موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

[١١١] مسألة ١٣ : إذا كان كر لم يعلم أنه مطلق أو مضاف فوقعت فيه نجاسة‌ لم يحكم بنجاسته (*) (١) وإذا كان كرّان أحدهما مطلق والآخر مضاف وعلم وقوع النجاسة في أحدهما ، ولم يعلم على التعيين يحكم بطهارتهما (٢).

______________________________________________________

الإجمالي إنما ينجز المعلوم فيما إذا جرت في أطرافه الأُصول في نفسها وتساقطت بالمعارضة ، وإلاّ فهو ليس علة تامة للتنجز بنفسه كما ذكرناه في الأُصول ، وليس الأمر كذلك في المقام لأن الأصل لا يجري في طرف النجس فيبقى استصحاب عدم ملاقاة الماء الطاهر للنجس بلا معارض ، ومعه لا يترتب على العلم الإجمالي بملاقاة أحدهما للنجس أثر.

(١) حكم الماتن قدس‌سره بطهارته من دون أن يرتب عليه آثار الماء المطلق وقد حكم في نظير المقام أعني الماء المشكوك كريته بالطهارة ولم يرتب عليه آثار الكرية ، وهو نظير ما ذكره شيخنا الأنصاري قدس‌سره في مبحث القطع من أن المائع إذا تردد بين البول والماء حكم بطهارته ، ولا يترتب عليه آثار الماء كجواز التوضي منه (١) ، وهذا كلّه على مسلكه متين. وأمّا على مسلكنا من جريان الأصل في الأعدام الأزلية فلا محيص من الحكم بنجاسة المائع في المقام كما قلنا بها في نظائره ، لأن ما خرج عن الحكم بالانفعال بملاقاة النجاسة إنما هو عنوان الكر من الماء ، وعنوان الماء أمر حادث مسبوق بالعدم ، والأصل عدم تحققه في المائع الموجود ، فيحكم بانفعاله إلاّ أن يكون مسبوقاً بالإطلاق.

(٢) هذه المسألة كالمسألة المتقدمة بعينها وهي ما إذا كان هناك ماءان أحدهما كر والآخر قليل واشتبه أحدهما بالآخر ولاقت أحدهما نجاسة. وما قدمناه في تلك المسألة من التفصيل يأتي فيها حرفاً بحرف ، فراجع.

__________________

(*) الظاهر أن يحكم بنجاسته إلاّ إذا كان مسبوقاً بالإطلاق على ما تقدم.

(١) لاحظ فرائد الأُصول ١ : ٣٠.

٢٠١

[١١٢] مسألة ١٤ : القليل النجس المتمّم كرّاً بطاهر أو نجس ، نجس على الأقوى (١).

______________________________________________________

القليل المتمم كرّاً

(١) قد اختلفوا في تطهير الماء النجس القليل على أقوال ثلاثة :

أحدها : ما ذهب إليه المشهور من أن تتميم القليل النجس كرّاً سواء كان بالماء الطاهر أو النجس لا يوجب طهارته ، بل ينحصر طريق تطهيره باتصاله بالكر أو الجاري أو ما الحق بهما وهو المطر.

وثانيها : ما ذهب إليه السيد (١) وابن حمزة قدس‌سرهما (٢) من كفاية تتميمه كرّاً بالماء الطاهر ، وعدم كفاية التتميم بالماء النجس.

وثالثها : ما ذهب إليه ابن إدريس قدس‌سره من كفاية التتميم كرّاً مطلقاً كان بالماء الطاهر أو النجس (٣). وهذه هي أقوال المسألة :

والذي ينبغي أن يتكلّم فيه في المقام إنما هو ما ذهب إليه المشهور ، وما اختاره صاحب السرائر قدس‌سره لأنّا إما أن نقول بعدم كفاية التتميم كرّاً مطلقاً كما التزم به المشهور ، وإما أن نقول بكفاية التتميم كذلك أي مطلقاً كما اختاره ابن إدريس. وأمّا التفصيل بين التتميم بالطاهر والتتميم بالنجس كما هو قول السيد وابن حمزة قدس‌سرهما فهو مما لا وجه له ، لأنّا على تقدير القول بكفاية التتميم كرّاً لا نفرق فيه بين الماء الطاهر والنجس ، ولا بين التتميم بالمطلق والمضاف إذا لم يوجب زوال الإطلاق عن الماء ، بل نتعدّى إلى كفاية التتميم بالأعيان النجسة أيضاً كالبول فيما إذا لم يوجب التغيّر في الماء ، فإن صفة الكرية على هذا القول هي العاصمة عن الانفعال وهي التي تقتضي الطهارة مطلقاً سواء حصلت بالماء أو بغيره ، وسواء حصلت بالطاهر أو‌

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى : ٢ : ٣٦١.

(٢) الوسيلة : ٧٦.

(٣) السرائر ١ : ٦٣.

٢٠٢

بالنجس ، بل ملازمة القول بكفاية التتميم بالأعيان النجسة ، ووضوح بطلان هذا الالتزام هي التي تدلنا على صحة ما ذهب إليه المشهور من عدم كفاية التتميم كرّاً مطلقاً كما تأتي الإشارة إليه إن شاء الله.

وكيف كان فلا بدّ من النظر إلى أدلّة الأقوال ، فقد استدل المرتضى قدس‌سره على ما ذهب إليه من كفاية التتميم بالماء الطاهر بوجهين :

أحدهما : أن بلوغ الماء كرّاً يوجب استهلاك النجاسة الطارئة عليه وانعدامها بلا فرق في ذلك بين سبق الكرية على طرو النجاسة ولحوقها.

وهذا الوجه كما ترى مصادرة ظاهرة ، إذ أي تلازم عقلي بين كون الكرية السابقة على طرو النجاسة موجبة لاستهلاكها وارتفاعها ، وبين كون الكرية اللاّحقة كذلك لتجويز العقل أن لا تكون الكرية اللاّحقة رافعة للنجاسة وموجبة لاستهلاكها. على أن المسألة ليست بعقلية فالمتبع فيها ظواهر الأدلة الشرعية كما لا يخفى.

وثانيهما : أن العلماء أجمعوا على طهارة الكر الذي فيه شي‌ء من الأعيان النجسة بالفعل مع احتمال أن تكون النجاسة طارئة عليه قبل كريته ، فلولا كفاية بلوغ الماء كرّاً مطلقاً في الحكم بطهارته لما أمكن الحكم بطهارة الماء المذكور.

