موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

ولا يعتبر فيه الامتزاج بل ولا وصوله إلى تمام سطحه الظاهر ، وإن كان الأحوط ذلك (١).

______________________________________________________

متنجساً بالبول. وهذه مرحلة ثانية فهو ماء نجس لا ترتفع نجاسته إلاّ بزوال تغيّره وبالاتصال بماء عاصم ، فاذا نزل عليه المطر بعد ذلك ، وبه زاد الماء عن سابقه فهو يوجب استهلاك البول في الماء ، فالاستهلاك في مرتبة متأخرة عن الاختلاط بمرحلتين ، وقد ذكرنا أن الماء يتنجس بالبول في المرحلة الثانية ، والإمام حكم بطهارته لنزول المطر عليه ، فالصحيحة تدل على أن الماء المتنجس يطهر بنزول المطر عليه.

ومعها لا حاجة إلى التمسك بالمرسلة أو الإجماعات المنقولة ، هذا فيما إذا لم نقل باعتبار المراسيل كما أسلفناه ، وأمّا إذا اعتمدنا عليها فالأمر سهل لدلالة مرسلة الكاهلي على طهارة كل شي‌ء رآه المطر سواء أكان ماء أم كان موجوداً آخر.

عدم اعتبار الامتزاج بالمطر‌

(١) الوجه في ذلك أمران :

أحدهما : عموم التعليل الوارد في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع حيث علل الحكم بطهارة ماء البئر بعد زوال تغيره بقوله « لأن له مادّة » أي متصل بها ، والمراد بالمادّة على ما يقتضيه الفهم العرفي مطلق العاصم ، فلا خصوصية للمادّة في الحكم بطهارة الماء المتصل بها ، وبما أن المطر من أحد أفراد العاصم كفى اتصاله بالماء في الحكم بطهارته من غير حاجة فيه إلى الامتزاج كما هو الحال في البئر.

وثانيهما : إطلاق صحيحة هشام المتقدمة ، فإن إطلاقها يشمل المطر المختلط بالبول بعد زوال تغيره ، سواء امتزج معه أيضاً أم لم يمتزج لعدم تقييدها الطهارة بالامتزاج (١).

__________________

(١) وقد قدمنا أن الماء المختلط بمائع آخر إذا كان بقدره يخرج في المرحلة الأُولى عن الإطلاق

٢٢١

[١١٥] مسألة ٣ : الأرض النجسة تطهر بوصول المطر إليها بشرط أن يكون من السماء ولو بإعانة الريح وأمّا لو وصل إليها بعد الوقوع على محل آخر كما إذا ترشح بعد الوقوع على مكان فوصل مكاناً آخر لا يطهر. نعم ، لو جرى على وجه الأرض فوصل إلى مكان مسقّف بالجريان إليه طهر (١).

______________________________________________________

تطهير الأرض بالمطر‌

(١) تعرّض قدس‌سره لعدّة فروع في هذه المسألة وتفصيلها :

أن المطر ربما : ينزل من السماء على وجه مستقيم ويصيب المتنجس بلا وساطة شي‌ء ، وهو مطهّر للمتنجس بلا إشكال.

وأُخرى : ينزل على وجه غير مستقيم كالمنحني ويصيب المتنجس أيضاً بلا واسطة شي‌ء كما إذا أطارته الريح وأدخلته مكاناً مسقفاً ، فأصاب الأرض المتنجسة أو غيرها بلا توسط شي‌ء في البين وهذا أيضاً لا كلام في أنه مطهّر لما أصابه من المكان المسقف وغيره.

وثالثة : ينزل على وجه مستقيم أو غير مستقيم ويصيب المتنجس أيضاً ولكنه مع الواسطة وهذا على قسمين :

لأن المطر إذا وقع على شي‌ء ثم بواسطته وصل إلى محل آخر فتارة ينفصل عما أصابه أولاً ويصل إلى المحل الثاني وهو متصل بالمطر ، وهذا كالمطر الجاري من الميزاب لأنه أصاب السطح أولاً وانفصل عنه بجريانه ، مع اتصاله بالمطر لتقاطره من السماء وعدم انقطاعه ، وهذا أيضاً لا كلام في أنه مطهّر لما أصابه لأجل اتصاله بالمطر وهو مورد صحيحة هشام المتقدمة.

٢٢٢

[١١٦] مسألة ٤ : الحوض النجس تحت السماء يطهر بالمطر وكذا إذا كان تحت السقف وكان هناك ثقبة ينزل منها على الحوض ، بل وكذا لو أطارته الريح حال تقاطره فوقع في الحوض ، وكذا إذا جرى من ميزاب فوقع فيه (١).

______________________________________________________

وأُخرى يصل إلى الموضع الثاني من غير أن يكون متصلاً بالمطر لانقطاعه كما إذا وقع المطر على سطح ثم طفرت منه قطرة وأصابت محلا آخر فهل هذا أيضاً يوجب طهارة ما أصابه ثانياً؟

الصحيح أنه لا يقتضي الطهارة بوجه ، لأن القطرة بعد انفصالها ليست بماء مطر بالفعل. نعم ، كان مطراً سابقاً ولا دلالة في شي‌ء من الصحاح الثلاث المتقدمة على اعتصام الماء الذي كان مطراً في زمان ، كما لا دلالة لها على مطهّريته ، وما ذكرناه بحسب الكبرى مما لا إشكال فيه ، وإنما الكلام في بعض صغرياتها ، وهو ما إذا وقع المطر على شي‌ء ، وتقاطر منه على موضع آخر حين نزول المطر من السماء ، كما إذا وقع المطر على أوراق الأشجار أوّلاً ثم تقاطر منها على أرض أو متنجس آخر حين تقاطر المطر ، فهل هذا يوجب طهارة مثل الأرض ونحوها مما وصل إليه المطر بعد مروره على شي‌ء آخر؟

الصحيح أنه أيضاً يقتضي الطهارة وذلك لأجل صدق المطر على القطرات الواقعة على الأرض حقيقة وبلا عناية ولا مسامحة بعد مرورها على الأوراق في حال تقاطر المطر ، إذ يصح أن يقال إن المطر أصاب من كان قاعداً تحت الشجرة وأوراقها حقيقة من غير مسامحة أصلاً. ومن هنا ذكر سيدنا الأُستاذ ( مدّ ظلّه ) في تعليقته المباركة على المسألة الخامسة أن عدم الحكم بالطهارة في مفروض المسألة مبني على الاحتياط.

