موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

بعض ، وعلى هذا نقطع بأن المياه الموجودة في الأرض كلّها مسبوقة بالقلة لا محالة لوضوح أن الكر والبحار لم تنزل من السماء كرّاً وبحاراً وإنما تنزل منه القطرات وتتشكل الأنهار والكر وغيرهما من تلك القطرات الواقعة على وجه الأرض ، فالمياه بأجمعها مسبوقة بعدم الكرية فحينئذٍ نشير إلى الماء المشكوك ونقول : إنه كان في زمان ولم يكن كرّاً ونشك في اتصافه بالكر وعدمه فالأصل أنه باق على اتصافه بعدم الكرية ، ومجرى هذا الأصل كما ترى هو عدم الكرية على وجه النعت ومعه لا يتوقف الحكم بعدم كرية المشكوك في المقام على جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية.

ودعوى : أن لازم هذا البيان القطع بأن المياه الكائنة في الأرض بأجمعها مسبوقة بالاعتصام لأن أصلها المطر وهو معتصم كما يأتي عن قريب ، فعند الشك في عصمة ماء وعدمها نستصحب اعتصامه.

مدفوعة بأنها تبتني على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلي ، لأن العصمة عند نزول المياه تتحقق في ضمن فرد وهو المطر وهي قد انعدمت قطعاً لنزولها على الأرض ، ونشك في تبدلها إلى العصمة في ضمن فرد آخر وهو الكر فالاستصحاب فيه من القسم الثالث من الكلي ولا نقول بجريانه.

ثم لو تنزلنا وبنينا على عدم جريان الاستصحاب في عدم الكرية على وجه النعت بدعوى أنه من التدقيقات العقلية والأخبار لا تشمل مثلها ، ولا في عدمها المحمولي بدعوى أن الكرية من عوارض الماهية ، فهل نلتزم بما أفتى به في المتن من الحكم بطهارة الماء ونجاسة المغسول به كل بحسب الأصل الجاري فيه بخصوصه؟ الالتزام بما أفاده في المتن هو المتعيّن.

وتحقيق هذا الكلام وتأسيس الأصل فيه إنما ينفع على غير مسلكنا من عدم جريان الأصل في العدم الأزلي ، وينفع على مسلكنا أيضاً في غير هذه المسألة ، لأن الشك في كرية الماء قد يفرض فيما إذا كان الماء مسبوقاً بحالتين متضادتين بأن علمنا بكريته في زمان وقلته في زمان آخر واشتبه المتقدم منهما بالمتأخر ، إذ لا مجال في مثله لاستصحاب العدم الأزلي للقطع بانقطاع العدم وانقلابه إلى الوجود ، ولا لاستصحاب العدم النعتي لأن القلة السابقة فيه تبدلت بالكرية قطعاً.

١٨١

ومعه لا مجال لشي‌ء من استصحابي القلة والكرية ، إما للمعارضة أو لعدم المقتضي لجريانهما رأساً لعدم إحراز اتصال زمن الشك بزمان اليقين على الخلاف ، وعليه فلا بدّ من تأسيس أصل آخر يرجع إليه في المسألة وهو قاعدة الطهارة في الماء أو استصحابها لأنه مسبوق بالطهارة وبهما نحكم بطهارته ، وهو ظاهر ويبقى الكلام بعد هذا في موردين :

أحدهما : ما إذا غسلنا متنجساً بالماء المشكوك كريته من غير مراعاة شرائط الغسل بالقليل من الصب أو الغسل مرتين ، بأن غمسناه في الماء أو غسلناه فيه مرة واحدة ، فهل يحكم بطهارة كل من الماء والمغسول به معاً أو بنجاستهما كذلك أو يفصل بينهما بالحكم بطهارة الماء ونجاسة المغسول به؟

الأخير هو الصحيح ، أمّا طهارة الماء فلما مرّ من أنه مشكوك الطهارة والنجاسة ومقتضى قاعدة الطهارة طهارته ، بل الاستصحاب أيضاً يقتضي طهارته لجريانه في الأحكام الجزئية والشبهات الموضوعية ، على ما دلت عليه صحيحة زرارة الواردة في الاستصحاب فراجع. وأمّا نجاسة المغسول بالماء المذكور فلأجل إنّا أيّ مطهّر فرضناه شرعاً فوقوعه على المغسول المتنجس أمر حادث مسبوق بالعدم لا محالة ، فإذا شككنا في وقوع المطهّر على المغسول به وعدمه فنستصحب عدم وقوعه عليه وبه يحكم ببقائه على نجاسته ، وإن كانت الملازمة الواقعية بينهما من حيث الطهارة والنجاسة تمنع التفكيك المزبور بالحكم بطهارة أحدهما ونجاسة الآخر ، ولكن التفكيك بين المتلازمين ظاهراً لاقتضاء أصليهما ذلك مما ليس بعزيز ، ولا مانع من العمل بكل واحد من الأصلين المخالف أحدهما للواقع ما لم يستلزم العمل بهما مخالفة عملية قطعية لحكم ، ولا تلزم المخالفة العملية في المقام من العمل بكل واحد من الاستصحابين فيجوز شرب الماء المذكور والتوضؤ به شرعاً وتبطل الصلاة في المغسول به لنجاسته.

وثانيهما : ما إذا ألقينا الماء المشكوك كريته على ماء نجس لتطهيره فهل يحكم بطهارة كليهما أو بنجاستهما أو فيه تفصيل؟ ذهب في المتن إلى عدم تطهيره للنجس والصحيح أن يفصّل في المسألة فإن المائين في مفروض المقام إما أن يتصل أحدهما بالآخر فحسب ، وإما أن يمتزجا ويتداخل أجزاؤهما.

١٨٢

وعلى الأوّل إمّا أن نلتزم بعدم كفاية مجرد الاتصال في تطهير الماء المتنجس وإما أن نلتزم بكفايته ، فان قلنا بعدم كفاية الاتصال فالماء المتنجس باق على نجاسته ، حيث لا مقتضي لزوالها كما أن الماء المشكوك كريته باق على طهارته باستصحابها ، وأمّا إذا قلنا بكفاية مجرد الاتصال فالظاهر أنه لا مانع من جريان كل واحد من استصحابي الطهارة والنجاسة فنحكم بطهارة أحد طرفي الماء وبنجاسة الآخر كما التزمنا بذلك في الماء والثوب المتنجس المغسول به ، اللهم إلاّ أن يدعى الإجماع على أن الماء الواحد لا يحكم عليه بحكمين متضادين ولو كانا ظاهريين ، فان الاستصحابين يتعارضان حينئذٍ فيرجع إلى قاعدة الطهارة.