وهذا منه قدس‌سره عجيب ، فإن طهارة الكر الذي وجد فيه نجاسة مسألة ذات شقوق وصور ، وقد حكمنا في بعضها بالطهارة وناقشنا في بعضها ، وإنما حكمنا بالطهارة في البعض لأجل استصحاب الطهارة أو قاعدتها ، وهو حكم ظاهري فكيف يمكن بذلك إثبات الطهارة الواقعية في المقام ، والقول بأن تتميم النجس كرّاً موجب لطهارة الماء واقعاً. فهذا الوجه كالوجه السابق مصادرة.

واستدل صاحب السرائر قدس‌سره (١) على مذهبه من كفاية التتميم كرّاً مطلقاً ولو بالماء النجس بما ورد عنهم عليهم‌السلام من قولهم « إذا بلغ الماء كرّاً لم يحمل خبثاً » (٢) وذكر أن كلمة « خبثاً » نكرة واقعة في سياق النفي وهي تفيد العموم فتشمل‌

__________________

(١) لاحظ السرائر ١ : ٦٣.

(٢) المستدرك ١ : ١٩٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٦.

٢٠٣

الخبث المتقدم والمتأخر ، ومعنى لم يحمل : أنه لا يتصف بالخبث ، فان العرض محمول على معروضه وصفة له والكر لا يتصف بالخبث مطلقاً كما هو معنى الاعتصام.

والوجه في عدم استدلال ابن إدريس وغيره من الأصحاب في المقام بما هو المعروف في الاستدلال به على اعتصام الكر من قولهم عليهم‌السلام « إذا بلغ الماء قدر كر أو قدر راويتين لا ينجسه شي‌ء » (١) ظاهر ، وهو أن نجس من باب التفعيل وهو بمعنى الإحداث والإيجاد. نجّسه بمعنى أوجد النجاسة وأحدثها ولا ينجّسه أي لا يوجد النجاسة ولا يحدثها في الكرّ ، فتختص هذه الأخبار بالنجاسة الطارئة بعد كرية الماء ، ولا تشمل النجاسة السابقة على الكرية ، وهذا بخلاف الرواية المتقدمة لأنها تقتضي عدم اتصاف الكر بالخبث مطلقاً ، فان كان في الماء نجاسة سابقة فمعنى عدم اتصافه بها كرّاً أنه يلقي النجاسة عن نفسه ، كما أنها إذا كانت متأخرة معناه أن الكر يدفع النجاسة ولا يقبلها.

وربّما يتوهّم أن الرواية لا تشمل الرفع والدفع ، لأن معنى الدفع أن الكر طاهر في نفسه لا يقبل عروض النجاسة عليه ، كما أن معنى الرفع أن الكر نجس إلاّ أنه يرفع النجاسة عن نفسه ، وهذان المعنيان لا يتحققان في شي‌ء واحد ولا يمكن إرادتهما في استعمال فأرد ، لأن إطلاق أن الكر لا يحمل الخبث وإرادة الرفع والدفع منه معاً يؤول إلى أن الماء الكر الواحد طاهر ونجس في زمان واحد وهو أمر مستحيل.

إلاّ أن المعنى الذي فسرنا به الرواية عند تقريب الاستدلال بها يدفع هذه المناقشة لأن « لا يحمل » بمعنى لا يتصف أعم من أن يكون في الماء نجاسة قبل كريته أو بعده. نعم ، إذا كانت عليه نجاسة قبل كريته فمعنى عدم اتصافه بالخبث : أنه يلقيه عن نفسه كما ان معناه بالإضافة إلى النجاسة الطارئة بعد كريته أنه يدفعها ولا يقبلها كما مرّ.

ويظهر صدق ما ادعيناه بالمراجعة إلى موارد الاستعمالات عرفاً ، فتراهم يقولون فرس جموح إذا ركب رأسه وأبى من الركوب عليه ، ولو ركبه أحد ألقاه مِن على‌

__________________

(١) لاحظ الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ ، ٢ ، ٥ ، ٦ وكذا في ص ١٤٠ ب ٣ ح ٨.

٢٠٤

ظهره ، فهو كما يصدق فيما إذا استعصى من الركوب عليه ابتداء كذلك يصدق فيما إذا استعصى وألقى الراكب مِن على ظهره بعد الركوب عليه.

وذكر المحقق الهمداني قدس‌سره أن الرواية إذا عرضناها على العرف يستفيدون منها أن الخبث لا يتجدد في الكر لا أنه يرفع الخبث السابق على كرّيّته (١). ولكنه أيضاً مما لا يمكن المساعدة عليه ، لما عرفت من أن « لم يحمل » بمعنى لا يتصف وهو أعم ، فالرواية بحسب الدلالة غير قابلة للمناقشة.

وإنما الاشكال كلّه في سندها لأنها مرسلة ، ولم توجد في شي‌ء من جوامعنا المعتبرة ، ولا في الكتب الضعيفة على ما صرح به المحقق قدس‌سره في المعتبر (٢) بل وكتب العامة أيضاً خالية منها. نعم ، مضمونها يوجد في رواياتهم كما رووا أن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل خبثاً (٣) إذ لا بدّ من حمل القلتين على الكر حتى لا تنافيها روايات الكر. ونظيرها من طرقنا ما ورد من أن « الماء إذا كان أكثر من راوية لا ينجسه شي‌ء » (٤) هذا على أنها لو كانت موجودة في جوامعنا أيضاً لم نكن نعتمد عليها لإرسالها.

نعم ، ذكروا في تأييد الرواية وتقويتها : أنها وإن كانت مرسلة إلاّ أن صاحب السرائر ادعى الإجماع على نقلها ، وأنها مما رواه الموافق والمخالف وهذه شهادة منه على صحّة الرواية سنداً.

ولا يخفى عليك أن هذه النسبة قد كذبها المحقق قدس‌سره بقوله : إن كتب الحديث خالية عنه أصلاً ، حتى أن المخالفين لم يعلموا بها إلاّ ما يحكى عن ابن حي‌

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٢٣ السطر ٢٤.

(٢) المعتبر ١ : ٥٢ ٥٣.

(٣) قد قدّمنا نقلها [ في ص ٨٤ ] عن المجلّد الأوّل من سنن البيهقي ص ٢٦٠ : « إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ( خبثاً ) ».

(٤) رواها زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال : « وقال أبو جعفر عليه‌السلام إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شي‌ء ... » الحديث. وهي مروية في الوسائل ١ : ١٤٠ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ٩.

