موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

الآخر بمقدار معيّن في جميع أطرافه ليس إلاّ الدائرة. على أن مقتضى طبع الماء هو ذلك ، وإنما يتشكل بسائر الأشكال بقسر قاسر كوضعه في الأواني المختلفة إشكالها.

وبعبارة اخرى : أن ظاهر الرواية أن ما يحويه خط واحد ولا يختلف مقدار البعد بين طرفين من أطرافه أبداً لا بدّ أن يبلغ الماء في مثله ذراعين في عمقه وذراع وشبر سعته ، وهذا لا ينطبق على غير الدائرة فإن البيضي وإن كان بخط واحد أيضاً إلاّ أن البعد فيه يختلف باختلاف أطرافه والمربع والمستطيل وغيرهما مما يحويه أكثر من خط واحد ، وبهذا كلّه يتعيّن أن يكون مفروض كلامه عليه‌السلام هو المدوّر لا غيره. فإذا عرفت هذه الأُمور وعرفت أن مفروض كلامه عليه‌السلام هو المدوّر وقد فرضنا أنّ عمقه أربعة أشبار وسعته ثلاثة أشبار ، فلا بدّ في تحصيل مساحته من مراجعة ما هو الطريق المتعارف عند أوساط الناس في كشف مساحة الدائرة.

وقد جرت طريقتهم خلفاً عن سلف كما في البنائين وغيرهم على تحصيل مساحة الدائرة بضرب نصف القطر في نصف المحيط ، وقطر الدائرة في المقام ثلاثة أشبار فنصفه واحد ونصف ، وأمّا المحيط فقد ذكروا أن نسبة قطر الدائرة إلى محيطها مما لم يظهر على وجه دقيق ونسب إلى بعض الدراويش أنّه قال : يا من لا يعلم نسبة القطر إلى المحيط إلاّ هو. إلاّ أنهم على وجه التقريب والتسامح ذكروا أن نسبة القطر إلى المحيط نسبة السبعة إلى اثنين وعشرين. ثم إنهم لما رأوا صعوبة فهم هذا البيان على أوساط الناس فعبروا عنه ببيان آخر ، وقالوا إن المحيط ثلاثة أضعاف القطر. وهذا وإن كان ينقص عن نسبة السبعة إلى اثنين وعشرين بقليل إلاّ أن المسامحة بهذا المقدار لا بدّ منها كما نشير إليه عن قريب.

فعلى هذه القاعدة يبلغ محيط الدائرة في المقام تسعة أشبار ، لأن قطرها ثلاثة أشبار ، ونصف المحيط أربعة أشبار ونصف ، ونصف القطر شبر ونصف ، فيضرب أحدهما في الآخر فيكون الحاصل سبعة أشبار إلاّ ربع شبر ، وإذا ضرب الحاصل من ذلك في العمق وهو أربعة أشبار يبلغ الحاصل سبعة وعشرين شبراً بلا زيادة ولا نقصان إلاّ في مقدار يسير كما عرفت ، وهو مما لا محيص من المسامحة فيه ، لأن النسبة بين القطر والمحيط مما لم تظهر حقيقتها لمهرة الفن والهندسة فكيف يعرفها العوام غير‌

١٦١

المطلعين من الهندسة بشي‌ء إلاّ بهذا الوجه المسامحي التقريبي. وهذه الزيادة نظير الزيادة والنقيصة الحاصلتين من اختلاف أشبار الأشخاص ، فإنّها لا تتفق غالباً ولكنها لا بدّ من التسامح فيها ، ولعلّنا نتعرض إلى ذلك عند بيان اختلاف أوزان المياه خفة وثقلاً إن شاء الله.

ثم لو أبيت عن صراحة الصحيحة في تحديد الكر بسبعة وعشرين شبراً فصحيحة إسماعيل بن جابر الثانية صريحة الدلالة على المدعى وهو ما رواه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن الماء الذي لا ينجسه شي‌ء؟ فقال كرّ قلت : وما الكر؟ قال : ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار » (١). والوجه في صراحتها أنها وإن لم تشتمل على ذكر شي‌ء من الطول والعرض والعمق إلاّ أن السائل كغيره يعلم أن الماء من الأجسام وكلّ جسم مكعب يشتمل على أبعاد ثلاثة لا محالة ولا معنى لكونه ذا بعدين من غير أن يشتمل على البعد الثالث ، فإذا قيل ثلاثة في ثلاثة مع عدم ذكر البعد الثالث علم أنه أيضاً ثلاثة كما يظهر هذا بمراجعة أمثال هذه الاستعمالات عند العرف. فإنّهم يكتفون بذكر مقدار بعدين من أبعاد الجسم إذا كانت أبعاده الثلاثة متساوية فتراهم يقولون خمسة في خمسة أو أربعة في أربعة إذا كان ثالثها أيضاً بهذا المقدار. وعليه إذا ضربنا الثلاثة في الثلاثة فتبلغ تسعة ، فإذا ضربناها في ثلاثة فتبلغ سبعة وعشرين شبراً.

ويؤيد ما ذكرناه أنّا وزنّا الكر ثلاث مرات ووجدناه موافقاً لسبعة وعشرين فالوزن مطابق للمساحة التي اخترناها ، هذا كلّه في الاستدلال على القول المختار ويقع الكلام بعد ذلك في معارضاته وما أُورد عليه من المناقشات.

فربما يناقش في سند الصحيحة الأخيرة بأنها قد نقلت في موضع من التهذيب عن عبد الله بن سنان (٢) ، وكذا في الاستبصار على ما حكي عنه (٣) وفي موضع آخر من‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٩ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٧.