وعلى الثاني أعني صورة امتزاجهما وتداخل أجزائهما ، فإمّا أن يندك الماء المتنجس في الماء المشكوك كريته لقلة الأوّل وكثرة الثاني ، وإما أن يندك الماء المشكوك كريته في الماء المتنجس لكثرته وقلة الأول ، وإما أن لا يندك أحدهما في الآخر لتساويهما أو زيادة أحدهما على الآخر على وجه لا يوجب الاندكاك وهذه صور ثلاث :

أمّا الصورة الاولى : فلا ينبغي الإشكال في الحكم بطهارة كلا الماءين ، فإنّه لا وجود استقلالي للماء المتنجس في قبال المشكوك كريته لفرض اندكاكه فيه وانعدامه عرفاً ، والماء المشكوك كريته محكوم بالطهارة باستصحابها.

وأمّا الصورة الثانية : فهي مع الصورة المتقدمة متعاكستان فلا بدّ من الحكم فيها بنجاسة الجميع ، لاندكاك الطاهر وهو الماء المشكوك كريته في ضمن المتنجس وهو محكوم بالنجاسة.

وأمّا الصورة الثالثة : فالاستصحابان فيها متعارضان وبعد تساقطهما يرجع إلى قاعدة الطهارة ، وهذا لا لأجل الإجماع على أن الماء الواحد لا يحكم عليه بحكمين متضادين كما ادعوه في الماء المتمم كرّاً ، فإنّه إنما لا يتصف بهما واقعاً لتلازمهما من حيث الطهارة والنجاسة ، وأمّا بحسب الحكم الظاهري فلا مانع من الحكم بنجاسة بعضه وطهارة بعضه الآخر كل بحسب الأصل الجاري فيه.

وإنما لا نحكم بهما في المقام للقطع بأن الأجزاء المتداخلة لا يختلف حكمها طهارة ونجاسة ولو ظاهراً ، وعليه فيتعارض الاستصحابان فيرجع إلى قاعدة الطهارة.

١٨٣

[١٠٦] مسألة ٨ : الكر المسبوق بالقلة إذا علم ملاقاته للنجاسة ولم يعلم السابق من الملاقاة والكرية إن جهل تاريخهما أو علم تاريخ الكرية حكم بطهارته ، وإن كان الأحوط التجنّب (*) ، وإن علم تاريخ الملاقاة حكم بنجاسته. وأمّا القليل المسبوق بالكرية الملاقي لها ، فان جهل التاريخان أو علم تاريخ الملاقاة حكم فيه بالطهارة مع الاحتياط المذكور ، وإن علم تاريخ القلة (**) حكم بنجاسته (١).

______________________________________________________

ويمكن أن يقال بعدم جريان استصحاب الطهارة في نفسه ، لأن الاستصحاب أصل عملي والأُصول العملية إنما تجري فيما ترتب عليها أثر عملي ، ومن هنا سمِّيت بالأُصول العملية ، ومن الظاهر أن الحكم بالطهارة في جملة من الأجزاء المتداخلة في الماء المجتمع ممّا لا تترتّب عليه ثمرة عملية ، لوضوح أن أثر الطهارة في الماء إما هو شربه أو التوضؤ به أو غيرهما من الآثار ، ومن البيّن أنه لا يترتب شي‌ء منها على الأجزاء المتداخلة في مفروض الكلام لنجاسة الأجزاء الأُخر واتحادهما وجوداً ، وعليه فاستصحاب النجاسة يبقى بلا معارض ، فلا مناص حينئذٍ من الحكم بنجاسة الجميع.

الشك في السابق من الكرية والملاقاة‌

(١) للمسألة صورتان :

إحداهما : ما إذا كان الماء مسبوقاً بالقلة في زمان ، وطرأ عليه بعد ذلك أمران : أحدهما الكرية ، وثانيهما الملاقاة ، وشككنا في المتقدم والمتأخر منهما وفيها مسائل ثلاث :

الاولى : ما إذا كان الحادثان كلاهما مجهولي التاريخ.

الثانية : ما إذا علمنا تاريخ الكرية دون الملاقاة.

__________________

(*) بل الأظهر ذلك.

(**) الأظهر هو الحكم بالطهارة فيه أيضاً.

١٨٤

الثالثة : ما إذا علمنا تاريخ الملاقاة دون الكرية.

وثانيتهما : ما إذا كان الماء مسبوقاً بالكرية ثم عرضه أمران : أحدهما القلة ، وثانيهما الملاقاة ، وشككنا في السبق واللحوق ، وفيها أيضاً مسائل ثلاث :

الاولى : ما إذا كان تاريخ كل من الملاقاة والقلة مجهولاً.

الثانية : ما إذا علم تاريخ الملاقاة دون القلّة.

الثالثة : ما إذا علم تاريخ القلة دون الملاقاة.

ولنقدم الصورة الثانية لاختصارها على خلاف ترتيب المتن فنقول :

أمّا المسألة الاولى : أعني ما إذا كان الحادثان كلاهما مجهولي التاريخ فقد حكم فيها بطهارة الماء في المتن وذكر أن الأحوط التجنب. والوجه فيما ذهب إليه هو أنه ( قدس الله نفسه ) بنى تبعاً لشيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) على جريان الاستصحاب في كل من الحادثين مجهولي التاريخ في نفسه وسقوطه بالمعارضة ، فيتعارض استصحاب عدم حدوث كل واحد منهما إلى زمان حدوث الآخر باستصحاب عدم حدوث الآخر ، فيرجع إلى قاعدة الطهارة لا محالة. فعدم اعتبار الاستصحابين عنده مستند إلى المعارضة لا إلى قصور المقتضي.

وما بنى عليه في هذه المسألة وإن كان متيناً بحسب الكبرى لما حققناه في الأُصول بما لا مزيد عليه ، إلاّ أنها غير منطبقة على المقام وذلك لأن أصالة عدم تحقق القلة ( الكرية ) إلى زمان الملاقاة هي المحكمة مطلقاً سواء جهل تاريخهما معاً أم جهل تاريخ أحدهما.

أمّا إذا جهل تاريخ كلا الحادثين فلأنه لا مانع من جريان استصحاب عدم القلة إلى زمان الملاقاة ، ولا معارض له في البين فان استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان القلة غير جار في نفسه إذ لا تترتب عليه ثمرة عملية ، حيث إن الملاقاة أو عدمها في زمان الكرية ممّا لا أثر له شرعاً ، والأُصول العملية إنما تجري لإثبات أثر أو نفيه ولا تجري من دونهما ، هذا كلّه مع الإغماض عما يأتي من المناقشة في جريان استصحاب عدم‌

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٦٦٧.