٢٠٥

وهو زيدي منقطع المذهب ، وما رأيت شيئاً أعجب من دعوى ابن إدريس إجماع المخالف والمؤالف على نقلها وصحتها. ولم يعمل على طبقها ولم ينقلها أحد من الموافق والمخالف. ومن هذا ظهر أنّا لو قلنا باعتبار الإجماعات المنقولة أيضاً لا نقول باعتبار هذا الإجماع الذي نقله ابن إدريس فضلاً عما إذا لم نقل باعتبارها كما لا نقول ، لأنها إخبارات حدسية. وعلى الجملة الرواية غير تامة من حيث السند.

ثم لو تنزلنا وبنينا على صحة سندها أيضاً لم يمكن الركون إليها ، لأنها معارضة بما دلّ على التجنب عن غسالة الحمام معللاً بأن فيها غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لأهل البيت وهو شرهم (١) فإن إطلاقها يشمل ما إذا بلغت الغسالة كرّاً بما يرد عليها من المياه المتنجسة ، كما لا يبعد ذلك في الحمامات القديمة والنسبة بينها وبين المرسلة عموم من وجه فيتعارضان في الغسالة المتممة كرّاً فيتساقطان.

وكذلك معارضة بما دلّ على انفعال الماء القليل بملاقاة النجس ، والنسبة بينها وبين المرسلة أيضاً عموم من وجه ، وتفصيل ذلك : أن لأدلة انفعال القليل إطلاقاً من جهتين.

إحداهما : أن القليل إذا تنجس تبقى نجاسته إلى الأبد ما لم يطرأ عليه مزيل شرعي ، بلا فرق في ذلك بين المتمم كرّاً وغيره من أفراد القليل ، لوضوح أن التتميم كرّاً لم يثبت كونه مزيلاً للنجاسة شرعاً.

وثانيتهما : أن القليل ينفعل بملاقاة النجس مطلقاً سواء بلغ كرّاً بتلك الملاقاة أم لم يبلغه. ورواية ابن إدريس على تقدير تمامية سندها ودلالتها ، معارضة بتلك الأدلّة المطلقة من جهتين ، إذ المرسلة كما عرفت تقتضي طهارة المتمم كرّاً لما قدمناه من‌

__________________

(١) كما في موثقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : « وإياك أن تغتسل من غسالة الحمام ، ففيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت وهو شرهم ، فان الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب وإن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه » المروية في الوسائل ١ : ٢٢٠ / أبواب الماء المضاف ب ١١ ح ٥.

٢٠٦

تصوير الجامع بين رفع النجاسة ودفعها ، ولا معارضة بينها وبين أدلة الانفعال بالإضافة إلى دفع النجاسة اللاّحقة بوجه ، وأمّا بالنسبة إلى رفع النجاسة السابقة على الكرية فبينها وبين أدلّة انفعال القليل معارضة ، والنسبة بينهما عموم من وجه.

أمّا فيما إذا كان المتمم بالكسر نجساً فلأن أدلّة الانفعال تقتضي بإطلاقها من الجهة الاولى بقاء نجاسة القليل مطلقاً إلى أن ترتفع برافع شرعي سواء تمم كرّاً بالنجس أم كان باقياً على قلته ومقتضى المرسلة أن بلوغ الماء كرّاً يوجب الاعتصام والطهارة مطلقاً سواء أكانت الكرية سابقة على ملاقاة النجس أم كانت لاحقة عليها. فيتعارضان في القليل المتمم كرّاً.

وأمّا إذا كان المتمم بالكسر طاهراً فلأجل أن أدلّة الانفعال تقتضي بإطلاقها من الجهة الثانية نجاسة القليل بالملاقاة سواء بلغ كرّاً بتلك الملاقاة أيضاً أم لم يبلغه. كما أن المرسلة تقتضي طهارة الماء البالغ كرّاً واعتصامه سواء أكانت الكرية لاحقة على ملاقاة النجس أم سابقة عليها فيتعارضان في المتمم كرّاً بطاهر فيتساقطان ، فلا يمكن الاستناد إلى المرسلة في الحكم بطهارة المتمم كرّاً ، ولا إلى ما يعارضها في الحكم بنجاسته. نعم ، بناء على ذلك يحكم بطهارة المتمم كرّاً وذلك من جهة الرجوع إلى عمومات الفوق وهو ما دلّ على عدم انفعال الماء مطلقاً إلاّ بالتغيّر في أحد أوصافه الثلاثة كما دلّ على عدم جواز الشرب والوضوء من الماء إذا غلب عليه ريح الجيفة وتغيّر طعمه وعلى جوازهما فيما إذا غلب الماء على ريح الجيفة (١) وما نفى البأس عن ماء الحياض إذا غلب لون الماء لون البول (٢).

وهذه العمومات تقتضي طهارة الماء مطلقاً ، وقد خرجنا عنها في القليل غير البالغ‌

__________________

(١) كما في صحيحة حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب ، فاذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا توضأ منه ولا تشرب » المروية في الوسائل ١ : ١٣٧ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١.

(٢) كما في رواية العلاء بن الفضيل قال « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحياض يبال فيها؟ قال : لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول » المروية في الوسائل ١ : ١٣٩ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ٧.

٢٠٧

كرّاً بملاقاة النجس ، لما دلّ على انفعال القليل بالملاقاة ، وأمّا غيره من الأفراد فيبقى تحت العمومات لا محالة ومنها الماء المتمم كرّاً بطاهر أو نجس ، إذ لا تشمله أدلة انفعال القليل ، لابتلائها بالمعارض وهو المرسلة المتقدمة ، وبعد تساقطهما لا وجه لرفع اليد عما تقتضيه العمومات المتقدمة وقد عرفت أنها تقتضي طهارة الماء المتمم كرّاً مطلقاً كان المتمم طاهراً أم كان نجساً ، هذا إذا تمت مرسلة السرائر سنداً ودلالة.

وأمّا إذا لم تتم دلالتها كما عليه بعضهم أو سندها كما قدمناه فوصلت النوبة إلى الأُصول العملية فهل يحكم بطهارة المتمم كرّاً مطلقاً أو فيما إذا تمم بطاهر أو بنجاسته كذلك؟.