المقدار المعتبر في التطهير‌

(١) قد أسلفنا أن المطر كما يطهّر الأجسام كذلك يطهّر المياه ، وإنما الكلام في تعيين المقدار الذي يكفي منه في تطهيرها ، فهل تكفي القطرة الواحدة من المطر في تطهير مثل‌

٢٢٣

الحياض ، أو لا بدّ في تطهيرها من نزول المطر بمقدار يمتزج به جميع أجزاء الماء المتنجس ، أو أن هناك قولاً وسطاً؟.

قد يقال : بكفاية القطرة الواحدة من المطر في تطهير المياه المتنجسة مستنداً إلى إطلاق المرسلة المتقدمة الدالّة على طهارة كل شي‌ء رآه المطر ، وقد فرضنا أن المطر رأى الحوض المتنجس فيطهر ، لأن الكلام إنما هو في كفاية القطرة الواحدة فيما إذا صدق المطر على ما هو النازل من السماء حقيقة ، كما إذا نزل من السماء بمقدار يطلق عليه المطر عرفاً ووقعت قطرة منه على الحوض بنفسه أو بإطارة الريح.

ويدفعه : أن المرسلة مضافاً إلى ضعف سندها قاصرة الدلالة على المدعى ، لأن المطر في مفروض الكلام إنما رأى الحوض بمقدار قطرة ولم يرَ جميعه ، فان حال المياه من تلك الجهة حال بقية الأجسام فإذا وقعت قطرة منه على جسم كالخشب فهل يصدق أن المطر رأى الخشب بتمامه ، أو يقال إن المطر رآه بمقدار قطرة ، ومن هنا لا تجد من نفسك الحكم بطهارة الخشب بذلك كما لم يلتزم به الأصحاب لعدم إصابة المطر بتمام الخشب.

فالقول بكفاية القطرة الواحدة في تطهير المياه في جانب الإفراط ، كما أن القول باعتبار الامتزاج في جانب التفريط ، وقد أسلفنا دلالة صحيحتي هشام ومحمد بن إسماعيل بن بزيع على عدم اعتبار الامتزاج ، فأوسط الأقوال أن يقال إن ماء المطر إذا أصاب السطح الظاهر من الحوض بتمامه أو بمعظمه على وجه يصح عرفاً أن يقال : ماء المطر موجود على سطح الحوض كفى هذا في الحكم بطهارة الجميع ، لأن السطح الفوقاني من الماء قد طهر بما فيه من المطر ، وإذا طهر السطح الفوقاني منه طهرت الطبقات المتأخرة أيضاً لأن لها مادّة ، وقد عرفت أن المراد بالمادّة مطلق الماء العاصم ومنه ماء المطر. نعم ، مجرد وقوع قطرة أو قطرات على الحوض لا يكفي في طهارة الجميع ، لاستهلاكها في ماء الحوض عرفاً ، ومن هنا اشترطنا نزول المطر بمقدار لا يستهلك في الماء المتنجس ليصح أن يقال لدى العرف ماء المطر موجود على السطح الظاهر من الحوض.

٢٢٤

[١١٧] مسألة ٥ : إذا تقاطر من السقف لا يكون مطهراً بل وكذا إذا وقع (*) على ورق الشجر ثم وقع على الأرض. نعم ، لو لاقى في الهواء شيئاً كورق الشجر أو نحوه حال نزوله لا يضر ، إذا لم يقع عليه ثم منه على الأرض فبمجرّد المرور على الشي‌ء لا يضر (١).

[١١٨] مسألة ٦ : إذا تقاطر على عين النجس ، فترشح منها على شي‌ء آخر لم ينجس (٢) إذا لم يكن معه عين النجاسة ولم يكن متغيراً.

[١١٩] مسألة ٧ : إذا كان السطح نجساً فوقع عليه المطر ونفذ وتقاطر من السقف لا تكون تلك القطرات نجسة (٣) وإن كان عين النجاسة موجودة على السطح ووقع عليها ، لكن بشرط أن يكون ذلك حال تقاطره من السماء ، وأمّا إذا انقطع ثم تقاطر من السقف مع فرض مروره على عين النجس فيكون نجساً ، وكذا الحال إذا جرى من الميزاب بعد وقوعه على السطح النجس (١).

______________________________________________________

(١) يظهر حكم هذه المسألة مما بيّناه في المسألة الثالثة فلا نعيد.

(٢) لعدم انفعال ماء المطر بملاقاة العين النجسة واعتصامه ما دام لم يطرأ عليه التغيّر.

(٣) لاعتصام ماء المطر كما مر.

التقاطر من السقف النجس‌

(٤) إذا انقطع المطر ولم ينقطع الوكوف كما هو الغالب ، لرسوب المطر في السطح فهل يحكم بنجاسة قطرات الوكوف؟.

الظاهر أنها غير محكومة بالنجاسة ، لأن القطرات وإن كانت متصلة بالسقف وهو رطب متصل بالعذرة أو بغيرها من النجاسات الكائنة في السطح ، إلاّ أنه لا دليل على تنجس تمام الجسم الرطب كالسطح في المقام بملاقاة أحد أطرافه نجساً في غير‌

__________________

(*) على الأحوط.

٢٢٥

[١٢٠] مسألة ٨ : إذا تقاطر من السقف النجس يكون طاهراً إذا كان التقاطر حال نزوله من السماء سواء كان السطح أيضاً نجساً أم طاهراً (١).

[١٢١] مسألة ٩ : التراب النجس يطهر بنزول المطر عليه إذا وصل إلى أعماقه حتى صار طيناً.

[١٢٢] مسألة ١٠ : الحصير النجس يطهر بالمطر وكذا الفراش المفروش على الأرض ، وإذا كانت الأرض التي تحتها أيضاً نجسة تطهر إذا وصل إليها. نعم ، إذا كان الحصير منفصلاً عن الأرض يشكل طهارتها بنزول المطر عليه إذا تقاطر منه عليها ، نظير ما مرّ (*) من الاشكال فيما وقع على ورق الشجر وتقاطر منه على الأرض.

[١٢٣] مسألة ١١ : الإناء النجس يطهر إذا أصاب المطر جميع مواضع النجس منه نعم ، إذا كان نجساً بولوغ الكلب يشكل طهارته بدون التعفير لكن بعده إذا نزل عليه يطهر من غير حاجة إلى التعدّد.