١٨٥

الملاقاة إلى زمان القلة فانتظرها.

على أنّا سواء قلنا بجريان استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان القلة أم لم نقل به لا وجه للاحتياط في المقام فتوى حيث لا أساس علمي له ، إلاّ على نحو الاحتياط المطلق الجاري في جميع موارد الاحتمال حتى مع وجود الدليل الاجتهادي على خلافه ، إذ لا مجال له بحسب الأصل الجاري في المسألة حتى بناء على تعارض استصحابي عدم حدوث كل من الملاقاة والقلة إلى زمان حدوث الآخر ، لأن المرجع بعد تعارض الأصلين إنما هو قاعدة الطهارة ومعها لا وجه للاحتياط. وأمّا إذا علم تاريخ الملاقاة دون القلة فلأجل المحذور المتقدم بعينه كما يأتي في المسألة الآتية.

وأمّا المسألة الثانية : وهي ما إذا كان تاريخ الملاقاة معلوماً دون تاريخ القلة ، فقد ألحقها في المتن بالمسألة المتقدمة وحكم فيها أيضاً بالطهارة مستنداً في ذلك إلى ما بنى عليه تبعاً للشيخ قدس‌سره من عدم جريان الأصل فيما علم تاريخه من الحادثين فإنّه إذا لم يجر استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان حدوث القلة للعلم بتاريخ الملاقاة فلا محالة تبقى أصالة عدم حدوث القلة إلى زمان الملاقاة سليمة عن المعارض ومقتضاها الحكم بطهارة الماء.

ويدفعه : أن التفصيل بين مجهولي التاريخ وما علم تاريخ أحدهما على خلاف التحقيق ، لما بيّناه في محلّه من أنه لا فرق في جريان الأصلين بين الصورتين. نعم ، في صورة العلم بتاريخ أحدهما كما إذا علمنا بحدوث القلة يوم الجمعة مثلاً إنما لا يجري الاستصحاب فيه بالإضافة إلى عمود الزمان للعلم بزمانها ، وأمّا بالإضافة إلى الحادث الآخر المجهول تاريخه فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه ، والقلة بالإضافة إلى الملاقاة هي التي يترتب عليها الأثر شرعاً [ لا ] بالإضافة إلى قطعات الزمان ، إذ الفرض أن الحكم مترتب على القلة في زمان الملاقاة ، فلا فرق في جريان الأصل في الحادثين بين الجهل بتاريخ كليهما ، وبين العلم بتاريخ أحدهما ، هذا بحسب كبرى المسألة.

وأمّا في خصوص المقام فقد عرفت أن الأصل لا يجري في عدم الملاقاة إلى زمان‌

١٨٦

القلة ، لا للعلم بتاريخ الملاقاة بل لعدم ترتب أثر عملي عليه فتبقى أصالة عدم حدوث القلة إلى زمان الملاقاة سليمة عن المعارض. ويأتي في الاحتياط في هذه المسألة ما قدّمناه في المسألة المتقدمة فراجع.

وأمّا المسألة الثالثة : وهي ما إذا كان تاريخ القلة معلوماً دون الملاقاة ، فقد ذهب الماتن إلى نجاسة الماء جرياً على مسلكه من عدم جريان الأصل فيما علم تاريخه من الحادثين ، فلا تجري أصالة عدم حدوث القلة إلى زمان الملاقاة للعلم بتاريخ القلّة وتبقى أصالة عدم حدوث الملاقاة إلى زمان حدوث القلّة بلا معارض ومقتضاها الحكم بنجاسة الماء.

وفيه مضافاً إلى المناقشة المتقدمة في كبرى ما أفاده من التفصيل ، أن أصالة عدم حدوث الملاقاة إلى زمان القلة غير جارية في نفسها سواء قلنا بجريان الأصل فيما علم تاريخه أيضاً أم لم نقل لعدم ترتب ثمرة عملية عليها ، فعلى مسلكه قدس‌سره لا بدّ من التمسك بقاعدة الطهارة ، وأمّا على مسلكنا من جريان الأصل فيما علم تاريخه فلا مناص من استصحاب عدم حدوث القلة إلى زمان حدوث الملاقاة ومقتضاه كما عرفت هو الحكم بطهارة الماء.

نعم ، قد يتوهّم الحكم بنجاسة الماء في هذه الصورة بوجهين :

أحدهما : أن نلتزم باعتبار الأُصول المثبتة ، فإن استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان القلة يثبت حينئذٍ تحقق الملاقاة بعد عروض القلة وهو يقتضي نجاسة الماء.

وثانيهما : أن تكون أصالة تأخر الحادث أصلاً عقلائياً برأسها بأن يكون بناؤهم على تأخر الحادث عند الشك في تقدمه وتأخره عن الحادث الآخر ، وهو أيضاً يقتضي الحكم بحدوث الملاقاة متأخرة عن القلة الموجب لنجاسة الماء.

ولكنه قدس‌سره لا يلتزم بالأُصول المثبتة ، كما أن أصالة تأخر الحادث لا أساس لها وهو كلام لا يبتني على دليل ، والمقدار الثابت منها أنه إذا علم وجود شي‌ء في زمان وشك في أنه حدث قبل ذلك الزمان أو في ذلك الزمان بعينه ، فيبني على عدم حدوثه قبل الزمان الذي علمنا بوجوده فيه قطعاً ، وأمّا أنه متأخر عن الحادث‌

١٨٧

الآخر أيضاً فلم يثبت بناء من العقلاء على ذلك.

على أنه لو سلمنا حجية الأصل المثبت ، وبنينا على جريان استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان القلة وإثباته تأخر الملاقاة ، فلنا أن ندعي أنها معارضة باستصحاب عدم الملاقاة بعد زمان القلة ، فكما أن الأول يثبت حدوث الملاقاة بعد عروض القلّة كذلك الثاني يثبت حدوثها قبل عروض القلة فيتعارضان ويتساقطان.

أمّا الصورة الأُولى : وهي ما إذا كان الماء قليلاً ثم طرأ عليه أمران : الكرية والملاقاة واشتبه السبق واللحوق فقد عرفت أن فيها مسائل ثلاث :

الاولى : ما إذا جهلنا تاريخ كل واحد من الحادثين.