يختلف هذا باختلاف المباني في المسألة فعلى مسلك المشهور من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية لا مانع من استصحاب نجاسة كلا الماءين إذا كان المتمم أيضاً نجساً ، ولا معارض للاستصحاب في شي‌ء منهما ، ولعلّ هذا هو الوجه فيما أفاده الشيخ قدس‌سره من عدم الإشكال في نجاسة المتمم كرّاً فيما إذا تمم بنجس (١) ، وأمّا إذا كان المتمم بالكسر طاهراً سواء امتزج بالمتمم بالفتح أم لم يمتزج فلا محالة يكون استصحاب النجاسة في المتمم بالفتح معارضاً لاستصحاب الطهارة في المتمم بالكسر أمّا في صورة امتزاجهما فالمعارضة ظاهرة لأنهما حينئذٍ ماء واحد وموضوع فأرد لدى العرف ، وأمّا في صورة عدم الامتزاج فللإجماع القطعي على أن الماء الواحد لا يكون محكوماً بحكمين واقعاً ولا ظاهراً فيسقط الاستصحابان ويرجع إلى قاعدة الطهارة.

وأمّا على مسلكنا من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، فلا يبقى لجريان استصحابي النجاسة والطهارة مجال في شي‌ء من الصورتين ، بل يرجع إلى قاعدة الطهارة مطلقاً سواء تممناه بالماء الطاهر أو النجس ، وسواء حصل بينهما الامتزاج أم لم يحصل كما ذهب إليه ابن إدريس قدس‌سره (٢).

__________________

(١) المبسوط ١ : ٧.

(٢) السرائر : ٦١.

٢٠٨

ثم إنه ربما يستدل على طهارة المتمم كرّاً بالأخبار الواردة في اعتصام الكر بمضمون أن الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شي‌ء (١). فان « لا ينجسه » على ما شرحناه سابقاً (٢) وإن كان بمعنى عدم إحداث النجاسة في الكر ، فلا دلالة لها على أن الكرية ترفع النجاسة المتقدمة عليها ، إلاّ أنّا أشرنا سابقاً إلى أن الكرية موضوعة للحكم بالاعتصام مطلقاً تحقّقت مقارنة للملاقاة بحسب الزمان أم تقدّمت عليها كذلك وذكرنا أن الموضوع يعتبر أن يتقدم على حكمه رتبة وطبعاً ، ولا يعتبر فيه أن يتقدم على حكمه زماناً ، وعليه بنينا الحكم بالطهارة في الماء الذي طرأت عليه الكرية والملاقاة في زمان واحد معاً.

وكيف كان فمقتضى الأخبار المتقدمة اعتصام الكر مطلقاً وحيث أن الكرية حاصلة في المقام فلا بدّ من الحكم بطهارة المتمم بالكر لبلوغه حد الكر ولو بالملاقاة ، وكذا في المتمم بالفتح للإجماع القطعي على أن الماء الواحد لا يتصف بحكمين ولا سيما بعد الامتزاج وانتشار الأجزاء الصغار من كل واحد منهما في الآخر ، وهي غير قابلة للتجزي خارجاً وإن كانت قابلة له عقلاً ، فلا محيص من الحكم بطهارة كل جزء من الماء المتمم بالفتح الذي لاقاه جزء من الماء المحكوم بالطهارة لأنه ماء واحد.

هذا غاية تقريب الاستدلال بالأخبار المتقدمة ، ومع ذلك كلّه لا يمكن المساعدة عليه بوجه. وذلك لأن التقدم الرتبي وإن كان مصححاً لموضوعية الموضوع وتقدم الكرية أيضاً رتبي ، إلاّ أن هذا إنما يقتضي الطهارة في الماء إذا لم يستند حصول الكرية إلى نفس ملاقاة النجس كما في انبوبين في أحدهما ماء كر وفي الآخر بول ، وأوصلناهما إلى ماء قليل في زمان واحد معاً ، فاستندت كريته إلى أمر آخر غير ملاقاة النجس وهو الماء الموجود في أحد الأُنبوبين. وأمّا إذا استندت كريته إلى ملاقاة النجس فلا وجه للحكم بطهارته ، لأن المستفاد من روايات الباب أن يكون الماء بالغاً حد الكر مع قطع النظر عن ملاقاة النجس ، إذ لو حصلت الكرية بالملاقاة كما في المقام لصدق‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ ، ٢ وغيرهما.

(٢) في ص ٢٠٤.

٢٠٩

[ فصل في ماء المطر ]

فصل في ماء المطر ماء المطر حال تقاطره من السماء (١)

______________________________________________________

صدقاً حقيقياً أن النجس لاقى القليل ، لقلة الماء حين ملاقاة النجس ، وهو موضوع للحكم بالانفعال ، وهذا بخلاف ما إذا حصلت بأمر آخر غير الملاقاة كما في الأُنبوبين فإن الماء كر حينئذٍ مع قطع النظر عن الملاقاة ، لاتصاله بالكر حين ملاقاة النجس ، فلا يصدق أن النجس لاقى ماء قليلاً ، ولأجل صدق الملاقاة مع القليل يحكم بنجاسة المتمم كرّاً وإن ترتبت الكرية على ملاقاتهما ، فهو كر محكوم بالانفعال ، وظاهر الأخبار أن العاصم هو الكر غير المحكوم بالنجاسة.

فصل في ماء المطر‌

(١) قد ادعوا الإجماع على اعتصام ماء المطر حال تقاطره من السماء ، وعدم انفعاله بملاقاة شي‌ء من النجاسات والمتنجسات ما لم يتغيّر في أحد أوصافه الثلاثة على تفصيل قدمناه سابقاً (١) ، بل هو اتفاقي بين المسلمين كافة ولم يقع في ذلك خلاف إلاّ في بعض خصوصياته من اعتبار الجريان التقديري أو الفعلي مطلقاً أو من الميزاب إلى غير ذلك من الخصوصيات ، كما لا إشكال في أن المطر يطهّر المتنجسات القابلة للتطهير. وبالجملة حال ماء المطر حال الكر في الاعتصام والتطهير ، وأمّا الكلام في كيفية التطهير بالمطر وشرائطه من التعدد أو التعفير فيما يعتبر في تطهيره أحدهما أو عدمهما ، وكفاية مجرّد رؤية المطر لمثله فتفصيلها موكول إلى بحث كيفية تطهير المتنجسات (٢) ، وإنما نتعرض في المقام لبعضها على نحو الاختصار حسبما يتعرض له السيد قدس‌سره فالكلام في المقام في اعتصام ماء المطر ، ومطهريته للمتنجسات‌

__________________

(١) في ص ٥٦ ٦٠.

(٢) قبل المسألة [٣٠٨].

٢١٠

القابلة للتطهير.