(٢) التهذيب ١ : ١٤١ / ١١٥.

(٣) الاستبصار ١ : ١٠ / ١٣.

١٦٢

التهذيب عن محمد بن سنان (١) ، وفي الكافي عن ابن سنان (٢) فالرواية مرددة النقل عن محمد بن سنان أو عن عبد الله بن سنان وحيث لا يعتمد على رواية محمد بن سنان لضعفه وعدم وثاقته ، فالرواية لا تكون موثقة ومورداً للاعتماد.

ويدفعه : أن المحدث الكاشاني قدس‌سره قد صرّح في أوّل كتابه الوافي بأن ابن سنان قد يطلق على محمد بن سنان (٣) ، وظاهره أن ابن سنان إذا ذكر مطلقاً فالمراد منه عبد الله بن سنان إلاّ أنّه في بعض الموارد يطلق على محمد بن سنان أيضاً ، وذكر أنّه لأجل ذلك لا يطلق هو قدس‌سره ابن سنان على عبد الله بن سنان إلاّ مع التقييد لئلاّ يقع الاشتباه في فهم المراد من اللفظ ، وهذه شهادة من المحدّث المزبور على أن المراد من ابن سنان مهما أُطلق هو عبد الله بن سنان ، بل قد أسندها نفس الشيخ في استبصاره ، وموضع من التهذيب إلى عبد الله بن سنان. فالمتعيّن حينئذٍ حمل ابن سنان على عبد الله بن سنان ، وأمّا ما في موضع آخر من التهذيب من إسنادها إلى محمد بن سنان فهو محمول على اشتباه الكتاب أو على سهو القلم ، فإن التهذيب كثير الأغلاط والاشتباه. أو يحمل على أنها رواية أُخرى مستقلة غير ما نقله عبد الله بن سنان فهناك روايتان (٤).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٧ / ١٠١.

(٢) الكافي ٣ : ٣ / ٧.

(٣) لاحظ الوافي ١ : ٢١.

(٤) هذا وقد يدعى أن ملاحظة طبقات الرواة تقتضي الحكم بتعيّن إرادة محمد بن سنان من ابن سنان الواقع في سند الصحيحة ، لأن الراوي عنه هو البرقي وهو مع الرجل من أصحاب الرضا عليه‌السلام ومن أهل طبقة واحدة ، وعبد الله بن سنان من أصحاب الصادق عليه‌السلام وطبقته متقدمة على طبقتهما فكيف يصح أن يروي البرقي عمّن هو من أصحاب الصادق عليه‌السلام من دون واسطة.

كما أن من المستبعد أن لا يروي عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام من دون واسطة فإن المناسبة تقتضي أن يروي عنه عليه‌السلام مشافهة لا عن أصحابه ومع الواسطة.

١٦٣

هذا كلّه على أنه لم يقم دليل على ضعف محمد بن سنان ، أعني أبا جعفر الزاهري لأنه المراد به في المقام دون ابن سنان الذي هو أخو عبد الله بن سنان الضعيف وعدم توثيقه ، كيف وهو من أحد أصحاب السر ، وقد وثقه الشيخ المفيد وجماعة وقورن في المدح (١) بزكريا بن آدم وصفوان في بعض الأخبار وهو كاف في الاعتماد على رواياته ، وأمّا ما يتراءى من القدح في حقه فليس قدحاً مضراً بوثاقته ولعلّه مستند إلى إفشائه لبعض أسرارهم عليهم‌السلام (٢).

وأمّا ما توهّم معارضته للصحيحتين المتقدمتين فهو روايتان :

إحداهما : ما عن الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كان الماء في الركي كراً لم ينجسه شي‌ء قلت : وكم الكر؟ قال : ثلاثة أشبار ونصف طولها في ثلاثة أشبار ونصف عمقها في ثلاثة أشبار ونصف عرضها » (٣). فالرواية دلت على أن الكر ثلاثة وأربعون شبراً إلاّ ثمن شبر كما هو مذهب المشهور فتعارض الصحيحتين المتقدمتين.

__________________

وقد تصدّى شيخنا البهائي قدس‌سره للجواب عن هذه المناقشة بما لا مزيد عليه ولم يتعرّض لها سيِّدنا الأُستاذ ( مدّ ظلّه ) في بحثه ولأجل هذا وذاك لم نتعرض لها ولدفعها في المقام فمن أراد تفصيل الجواب عنها فليراجع كتاب مشرق الشمسين للبهائي قدس‌سره [ ص ٩٣ ].

(١) وقد روى الكشي عن أبي طالب عبد الله بن الصلت القمي قال : دخلت على أبي جعفر الثاني عليه‌السلام في أواخر عمره يقول : جزى الله صفوان بن يحيى ومحمد بن سنان وزكريا بن آدم عنِّي خيراً فقد وفوا لي ... نقله في المجلد الأول من تنقيح المقال ص ٤٤٨ سطر ٢.

(٢) الرجل وإن وثقه الشيخ المفيد قدس‌سره [ في الإرشاد ٢ : ٢٤٨ ] وجماعة وروى الكشي [ في ص ٥٠٣ / ٩٦٤ ] له مدحاً جليلاً بل قد وثقه ابن قولويه لوقوعه في أسانيد كامل الزيارات وله روايات كثيرة في الأبواب المختلفة ولكن سيدنا الأُستاذ ( مدّ ظلّه ) عدل عن توثيقه وبنى على ضعفه لأن الشيخ قدس‌سره ذكر انّه قد طعن عليه وضعف [ في رجاله ٣٦٤ / ٥٣٩٤ ] وضعفه النجاشي قدس‌سره صريحاً [ في رجاله ٣٢٨ / ٨٨٨ ] ومع التعارض لا يمكن الحكم بوثاقته. إذن فالرجل ضعيف.