الثانية : ما إذا علم تاريخ الكرية فحسب.

الثالثة : ما إذا علم تاريخ الملاقاة دون الكرية.

أمّا المسألة الأُولى : فقد ذهب الماتن فيها إلى طهارة الماء ، وقال إن الأحوط التجنب ، والوجه فيما ذهب إليه إما هو ما سلكه شيخنا الأنصاري قدس‌سره من جريان الأصل فيهما في نفسه وسقوطه بالمعارضة فيرجع إلى قاعدة الطهارة في المقام. وإما ما سلكه بعضهم من عدم جريان الأصل في مجهولي التاريخ رأساً كما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس‌سره فإنّه على هذا لا بدّ من الرجوع إلى قاعدة الطهارة من الابتداء.

وأمّا المسألة الثانية : فقد ألحقها الماتن بالمسألة المتقدمة وحكم فيها بالطهارة أيضاً ، وهو يبتني على التفصيل بين مجهولي التاريخ وما علم تاريخ أحد الحادثين بالمنع عن جريان الأصل فيما علم تاريخه ، فان الاستصحاب على هذا المسلك غير جار في عدم حدوث الكرية إلى زمان حدوث الملاقاة فيبقى استصحاب عدم حدوث الملاقاة إلى زمان الكرية بلا معارض ويحكم على الماء بالطهارة ، أو يبتني على ما سلكه صاحب الكفاية قدس‌سره من عدم جريان الاستصحاب في أمثال المقام رأساً فيرجع إلى قاعدة الطهارة لا محالة (١).

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤١٩.

١٨٨

وأمّا المسألة الثالثة : فقد حكم فيها الماتن بالنجاسة ، والوجه فيه منحصر بما ذهب إليه شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) من التفصيل في جريان الأصل بين مجهولي التاريخ وما علم تاريخ أحد الحادثين بالمنع عن جريان الأصل فيما علم تاريخه. وحيث إنّا علمنا تاريخ الملاقاة في المقام فلا يجري الاستصحاب في عدمها إلى زمان الكرية. فإذن يبقى استصحاب عدم الكرية إلى زمان الملاقاة بلا معارض وبذلك يحكم على الماء بالنجاسة ، هذا كلّه فيما اعتمد عليه السيد قدس‌سره في المقام.

وقد ألحق شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في تعليقته المباركة صورة الجهل بتاريخ كليهما بصورة العلم بتاريخ الملاقاة ، فحكم في كلتا الصورتين بالنجاسة كما حكم بالطهارة في خصوص صورة العلم بتاريخ الكرية ، والوجه في إلحاقه ذلك هو ما ذكره قدس‌سره في مباحثه الأُصولية من أن الاستصحاب وإن كان يجري في مجهولي التاريخ كما عرفت إلاّ أن أحد الأصلين مما لا يترتب عليه أثر شرعي في خصوص المقام (٢) ، وتوضيحه : أن استصحاب عدم الكرية إلى زمان الملاقاة يترتب عليه شرعاً نجاسة الماء كما هو واضح ، وأمّا استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرية فهو مما لا أثر يترتب عليه في نفسه إلاّ أن يضم إليه أن الملاقاة حصلت بعد الكرية ، وبدونه لا يترتب أثر على عدم الملاقاة إلى زمان الكرية فهذا الأصل غير جار في نفسه ، وبه تصبح أصالة عدم الكرية إلى زمان الملاقاة بلا معارض وهي تقتضي النجاسة كما مر وهذا هو المنشأ لعدوله قدس‌سره إلى الاحتياط في المقام حين تصحيح تعليقته حيث علّق على قول الماتن « وإن كان الأحوط التجنب » ما نصّه : هذا الاحتياط في صورة العلم بتاريخ الكرية ضعيف جدّاً ، وكذا في المسألة الآتية إذا علم تاريخ الملاقاة ثم عدل عنه وكتب « لا يترك هذا الاحتياط ».

هذا ويمكن أن يكون لإلحاقه وجه آخر وإن لم يتعرض له في كلامه وهو انّا لو قلنا بجريان كل من الأصلين في المقام وسقوطهما بالمعارضة أيضاً لا يمكننا الرجوع إلى‌

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٦٦٧.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٣٥.

١٨٩

قاعدة الطهارة على مسلكه قدس‌سره من اعتبار إحراز الكرية في الحكم بالاعتصام ، بدعوى أن الاستثناء إذا تعلق على عنوان وجودي ، وكان المستثنى منه حكماً إلزامياً أو ملزوماً له فهو عند العرف بمثابة اعتبار إحراز ذلك العنوان الوجودي في الخروج عن المستثنى منه فكأنه عليه‌السلام صرّح بانفعال مطلق الماء بالملاقاة إلاّ ما أحرز كريته وقاعدة الطهارة لا تحرز الكرية بوجه.

ولكن ما أفاده قدس‌سره لا يمكن المساعدة عليه لعدم تمامية الوجه الأخير ، لما قدمناه في محلّه من أن إحراز العنوان الوجودي غير معتبر في الخروج عن الإلزام والمستثنى منه ، وأمّا الوجه الأول فيرده كفاية نفي الأثر وهو عدم نجاسة الماء في جريان الأصل.

والصحيح في المقام أنه لا أساس لما ذهب إليه الماتن قدس‌سره من التفصيل بين مجهولي التاريخ أو ما علم تاريخ الكرية وبين ما علم بتاريخ الملاقاة ، كما لا وقع لما صنعه شيخنا الأُستاذ قدس‌سره من التفصيل بين مجهولي التاريخ أو ما علم بتاريخ الملاقاة وبين ما علم بتاريخ الكرية.

وتوضيح ذلك : أنّا إن منعنا من جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ من الابتداء ، بدعوى عدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين ، وأن المورد شبهة مصداقية لدليل اعتبار الاستصحاب كما عليه صاحب الكفاية قدس‌سره أو بنينا على عدم جريانه من جهة المعارضة كما هو الصحيح ، فيحكم بطهارة الماء لأنه مشكوك النجاسة ومثله محكوم بالطهارة بالخصوص ، وبعموم قوله عليه‌السلام « كل شي‌ء نظيف ... » (١) ، وكذا فيما علم بتاريخ الكرية دون الملاقاة أو العكس إذا قلنا بجريان الأصل في كل من معلوم التاريخ ومجهوله ، لما بيّناه في محلّه من أن الأصل فيما علم تاريخه إنما لا يجري بالإضافة إلى عمود الزمان للعلم بزمانه ، وأمّا بالإضافة إلى الحادث الآخر كما هو الموضوع للأثر شرعاً فهو مشكوك فيه لا محالة ، ولا مانع من جريان أصالة العدم فيه أيضاً ، فالأصلان يتعارضان فيسقطان ويرجع إلى قاعدة‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤.