فنقول : قد ذهب المشهور إلى اعتصام ماء المطر ومطهريته ، واستدلوا عليه بمرسلة الكاهلي الدالّة على أن كل شي‌ء يراه المطر فقد طهر (١).

ويدفعه : ما ذكرناه غير مرة من أن المراسيل غير قابلة للاعتماد عليها. ودعوى انجبارها بعمل الأصحاب ، ساقطة صغرى وكبرى. أمّا الأُولى : فلعدم إحراز اعتمادهم على المراسيل ، ولا سيما في المقام لوجود غيرها من الأخبار المعتبرة التي يمكن أن يعتمد عليها في المسألة. وأمّا الثانية فلأجل المناقشة التي ذكرناها في محلّها فراجع.

فالصحيح أن يستدل على ذلك بروايات ثلاث :

الأُولى : صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في ميزابين سالا أحدهما بول والآخر ماء المطر فاختلطا فأصاب ثوب رجل ، لم يضرّه ذلك » (٢) فإنّها دلت على عدم انفعال المطر بإصابة البول. نعم ، لا بدّ من رفع اليد عن إطلاقها حيث تشمل صورة تساوي الماء والبول وهو يستلزم خروج ماء المطر عن الإطلاق بل وتغيّره بالبول فضلاً عما إذا كان الماء أقل من البول فإنّه يوجب استهلاك الماء في البول ، والوجه في ذلك هو ما دلّ على نجاسة المتغيّر بالنجس وما دلّ على نجاسة البول ، بل لا محيص من حمل الصحيحة على صورة كثرة الماء مع قطع النظر عن نجاسة المتغيّر بالبول وذلك لأجل القرينة الداخلية الموجودة في نفس الصحيحة. وبيانها أن فرض جريان ماء المطر من الميزاب إنما يصح مع فرض كثرة المطر إذ لا سيلان له مع القلّة ولا سيما في السطوح القديمة المبناة من اللبنة والطين ، فان المطر القليل يرسب في مثلهما ومعه لا يمكن أن يسيل ، كما أن سيلان البول من الميزاب يستند غالباً إلى بول رجل أو صبي على السطح ، لا إلى أبوال جماعة لأن السطح لم يعد للبول فيه ، فهذا الفرض في نفسه يقتضي غلبة المطر على البول لكثرته وقلّة البول وعليه فلا تشمل الصحيحة صورة تساوي الماء والبول أو صورة غلبة البول على الماء ، حتى يلزم التخصيص في أدلة نجاسة المتغير بالبول أو نجاسة البول.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٦ / أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ٥.

(٢) الوسائل ١ : ١٤٥ / أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ٤.

٢١١

كالجاري فلا ينجس ما لم يتغيّر وإن كان قليلاً (١) ،

______________________________________________________

الثانية : صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام « انّه سأل عن السطح يبال عليه فتصيبه السماء فيكف فيصيب الثوب؟ فقال : لا بأس به ما أصابه من الماء أكثر منه » (١). وقد دلّت هذه الصحيحة على عدم نجاسة المطر المتقاطر على داخل البيت مع العلم بملاقاته البول في ظهره وقد علّله عليه‌السلام بأن ما أصابه من الماء أكثر بمعنى أن الماء غالب على نجاسة السطح. والمراد بالسطح في الرواية هو الكنيف وهو الموضع المتخذ للبول فان قوله عليه‌السلام « يبال عليه » وصف للسطح ، أي المكان المعد للبول كما ربما يوجد في بعض البلاد. لا بمعنى السطح الذي يبول عليه شخص واحد بالفعل. فالمتحصل منها أن ماء المطر إذا غلب على الكنيف ، ولم يتغيّر بما فيه من البول وغيره كما في صورة عدم غلبته فهو محكوم بالطهارة والاعتصام.

الثالثة : صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : « سألته عن البيت يبال على ظهره ، ويغتسل من الجنابة ثم يصيبه المطر أيؤخذ من مائه فيتوضأ به للصلاة؟ فقال : إذا جرى فلا بأس به. قال وسألته عن الرجل يمر في ماء المطر وقد صُبّ فيه خمر فأصاب ثوبه هل يصلّي فيه قبل أن يغسله؟ فقال : لا يغسل ثوبه ولا رجله ويصلي فيه ولا بأس » (٢) وقد دلت هذه الصحيحة أيضاً على عدم انفعال ماء المطر بملاقاة النجس كالخمر فيما إذا تقاطر عليه ، بل الأمر كذلك حتى في الماء المتصل بما يتقاطر عليه المطر كالماء المتصل بالجاري والكر ونحوهما ، وبهذه الصحاح الثلاث يحكم باعتصام ماء المطر وعدم انفعاله بالملاقاة.

(١) هذه العبارة كعبائر سائر الأعاظم قدس‌سرهم غير واقعة في محلها ، لأن كون ماء المطر كالجاري ليس مدلول آية ولا رواية ، وغاية ما هناك أنه ماء عاصم كالكر ونحوه ، وأمّا أنه كالجاري من جميع الجهات ، ولو في الأحكام الخاصة المترتبة على عنوان الجاري فلم يقم عليه دليل.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٤ / أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ١٤٥ / أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ٢.

٢١٢

سواء جرى من الميزاب أو على وجه الأرض أم لا (١).

______________________________________________________

عدم اعتبار الجريان من الميزاب‌

(١) نسب إلى الشيخ الطوسي قدس‌سره اعتبار الجريان من الميزاب في عدم انفعال ماء المطر (١) ، كما نسب إلى ابن حمزة اعتبار الجريان الفعلي في اعتصامه فلا اعتصام في المطر غير الجاري مطلقاً أو غير الجاري من الميزاب (٢).

ولا يمكن المساعدة على شي‌ء منهما ، فإنّه إن أُريد بذلك اعتبار الجريان الفعلي من الميزاب وأن ما لا يجري من الميزاب بالفعل لا يحكم عليه بالاعتصام. ففيه : أنه أمر لا يحتمل اعتباره بل ولا يناسب أن يحتمله متفقة فضلاً عن الفقيه ، فان لازمه عدم اعتصام المطر في سطح لا ميزاب له ، أو له ميزاب إلاّ أنه مرتفع الأطراف ، وهو يسع مقداراً كثيراً من الماء فان المطر في مثله أيضاً لا يجري من الميزاب ولو مع كثرته وغزارته ، وكذا إذا نزل المطر على الأرض فإنّه على هذا محكوم بعدم الاعتصام لعدم جريانه من الميزاب وإن كان كثيراً. وهذه الأُمور كما ترى لا يمكن التزامها. وأمّا الروايتان المشتملتان على لفظة الميزاب فلا دلالة لهما على اعتبار الجريان الفعلي من الميزاب بوجه ، لأنه إنما ذكر فيهما في كلام الإمام عليه‌السلام تبعاً لذكرهما في كلام السائل لا لأجل مدخلية ذلك في الحكم بالاعتصام.