(٣) الوسائل ١ : ١٦٠ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٨.

١٦٤

ولا يخفى أن الرواية نقلت عن الكافي (١) والتهذيب (٢) بلا زيادة البعد الثالث ونقلت عن الاستبصار بتلك الزيادة (٣) ، فلا بدّ من حمل الزيادة على سهو القلم فإن الكافي الذي هو أضبط الكتب الأربعة ، والتهذيب الذي ألّفه نفس الشيخ قدس‌سره غير مشتملين على الزيادة المذكورة. بل عن ابن المشهدي في هامش الاستبصار أن الرواية غير مشتملة على تلك الزيادة في النسخة المخطوطة من الاستبصار بيد والد الشيخ محمد بن المشهدي صاحب المزار المصححة على نسخة المصنف ، فالزيادة ساقطة. وفي الطبعة الأخيرة من الوسائل نقل الرواية بتلك الزيادة وأسندها إلى الكافي والتهذيب واستدرك الزيادة في الجزء الثالث فراجع. فإذا أسقطنا الزيادة عن الرواية فتبقى مشتملة على بعدين فقط ، وإذن لا بدّ من حملها على المدوّر بعين ما قدمناه في الصحيحة المتقدمة لأنه مقتضى طبع الماء في نفسه على أن الركي بمعنى البئر وهو على ما شاهدناه مدوّر غالباً لأنه أتقن وأقوى من سائر الأشكال الهندسية.

مضافاً إلى أن المراد بالعرض فيها ليس هو ما يقابل الطول فإنّه اصطلاح حديث للمهندسين ، وإنما أُريد منه السعة بمعنى ما يسعه سطح الشي‌ء كما في قوله تعالى ( عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ) (٤) فإنّ الإمام عليه‌السلام قد تعرّض للسعة والعمق. وكون السعة بمقدار معيّن من جميع الجوانب والأطراف لا يوجد في غير الدائرة كما قدمناه في الصحيحة المتقدمة. فإذا أخذنا مساحتها بضرب نصف قطرها في نصف محيطها بالتقريب المتقدم ، يبلغ سبعة وعشرين بزيادة ما يقرب من ستة أشبار والكر بهذا المقدار مما لا قائل به من الشيعة ولا من السنة وهذه قرينة قطعية على عدم إرادة ظاهر الرواية ، فلا محيص من رفع اليد عنها وحملها على أحد أمرين :

أحدهما : أن يحمل على أن الإمام عليه‌السلام أراد الاحتياط ببيان مقدار شامل على الكر قطعاً.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢ / ٤.

(٢) التهذيب ١ : ٤٠٨ / ١٢٨٢.

(٣) الاستبصار ١ : ٣٣ / ٨٨.

(٤) آل عمران ٣ : ١٣٣.

١٦٥

وثانيهما : أن يحمل على أمر آخر أدق من سابقه ، وهو أن الركي الذي هو بمعنى البئر لا يكون مسطح السطح غالباً ، بل يحفر على شكل وسطه أعمق من جوانبه ولا سيّما في الآبار التي ينزح منها الماء كثيراً فإن إدخال الدلو وإخراجه يجعل وسط البئر أعمق ، وهو يوجب إحالة ما فيه من التراب إلى الأطراف والجوانب وعليه فالماء الموجود في وسط الركي أكثر من الماء في أطرافه ، إلاّ أن الزائد بدل التراب لا أنه معتبر في الكرية والاعتصام إذ المقدار المعتبر فيه سبعة وعشرون شبراً فالزيادة مستندة إلى ما ذكرناه.

ويمكن حمل الرواية على أمر ثالث وهو حملها على بيان مرتبة أكيدة من الاعتصام والكرية نظير الحمل على بيان مرتبة أكيدة من الاستحباب في العبادات ، هذا كلّه مضافاً إلى ضعف الرواية لعدم وثاقة الرجل.

وثانيتهما : رواية أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الكر من الماء كم يكون قدره؟ قال : إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصف في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه في الأرض فذلك الكر من الماء (١) وهي أيضاً تقتضي اعتبار بلوغ مكعّب الماء ثلاثة وأربعين شبراً إلاّ ثمن شبر ، وهو الذي التزم به المشهور فيعارض بها الصحيحة المتقدمة التي اعتمدنا عليها في بيان الوجه المختار.

وقد أجاب صاحب المدارك (٢) وشيخنا البهائي (٣) قدس‌سرهما عن هذه الرواية بضعف سندها لاشتماله على أحمد بن محمد بن يحيى وهو مجهول في الرجال.

وأورد عليه في الحدائق بأن الرواية وإن كانت ضعيفة لما ذكر إلاّ أنه على طريق الشيخ في التهذيب ، وأمّا على طريق الكليني قدس‌سره في الكافي فالسند صحيح لأنّه رواها عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن عثمان بن عيسى عن ابن مسكان عن أبي بصير ، ومن الظاهر أنه أحمد بن محمد بن عيسى لرواية محمد بن يحيى العطار‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦٦ / أبواب الماء المطلق ب ١٠ ح ٦.

(٢) المدارك ١ : ٥١.

(٣) حبل المتين : ١٠٨.

١٦٦

عنه وروايته عن عثمان بن عيسى. وأحمد بن محمد بن عيسى ثقة جليل وممّن يعتمد على روايته ، وإنما الضعيف هو أحمد بن محمد بن يحيى الواقع في طريق الشيخ قدس‌سره ورواها في الوسائل بطريق الكليني قدس‌سره فراجع (١) فلا إشكال في الرواية من هذه الجهة.