١٩٠

الطهارة كما في مجهولي التاريخ (١).

وأمّا بناءً على عدم جريان الأصل فيما علم تاريخه ، فان علمنا بتاريخ الكرية دون الملاقاة فاستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرية بلا معارض وهو يقتضي طهارة الماء أيضاً. وإن علم بتاريخ الملاقاة دون الكرية فينعكس الأمر ويبقى استصحاب عدم الكرية إلى زمان الملاقاة بلا معارض ، ومقتضاه نجاسة الماء كما اعتمد عليه السيِّد قدس‌سره. والحكم بالطهارة في هذه الصورة كما في بعض تعاليق الكتاب يبتني على عدم التفرقة في جريان الاستصحاب بين مجهولي التاريخ وما علم تاريخ أحدهما كما هو الحق.

وعلى الجملة الحكم في جميع الصور المتقدمة هو الطهارة إن لم نفصل في جريان الأصل وعدمه بين مجهولي التاريخ وما علم تاريخ أحدهما.

هذا كلّه مع قطع النظر عما ذكرناه في بحث خيار العيب (٢) وحاصل ما ذكرناه هناك : أن الموضوع المتركب من جزئين أو أكثر إن أُخذ فيه عنوان انتزاعي زائد على ذوات الأجزاء من الاجتماع والمقارنة والسبق ونحوها ، فلا يمكن في مثله إحراز أحد الجزئين بالأصل والآخر بالوجدان كما لا يبعد ذلك في الحكم بصحة الجماعة فإن ما ورد في الروايات من أنه إذا جاء الرجل مبادراً والإمام راكع أو وهو راكع وغيرهما ممّا هو بهذا المضمون (٣) ظاهر في اعتبار عنوان المعية والاقتران ، لأن الواو للمعية والحالية فيعتبر في صحة الجماعة أن يكون ركوع المأموم مقارناً لركوع الإمام. فإذا ركع المأموم وشكّ في بقاء الإمام راكعاً ، وأحرزنا أحدهما وهو ركوع المأموم بالوجدان فلا يمكننا إثبات المقارنة بإجراء الأصل في ركوع الامام ، والحكم بصحة الجماعة من جهة ضميمته إلى الوجدان ، وذلك لأن الأصل لا يحرز به إلاّ ذات الركوع‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ١٩٩.

(٢) مصباح الفقاهة ٧ : ٢٠٦.

(٣) كما في صحاح سليمان بن خالد والحلبي وزيد الشحام ومعاوية بن ميسرة المرويات في الوسائل ٨ : ٣٨٢ / أبواب صلاة الجماعة ب ٤٥ ح ١ ٤.

١٩١

دون وصف المقارنة المعتبر في صحة الجماعة ، إلاّ على القول بالأُصول المثبتة. وعليه فاستصحاب ركوع الإمام غير جار في نفسه ، فلا تصل النوبة إلى معارضة ذلك باستصحاب عدم وصول المأموم إلى حد الركوع في زمان ركوع الإمام.

وأمّا إذا لم يؤخذ في الموضوع المركب شي‌ء زائد على ذوات الأجزاء من العناوين البسيطة الانتزاعية ، بل اعتبر أن يكون هذا الجزء موجوداً في زمان كان الجزء الآخر موجوداً فيه ، ففي مثله يمكن إحراز أحد جزئي الموضوع بالوجدان والجزء الآخر بالأصل ، فلا مانع في المثال من استصحاب بقاء ركوع الإمام إذ به يحرز أحد جزئي الموضوع ، وقد أحرزنا جزأه الآخر وهو ركوع المأموم بالوجدان فبضم الأصل إلى الوجدان يلتئم كلا جزئي الموضوع ، لأن الأثر إنما يترتب على وجود الجزئين وقد أحرزناهما بالأصل والوجدان.

وهل يمكن أن يتمسك في مثله باستصحاب عدم تحقق ركوع المأموم في زمان ركوع الإمام بدعوى : أن المحرز بالوجدان ليس إلاّ ذات ركوع المأموم ، وأمّا ركوعه في زمان ركوع الإمام فهو بعد مشكوك فيه ، والأصل عدم تحققه في ذلك الزمان ، وهو يعارض استصحاب ركوع الإمام فيتساقطان؟

لا ينبغي الشك في أنه لا يمكن ذلك والوجه فيه أمران : أحدهما نقضي والآخر حلِّي :

أمّا النقضي : فهو أن لازم ذلك إلغاء الأصل عن الاعتبار في جميع الموضوعات المركبة حتى ما نص على جريان الأصل فيه من تلك الموضوعات ، مثلاً الموضوع في صحّة الصلاة يتركب من ذات الصلاة ، ومن اتصاف المصلي بالطهارة ، وقد نصت صحيحة زرارة على أن الرجل إذا شك في وضوئه لأجل الشك في أنه نام يستصحب وضوءه ويصلي بهذا الوضوء (١) ، مع أن مقتضى ما تقدم بطلان الصلاة في مفروض الصحيحة لأن استصحاب بقاء الوضوء إلى زمان تحقق الصلاة والحكم بصحة الصلاة ، معارض باستصحاب عدم تحقق الصلاة في زمان الطهارة ، لأن ما أحرزناه‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١.

١٩٢

بالوجدان إنما هو وجود أصل الصلاة لا الصلاة في زمان الجزء الآخر ، فإنّها في ذلك الزمان مشكوك فيها والأصل عدمها ، فالأصلان يتعارضان فلا يمكن الحكم بصحة الصلاة. مع أن استصحاب الطهارة لأن يترتب عليها آثارها ومنها صحة الصلاة بها ممّا لا إشكال فيه ، إذ به يحرز وجود أحد الجزئين تعبداً بعد إحراز الآخر بالوجدان وهو مورد للنص الصحيح.