وكذا احتمال اعتبار الجريان الفعلي ولو من غير الميزاب فإنّه مما لا محصل له ، إذ لازمه عدم اعتصام المطر إذا وقع على أرض رملية فان المطر لا يجري في مثلها وإن دام يوماً وليلة بغزارة لعدم تماسك أجزائها ، ويختص اعتصامه بما إذا وقع على أرض صلبة يجري فيها المطر ، وهذا مما نقطع بفساده فكيف يمكن الالتزام باعتصام المطر في السطوح الصلبة وبعدمه فيما يتصل بها من السطوح الرخوة ، فهذان الاحتمالان باطلان.

نعم ، اعتبار الجريان الشأني والتقديري كما نسب إلى المحقق الأردبيلي قدس‌سره (٣) أمر محتمل في نفسه بأن يكون المطر بمقدار لو نزل على سطح صلب جرى‌

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤١١.

(٢) الوسيلة : ٧٣.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٥٦.

٢١٣

عليه ، وإن لم يتصف بالجريان فعلاً لعدم تماسك أجزاء الأرض التي وقع عليها المطر فان هذا الاحتمال من الإمكان بمكان لا استبعاد فيه ، وإن كان إثباته يتوقف على اقامة الدليل عليه.

نعم ، إذا قلنا إن صدق عنوان المطر يتوقف على الجريان خارجاً فلا نحتاج في اعتبار الجريان في اعتصامه إلى دليل ، لأنه على الفرض مقوم لصدقه وعنوانه. وأمّا إذا منعنا هذا التوقف بصدق المطر ولو مع عدم الجريان كما إذا نزل بالرشح فلا محالة يتوقف اعتبار الجريان في اعتصام المطر على إقامة دليل ، ولا بدّ حينئذٍ من ملاحظة روايات الباب كصحيحة علي بن جعفر المتقدمة المشتملة على قوله عليه‌السلام « إذا جرى فلا بأس به ... ».

فيقع الكلام في دلالتها على اشتراط الجريان ولو بالقوة والشأن في اعتصام المطر وعدمها. والصحيح عدم دلالتها على ذلك : لأن معنى الجريان المذكور في الصحيحة أحد أمرين :

أحدهما : ما ذكره شيخنا الهمداني قدس‌سره من أن المراد بالجريان جريان الماء من السماء ، وعدم انقطاع المطر ، فالصحيحة تدل على أن اعتصام ماء المطر مختص بما إذا تقاطر من السماء (١). وما أفاده قدس‌سره لا يخلو عن بعد فان الجريان لا يطلق على نزول المطر من السماء.

وثانيهما : أن يكون بمعنى الجريان الفعلي ولكنه في خصوص موردها وهو الكنيف لا على وجه الإطلاق بيان ذلك : أن مورد السؤال في الصحيحة هو البيت الذي يبال على ظهره ، وظاهرها أن ظهره اتخذ مبالاً كما جرت عليهم عادتهم في القرون المتقدمة ومن البديهي أن مثله مما يرسب فيه البول وينفذ في أعماقه لكثرة البول عليه ، فاذا نزل عليه مقدار من الماء ولم يجر عليه يتأثر بآثار البول في السطح ويتغيّر بها لا محالة ولأجل هذا اعتبرت الكثرة وجريان ماء المطر عليه لئلاّ يقف فيتغيّر بآثار الأبوال فإنّه يوجب الانفعال ولا سيما أن السطح المتخذ مبالاً لا يخلو عادة من عين العذرة وغيرها من أعيان النجاسات. وبالجملة الماء الذي يرد على مثله يتغيّر بسببها إلاّ أن‌

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٦٤٦ السطر ١١.

٢١٤

يجري ولا يقف عليه. فهذه الصحيحة من جملة أدلّة القول المختار من أن التغيّر بالمتنجس الحامل لأوصاف النجس كالسطح في الرواية يوجب الانفعال ، ولم ترد الصحيحة لبيان كبرى كلية حتى يقال إن المورد لا يكون مخصصاً ، وإنما وردت في خصوص الكنيف فلا يستفاد منها اعتبار الجريان الفعلي في المطر بوجه.

بل المدار في الصحيحة على صدق عنوانه عرفاً. بأن لا يكون قطرة أو قطرتين ونحوهما ، فاذا صدق عليه عنوان المطر فمجرد إصابته يكفي في الحكم بطهارة المتنجس إن لم يكن حاملاً لعين النجاسة ، وأمّا مع وجود العين فيه فيشترط في اعتصام المطر ومطهريته لمثله أن يكون قاهراً على النجس لئلاّ يتغيّر به كما دلت عليه صحيحة هشام ، حيث ورد فيها « لأن الماء أكثر » وأمّا غير الصحيحة المتقدمة من الأخبار المشتملة على لفظة الجريان فدلالتها على اعتبار الجريان أضعف ، مضافاً إلى ما في سند بعضها من الضعف.

منها : ما رواه الحميري عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر « ... وسألته عن الكنيف يكون فوق البيت ، فيصيبه المطر فيكف فيصيب الثياب أيصلى فيها قبل أن تغسل؟ قال : إذا جرى من ماء المطر فلا بأس » (١) وهي كما أشرنا إليه ضعيفة سنداً ودلالة. أمّا سنداً فلأجل عدم توثيق عبد الله بن الحسن في الرجال. وأمّا دلالة فلأن السائل قد فرض أن في الكنيف مائعاً يجري عليه ، فأجابه عليه‌السلام بأن ما فرض جريانه إن كان من ماء المطر فهو محكوم بالطهارة وإن كان من البول فلا ، فالجريان مفروض في مورد السؤال والحكم بالطهارة معلق على كونه من ماء المطر لا من غيره ، فلا دلالة في الرواية على اعتبار الجريان في الحكم باعتصام المطر.