ثم إن صاحب المدارك وشيخنا البهائي قدس‌سرهما ناقشا في سند الرواية من ناحية أُخرى وهي أن الراوي عن ابن مسكان وهو عثمان بن عيسى واقفي لا يعتمد على نقله فالسند ضعيف.

ويرده أنه وإن كان واقفياً كما أُفيد إلاّ أنه موثق في النقل عندهم ، ويعتمدون على رواياته بلا كلام على ما يستفاد من كلام الشيخ قدس‌سره في العدّة (٢) بل نقل الكشي قولاً بأنه ممن اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم (٣). أضف إلى ذلك أنه ممّن وثقه ابن قولويه لوقوعه في أسانيد كامل الزيارات. ومع الوثوق لا يقدح كونه واقفياً أو غيره. نعم ، بناء على مسلك صاحب المدارك قدس‌سره من اعتبار كون الراوي عدلاً إمامياً لا يعتمد على رواية الرجل لعدم كونه إمامياً.

وقد ناقشا في الرواية ثالثاً : بأن أبا بصير مردد بين الموثق والضعيف فالسند ضعيف لا محالة.

والإنصاف أن هذه المناقشة مما لا مدفع له إذ يكفي فيها مجرد الاحتمال وعلى مدعي الصحة إثبات أن أبا بصير هو أبو بصير الموثق ، ولا ينبغي الاعتماد والوثوق على شي‌ء مما ذكروه في إثبات كونه الموثق في المقام. وقد اعترف بذلك صاحب الحدائق أيضاً إلاّ أنه ميّزه بقرينة أن أكثر روايات ابن مسكان إنما هو عن أبي بصير الموثق ، والكثرة والغلبة مرجحة لأحد الاحتمالين على الآخر لأن الظن يلحق الشي‌ء بالأعم الأغلب.

ولا يخفى أن هذه القرينة كغيرها مما ذكروه في المقام مما لا يفيد الاطمئنان‌

__________________

(١) الحدائق ١ : ٢٦٨.

(٢) العدّة : ٥٦ السطر ١٩ / في الترجيح بالعدالة.

(٣) رجال الكشي : ٥٦٦ / ١٠٥٠.

١٦٧

والوثوق ، والاعتماد عليه غير صحيح ، وبذلك تكون الرواية ضعيفة لا محالة (١).

ثم لو أغمضنا عن سندها فهي قاصرة الدلالة على مسلك المشهور لأن الرواية غير مشتملة على ذكر الطول والعرض والعمق ، وإنما ذكر فيها كون الماء ثلاثة أشبار ونصف في مثله أي مثل الماء ثلاثة أشبار ونصف في عمقه ، وظاهرها هو الدائرة كما بيّناه في صحيحتي إسماعيل بن جابر فيستفاد منها أن الكر ما يقرب من ثلاثة وثلاثين شبراً وهو ممّا لا قائل به كما مرّ. فلا بدّ من حملها على اختلاف سطح الماء الراكد إذ الماء في الصحاري لا يتمركز في الموارد المسطحة بل في الأراضي منخفض الوسط ، فوسطه أعمق من جوانبه ، ولعلّ الزائد عن سبعة وعشرين إنما هو بهذا اللّحاظ. فالرواية غير معارضة للصحيحتين المتقدمتين.

وأمّا ما عن شيخنا البهائي قدس‌سره في الحبل المتين من إرجاع الضمير في « مثله » إلى ثلاثة أشبار ونصف باعتبار المقدار ودعوى أن الموثقة مشتملة على ذكر الأبعاد الثلاثة وهي حينئذٍ صريحة الدلالة على مسلك المشهور (٢). فيدفعه : أنه تكلف محض لاستلزامه التقدير في الرواية في موضعين :

أحدهما : في مرجع الضمير بتقدير المقدار.

وثانيهما : بعد كلمة « مثله » بتقدير لفظة « في » لعدم استقامة المعنى بدونهما وهو كما ترى تكلف والتزام من غير ملزم فالصحيح ما ذكرناه من إرجاع الضمير في « مثله » إلى الماء وعدم اشتمال الموثقة على الأبعاد الثلاثة. إذن لا بدّ من حملها على اختلاف سطح الماء الراكد كما مرّ.

بقي الكلام في ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال « قلت له : راوية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرذ أو صعوة ميتة ، قال : إذا تفسخ فيها فلا تشرب من مائها ولا تتوضّأ وصبّها ، وإن كان غير متفسّخ فاشرب منه وتوضأ ... » (٣). وهي أيضاً تدل‌

__________________

(١) وقد عدل سيدنا الأُستاذ ( مدّ ظلّه ) عن ذلك أخيراً وبنى على أن المكنّين بأبي بصير كلّهم ثقاة ومورد للاعتبار.

(٢) حبل المتين : ١٠٨.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٩ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ٨.

١٦٨

على ما اخترناه لأن أكثر الراوية بحسب المقدار هو ما يسع سبعة وعشرين شبراً من الماء ، وهي وإن شملت بإطلاقها لما يسع أقل من مقدار سبعة وعشرين شبراً ، لأن الراوية تختلف بحسب الصغر والكبر وهي تطلق على جميعها إطلاقاً حقيقياً ، إلاّ أنه لا بدّ من رفع اليد عن إطلاقها بمجموع الروايات المتقدمة الدالّة على أن الكر ليس بأقل من سبعة وعشرين شبراً ، وبها نقيد إطلاقها ونخصصها بما تسع مقدار سبعة وعشرين شبراً من الماء.