______________________________________________________

المائعات من المضاف والأدهان ونحوهما ، فان ملاقاة النجاسة لجزء من أجزائها تقتضي نجاسة الجميع بالتعبد ، وأمّا في غيرها فلم يقم على ذلك دليل ، فاذا لاقى أحد أطراف الثوب نجساً وهو رطب لا موجب للحكم بنجاسة تمام الثوب ، وكذلك في غيره من الأجسام وإلاّ لزم الحكم بنجاسة جميع شوارع البلد فيما إذا رطبت بنزول المطر ونحوه وتنجس بعضها بعذرة أو بمشي كلب أو بغيرهما ، لاتصال الشوارع والأراضي وهي رطبة وهذا كما ترى لا يلتزم به أحد. نعم ، إذا مرّت القطرة على العذرة بعد انقطاع المطر ثم وكفت يحكم بنجاستها ، لملاقاتها مع النجس.

(١) إذا كان السطح والسقف أو السقف خاصة نجساً فنزل المطر على السطح حتى رسب فيه ثم أخذ بالتقاطر على داخل البيت. فان كان ذلك حال تقاطر المطر من السماء فهي محكومة بالطهارة كما استفدناها من صحيحة هشام المتقدِّمة لأن القطرات‌

__________________

(*) الظاهر أن حكمه حكم الورق وسبق منه قدس‌سره الجزم بالعدم بدون إشكال.

٢٢٦

فصل [ في ماء الحمّام ]

ماء الحمّام بمنزلة الجاري بشرط اتصاله بالخزانة (١).

______________________________________________________

ماء واحد وهو معتصم. وأمّا إذا رسب المطر في السطح لا إلى تمامه بل إلى نصف قطره ، وانقطع بعد ذلك ثم رسب في النصف الآخر ثم وكف فهو محكوم بالنجاسة لا محالة ، لأن القطرة الملاقية للسقف بعد انقطاع المطر عنها ماء قليل فيحكم عليها بالانفعال ، إما لنجاسة السقف أو لنجاسته ونجاسة السطح معاً. وبما تلوناه في المقام يظهر الحال في باقي الفروع المذكورة في المتن فليلاحظ.

فصل في ماء الحمّام‌

(١) قد وقع الخلاف في اعتصام ماء الحمام مطلقاً أو بشرط بلوغ مادته كراً أو غير ذلك على أقوال أربعة :

الأوّل : ما ذهب إليه المشهور من اشتراط اعتصام ماء الحمام ببلوغ مادته كراً في نفسها.

الثاني : عدم اشتراطه بشي‌ء وأنه ماء معتصم بلغت مادته كراً أم لم تبلغه ، وهذان القولان متقابلان بالسلب والإيجاب الكليين.

الثالث : التفصيل بين ما إذا بلغ مجموع مادته وما في الحياض الصغار كرّاً فيعتصم وما إذا لم يبلغه مجموعهما فيبقى على عدم الاعتصام.

الرابع : التفصيل بين الدفع والرفع ، وأن ماء الحياض إذا كان طاهراً في نفسه ، وبلغ المجموع منه ومن مادته كراً فيحكم عليه بالاعتصام ، ولا ينفعل بما ترد عليه من النجاسات فلا يعتبر بلوغ المادّة كراً في نفسها بالإضافة إلى الدفع. وأمّا إذا كان ماء‌

٢٢٧

الحياض نجساً فيشترط في ارتفاع نجاسته باتصال المادّة إليه أن تكون المادّة بنفسها كراً ، فلا ترتفع بها نجاسة ماء الحياض فيما إذا لم تبلغ الكر بنفسها وإن بلغ مجموعهما كراً. هذه هي أقوال المسألة.

ومنشأ اختلافها هو اختلاف الأنظار فيما يستفاد من روايات الباب ، وأن مثل قوله عليه‌السلام ماء الحمام بمنزلة الجاري كما في صحيحة داود بن سرحان (١) ناظر إلى تنزيل ماء الحمام منزلة الجاري من جميع الجهات ، حتى من جهة عدم الحاجة في اعتصامه إلى بلوغ مادته كراً ، أو أنه ناظر إلى تنزيله منزلة الجاري من بعض الجهات؟ وحاصل التنزيل أن الاتصال بالمادّة الجعلية كالاتصال بالمادّة الأصلية يكفي في الاعتصام ، ولا يقدح فيه علو سطح المادّة عن سطح الحياض كما يأتي تفصيله عن قريب إن شاء الله. وليعلم قبل الخوض في تحقيق المسألة أن ما ينبغي أن يعتمد عليه من روايات المقام هو صحيحة داود بن سرحان المتقدمة ، فإن غيرها ضعاف ولا يمكن الاستدلال بها على شي‌ء.

إلاّ أن شيخنا الأنصاري قدس‌سره ذهب إلى تصحيح رواية بكر بن حبيب (٢) مدعياً أنه بكر بن محمد بن حبيب ، وقد عبّر عن الابن باسم أبيه فأطلق عليه بكر بن حبيب وهو ممن وثقه الكشي في رجاله ، وهو غير بكر بن حبيب الضعيف (٣).

ولا يخفى عدم إمكان المساعدة عليه ، لأن بكر بن محمّد بن حبيب على تقدير أن تكون له رواية عنهم عليهم‌السلام وليس الأمر كذلك لعدّه ممّن لم يرو عنهم إنما يروي عن الجواد عليه‌السلام لمعاصرته إياه ولا يمكنه الرواية عن الباقر عليه‌السلام الذي هو المراد من أبي جعفر الواقع في الحديث لأن من جملة من وقع في‌

__________________

(١) قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما تقول في ماء الحمام؟ قال : هو بمنزلة الماء الجاري. المروية في الوسائل ١ : ١٤٨ / أبواب الماء المطلق ب ٧ ح ١.

(٢) وهي ما عن صفوان بن يحيى عن منصور بن حازم عن بكر بن حبيب عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « ماء الحمام لا بأس به إذا كانت له مادة » المروية في الوسائل ١ : ١٤٩ / أبواب الماء المطلق ب ٧ ح ٤.

(٣) كتاب الطهارة : ٨ السطر ٢٣.

٢٢٨

السند منصور بن حازم وهو ممن روى عن الصادق والكاظم عليهما‌السلام وهذه قرينة على أن الراوي عنه عليه‌السلام هو بكر بن حبيب الضعيف ، هذا.