ومنها : صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : « سألته عن المطر يجري في المكان فيه العذرة فيصيب الثوب أيصلّى فيه قبل أن يغسل؟ قال : إذا جرى به المطر فلا بأس » (٢) والوجه في ضعف دلالتها أن الراوي فرض وجود العذرة في المكان ، ومن الظاهر أن الماء الذي يرد على العذرة يتغيّر بها في أقل‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٥ / أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ٣.

(٢) الوسائل ١ : ١٤٨ / أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ٩.

٢١٥

بل وإن كان قطرات بشرط صدق المطر عليه. وإذا اجتمع في مكان وغسل فيه النجس طهر وإن كان قليلاً لكن ما دام يتقاطر عليه من السماء (١).

______________________________________________________

زمان فينفعل بملاقاتها. اللهم إلاّ أن يجري ولا يقف عليها ولا سيما إذا كانت العذرة رطبة ، فإن تأثيرها في تغيّر الماء الوارد عليها أسرع من يابسها ، فمفاد الرواية على هذا أن ماء المطر ينفعل إذا تغيّر بالعذرة ، وإذا لم يتغيّر بها كما إذا جرى عليها فهو ماء معتصم ، فلا دلالة في شي‌ء من الأخبار على اعتبار الجريان في المطر ، بل الميزان في الاعتصام هو صدق عنوان المطر عرفاً.

الماء المجتمع بعد انقطاع المطر‌

(١) لا ينبغي الإشكال في صدق عنوان المطر على الماء المتقاطر من السماء إذا لم يكن قطرات يسيرة كما مر ، وذكرنا أنه معتصم بلا خلاف ، ولا إشكال أيضاً في أن الماء الموجود في الأرض أو السطح المجتمع من المطر كالمطر في الاعتصام ما دام يتقاطر عليه من السماء ، ويدلُّ عليه صحيحة هشام المتقدمة الواردة في عدم انفعال الماء السائل من الميزاب حال تقاطر المطر عليه فان السائل ليس إلاّ المجتمع في السطح من المطر ، وكذا صحيحة علي بن جعفر لدلالتها على جواز الوضوء ممّا يجتمع من المطر في الكنيف. هذا كلّه فيما إذا تقاطر المطر على الماء المجتمع من السماء.

وأمّا إذا انقطع عنه المطر ولم يتقاطر عليه فهل يحكم باعتصامه أيضاً بدعوى أنه ماء مطر ، أو أن حكمه حكم الماء الراكد ، فلا ينفعل إذا كان بمقدار كر وينفعل على تقدير قلته؟

الثاني هو الصحيح لأن إضافة الماء إلى المطر بيانية لا نشوية ، ومعناه الماء الذي هو المطر لا الماء الذي كان مطراً في زمان ، وقد عرفت أن المطر اسم للماء النازل من السماء دون الماء المستقر في الأرض ، وإنما ألحقناه بالمطر حال تقاطره بالروايات. وعليه فلا دليل على اعتصامه فيما إذا انقطع عنه تقاطر المطر ، فان مجرّد كون الماء ماء مطر في‌

٢١٦

[١١٣] مسألة ١ : الثوب أو الفراش النجس إذا تقاطر عليه المطر ونفذ في جميعه طهر (١)

______________________________________________________

زمان لو كان كافياً في الاعتصام للزم الحكم باعتصام جميع المياه الموجودة في العالم لأن أصلها المطر على ما نطقت به جملة من الآيات وبعض الروايات وحقّقه الاستكشاف الجديد ، فهل يرضى فقيه أن يفتي باعتصام ماء الحب مثلاً بدعوى أنه كان ماء مطر في زمان. وما ذكرناه هو الوجه فيما أفتى به في المتن من طهارة الماء المجتمع في الأرض ما دام يتقاطر عليه من السماء دون ما إذا انقطع عنه التقاطر ، هذا كلّه في اعتصام ماء المطر.

كيفية التطهير بالمطر‌

(١) وتوضيح الكلام في المقام أن المتنجس تارة غير الماء من الأجسام كالثوب والفرش ونحوهما ، وأُخرى هو الماء. أمّا الأجسام المتنجسة فيمكن الاستدلال على زوال نجاستها بماء المطر بصحيحة هشام بن سالم الواردة في سطح يبال عليه فتصيبه السماء فيكف فتصيب الثوب قال عليه‌السلام لا بأس به ما أصابه من الماء أكثر منه (١) فان الوكوف هو التقاطر من سقف أو إناء ونحوهما ، ووكوف السطح على الغالب إنما يكون بعد نزول المطر ورسوبه فيه ، ومن هنا يكف مع انقطاع المطر عنه وليس هذا إلاّ من جهة رسوب المطر فيه. ووكوفه بعد الانقطاع لو لم يكن أغلب فعلى الأقل ليس من الفرد النادر ولعلّه ظاهر ، والصحيحة دلت بإطلاقها على عدم البأس بالقطرات النازلة من السطح المتنجس بالبول سواء كانت بعد انقطاع المطر أم قبله. وهذا يدلنا على طهارة السطح بإصابة المطر ، فإنّه لو كان باقياً على نجاسته كان الماء الراسب فيه متنجساً بعد انقطاع المطر عنه. لأنه ماء قليل لاقى سطحاً متنجساً. وحيث حكم عليه‌السلام بطهارته بعد الانقطاع فيستفاد منه طهارة السطح بوقوع‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٤ / أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ١.

٢١٧

ولا يحتاج إلى العصر أو التعدّد وإذا وصل إلى بعضه دون بعض طهر ما وصل إليه. هذا إذا لم يكن فيه عين النجاسة ، وإلاّ فلا يطهر إلاّ إذا تقاطر عليه بعد زوال عينها (١).

______________________________________________________

المطر عليه.

وعلى الجملة أن القطرات النازلة من السطح لا يطلق عليها المطر حقيقة لأنه عبارة عن الماء النازل من السماء بالفعل ، وأمّا بعد الانقطاع فلا يقال إنه ماء مطر كذلك ، بل ماء كان مطراً في زمان ، كما أن ماء البئر إنما يسمى بماء البئر ما دام موجوداً فيها ، وأمّا إذا خرج منها فلا يقال إنه ماء بئر بالفعل ، بل يقال إنه كان ماء بئر في زمان. ومع هذا كلّه حكم عليه‌السلام بطهارتها ، وهو لا يستقيم إلاّ بطهارة السطح بإصابة المطر ، فهذه الصحيحة تدل على أن المطر يطهّر الأجسام المتنجسة باصابتها. هذا فيما إذا لم نعتمد على المراسيل كما هو الصحيح وإلاّ كفتنا مرسلة الكاهلي الدالّة على أن كل شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر (١) هذا تمام الكلام في تطهير الأجسام المتنجسة بالمطر وأمّا الماء المتنجس فيأتي الكلام على تطهيره بالمطر في المسألة الآتية عند تعرض الماتن إن شاء الله.