وأمّا الحلّي : فهو أن الأصالة المدعاة مما لا أصل له وهي من الأغلاط وسره أن مفروض الكلام عدم اعتبار أيّ شي‌ء زائد على ذوات الأجزاء في الموضوعات المركبة ، وإنما اعتبر فيها وجود هذا ووجود ذاك فحسب ، وهو مما لا إشكال في حصوله عند تحقق أحدهما بالوجدان وإحراز الآخر بالأصل ، إذ بهما يلتئم كلا جزئي الموضوع ، ومعه لا مجرى لأصالة عدم تحقق ركوع المأموم في زمان ركوع الإمام أو عدم تحقق الصلاة في زمان الطهارة إذ لا أثر عملي لاستصحابهما ، فإن الأثر يترتب على وجود الركوعين أو وجود الصلاة والطهارة بأن يكون هذا موجوداً والآخر أيضاً موجوداً ، ولا أثر لتحقق الصلاة في زمان الطهارة أو ركوع المأموم في زمان ركوع الإمام ، وعليه إذا وجد أحدهما بالوجدان والآخر بالاستصحاب فقد وجد كلا جزئي الموضوع وبه نقطع بترتب الأثر ، فلا شك لنا بعد ذلك في ترتبه حتى نجري الأصل في عدم تحقق الصلاة في زمان الطهارة ، ومنه يتضح أن استصحاب ركوع الإمام أو الطهارة بلا معارض ، هذا كلّه بحسب الكبرى.

وأمّا تطبيقها على المقام فهو أن موضوع الحكم بالانفعال مركب من الملاقاة وعدم الكرية ، ولا ينبغي الإشكال في عدم اعتبار عنوان الاجتماع فيه قطعاً ، بأن يعتبر في الانفعال مضافاً إلى ذات القلة والملاقاة عنوان اجتماع أحدهما مع الآخر الذي هو من أحد العناوين الانتزاعية فإن ظاهر قوله عليه‌السلام « إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء » (١) أن ما ليس بكر تنجسه ملاقاة شي‌ء من النجاسات ، فالموضوع للانفعال هو‌

__________________

(١) كما ورد مضمونه في صحيحة معاوية بن عمار وغيرها من الأخبار المروية في الوسائل ١ : ١٥٩ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٦.

١٩٣

[١٠٧] مسألة ٩ : إذا وجد نجاسة في الكر ولم يعلم أنها وقعت فيه قبل الكرية أو بعدها‌ (*) يحكم بطهارته ، إلاّ إذا علم تاريخ الوقوع (١).

______________________________________________________

نفس القلة والملاقاة ، ولا دلالة فيه على اعتبار عنوان الاجتماع بوجه.

بل لو قلنا باعتباره لما جرى استصحاب عدم الكرية في الماء غير المسبوق بالحالتين أيضاً ، لوضوح أن استصحاب عدمها لا يثبت عنوان اجتماع الملاقاة مع القلة عدم الكرية. وعليه إذا أحرزنا الملاقاة بالوجدان فلا مانع من إحراز الجزء الآخر أعني عدم الكرية بالأصل ، إذ به يتحقق كلا جزئي الموضوع للانفعال. ودعوى : أنه معارض بأصالة عدم تحقق الملاقاة في زمان عدم الكرية ، قد عرفت اندفاعها بأن الأصالة المذكورة مما لا أساس له ، إذ لا أثر شرعي ليترتب على عدم الملاقاة في زمان القلة ، بل الأثر مترتب على وجود القلة والملاقاة ، وقد أحرزناهما بالأصل والوجدان ، ومعهما نقطع بترتب الأثر ولا يبقى عندئذٍ شك في ترتبه حتى يرجع إلى استصحاب عدم الملاقاة في زمان القلة.

ثم إن لازم جريان استصحاب عدم الكرية عند إحراز الملاقاة بالوجدان هو الحكم بالنجاسة في جميع الصور الثلاث المتقدمة ، وهذا هو المنشأ لحكم سيدنا الأُستاذ ( أدام الله اظلاله ) بالاحتياط الوجوبي في تعليقته المباركة في جميع الصور الثلاث ، فان ما قدمناه آنفاً وإن اقتضى الحكم بالنجاسة جزماً ولكن جرت عادته ( مدّ ظلّه ) على عدم الإفتاء في بعض الموارد إلاّ على سبيل الحكم بالاحتياط فافهم ذلك واغتنمه.

الشك في تقدم الملاقاة على الكرية‌

(١) لولا قوله قدس‌سره إلاّ إذا علم تاريخ الوقوع لحملنا المسألة على مسألة أُخرى مغايرة للمسألة المتقدمة ، فإن مفروضها أي المسألة المتقدمة هو العلم بالحالة‌

__________________

(*) هذه المسألة مندرجة في المسألة السابقة‌

١٩٤

[١٠٨] مسألة ١٠ : إذا حدثت الكرية والملاقاة في آن واحد حكم بطهارته وإن كان الأحوط الاجتناب (١).

______________________________________________________

السابقة في الماء من الكرية والقلة ، وعليه فيمكن حمل هذه المسألة التي بأيدينا على ما إذا لم نعلم الحالة السابقة في الماء ، وإنما علمنا بطروّ أمرين عليه : الكرية والملاقاة أو القلة والملاقاة ، وبهذا تتغاير المسألتان. إلاّ ان قوله قدس‌سره إلاّ إذا علم تاريخ الوقوع لا يلائم حمل المسألة على ما ذكرناه ، إذ لا فرق فيما لم يعلم حالته السابقة بين العلم بتاريخ أحد الحادثين كالوقوع وعدمه. نعم ، يختلف الحال بذلك فيما علم حالته السابقة على ما ذهب إليه الماتن تبعاً لشيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) من التفصيل في جريان الأصل بين مجهولي التأريخ وما علم تاريخ أحدهما ، إذ مع العلم بتاريخ الوقوع في المسألة لا يجري فيه الاستصحاب للعلم بتاريخه ، ويبقى استصحاب قلة الماء إلى زمان الوقوع بلا معارض وهو يقتضي النجاسة ، هذا في الماء المسبوق بالقلة وكذا الحال في المسبوق بالكرية إلاّ أن استصحابها يقتضي الحكم بطهارة الماء كما هو ظاهر ، فهذه المسألة مستدركة لأنها عين المسألة المتقدمة فلا وجه لإعادتها ، ولعلّها من سهو القلم.

حدوث الكرية والملاقاة معاً‌

(١) صور المسألة ثلاث :

فتارة تحدث الملاقاة بعد الكرية ولو بآن فلسفي ، ولا إشكال في عدم انفعال الماء بذلك لكرية الماء حين ملاقاة النجس.

وأُخرى تحدث قبل الكرية ولو بآن عقلي ، ولا كلام في انفعال الماء بذلك لقلة الماء حين ملاقاة النجس بناء على ما يأتي في محلّه من عدم كفاية تتميم القليل بالكر النجس.

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٦٦٧.