وقد يصحح الحديث بطريق آخر ، وهو أن في سند الرواية صفوان وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، فلا ينظر إلى من وقع بعده في سلسلة السند لقيام الإجماع على أنه لا يروي إلاّ عن ثقة.

ويدفعه : ما أشرنا إليه غير مرة في نظائر المقام من أن صفوان أو غيره من أصحاب الإجماع ربما ينقل عن رجل كبكر في الحديث ، ويصرّح على أن روايتي عنه مستندة إلى وثاقته ، فيكون هذا توثيقاً للرجل ، وبه نحكم على اعتبار رواياته كتوثيق غيره من أهل الرجال. وأُخرى لا يصرّح بذلك ، وانّما يقوم الإجماع على أنه لا يروي إلاّ عن ثقة ، ومثله لا يكون دليلاً على وثاقة الرجل ، وهذا للعلم القطعي بأن صفوان أو غيره من أضرابه روى عن غير الثقة ولو في مورد واحد ولو لأجل الغفلة والاشتباه ، ويحتمل أن يكون الرجل في الحديث مثلاً من جملة ما روى صفوان فيه عن غير الثقة ، فمجرد رواية مثله عن رجل لا يقتضي وثاقة الرجل عندنا.

على أنّا في غنى عن رواية بكر حيث لا تنفعنا صحتها كما لا يضرّنا ضعفها وذلك : لأن المستفاد من صحيحة داود بن سرحان المتقدمة حسب المتفاهم العرفي أن تنزيل ماء الحمام منزلة الجاري إنما هو من جهة اتصال ماء الحمام بالمادّة ، وقد شبّهه عليه‌السلام بالجاري بجامع اتصالهما بالمادّة ، إذ لا شباهة لأحدهما بالآخر من غير هذه الجهة ، فاعتبار المادّة في الحمام يستفاد من نفس الصحيحة المذكورة من دون حاجة في ذلك إلى رواية بكر. وإذا عرفت ذلك فنقول :

استدل من أنكر اعتبار بلوغ المادّة كراً في نفسها أو بضميمتها إلى ماء الحياض بعموم المنزلة المستفادة من الصحيحة المتقدمة ، لأنها دلت على أن ماء الحمام كالجاري من جميع الجهات والكيفيات. ولا تعتبر الكثرة في اعتصام المادّة بوجه كما أسلفناه سابقاً ، بل قد تكون رشحية كما في بعض الآبار ولا يكون فيها فوران أصلاً ، لأنها رطوبات أرضية تجتمع وتكون ماء.

٢٢٩

والجواب عن ذلك أن الصحيحة المتقدمة أو رواية بكر على تقدير اعتبارها غير ناظرتين إلى تنزيل ماء الحمام منزلة الجاري من جميع الجهات ، بل نظرهما إلى دفع ما ربما يقع في ذهن السائل من عدم اعتصام ماء الحياض باتصالها بمادتها ، لما ارتكز عندهم من عدم تقوى السافل بالعالي لتعددهما وتغايرهما عرفاً ، ومعه لا يبقى وجه لاعتصام ماء الحياض وتوضيح ذلك : أنّا قدّمنا (١) في بعض المباحث المتقدمة أن العالي لا ينفعل بانفعال الماء السافل ، لأن العالي والسافل وإن كانا متحدين عقلاً لاتصالهما وهو مساوق للوحدة بالنظر الدقي العقلي ، حيث إن المتصل جسم واحد عقلاً إلاّ أن الأحكام الشرعية غير منوطة بالنظر الدقي الفلسفي ، بل المتبع فيها هو الأنظار العرفية ، والعرف يرى العالي غير السافل وهما ماءان متعددان عنده ، ومن هنا لا يحكم بنجاسة العالي فيما إذا لاقى السافل نجساً حتى في المضاف كماء الورد إذا صبّ من إبريق على يد الكافر مثلاً ، فإنّه لا يحكم بنجاسة ما في الإبريق لأجل اتصاله بالسافل المتنجس بملاقاة يد الكافر ، وأدلّة انفعال القليل منصرفة عن مثله لعدم ملاقاة العالي للنجاسة عرفاً ، وبالجملة أنهما ماءان فكما لا تسرى قذارة السافل إلى العالي منهما كذلك نظافة العالي لا تسري إلى السافل لتعددهما بالارتكاز.

وعلى هذا كان للسائل أن يتوهّم عدم طهارة المياه الموجودة في الحياض الصغار بمجرد اتصالها بموادها الجعلية التي هي أعلى سطحاً من الحياض فإنهما ماءان ، ولا سيما عند جريان الماء من الأعلى إلى الأسفل ، ولعلّ هذا هو المنشأ لسؤالهم عن حكم ماء الحياض. وقد تصدى عليه‌السلام لدفع هذه الشبهة المرتكزة بأن ماء الحياض متصل بالمادّة الجعلية كاتصال المياه الجارية بموادها الأصلية ، فماء الحمام بمثابة الجاري من حيث اتصاله بالمادّة المعتصمة فيتقوّى ما في الحياض بالآخر بالتعبد. ولو لا هذه الأخبار لحكمنا بانفعال ماء الحياض الصغار ، فإنّه لا خصوصية للماء الموجود في الحياض من سائر المياه ، وبلوغ مادتها كراً لا يقتضي اعتصام ماء الحياض لتعددهما كما عرفت.

__________________

(١) في ص ٣٨.

٢٣٠

وعلى الجملة الأخبار الواردة في اعتصام ماء الحمام ناظرة بأجمعها إلى دفع الشبهة المتقدمة ، وليست بصدد تنزيله منزلة الجاري من جميع الجهات وبيان أن لماء الحمام خصوصية تمنع عن انفعاله بالملاقاة بلغت مادته كراً أم لم تبلغه.

هذا على أن الحمامات المصنوعة في البلاد إنما أُعدّت لاستحمام أهل البلد وعامة الواردين والمسافرين ومثلها يشتمل على أضعاف الكر ، بحيث لو أُضيف عليها مثلها من الماء البارد لم تنسلب عنها حرارتها لكي تكفي في رفع حاجة الواردين على كثرتهم ، وفرض حمام عمومي تشتمل مادته على مقدار كر خاصة أو أقل منه حتى يسأل عن حكمه فرض أمر لا تحقق له خارجاً. فمنشأ السؤال عن حكمه ليس هو قلة الماء في مادته أو كثرته ، كما أنه ليس هو احتمال خصوصية ثابتة لماء الحياض تمنع عن انفعاله بملاقاة النجس مع فرض قلته ، وعليه فلا يبقى وجه للسؤال إلاّ ما أشرنا إليه آنفاً.

