكن له‌

______________________________________________________

أو أن طريق تطهيرها يختص بالنزح؟.

الثاني هو الظاهر ، لأن العمدة في كفاية الاتصال بالكر والجاري وأمثالهما إنما هو التعليل الوارد في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع « لأن له مادّة » حيث تعدينا بعمومه إلى كل ماء عاصم ، فاذا بنينا على نجاسة البئر ورفعنا اليد عن هذه الصحيحة باعراض المشهور عنها أو بتأويلها ، لم يبق هناك دليل على كفاية الاتصال بالعاصم وينحصر طريق تطهير البئر بالنزح. اللهمّ إلاّ أن يرد عليها عاصم على وجه يستهلك فيه ماؤها كما إذا كانت البئر مشتملة على مقدار كر وأُلقي عليها كران أو أكثر ، فإنّه يستهلك ماء البئر حينئذٍ وبه يحكم بطهارته.

وقد بقي في المقام فروع أُخر كلّها مبتنية على نجاسة البئر بالملاقاة ، وحيث إنّا أنكرنا انفعالها لم نحتج إلى التعرض لما يبتني عليه من الفروع.

استحباب النزح عند عدم التغيّر‌

(١) لا منشأ للحكم باستحباب النزح بعد حمل النصوص الواردة في ذلك على التقية ، وذلك لما قدمناه من أن الأخبار الآمرة بالنزح ظاهرة في الإرشاد إلى انفعال البئر بالملاقاة ، وقد رفعنا اليد عن هذا الظهور بما دلّ على عدم انفعالها ، وعليه فحملها على خلاف ظاهرها من الوجوب التعبدي أو الاستحباب يحتاج إلى دليل وهو مفقود ، فلا مناص من حملها على التقية لموافقتها للعامة ، ومعه لا وجه للحكم باستحباب النزح.

اللهمّ إلاّ إن نحمل الأخبار على التحفظ على نظافة المياه ودفع الاستقذار العرفي بنزح شي‌ء من ماء البئر كما أسلفناه في الجواب عن الطائفة الرابعة مما استدلوا به على انفعال البئر بالملاقاة بقرينة بعض الأخبار ، فإنّه لا مانع حينئذٍ من الحكم باستحباب النزح لأن النظافة أمر مرغوب فيه شرعاً بل هي مورد لاهتمام الشارع كما مر.

٢٥٥

مادّة نابعة فيعتبر في عدم تنجسه الكرية وإن سمي بئراً ، كالآبار التي يجتمع فيها ماء المطر ولا نبع لها (١).

[١٢٤] مسألة ١ : ماء البئر المتصل بالمادّة إذا تنجس بالتغيّر فطهره بزواله ولو من قبل نفسه (٢) فضلاً عن نزول المطر عليه أو نزحه حتى يزول. ولا يعتبر خروج ماء من المادّة في ذلك.

[١٢٥] مسألة ٢ : الماء الراكد النجس كراً كان أو قليلاً يطهر بالاتصال بكرّ طاهر أو بالجاري أو النابع غير الجاري وإن لم يحصل الامتزاج على الأقوى ، وكذا بنزول المطر (٣).

______________________________________________________

(١) لأنه ماء محقون حينئذٍ ، ومقتضى أدلّة انفعال القليل نجاسته بالملاقاة إلاّ أن يكون كراً ، ومجرّد تسميته بئراً لا يكاد ينفع في الحكم باعتصامه ما لم تكن له مادّة.

الطّهر بزوال التغيّر‌

(٢) لما ذكرناه في الفرع الثاني من الفروع المتقدمة من أنه لا خصوصية للنزح في تطهير ماء البئر فيما إذا تغيّر ، أو وقع فيها ما يقتضي وجوب نزح الجميع على تقدير القول بانفعالها فان المستفاد من صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع أن الغرض من النزح إنما هو إعدام ماء البئر وإذهاب تغيّره سواء استند ذلك إلى النزح أم إلى سبب غيره ، كما لا فرق في طهارته بعد زوال تغيّره بين خروج الماء من مادته وعدمه ، لأن مقتضى إطلاق الصحيحة المتقدمة كفاية مجرد الاتصال في طهارته سواء خرج شي‌ء من مادته أم لم يخرج.

الطهر بالاتصال بالعاصم‌

(٣) قد قدمنا في بحث تطهير الماء المتنجس بالمطر أن مقتضى عموم التعليل الوارد في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع كفاية الاتصال بمطلق العاصم ، فإن خصوصية المادّة ملغاة بمقتضى الفهم العرفي ، كما أن مقتضى إطلاقها عدم اعتبار الامتزاج‌

٢٥٦

[١٢٦] مسألة ٣ : لا فرق بين أنحاء الاتصال في حصول التطهير فيطهر بمجرّده ، وإن كان الكر المطهر مثلاً أعلى والنجس أسفل ، وعلى هذا فإذا ألقى الكر لا يلزم نزول جميعه ، فلو اتصل ثم انقطع كفى (١). نعم ، إذا كان الكر الطاهر أسفل والماء النجس يجري عليه من فوق لا يطهر الفوقاني بهذا الاتصال (٢).