وأيضاً يمكن تقييدها بصحيحة محمد بن مسلم المتقدمة الدالّة على تحديد الكر بستمائة رطل ، لما عرفت من تعيّن حملها على الأرطال المكية ، فمفاد الصحيحة حينئذٍ اعتبار بلوغ الماء ألفاً ومائتي رطل عراقي ، وقد أسلفنا أنّا وزنّا الكر غير مرة ووجدناه موافقاً لسبعة وعشرين شبراً فهي تنفي الاعتصام عمّا هو أقل من ذلك المقدار.

هذا ولكن الرواية ضعيفة السند بعلي بن حديد. نعم ، ان لزرارة رواية أُخرى متحدة المضمون مع هذه الرواية وهي صحيحة السند إلاّ أنها غير مسندة إلى الإمام عليه‌السلام وكأنّ مضمونها حكم من زرارة نفسه وقد نقلها في الوسائل عن الكليني قدس‌سره فليلاحظ إذن فما أسنده إلى الإمام عليه‌السلام غير صحيح وما هو صحيح غير مسند إلى الإمام عليه‌السلام.

فتحصّل : أن الصحيح في تحديد الكر هو تحديده بسبعة وعشرين شبراً وهو الذي ذهب إليه القميون قدس‌سرهم.

وتؤكده مرسلة عبد الله بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الكر من الماء نحو حبيّ هذا ، وأشار إلى حبّ من تلك الحباب التي تكون بالمدينة » (١). والوجه في تأكيدها أن فرض حب يسع بمقدار ثلاثة وأربعين شبراً أو ستة وثلاثين شبراً من الماء فرض أمر غير معهود خارجاً ، بخلاف ما يسع بمقدار سبعة وعشرين شبراً لأنه أمر موجود متعارف شاهدناه وهو موجود بالفعل أيضاً عند بعض طباخي العصير. وهذه الرواية مؤكدة لما اخترناه من مذهب القميين وغير قابلة لأن يستدل بها في‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦٦ / أبواب الماء المطلق ب ١٠ ح ٧.

١٦٩

شي‌ء لا لنا ولا علينا لضعفها بالإرسال كما لا يخفى.

الكلام في بيان النسبة بين التحديدين‌

أعني التحديد بالوزن وبالمساحة ، وقد حدّ بحسب الوزن بألف ومائتي رطل بالعراقي كما مرّ ، وبحسب المساحة بثلاثة وأربعين شبراً إلاّ ثمن شبر تارة كما هو المشهور ، وبستّة وثلاثين اخرى وبسبعة وعشرين ثالثة وهو الذي ذهب إليه القميون واخترناه آنفاً ، وألف ومائتا رطل عراقي يقرب من سبعة وعشرين شبراً لما قدّمناه من أنا وزنا الكر من الماء الحلو والمرّ غير مرة فوجدناهما بالغين سبعة وعشرين شبراً. فمسلك المشهور في تحديد الكر بالمساحة لا يوافق لتحديده بالوزن والاختلاف بينهما غير قليل بل بينهما بون بعيد. ومنه يظهر عدم إمكان جعل التحديد بالمساحة معرّفاً لتحديده بالوزن على مسلك المشهور ، فإن التفاوت بينهما ممّا لا يتسامح به لكثرته ومعه كيف يجعل أحدهما طريقاً ومعرّفاً لما هو ناقص عنه بكثير ، وإن ذهب إلى ذلك جماعة نظراً منهم إلى أن الوزن غير متيسّر لأكثر الناس ، ولا سيما في الصحاري والأسفار إذ لا ميزان فيها ليوزن به الماء ، كما لا يتيسّر سائر أدواته وهذا بخلاف التحديد بالمساحة فإن شبر كل أحد معه وله أن يمسح الماء بشبره ، ولأجل سهولته جعله الشارع طريقاً معرّفاً إلى ما هو الحد الواقعي من الوزن ، وقد عرفت أن هذا على مسلك المشهور غير ميسور لكثرة الفرق وبعد الفاصلة بينهما.

وأمّا على ما اخترناه في التحديد بالمساحة أعني سبعة وعشرين شبراً فلا يخلو :

إمّا أن يتطابق كل من التحديدين مع الآخر تطابقاً تحقيقياً أبداً.

وإمّا أن يزيد التحديد بالمساحة على التحديد بالوزن كذلك أي دائماً.

وإمّا أن ينعكس ويزيد التحديد بالوزن على التحديد بالمساحة في جميع الموارد.

وإمّا أن يزيد الوزن على المساحة تارة وتزيد المساحة على الوزن اخرى فهذه وجوه أربعة. ومنشأها أمران :

أحدهما : أن الكر ليس من قبيل الأحكام الشخصية ليختلف باختلاف الأشخاص‌

١٧٠

بأن يكون الماء كراً في حق أحد وغير كر في حق آخر لوضوح أنه من الأحكام العامة ، فلو كان كراً فهو كر في حق الجميع كما إذا لم يكن كراً فهو كذلك في حقّ الجميع. وهذا إنما يتحقق فيما إذا جعلنا المدار في سبعة وعشرين شبراً على أشبار أقصر الأشخاص المتعارفين بأن لا يعد عرفاً أقصر عن المعتاد ، فالمدار على أقل شبر من أشبار مستوي الخلقة وهو يتحقق في حق جميع الأشخاص مستوين الخلقة ، فإذا بلغ الماء سبعة وعشرين شبراً بأقل شبر من أشبار مستوى الخلقة فهو بالغ حدّ الكر أعني سبعة وعشرين في حق جميع المستوين خلقة كما أنه إذا لم يبلغ هذا المقدار بالأشبار المذكورة فهو غير كر في حق الجميع.