وعلى الجملة إن غاية ما يستفاد من الأخبار المتقدمة أن المادّة الجعلية العالية سطحاً عن الماء القليل كالمادّة الأصلية المتساوية سطحاً معه فلا دلالة لها على سائر الجهات ، فلا بدّ في استفادة سائر الأحكام والخصوصيات من مراجعة القواعد العامة التي قدمناها سابقاً ، وهي تقتضي التفصيل بين الرفع والدفع. بيان ذلك : أن ماء الحياض إذا كان طاهراً في نفسه ، وكان المجموع منه ومن الموجود في مادته بالغاً حد الكر فهو ماء معتصم يكفي في دفع النجاسة عن نفسه فلا ينفعل بطروّها عليه ، وأمّا إذا كان ماء الحياض متنجساً فبلوغ المجموع منه ومن مادته كراً لا يكفي في الحكم بالاعتصام ، فان بلوغ المجموع من النجس والطاهر كراً المعبّر عنه بالمتمم كرّاً بنجس لا يكفي في تطهير النجس كما أسلفناه في محلّه (١) ، فيشترط في طهارة ماء الحياض لأجل اتصاله بمادته أن تكون المادّة بالغة كراً بنفسها ، لما قدّمناه من أن تطهير الماء النجس منحصر باتصاله بالكر الطاهر على الأظهر ، أو بامتزاجه معه أيضاً كما قيل ، أو‌

__________________

(١) راجع ص ٢٠٦.

٢٣١

فالحياض الصغار فيه إذا اتصلت بالخزانة لا تنجس بالملاقاة إذا كان ما في الخزانة وحده أو مع ما في الحياض بقدر الكر ، من غير فرق بين تساوي سطحها مع الخزانة أو عدمه ، وإذا تنجس ما فيها يطهر بالاتصال بالخزانة بشرط كونها كراً وإن كانت أعلى وكان الاتصال بمثل المزمَّلة (١) ، ويجري هذا الحكم في غير الحمّام أيضاً ، فإذا كان في المنبع الأعلى مقدار الكر أو أزيد وكان تحته حوض صغير نجس ، واتصل بالمنبع بمثل المزمَّلة يطهر ، وكذا لو غسل فيه شي‌ء نجس ، فإنّه يطهر مع الاتصال المذكور (٢).

______________________________________________________

بنزول المطر عليه ونحوهما من أفراد الماء العاصم ، فيشترط بحسب الرفع أن تكون المادّة بالغة حد الكر بنفسها. فما في المتن من الحكم بكفاية بلوغ المجموع من ماء الحياض والمادّة حدّ الكر في الدفع ، واعتبار بلوغ المادّة إليه بنفسها في الرفع هو الصحيح.

(١) قد اتضح مما تلوناه عليك في المقام أنه لا فرق في الحكم باعتصام ماء الحمام بين تساوي سطحي المادّة وماء الحياض واختلافهما ، وغاية الأمر أن الحكم المذكور في صورة تساوي السطحين على طبق القاعدة ، وفي صورة اختلافهما على خلافها وإنما التزمنا به لأجل الصحيحة المتقدمة.

(٢) وهل يختص الحكم المذكور أعني كفاية الاتصال بماء آخر مع اختلاف سطحي الماءين بماء الحمام ولا يتعدى عنه إلى غيره؟

ليس في شي‌ء من الصحيحة المتقدمة ، ولا في رواية بكر بن حبيب على تقدير اعتبارها ما يمكن به التعدي إلى سائر الموارد ، فإن الصحيحة دلت على أن ماء الحمام بمنزلة الجاري ، واشتملت رواية بكر على أنه لا بأس بماء الحمام إذا كان له مادّة ، وهما كما ترى مختصتان بماء الحمام.

وأمّا ما في شذرات المحقق الخراساني ( قده ) من الاستدلال في التعدي عن ماء الحمّام إلى سائر الموارد ، بما ورد في بعض روايات الباب من تعليل الحكم بطهارة ماء‌

٢٣٢

الحمّام بقوله لأن له مادّة (١) فيتعدى بعمومه إلى كل ماء قليل متصل بمادته بمثل المزمّلة ونحوها ، فهو من عجائب ما صدر منه قدس‌سره لأن التعليل المدعى مما لم نقف على عين منه ولا أثر في شي‌ء من رواياتنا صحيحها وضعيفها ، ولم ندر من أين جاء به قدس‌سره.

نعم ، يمكن أن يستدل عليه أي على التعدي بأن الحكم إذا ورد على موضوع معيّن مخصوص فهو وإن كان يمنع عن أسرائه إلى غيره من الموضوعات لأنه قياس إلاّ أن الأسئلة والأجوبة ربما تدلاّن على عدم اختصاص الحكم بمورد دون مورد ومقامنا هذا من هذا القبيل ، لما أسلفناه من أن الوجه في السؤال عن ماء الحمام ليس هو احتمال خصوصية لاستقرار الماء في الحمام أعني الخزانة والحياض الصغار الواقعتين تحت القباب بشكل خاص المشتملين على سائر خصوصيات الحمام ، وإنما الوجه في السؤال هو ما ارتكز في أذهان العرف من عدم تقوّي السافل بالعالي ، وقد دفعه عليه‌السلام بأن اتصال السافل بالعالي يكفي في الاعتصام ، ولا مانع من تقوّي أحدهما بالآخر ولو مع اختلاف سطحي الماءين ولا يضره التعدد العرفي.

وهو كما ترى لا يختص بمورد دون مورد ، وهل ترى من نفسك الحكم بعدم اعتصام ماء الحياض المتصلة بالمادّة الجعلية فيما إذا خرب الحمام بحيث لم يصدق عليه أنه حمام؟ وحيث إنّا لا نحتمل ذلك بالوجدان فنتعدى منه إلى كل ماء قليل متصل بشي‌ء من المواد ولو في غير الحمّام كماء الآنية إذا اتصل بالمادّة أو بمزمّلة أو بانبوب ونحوهما.