١٩٥

وثالثة تحدث الملاقاة والكرية معاً وهو مورد الكلام في المقام ، كما إذا فرضنا انبوبين في أحدهما بول وفي الآخر ماء كر ، وقد أوصلناهما للماء في آن واحد فحصلت الملاقاة والكرية معاً بلا تقدم من أحدهما على الآخر ولو بآن ، فهل يحكم بطهارة الماء حينئذٍ أو بنجاسته؟

فيه قولان مبنيان على أن أدلة اعتصام الكر كقوله عليه‌السلام « كر ... » في جواب السؤال عن الماء الذي لا ينجسه شي‌ء (١) وقوله « إذا بلغ الماء قدر كر ... » (٢) وغيرهما من الأخبار ، هل تدل على اعتبار سبق الكرية على الملاقاة في الاعتصام أو لا يستفاد منها ذلك بوجه ، بل الكرية عاصمة عن الانفعال ولو حصلت مقارنة للملاقاة؟.

صريح كلام السيد قدس‌سره هو الثاني حيث حكم بطهارة الماء المذكور وإن احتاط بالاجتناب ، ومنشأ احتياطه هو احتمال اعتبار سبق الكرية في الاعتصام. وذهب شيخنا الأُستاذ قدس‌سره إلى نجاسة الماء في مفروض المسألة ، ولكن ما ذهب إليه السيد هو الصحيح.

وأمّا ما ذكره شيخنا الأُستاذ قدس‌سره فان اعتمد في ذلك على الوجه العقلي من لزوم تقدم الموضوع على حكمه عقلاً ، حيث إن ثبوت شي‌ء لشي‌ء فرع ثبوت المثبت له ، فبما أن الكر موضوع للحكم بعدم الانفعال بالملاقاة ، فلا بدّ أن يتحقق الكرية خارجاً في زمان متقدم على الملاقاة حتى يحكم عليها بعدم الانفعال بالملاقاة وبما أن التقدم غير متحقق في المسألة فيحكم على الماء بالانفعال.

ففيه : أن الموضوع لا بدّ من أن يتقدم على حكمه رتبة لا بحسب الزمان ، بل الموضوع وحكمه متقارنان زماناً ، ونظيرهما العلّة ومعلولها لتقارنهما زماناً وإن كانت‌

__________________

(١) كما في صحيحة إسماعيل بن جابر المروية في الوسائل ١ : ١٥٩ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٧.

(٢) وهو مضمون عدة روايات مرويات في الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٢ ، ٥ ، ٦.

١٩٦

[١٠٩] مسألة ١١ : إذا كان هناك ماءان أحدهما كر والآخر قليل ولم يعلم أن أيّهما كر ، فوقعت نجاسة في أحدهما معيّنا أو غير معيّن لم يحكم بالنجاسة (*) وإن كان الأحوط في صورة التعيّن الاجتناب (١).

______________________________________________________

العلّة متقدمة على معلولها رتبة ، فالتقدم الزماني في الموضوع والعلّة غير معتبر بل مستحيل ، وقد صرّح هو قدس‌سره بعدم اعتبار التقدم الزماني في بحث الترتّب وعلى هذا بني أساسه في محلّه وذكر أن الأمر بالمهم وإن كان مترتباً على عصيان الأمر بالأهم ، إلاّ أنه لا يستلزم تقدم عصيان الأمر بالأهم على الأمر بالمهم زماناً ، لأن الموضوع متقدم على حكمه رتبة لا زماناً ، فعصيان الأمر بالأهم ونفس الأمر بالمهم وامتثاله يتحقق في زمان واحد معاً ، وإن كان بعضها متقدماً على بعض آخر رتبة.

وإن اعتمد في ذلك على مقام الإثبات ، ودلالة الأخبار بدعوى استفادة لزوم السبق من الروايات ، فهو مناف لإطلاقات الأخبار ، فإنّها دلت على اعتصام الكر مطلقاً سواء أكان متقدماً على الملاقاة أم مقارناً معها (١).

العلم الإجمالي بالكرية‌

(١) قد حكم في المتن بطهارة ملاقي النجاسة في المسألة مطلقاً ، واحتاط بالاجتناب في صورة تعيّن الملاقي للنجاسة ، وحكم شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في تعليقته بنجاسة ملاقي النجاسة إذا كان معيناً ، ووافق الماتن في الحكم بطهارة ملاقي النجاسة على تقدير عدم تعينه.

والوجه فيما أفاده في صورة عدم تعيّن ملاقي النجاسة من الحكم بالطهارة هو أن ملاقي النجاسة إن كان هو الكثير ، فلا يترتب على ملاقاتها أثر قطعاً ، وملاقاتها مع‌

__________________

(*) الظاهر أن يحكم في المعيّن بنجاسته إلاّ إذا سبقت كريته.

(١) هذا كلّه فيما إذا حصلت الكرية من أمر آخر غير الملاقاة كما في مثال الأُنبوبين ، وأمّا إذا حصلت بنفس الملاقاة فنتكلم فيه عن قريب فلا تشتبه.

١٩٧

القليل المتعيّن عند الله غير معلومة عندنا من الابتداء ، فهو أي القليل مشكوك الملاقاة معها ، فيحكم بطهارته تعبداً كما يحكم بطهارة الكثير وجداناً. وأمّا إذا لاقت النجاسة أحد الماءين معيناً ، فالوجه في حكم السيد قدس‌سره بطهارته هو ما اعتمد عليه في الحكم بطهارة الماء المردد بين الكر والقليل فيما إذا لاقى نجساً ولم يعلم حالته السابقة ، وقد اعتمد فيها على قاعدة الطهارة أو استصحابها لعدم صحة التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية ، وإن منع عن ترتيب آثار الكرية عليه من كفاية الغسل فيه مرة أو من دون عصر أو إلقائه على النجس.

وأمّا الوجه فيما حكم به شيخنا الأُستاذ من النجاسة في هذه الصورة فهو ما أسسه هو قدس‌سره من أن الاستثناء إذا تعلق على عنوان وجودي وكان المستثنى منه حكماً إلزامياً أو ملزوماً له فهو بمثابة اعتبار إحراز ذلك العنوان الوجودي في الخروج عن المستثنى منه عرفاً ، ففي المقام لا بدّ من إحراز الكرية في الحكم بعدم الانفعال ، لأن الاستثناء عن انفعال الماء بالملاقاة إنما تعلق بعنوان الكرية وهو عنوان وجودي ، وبما أنه غير محرز في مفروض المسألة فيحكم على الماء بالانفعال (١) وحكمهما ( قدس الله أسرارهما ) على مسلكهما في محلّه.