وهذا بخلاف ما لو جعلنا المدار على شبر كل شخص في حق نفسه فإنّه يختلف الكر حينئذٍ باختلاف الأشبار قصراً وطولاً فربما يكون الماء الواحد بالغاً سبعة وعشرين شبراً بشبر واحد ولا يبلغه بشبر غيره ، فيكون الماء الواحد كراً في حق أحد وغير كر في حق آخرين. وقد ذكرنا نظير ذلك في القدم والخطوة المعتبرين في المسافة المسوّغة للقصر حيث حدّدوا الفرسخ بالأميال والميل بالأقدام ، وقلنا في بحث صلاة المسافر إن المراد بهما أقصر قدم وخطوة من أشخاص مستوين الخلقة.

والسر في ذلك ما أشرنا إليه من أن الكر والقصر ليسا من الأحكام الشخصية ليختلفا باختلاف الأشخاص ، وإنما هما من الأحكام العامة غير المختصة بشخص دون شخص ، فلو جعلنا المدار على شبر كل شخص أو قدمه في حق نفسه للزم ما ذكرناه من كون الماء كراً في حق أحد وغير كر في حق آخر ، وكذا الحال في القدم.

نعم ، إنما يصح ذلك في الأحكام الشخصية كما إذا أمر المولى عبيده بالمشي عشرين قدماً أو بغسل وجوههم ، فإن اللاّزم على كل واحد منهم في المثال أن يمشي كذا مقداراً بإقدامه لا بإقدام غيره ، أو يغسل وجه نفسه وإن كان أقل سعة من وجه غيره ، وهذا من الوضوح بمكان.

وثانيهما : أن المياه مختلفة وزناً فإن الماء المقطّر أو النازل من السماء أخف وزناً من المياه الممتزجة بالمواد الأرضية من الجص والنشادر والزاج والملح والكبريت ونحوها لأنه يتثاقل بإضافة المواد الخارجية الأرضية بحيث لو قطرناه بالتبخير لخف عما كان‌

١٧١

عليه أوّلاً ، لأن لطبيعي المياه وزناً واحداً وإنما يختلف باختلاف المواد الممتزجة معه.

وما يقال من أن بعض المياه أخف وزناً في طبعه عن بعضها الآخر ، مجرد دعوى لا مثبت لها.

فإذا تمهد هذان الأمران فلا محالة ترتقي الوجوه إلى الأربعة كما قدّمناه ، فإن الوزن والمساحة إما أن يتطابقا تطابقاً حقيقياً بأن يساوي ما يبلغ سبعة وعشرين شبراً بأشبار شخص مستوي الخلقة ألفاً ومائتي رطل عراقي بلا زيادة ونقصان ، وإما أن يزيد الوزن على المساحة ، وإما أن ينعكس وتزيد المساحة على الوزن ، وإما أن يختلفا فيزيد الوزن على المساحة في بعض الموارد وتزيد المساحة على الوزن في بعض الموارد الأُخر لاختلاف المياه خفة وثقلاً ، فرب ماء صاف خفيف فتزيد المساحة عليه ورب ماء ثقيل يزيد على المساحة بكثير.

أمّا الصورة الاولى : فلا ينبغي الإشكال فيها إذ لا مانع من تحديد شي‌ء واحد بأمرين متحدين لتلازمهما واتحادهما بلا زيادة لأحدهما على الآخر ولا نقصان وهو ظاهر.

وأمّا الصورة الثانية : فلا محيص فيها من جعل المناط بالمساحة فالوزن يكون معرّفاً لها وطريقاً إليها ، ولا بأس بالمقدار الزائد إذا لم يكن بكثير لأن جعل معرِّف يطابق المعرَّف تطابقاً تحقيقياً غير ممكن فلا بدّ من جعل المعرِّف أمراً يزيد على المعرَّف بشي‌ء من باب الاحتياط.

وأمّا الصورة الثالثة : فهي مع الصورة المتقدمة متعاكستان فلا بدّ فيها من جعل المدار على الوزن وبما أن الوزن لا طريق إلى معرفته غالباً ولا سيما في البراري والصحار جعلت المساحة طريقاً ومعرّفاً إليه ، وذلك لأن المساحة وإن كانت لا تتيسّر معرفتها للجميع على وجه دقيق ، لاستلزامه معرفة شي‌ء من الهندسة ولا سيما في المسدّس والمخمّس والإهليلجي والمخروط أو مختلفة الأضلاع وبالأخص فيما إذا كان السطح الذي وقف عليه الماء مختلفاً في الشكل ، فإن معرفة المساحة في أمثال ذلك مما لا يتيسّر لأكثر أهل العلم إلاّ بمراجعة قواعد الهندسة والمحاسبة الدقيقة فضلاً عن العوام ، إلاّ أنه مع ذلك معرفة المساحة أيسر من معرفة الوزن ، ولا سيما في المربّعات‌

١٧٢

[١٠٣] مسألة ٥ : إذا لم يتساو سطوح القليل ينجس العالي بملاقاة السافل كالعكس‌. نعم لو كان جارياً من الأعلى (*) إلى الأسفل لا ينجس العالي بملاقاة السافل ، من غير فرق بين العلو التسنيمي والتسريحي (١).

______________________________________________________

والمدوّرات والمستطيلات ولأجل هذا جعلت المساحة معرّفة للوزن والزيادة اليسيرة لا تضر في المعرّف كما مرّ.