__________________

(١) نقله أدام الله أظلاله عن بعض مشايخه المحققين ( قدس الله أسرارهم ) وهذا وإن لم نعثر عليه في الشذرات المطبوعة إلاّ أن مقتضى ما نقله المحقق المتقدم ذكره أنه كان موجوداً في النسخة المخطوطة الأصلية وقد أسقط عنها لدى الطبع أو انّه نقله عن مجلس بحثه والله العالم بحقيقة الحال.

٢٣٣

فصل [ في ماء البئر و ... ]

ماء البئر النابع بمنزلة الجاري لا ينجس إلاّ بالتغيّر ، سواء كان بقدر الكر أو أقل ، وإذا تغيّر ثم زال تغيّره من قبل نفسه طهر لأن له مادّة (١).

______________________________________________________

فصل في ماء البئر‌

(١) الكلام في ذلك يقع في مقامين :

أحدهما : في أن ماء البئر هل ينفعل بملاقاة النجاسة أو أنه معتصم ولا ينفعل إلاّ بالتغير؟ إذ لا خلاف في نجاسته بالتغير كما لا إشكال في أنه يطهر بزواله.

وثانيهما : أنه إذا قلنا باعتصامه فهل يحكم بوجوب نزح المقدّرات تعبداً فيما إذا وقع فيه شي‌ء من النجاسات أو غيرها مما حكم فيه بالنزح كما ذهب إليه الشيخ قدس‌سره وإن بنى على عدم اعتصام ماء البئر أيضاً (١) ، أو نحملها على الاستحباب؟.

أمّا الكلام في المقام الأول فحاصله أن في المسألة أقوالاً أحدها : انفعال ماء البئر مطلقاً وهو الذي التزم به مشهور المتقدمين. ثانيها : عدم انفعاله مطلقاً وهو كالمتسالم عليه بين المتأخرين. ثالثها : التفصيل بين بلوغ ماء البئر حد الكر فيعتصم وبين عدم بلوغه كراً فلا يعتصم ، وقد نسب هذا التفصيل إلى الشيخ حسن البصروي (٢) ، وهو من أحد علمائنا الأقدمين وكأنه قدس‌سره لم يرَ خصوصية لماء البئر ، وحاله عنده حال سائر المياه ، وقد قدمنا في محلّه أنها لا تنفعل بملاقاة النجاسة إذا كانت بمقدار كر ومن هنا أورد بعض المتأخرين على المتقدمين ، القائلين بانفعال ماء البئر مطلقاً ، بأن الكر على تقدير كونه خارج البئر محكوم عندكم بالطهارة والاعتصام ، فلما ذا بنيتم‌

__________________

(١) المبسوط ١ : ١١.

(٢) نقل عنه في المستمسك ١ : ١٩٥.

٢٣٤

على نجاسته وانفعاله فيما إذا كان في البئر فهل لبعض الأمكنة خصوصية تقتضي الحكم بعدم اعتصام الماء الكثير؟ وهذا عجيب غايته.

ثم إن هناك تفصيلاً آخر نقل عن الجعفي قدس‌سره وهو أيضاً من أحد أصحابنا الإمامية ، وقد فصّل بين ما إذا كان ماء البئر بمقدار ذراعين في ذراعين وحكم فيه بعدم الانفعال ، وما إذا كان أقل من ذلك وحكم فيه بالانفعال وعدم الاعتصام (١). والظاهر بل الواقع أنه عين التفصيل المنسوب إلى البصروي ، وغاية الأمر أنه يرى الكر أربعة أشبار في أربعة ، وليس هذا تفصيلاً مغايراً للتفصيل المتقدم بوجه. وهذه هي أقوال المسألة عند أصحابنا الإمامية.

وأمّا العامّة فقد اتفق أرباب المذاهب الأربعة منهم على نجاسة ماء البئر بالملاقاة وإنما اختلفوا في بعض خصوصياته ، فالمالكية والحنفية التزما بنجاسته مطلقاً واختلفا في مقدار الواجب من النزح باختلاف النجاسات كميتة الإنسان وغيرها. والشافعية والحنابلة ذهبا إلى نجاسته فيما إذا كان أقل من قلتين وطهارته فيما إذا كان بقدرهما ومرجع ذلك إلى التفصيل بين بلوغ ماء البئر حد الكر وعدمه لأنهم حدوا الكر بقلتين. واختلفا في أن الشافعية فصّل في نجاسة ماء البئر على تقدير كونه أقل من قلتين بين ما إذا استند وقوع النجاسة في البئر إلى اختيار المكلف فحكم فيه بالنجاسة ، وما إذا لم يستند إليه كما إذا أطارتها الريح في البئر ، فذهب فيه إلى عدم انفعاله (٢) هذه أقوال ذوي المذاهب المعروفة عندهم ، وأمّا غيرهم من علمائهم فلا بدّ في الوقوف على أقوالهم من مراجعة كتبهم. وكيف كان فالمتبع عندنا دلالة الأخبار.

وقد استدلّ المتأخرون على طهارة ماء البئر واعتصامه فيما إذا لم يتغيّر بالنجاسة بعدّة روايات.

منها : صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع المروية بعدّة طرق عن الرضا عليه‌السلام قال : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلاّ أن يتغيّر ريحه. أو طعمه فينزح حتى‌

__________________

(١) نقل عنه في المستمسك : ١ : ١٩٧.

(٢) راجع كتاب الفقه على المذاهب الأربعة ١ : ٤٢ ٤٤.

٢٣٥

يذهب الريح ، ويطيب طعمه لأن له مادّة » (١) حيث دلت على أن ماء البئر واسع الحكم والاعتصام وغير مضيق بما إذا بلغ كراً كما في سائر المياه فلا ينفعل مطلقاً وهذا معنى قوله « لا يفسده شي‌ء » وأمّا قوله عليه‌السلام لأن له مادّة فهو إما علة لقوله « واسع » فيدل على أن اعتصام البئر مستند إلى أن له مادّة ، وإما علة لقوله « فيطهر » المستفاد من قوله « فينزح » أي ينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه فيطهر لأن له مادّة ، فتدل على أن ماء البئر يرفع النجاسة الطارئة عليه بعد زوال تغيّره لاتصاله بالمادّة ، ومنه يظهر أنه يدفع النجاسة أيضاً بطريق أولى لأن الدفع أهون من الرفع.