[١٢٧] مسألة ٤ : الكوز المملوء من الماء النجس إذا غمس في الحوض يطهر ولا يلزم صب مائه وغسله (٣).

______________________________________________________

واستدللنا على عدم اعتباره أيضاً بإطلاق صحيحة هشام المتقدِّمة ، فراجع (١). ويمكن الاستدلال على كفاية الاتصال بمطلق العاصم أيضاً بأخبار ماء الحمام حيث قوينا أخيراً عدم اختصاصها بمائه ، وبنينا على شمولها لكل ماء متصل بالماء المعتصم.

(١) ويدلُّ على ذلك أمران : أحدهما : صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع. وثانيهما : أخبار ماء الحمام ، لدلالتهما على أن مجرد الاتصال بالمادّة كاف في طهارة الماء المتنجس مطلقاً اتحد سطحاهما أم اختلف وكان الكر المطهر مثلاً أعلى.

(٢) لعدم تقوي العالي بالسافل على ما قدمناه في بحثي المضاف والجاري (٢).

(٣) الظاهر أن نظر الماتن قدس‌سره إلى تطهير الكوز نفسه بالماء الكثير لا إلى تطهير مائة ، لأنه كغيره من المياه المتنجسة وقد تقدم منه قدس‌سره طهارتها بمجرد الاتصال بالكر أو بغيره من المياه العاصمة من غير اعتبار الامتزاج فلا وجه لإعادته ثانياً.

وما أفاده من طهارة الكوز إذا غمس في الكثير هو الصحيح فلا يلزم تعدّد غسله وذلك لما يأتي في محله من اختصاص موثقة عمار الآمرة بغسل الأواني والكوز ثلاث مرات بالماء القليل ، ومعه يبقى التطهير بالكثير تحت إطلاقات غسل المتنجسات بالماء وهي تقتضي كفاية الغسل مرة واحدة. وحيث إن الكوز مملوء من الماء النجس فبمجرّد غمسه في الكر يصدق أنه انغسل بالكثير وبه يحكم على طهارته.

__________________

(١) ص ٢٢٠.

(٢) في ص ٣٧ ، ١٠٠.

٢٥٧

[١٢٨] مسألة ٥ : الماء المتغيّر إذا القي عليه الكر فزال تغيّره به ، يطهر ولا حاجة إلى إلقاء كر آخر بعد زواله (١) لكن بشرط أن يبقى الكر (٢) الملقى على حاله من اتصال أجزائه وعدم تغيّره ، فلو تغيّر بعضه قبل زوال تغيّر النجس ، أو تفرق بحيث لم يبق مقدار الكر متصلاً باقياً على حاله تنجس ولم يكف في التطهير. والأولى إزالة التغيّر أوّلاً ثم إلقاء الكر أو وصله به.

[١٢٩] مسألة ٦ : تثبت نجاسة الماء كغيره بالعلم (٣).

______________________________________________________

(١) لحصول شرط طهارته وهو زوال تغيّره واتصاله بالماء المعتصم وإن استند زوال تغيّره إلى إلقاء العاصم عليه ، ولا دليل على اعتبار كون الاتصال بعد زوال التغيّر.

(٢) بأن يكون المطهر زائداً على مقدار الكر بشي‌ء حتى لا ينفعل بتغيّر بعضه قبل زوال تغيّر النجس ، لوضوح أن تغيّر بعض أجزائه يقتضي انفعال الجميع على تقدير عدم زيادة المطهر على الكر لأنه ماء قليل لاقى ماء متنجساً بالتغيّر فينجس.

طرق ثبوت النجاسة‌

(٣) قد وقع الخلاف بين الأعلام فيما تثبت به نجاسة الأشياء : فمنهم من اكتفى بمطلق الظن بالنجاسة ، ونسب ذلك إلى الحلبي (١) ، ومنهم من ذهب إلى أنها لا تثبت إلاّ بالعلم الوجداني ، ونسب ذلك إلى ابن البراج (٢) ، وهذان القولان في طرفي النقيض حيث لم يعتمد ابن البراج على البيِّنة وخبر العادل فضلاً عن مطلق الظن بالنجاسة.

والمشهور بين الأصحاب عدم ثبوت النجاسة بمطلق الظن وأنه لا ينحصر ثبوته بالعلم الوجداني ، ولعلّ القائل باعتبار العلم في ثبوت النجاسة يرى اعتبار العلم في حدوثها وتحققها لا في بقائها ، فإن استصحاب النجاسة مما لا إشكال فيه بينهم ، وقد‌

__________________

(١) الكافي لأبي الصّلاح : ١٤٠.

(٢) المهذب ١ : ٣٠.

٢٥٨

ادعى المحدث الأمين الأسترآبادي قدس‌سره الإجماع على حجية الاستصحاب في الموضوعات (١).

وتحقيق الحال أن الاكتفاء بمطلق الظن لا دليل عليه إلاّ ما توهّمه القائل باعتباره من أن أكثر الأحكام الشرعية ظني ، والنجاسة من جملتها فيكتفى فيها بالظن.