وأمّا الصورة الرابعة : التي هي الصحيحة المطابقة للواقع لاختلاف المياه في الثقل حسب اختلاطها بالمواد الأرضية ، فربما يزيد الوزن على المساحة وأُخرى ينعكس ولا بدّ في مثلها من جعل المدار على حصول كل واحد من التحديدين وأن أيهما حصل كفى في الاعتصام ، ولا مانع من تحديد شي‌ء واحد بأمرين بينهما عموم من وجه ليكتفى بأيهما حصل في الاعتصام.

ودعوى عدم معقولية التحديد بأمرين بينهما عموم من وجه أمر لا أساس له وعلى هذا نكتفي بأيهما حصل في المقام ففي المياه الخفيفة الصافية تحصل المساحة قبل الوزن ، كما أن المياه الثقيلة على عكس الخفيفة يحصل فيها الوزن قبل المساحة. ولعلّ السر في ذلك أن المياه الصافية غير المختلطة بالمواد الخارجية للطافتها يتسرع إليها التغيّر والفساد في زمان لا يتغيّر فيه المياه المختلطة بمثل الملح ونحوه كما يشاهد ذلك في الماء الحلو وماء البئر لأن الأول يفسد قبل فساد الثاني بزمان ، ولأجل ذلك اعتبر الشارع في المياه الخفيفة أن يكون أكثر من غيره حتى لا يتغيّر لأجل كثرته قبل أن يتغيّر غيره.

عدم تساوي سطح القليل

(١) قد عرفت أن الماء على أقسام ثلاثة : لأنه إما متصل بالمادّة فهو معتصم بمادته إلاّ أن يتغيّر في أحد أوصافه الثلاثة ، وإما غير متصل بها وهو إما أن يكون كراً فهو‌

__________________

(*) تقدّم أن المناط في عدم التنجس هو الدفع.

١٧٣

[١٠٤] مسألة ٦ : إذا جمد بعض ماء الحوض والباقي لا يبلغ كرّاً ، ينجس بالملاقاة ولا يعصمه ما جمد‌ ، بل إذا ذاب شيئاً فشيئاً ينجس أيضاً وكذا إذا كان هناك ثلج كثير فذاب منه أقل من الكر فإنّه ينجس بالملاقاة ولا يعتصم بما بقي من الثلج (١).

______________________________________________________

معتصم بكثرته لا ينفعل إلاّ أن يطرأ عليه التغيّر ، وإما أن لا يكون كراً فهو غير معتصم بمادته ولا بكثرته وينفعل بمجرد ملاقاة النجس. وإطلاق ما دلّ على الانفعال في هذا القسم بمجرد الملاقاة يعم ما إذا كان سطح بعضه أعلى من الآخر لأنه ماء واحد قليل إذا لاقى أحد أطرافه نجساً يحكم بنجاسة الجميع دون خصوص الجزء الملاقي منه للنجس ، لأن الدليل دلنا على انفعال الماء الواحد بأجمعه إذا لاقى أحد أطرافه نجساً على تقدير قلته وعلى عدم انفعاله على تقدير كثرته ، فالماء الواحد إما أن يكون نجساً بأجمعه أو يكون طاهراً كذلك ولا يمكن أن يكون بعضه نجساً وبعضه الآخر طاهراً.

نعم ، إنما يخرج عن هذا الإطلاق فيما إذا جرى الماء بدفع وقوة بالارتكاز العرفي ونظرهم ، حيث إن الماء الخارج بالدفع وإن كان ماء واحداً حقيقة إلاّ أن العرف يراه ماءين متعدِّدين ، ومع التعدّد لا وجه لسراية النجاسة من أحدهما إلى الآخر ، فالمضاف الذي يصب على يد الكافر من إبريق ونحوه لا يتنجس منه إلاّ المقدار الملاقي مع اليد ، وأمّا ما في الإبريق فلا وإن كان متصلاً بالسافل النجس لأنه عرفاً ماء آخر غير ما لاقى يد الكافر لمكان دفعه وقوته ، وكذا الماء الخارج من الفوّارات فإن العالي منه إذا تنجس بشي‌ء لا تسري نجاسته إلى سافله لأجل خروجه بالدفع.

وبما ذكرناه يظهر أن المدار في عدم انفعال الجزء غير الملاقي على خروج الماء بقوة ودفع لا على العلو والسفل ، فلو جرى الماء بطبعه على الأرض ولم يكن جريانه بقوة ودفع ولاقى شي‌ء منه نجساً حكم بنجاسة جميعه لوحدة الماء عرفاً ، فالميزان في عدم سراية النجاسة من أحد الأطراف إلى الآخر هو جريان الماء بالقوة والدفع كما مرّ.

انجماد بعض الماء‌

(١) والوجه في ذلك أن المستفاد من أدلّة اعتصام الكر هو أن الكر من الماء هو‌

١٧٤

[١٠٥] مسألة ٧ : الماء المشكوك كريته مع عدم العلم بحالته السابقة في حكم القليل على الأحوط‌ (*) وإن كان الأقوى عدم تنجسه بالملاقاة. نعم ، لا يجري عليه حكم الكر ، فلا يطهّر ما يحتاج تطهيره إلى إلقاء الكر عليه ولا يحكم بطهارة متنجس غسل فيه. وإن علم حالته السابقة يجري عليه حكم تلك الحالة (١).