والصحيح أن يفصّل في المقام بالحكم بالنجاسة فيما إذا كان ملاقي النجاسة معيناً إلاّ مع سبق العلم بكريته ، والحكم بالطهارة فيما إذا لم يكن معيناً. وتفصيل ذلك : أن النجاسة إذا لاقت أحدهما المعين فلا يخلو إما أن يعلم كريته وكرية الماء الآخر غير الملاقي للنجاسة سابقاً ، وإما أن يعلم بقلتهما كذلك أي سابقاً ، وإما أن لا يعلم حالتهما السابقة وهذه صور ثلاث ، وهناك صور اخرى يظهر حكمها مما نبيّنه في حكم الصور المتقدمة إن شاء الله.

فان علمنا بكريتهما سابقاً فلا إشكال في استصحاب كرية الملاقي المعين للنجاسة ونتيجته الحكم بطهارته مع الملاقاة ، والعلم الإجمالي بعروض القلة على أحد الماءين لا يترتّب عليه سوى احتمال انقلاب المعين عن الكرية السابقة إلى القلة ، ومع الاحتمال‌

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٦٤.

١٩٨

يجرى استصحاب كريته ، ولا يعارضه استصحاب الكرية في الماء الآخر ، لأنه غير جار في نفسه لعدم ترتب أثر شرعي عليه ، فإنّه لم يلاق نجساً حتى يجري فيه استصحاب الكرية. فهذا العلم الإجمالي لا يزيد على احتمال تبدل المعين وانقلابه من الكرية السابقة إلى القلة احتمالاً بدوياً.

ودعوى : أن الأصل عدم تحقق الملاقاة في زمان كرية الماء. مندفعة : بما أسلفناه في المسألة المتقدمة من أنه لا أساس للأصالة المذكورة بوجه ، ولا أثر لها في الموضوعات المركبة بعد إحراز أحد جزئيها وجداناً كالملاقاة في المقام والجزء الآخر بالأصل لارتفاع الشك بذلك.

وأمّا إذا علمنا بقلة الماءين سابقاً فينعكس الحال ، ونستصحب قلة الملاقي المعيّن وأثره الحكم بنجاسته ، لأنه قليل لاقى نجساً ولا يجري استصحاب القلة في الماء الآخر حتى يعارض استصحاب القلة في الملاقي المعين ، لأنه لم يلاق نجساً حتى يستصحب قلته كما عرفت.

وأمّا إذا جهلنا حالتهما السابقة فقد عرفت أن السيد حكم بطهارة الملاقي في مثله بقاعدة الطهارة أو استصحابها ، وإن منع عن ترتيب آثار الكرية عليه ، ولكن الماء محكوم بالنجاسة في هذه الصورة على ما سلكناه من جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية ، لأن اتصاف الملاقي بالكرية أمر مسبوق بالعدم ، وبما أنّا نشك فيه فالأصل عدمه ، فهو ماء لم يتصف بالكرية فيتنجس بملاقاة النجاسة لا محالة هذا ، بل لا مانع من استصحاب عدم كريته على وجه النعت لما قدمناه من أن المياه بأجمعها مسبوقة بالقلة لا محالة ، فإن أصلها المطر وهو إنما ينزل قطرات ثم يتشكل منها الكر وغيره فاذا شككنا في بقائه على حاله جرى استصحاب قلته وهو استصحاب نعتي.

فتلخص أن احتياط الماتن على مسلكه غير لزومي ، وأمّا على مسلكنا فالاحتياط بالاجتناب هو الأظهر ، هذا كلّه فيما إذا كان ملاقي النجاسة معيناً.

وأمّا إذا لاقت النجاسة أحدهما غير المعين فكلا الماءين محكوم بالطهارة ، وذلك لأن ما لاقته النجاسة واقعاً إن كان هو الكر فلا أثر لتلك الملاقاة ، لأن الكر عاصم‌

١٩٩

[١١٠] مسألة ١٢ : إذا كان ماءان أحدهما المعيّن نجس فوقعت نجاسة‌ لم يعلم وقوعها في النجس أو الطاهر لم يحكم بنجاسة الطاهر (١).

______________________________________________________

وإن كان هو القليل فهي على تقدير تحققها وإن كانت مؤثرة في الانفعال إلاّ أنها مشكوكة من الابتداء والأصل عدمها. وليس هذا من موارد الشك في التقدم والتأخر في شي‌ء ، بل الشك فيه في تحقق أحد الجزءين أعني الملاقاة بعد إحراز الجزء الآخر والأصل يقتضي عدمه فيحكم بطهارة كلا الماءين أحدهما وهو الكر بالوجدان والآخر أعني القليل غير المعين بالتعبد.

ولا يعارض هذا الاستصحاب باستصحاب عدم بلوغ الملاقي للنجس غير المعين عندنا حد الكر ، إذ لا أثر لهذا الاستصحاب في نفسه بعد العلم بطهارة الكر وجداناً وبطهارة القليل تعبداً ، ولا يثبت بذلك ملاقاة النجاسة للقليل الموجود في البين ليحكم بانفعاله.

وتزيد المسألة وضوحاً بملاحظة أن حالها حال ما إذا كان عندنا ماءان أحدهما المعين كر والآخر المعين قليل ، فإنّه إذا طفرت قطرة بول على أحدهما إجمالاً فلا كلام في الحكم بطهارة القليل حينئذٍ وعدم وقوع القطرة عليه ، لأن ملاقاة القطرة للكر لا أثر لها وملاقاتها للقليل مشكوكة من الابتداء ، والأصل عدم ملاقاتها للقليل ولا مجال في مثله لاستصحاب عدم بلوغ ما وقعت عليه القطرة كرّاً ، لأنه لا يثبت وقوع القطرة على القليل. هذا على أنّا لو سلمنا جريان الأصل في ذلك فلا محالة تقع المعارضة بينه وبين استصحاب عدم وقوع القطرة على القليل فيتساقطان ونرجع إلى قاعدة الطهارة في القليل ، فاذا كان هذا حال الماءين مع العلم بكرية أحدهما بعينه فليكن الماءان مع العلم بكرية أحدهما لا بعينه أيضاً كذلك ، فما أفاده السيد في هذه الصورة من الحكم بالطهارة هو الصحيح.

العلم الإجمالي بوقوع النجاسة في الطاهر أو النجس‌

(١) ما أفاده في المتن من عدم نجاسة الطاهر منهما متين ، والوجه فيه : أن العلم‌

٢٠٠