وعلى الجملة يستفاد من تلك الصحيحة أن ماء البئر معتصم لا ينفعل بملاقاة النجاسة لمكان مادته. ودعوى : أن ماء البئر واسع بمعنى أنه كثير وهو واسع الماء لا بمعنى أنه معتصم وواسع الحكم ، تندفع : بأنه على خلاف الفهم العرفي من مثلها فان العرف يستفيد منه أنه واسع الحكم على خلاف غيره من المياه ولا ينسبق إلى أذهانهم أنه واسع الماء.

وأمّا ما ذكره الشيخ الطوسي قدس‌سره من أن معنى قوله « لا يفسده شي‌ء » أنه لا يفسده شي‌ء إفساداً غير قابل للإصلاح والزوال ، فإن البئر تقبل الإصلاح بنزح المقدرات (٢).

فيدفعه : ما أفاده المحقق الهمداني قدس‌سره (٣) بتفسير منّا من أن هذا الكلام لو كان صدر من متكلّم عادي لأجل تفهيم المعنى المدعى كان مضحكاً عند أبناء المحاورة فكيف يصدر مثله عن الإمام الذي هو أفصح المتحاورين وقال : ولعمري إن طرح الرواية وردّ علمها على أهلها أولى من إبداء هذا النحو من الاحتمالات العقلية التي لا يكاد يحتمل المخاطب إرادتها من الرواية خصوصاً في جواب المكاتبة. وعليه فمعناه ما قدّمناه من أنه واسع لا ينفعل بشي‌ء من النجاسات فالمناقشة في دلالتها ساقطة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤١ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١٢ ، وص ١٧٢ ب ١٤ ح ٦.

(٢) الاستبصار ١ : ٨٥ / ٨٧.

(٣) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٣٢ السطر ٢٧.

٢٣٦

وأمّا المناقشة في سندها بدعوى : أن دلالتها وإن كانت تامة كما مر إلاّ أنها كانت بمرأى من المتقدمين ، ومع ذلك لم يفتوا على طبقها وأعرضوا عنها ، وإعراض المشهور يسقط الرواية عن الاعتبار إذ قد اشترطنا في حجية الأخبار أن لا تكون معرضاً عنها عند الأصحاب.

فيمكن المناقشة فيه كبرى وصغرى. أمّا بحسب الكبرى : فلما قدمنا في بحث الأُصول من أن حجية الرواية غير مشروطة بذلك ، وإعراض الأصحاب عن رواية صحيحة لا يكون كاسراً لاعتبارها ، كما أن عملهم على طبق رواية ضعيفة لا يكون جابراً لضعفها (١). وأمّا الصغرى : فلأجل أن المتقدمين لم يعرضوا عن الصحيحة بوجه بل اعتنوا بها كمال الاعتناء ، فأوّلها بعضهم كما عن الشيخ الطوسي قدس‌سره وربما يظهر من استبصاره أيضاً ، وبعضهم رأى المعارضة بينها وبين ما دلّ على نجاسة البئر ورجّح معارضها عليها لأنه أكثر بحسب العدد ، ويعتبر في تحقق الإعراض أن لا تكون الرواية معارضة بشي‌ء. وهذا كما في صحيحة زرارة الواردة فيمن صلّى العصر ثم التفت إلى انّه لم يأت بالظهر. حيث دلت على أنه يجعلها ظهراً ، فإنّها أربع مكان أربع (٢) وهي مع عدم ابتلائها بالمعارض غير معمول بها عند الأصحاب ، فبناء على أن اعراض المشهور عن رواية يسقطها عن الاعتبار لا يمكن العمل على طبق الصحيحة المتقدمة ، كما أنه بناء على مسلكنا لا مانع من العمل على طبقها. وأمّا إذا كانت الرواية معارضة بشي‌ء فالعمل بمعارضها لا يوجب تحقق الاعراض عن الرواية ، إذ لعلّهم لم يعملوا بها لرجحان معارضها عندهم ، فالرواية في المقام مما لا مناقشة في شي‌ء من سنده ولا في دلالته.

وعلى الجملة الصحيحة حصرت موجب النجاسة في البئر بالتغيّر فملاقاة النجاسة لا توجب انفعالها ، كما دلت على أن وجود المادّة ترفع نجاستها بعد زوال تغيّرها‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٢٠١.

(٢) روى زرارة في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال : « إذا نسيت الظهر حتى صليت العصر فذكرتها وأنت في الصلاة أو بعد فراغك فانوها الاولى ثم صل العصر ، فإنّما هي أربع مكان أربع ... » المرويّة في الوسائل ٤ : ٢٩١ / أبواب المواقيت ب ٦٣ ح ١.

٢٣٧

ومقتضى إطلاقها عدم الفرق في ذلك كلّه بين كثرة الماء في البئر وقلته.

ومن جملة الروايات الدالّة على عدم انفعال البئر بالملاقاة صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام قال : « سألته عن بئر ماء وقع فيها زبيل ( زنبيل ) من عذرة رطبة أو يابسة ، أو زبيل من سرقين أيصلح الوضوء منها؟ قال : لا بأس » (١). حيث دلت على عدم انفعال ماء البئر بملاقاة العذرة. لعدم جواز الوضوء من الماء المتنجس بالضرورة ، وتوضيح دلالتها : أن السائل فرض أن العذرة كانت بمقدار زنبيل فان الزنبيل ينسج من أوراق الأشجار وأمثالها ولا معنى لكونه من العذرة ليكون السؤال عن وقوع زنبيل معمول من العذرة في البئر ، بل السؤال إنما هو عن وقوع عذرة فيها هي بقدر زنبيل وأنه يقتضي انفعالها أو لا يقتضيه ، وأجابه عليه‌السلام بقوله لا بأس. أي لا بأس بالوضوء من الماء الذي لاقته عذرة بقدر الزنبيل ، فدلالتها على عدم انفعال البئر بملاقاة العذرة واضحة.

والمناقشة فيها بأن ما لاقى الماء قطعاً هو الزنبيل ، ولم يعلم أن العذرة أيضاً لاقت الماء ، فلا دلالة لها على اعتصام ماء البئر عن الانفعال.

ساقطة أساساً لما عرفت من أن المفروض هو ملاقاة العذرة للماء ، وهي بقدر الزنبيل لا أن الملاقي له هو الزنبيل الذي فيه عذرة حتى يناقش في ملاقاة العذرة للماء وإلاّ لكان الأنسب أن يسأل عن زنبيل فيه عذرة لا عن زنبيل من العذرة كما في الصحيحة ، هذا أوّلاً.