عدم اعتبار العصر والتعدّد‌

(١) إذا كان المتنجس مما يعتبر في غسله العصر كالثياب أو التعدّد كما في أواني الخمر حيث ورد الأمر بغسلها ثلاث مرات ، فهل يعتبر ذلك في غسله بالمطر أيضاً؟

فإن قلنا بصحّة المراسيل واعتبارها ولو بدعوى انجبارها بعمل الأصحاب فلا نعتبر في الغسل بالمطر شيئاً من العصر والتعدّد ، وذلك لأن النسبة بين مرسلة الكاهلي وما دلّ على اعتبار التعدّد أو العصر عموم من وجه ، إذ المرسلة بعمومها دلت على أن كل شي‌ء رآه المطر فقد طهر سواء أكان ذلك الشي‌ء مما يعتبر فيه العصر أو التعدّد أم لم يكن ، كما أن مقتضى إطلاق ما دلّ على اعتبار العصر أو التعدّد عدم الفرق في ذلك بين‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٦ / أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ٥.

٢١٨

أن يصيبه المطر وأن يغسل بماء آخر فيتعارضان في مثل غسل آنية الخمر بالمطر والترجيح مع المرسلة لما قررناه في محله من أن العموم مقدم على الإطلاق في المتعارضين (١) فإن دلالة المرسلة بالوضع والعموم لمكان لفظة كل ، فلا يعتبر في إصابة المطر شي‌ء من التعدّد والعصر بل نكتفي في تطهيره بمجرد رؤية المطر.

وأمّا إذا لم نعتمد على المراسيل فربما يستدل على عدم اعتبار العصر في التطهير بالمطر بأن الدليل على اعتبار العصر في الغسل انّما هو أدلة انفعال القليل ، فان الماء الداخل في جوف المتنجس قليل لاقى متنجساً فيتنجس لا محالة ، ومع بقائه في جوف المتنجس المغسول به لا يمكن تطهيره بوجه ، فلا بدّ من إخراجه عنه بالعصر ومن هنا قلنا بنجاسة الغسالة. وهذا الوجه كما ترى يختص بالماء القليل الذي رسب في المتنجس المغسول به. وأمّا إذا كان عاصماً كالمطر فلا ينفعل بملاقاة المتنجس ليجب إخراجه عنه بالعصر في تطهير المتنجسات ، بل الماء يطهّرها بالملاقاة ، فدليل اعتبار العصر في الغسل قاصر الشمول للغسل بالمطر.

ولا يخفى أن مدرك اعتبار العصر ليس هو ما ذكره المستدل ليختص بالماء القليل. بل الوجه في اعتباره كما يأتي في محلّه (٢) أن الغسل لا يصدق بدون العصر ، ومجرّد إدخال المتنجس في الماء وإخراجه عنه أعني ترطيبه لا يسمّى غسلاً في لغة العرب ولا في غيرها من اللغات حتى يعصر أو يدلك ونحوهما ، فالغسل المعتبر لا يتحقق بغير العصر ، ولا يفرق في ذلك بين الغسل في الكر والجاري والمطر وبين الغسل بالقليل. فالصحيح في وجه عدم اعتبار العصر والتعدد في الغسل بالمطر أن يتمسك بصحيحة هشام بن سالم الدالّة على كفاية مجرد اصابة المطر للمتنجس في تطهيره معللاً بأن الماء أكثر. حيث دلت على طهارة السطح الذي يبال عليه إذا رسب فيه المطر ، فيستفاد منها أن للمطر خصوصية من بين سائر المياه تقتضي كفاية اصابته وقاهريته في تطهيره المتنجسات ، بلا حاجة فيه إلى تعدد أو عصر.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٣٧٧.

(٢) قبل المسألة [٣٠٨].

٢١٩

[١١٤] مسألة ٢ : الإناء المتروس بماء نجس كالحب والشربة ونحوهما إذا تقاطر عليه طهر ماؤه وإناؤه بالمقدار الذي فيه ماء وكذا ظهره وأطرافه إن وصل إليه المطر حال التقاطر (١).

______________________________________________________

تطهير الماء المتنجِّس بالمطر‌

(١) قد عرفت أن المطر يطهّر الأجسام المتنجسة باصابته إياها ، وأمّا الماء المتنجس فهل يطهّره المطر إذا نزل عليه؟.

فربّما يقال بعدم مطهّريته للماء نظراً إلى عدم ورود تطهير الماء بالمطر في شي‌ء من الأخبار ، ودعوى : أن المطر إذا أصاب السطح الفوقاني من الماء يصدق أنه شي‌ء رآه المطر وكل شي‌ء رآه المطر فقد طهر كما في المرسلة ، مندفعة : بأن لازم ذلك أن يقال بطهارة المضاف أيضاً إذا أصابه المطر ، كما نسب إلى العلاّمة قدس‌سره في بعض كتبه ، ولا يلتزمون بطهارة المضاف بذلك ، لأن المطر إنما يصيب السطح الفوقاني من المضاف دون غيره من السطوح والأجزاء الداخلية منه ، فلا يصدق أن المطر رأى المضاف بتمامه وهذا بعينه يجري في الماء المتنجس أيضاً.

والتحقيق أن الماء المتنجس كسائر الأجسام المتنجسة يطهر بإصابة المطر. ويمكن أن يستدل عليه بصحيحة هشام بن الحكم الواردة في ميزابين سالا في أحدهما بول وفي الآخر ماء المطر (١) ، وتقريب الاستدلال بها أن البول الملاقي للمطر أو غيره من المياه لا يستهلك فيه دفعة بأن يعدمه الماء بمجرد اختلاطهما ، وإنما يستهلكه بعد مرحلتين ، وتوضيحه : أن الماء إذا وصل إلى البول وزاد حتى صار بقدره على نحو تساويا في المقدار فهو يخرجه عن البولية ، كما أن الماء يخرج بذلك عن الإطلاق ويصيران مائعاً مركباً من البول والماء ، فلا يصدق عليه أنه ماء ، كما لا يقال إنه بول وهذه مرحلة. ثم إذا زاد الماء عن البول فتزول عنه الإضافة وبه يصير ماء متغيراً‌

__________________

(١) تقدّمت في ص ٢١١.

٢٢٠