وفيه : أنه إن أُريد بذلك أن الأحكام الشرعية لا يعتبر في ثبوتها العلم الوجداني فهو صحيح إلاّ أنه لا يثبت حجية مطلق الظن في الأحكام. وإن أُريد به أن مطلق الظن حجة في ثبوت الأحكام الشرعية ففساده أظهر من أن يخفى ، فإنّه لا عبرة بالظن إلاّ فيما ثبت اعتباره فيه بالخصوص كالقبلة والصلاة ، اللهم إلاّ أن نقول بتمامية مقدمات الانسداد ، فيكون الظن حجة حينئذٍ ، إلاّ أنها لو تمت فإنّما تقتضي حجية الظن في الأحكام دون الموضوعات فهذا القول ساقط.

كما أن اعتبار خصوص العلم الوجداني في ثبوتها لا دليل عليه ، ولعلّ الوجه في اعتباره تعليق الحكم بالنجاسة في بعض الأخبار على العلم بها كما في قوله عليه‌السلام : « كل شي‌ء نظيف حتى تعلم أنه قذر فاذا علمت فقد قذر ... » (٢). وقوله عليه‌السلام : « ما أُبالي أبول أصابني أو ماء إذا لم أعلم » (٣).

وفيه : أنه لا يقتضي اعتبار العلم الوجداني في ثبوت النجاسة ، فإن العلم بالنجاسة غاية للحكم بالطهارة كأخذ العلم بالحرمة غاية للحكم بالحلية في قوله عليه‌السلام : « كل شي‌ء لك حلال حتى تعلم أنه حرام ... » (٤) ومن الظاهر أن المراد به ليس هو العلم الوجداني فحسب ، وإلاّ لا نسد باب الأحكام الشرعية لعدم العلم الوجداني في أكثرها ، بل المراد بالعلم فيها أعم من الوجداني والتعبدي.

__________________

(١) الفوائد المدنية : ١٤٣.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤ ، ٥.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤ ، ٥.

(٤) ورد ذلك في روايات أربع : الأُولى والثانية صحيحة عبد الله بن سليمان ومرسلة معاوية بن عمار المرويتان في الوسائل ٢٥ : ١١٧ / أبواب الأطعمة المباحة ب ٦١ ح ١ ، ٧. والثالثة والرابعة موثقة مسعدة بن صدقة وصحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام المرويتان في الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤ ، ١.

٢٥٩

وبالبيِّنة (١)

______________________________________________________

وتوضيحه : أن العلم المأخوذ غاية في تلك الأخبار طريقي محض وغير مأخوذ في الموضوع بوجه ، والعلم الطريقي يقوم مقامه ما ثبت اعتباره شرعاً كالبينة وخبر العادل واليد وغيرها ، فإن أدلّة اعتبارها حاكمة على ما دلّ على اعتبار العلم في ثبوت النجاسة أو غيرها ، فهذا القول أيضاً ساقط ، فلا بدّ من ملاحظة الأُمور التي قيل بثبوت النجاسة بها. فان كان في أدلّة اعتبارها ما دلّ بعمومه على حجيتها حتى في مثل النجاسة فنأخذ بها ، وإلاّ فنرجع إلى استصحاب الطهارة أو قاعدتها. فمن جملة تلك الأُمور البيِّنة :

ثبوت النجاسة بالبيِّنة :

(١) فهل يعتمد على إخبار البيِّنة بنجاسة شي‌ء مسبوق بالطهارة أو جهلت حالته السابقة بحيث لو لا تلك البيِّنة لحكمنا بطهارته؟ لا ينبغي الإشكال في اعتبارها وأن النجاسة تثبت بها شرعاً ، وإنما الكلام في مدرك ذلك فقد استدلوا على اعتبار البيِّنة بوجوه :

الوجه الأوّل : الإجماع على اعتبارها بين الأصحاب. ويدفعه : أن الإجماع على تقدير تحقّقه ليس إجماعاً تعبدياً قطعاً حتى يكشف عن قول المعصوم عليه‌السلام لاحتمال استناد المجمعين إلى أحد الوجهين الآتيين.

الوجه الثاني : الأولوية القطعية بتقريب : أن الشارع جعل البيِّنة حجة في موارد الترافع والمخاصمة ، وقد قدمها على ما في قبالها من الحجج كاليد ونحوها غير الإقرار لأنه متقدم على البيِّنة ، وما ثبتت حجيته في موارد القضاء مع ما فيها من المعارضات فهو حجة في غيرها من الموارد التي لا معارض له بطريق أولى.

وبالجملة اعتبار البيِّنة شرعاً أمر غير قابل للإنكار. نعم ، ربما قيد اعتبارها في الشريعة المقدسة ببعض القيود حسب اختلاف المقامات وأهميتها عند الشارع وعدمها ، فاعتبر في ثبوت الزنا بالبينة أن يكون الشهود أربعة ، كما اعتبر أن تكون‌

٢٦٠