وثانياً : لو سلمنا أن السؤال عن زنبيل فيه عذرة فكيف لا تلاقي العذرة للماء بعد فرض ملاقاة الزنبيل له. فهل ينسج الزنبيل من حديد وشبهه كي يمنع عن إصابة الماء للعذرة؟ فإنّه يصنع من الأوراق وهي لا تكون مانعة عن سراية الماء إلى جوفه.

وثالثاً : لو أغمضنا عن ذلك أيضاً ، فكيف يسأل علي بن جعفر عن ملاقاة الزنبيل لماء البئر مع وضوح أن الزنبيل ليس من الأعيان النجسة ، ولم يفرض تنجسه حتى يوجب انفعال ماء البئر ، ولا يكاد يخفى مثل ذلك عليه فهذه المناقشة ساقطة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٢ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٨.

٢٣٨

وتوهّم أن المراد بالعذرة عذرة ما يؤكل لحمه من الشاة والبقر ونحوهما دون عذرة الإنسان أو غيره مما لا يؤكل لحمه.

مندفع : أولاً : بأن العذرة مرادفة للخرء وهو الذي يعبّر عنه في الفارسية بلفظة مخصوصة ويختص استعمالها بمدفوع الإنسان أو ما يشابهه في النجاسة والريح الكريهة من مدفوع سائر الحيوانات كمدفوعي الكلب والهرة ونحوهما ، وقد أُطلقت عليه في بعض الروايات أيضاً فراجع (١) ، ولا يطلق على مدفوع ما يؤكل لحمه ، وانّما يطلق عليه السرقين الذي هو معرب سرگين.

وثانياً : أن سؤال الراوي عن حكم زنبيل من سرقين بعد سؤاله عن الزنبيل من العذرة ، ينادي بأعلى صوته على أن المراد بالعذرة ليس هو عذرة ما يؤكل لحمه وهي التي يعبّر عنه في لغة العرب بالسرقين ، وإلاّ لم يكن وجه لسؤاله عنه ثانياً ، فهذا التوهّم أيضاً لا أساس له.

ودعوى أن المراد نفي البأس بعد النزح المقدّر لأنه مقتضى الجمع العرفي بين المطلق والمقيد ، فإن الصحيحة قد دلت على نفي البأس بالتوضؤ بماء البئر بعد ملاقاة النجس مطلقاً ، فلا مناص من تقييدها بالأخبار الدالّة على لزوم النزح بملاقاة النجس.

فيدفعها أن الأخبار الآمرة بالنزح لا دلالة لها على النجاسة. إذن فلا وقع لهذا الاحتمال ولعمري أن مثل هذه الاحتمالات يوجب سد باب الاستنباط من الأخبار.

ومنها : صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الفأرة تقع في البئر فيتوضأ الرجل منها ، ويصلي وهو لا يعلم ، أيعيد الصلاة ويغسل ثوبه؟ فقال : لا يعيد الصلاة ، ولا يغسل ثوبه » (٢) وقد دلت على عدم انفعال ماء البئر بوقوع الفأرة فيه ، فان الظاهر من وقوع الفأرة في البئر إنما هو موتها فيها ، كما يقال وقع فلان في‌

__________________

(١) ففي صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنّور أو كلب ... » الحديث. حيث أُطلقت العذرة على مدفوعي السنّور والكلب لما فيهما من الرائحة الكريهة. المروية في الوسائل ٣ : ٤٧٥ / أبواب النجاسات ب ٤٠ ح ٥.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٣ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٩.

٢٣٩

البئر أي مات فيها ، حيث لا موجب لتوهّم انفعال ماء البئر بخروج الفأرة منها حية. ثم إن لفظة فاء في قوله عليه‌السلام « فيتوضأ » تدل على أن مفروض كلام السائل هو التوضؤ بعد وقوع الفأرة فيه ، وهو الذي حكم عليه‌السلام فيه بطهارة البئر وعدم إعادة الصلاة وعدم وجوب الغسل ، وأمّا إذا لم يدر أن وضوءه كان قبل وقوع الفأرة في البئر أم كان بعده فهو خارج عن كلامه ، فدلالتها على عدم انفعال البئر ظاهرة. نعم ، لا إطلاق لها حتى تشمل صورة تغيّر البئر بوقوع الفأرة فيها أيضاً ، لأن عدم تعرضه عليه‌السلام لنجاسة ماء البئر على تقدير تغيّره ، لعلّه مستند إلى أن وقوع مثل الفأرة في البئر لا يوجب تغيّر مائها بوجه.

ومنها : رواية أُخرى لمعاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سمعته يقول : لا يغسل الثوب ، ولا تعاد الصلاة مما وقع في البئر إلاّ أن ينتن فإن أنتن غسل الثوب وأعاد الصلاة ، ونزحت البئر (١). وقد دلت أيضاً على عدم انفعال ماء البئر بملاقاة النجاسة في غير صورة التغيّر بها ، وهو المراد من قوله إلاّ أن ينتن ولعلّه إنما عبّر به ولم يعبّر بالتغيّر من أجل أن الغالب فيما يقع في البئر هو الميتة من آدمي أو فأرة ونحوهما ، والميتة تغيّر الماء بالنتن.

ومنها : موثقة أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « بئر يستقى منها ويتوضأ به ، وغسل منه الثياب وعجن به ، ثم علم أنه كان فيها ميّت ، قال : لا بأس ولا يغسل منه الثوب ولا تعاد منه الصلاة » (٢). والوجه في دلالتها ظاهر ، والمراد بالميت فيها إما ميت الإنسان كما هو الظاهر منه في الإطلاقات. وإما مطلق الميت في مقابل الحي. وإنما لم تتعرض لنجاسة البئر على تقدير تغيّرها بالميت من جهة أن مفروض كلام السائل هو صورة عدم تغيّرها بها حيث قال : ثم علم أنه كان ... فان الماء لو كان تغيّر بالميت لالتفت عادة إلى وجود الميت فيه حال الاشتغال والاستعمال بشي‌ء من طعمه أو ريحه أو لونه كما لا يخفى ، فلا إطلاق لها بالإضافة إلى صورة التغيّر‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٣ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١٠.

(٢) الوسائل ١ : ١٧١ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٥.

٢٤٠