______________________________________________________

الذي لا ينفعل بشي‌ء ، وهذا العنوان لا يصدق على الجامد ، لأن الماء هو ما فيه اقتضاء السيلان فهو يسيل لو لم يمنع عنه مانع وساد كما في مياه الأحواض لأنها تسيل لولا ارتفاع أطرافها ، وهذا بخلاف الجامد ، لأنه بطبعه وإن كان ماء إلاّ أنه ليس بسائل فعلي بحسب الاقتضاء فلا يشمله دليل اعتصام الماء الكر ، فإذا جمد نصف الكر ولاقى الباقي نجساً فيحكم بنجاسته كما يحكم بنجاسة ما يذوب من الجامد شيئاً فشيئاً ، إلاّ على القول بكفاية التتميم كرّاً وسيأتي الكلام عليه في محلّه إن شاء الله.

الماء المشكوك كريته‌

(١) الماء الذي يشك في كريته إذا علم حالته السابقة من القلة أو الكثرة ، فلا كلام في استصحاب حالته السابقة فعلاً ويترتب عليه آثارهما.

وأمّا إذا لم يعلم حالته السابقة فقد حكم في المتن بطهارته إذا لاقى نجساً إما باستصحابها أو بقاعدة الطهارة إلاّ أنه منع عن ترتيب آثار الكرية عليه ، فلم يحكم بطهارة ما غسل به من المتنجسات ، واستصحب نجاسة المغسول به كما لم يحكم بكفاية إلقائه على ما يتوقف تطهيره بإلقاء كر عليه. والتفكيك بين المتلازمين في الأحكام الظاهرية غير عزيز ، فطهارة الماء وإن استلزمت طهارة ما يغسل به واقعاً إلاّ أن المفكك بينهما في مقام الظاهر هو الاستصحابان المتقدمان. نعم ، احتاط قدس‌سره بالتجنب عنه وإلحاقه بالقليل ، وقد خالفه في ذلك جماعة من الأصحاب وذهبوا إلى‌

__________________

(*) بل على الأظهر.

١٧٥

نجاسة الماء المشكوك كريته الذي لم تعلم حالته السابقة من الكرية والقلة بوجوه قدّمناها كما قدمنا ما هو الصحيح منها (١).

منها : التمسك بعموم ما دلّ على انفعال الماء بالملاقاة ، وقد خرج عنه الكر ، وكرية الماء في المقام مشكوكة.

وفيه : أن العام وإن دلّ على انفعال الماء بالملاقاة إلاّ أن التمسك بالعموم في المقام غير صحيح ، لأنه تمسك بالعموم في الشبهات المصداقية وهو غير سائغ ، إذ قد خرج عنه عنوان الكر وكرية الماء مشكوكة في مفروض الكلام فهو شبهة مصداقية للعام لا محالة.

ومنها : التمسك بقاعدة المقتضي والمانع. وقد أسلفنا أن تلك القاعدة لا ترجع إلى أساس صحيح إلاّ أن يراد منها استصحاب عدم المانع.

ومنها : ما أفاده شيخنا الأُستاذ قدس‌سره من أن الاستثناء في المقام قد تعلق على عنوان الكر وهو عنوان وجودي ، وكلما تعلق الاستثناء على عنوان وجودي وكان المستثنى منه حكماً إلزامياً أو ملزوماً له ، فهو بمثابة اشتراط إحراز ذلك العنوان الوجودي في الخارج عن الإلزام أو ملزومه لدى العرف هذا ، ولكنّا أشرنا إلى أن العرف لا يستفيد من أمثاله دخالة إحراز العنوان الوجودي في الخروج عن المستثنى منه بوجه.

ومنها : الاستصحاب وهو يجري في الموضوع تارة وفي وصفه اخرى.

أمّا الأول : فهو بأن يقال إن هذا المكان لم يكن فيه كر في زمان باليقين والآن كما كان ، لكن هذا الاستصحاب إنما يترتب عليه آثار عدم وجود الكر في ذلك المكان ولا يثبت به عدم كرية الماء الموجود فيه بالفعل إلاّ على القول بالأُصول المثبتة.

ونظير ذلك ما ذكره شيخنا الأنصاري قدس‌سره من أن استصحاب وجود الكر في مكان لا يثبت به أن الماء الموجود فيه بالفعل كر لأنه مثبت بالإضافة إليه ، فإن‌

__________________

(١) راجع ص ١٠١.

١٧٦

كرية الماء الموجود فيه من الآثار المترتبة على بقاء الكر في المكان المذكور عقلاً (١).

وأمّا الثاني : فتقريبه أن يقال : إن هذا الماء الذي نراه بالفعل لم يكن متصفاً بالكرية قبل خلقته ووجوده ، لضرورة أن الكرية من الأوصاف الحادثة المسبوقة بالعدم ، فإذا وجدت ذات الماء وشككنا في أن الاتصاف بالكرية أيضاً وجد معها أم لم يوجد فالأصل عدم حدوث الاتصاف بالكرية مع الذات.

وهذا الاستصحاب خال عن المناقشة والإيراد غير أنه مبني على جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية ، وحيث إنّا أثبتنا جريان الاستصحاب فيها في محلّه فنلتزم في المقام بالاستصحاب المزبور وبه نحكم على عدم كرية الماء الذي نشك في كريته وعدمها.

وأمّا ما ذكره شيخنا الأُستاذ قدس‌سره من أن العدم قبل وجود الموضوع والذات محمولي وهو بعد تحقق الذات والموضوع نعتي ، فقد عرفت عدم تماميته لأن المأخوذ في موضوع الأثر هو عدم الاتصاف لا الاتصاف بالعدم ، فراجع (٢).

ثم إن في المقام كلاماً وهو التفصيل في جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية بين عوارض الماهية وعوارض الوجود بالالتزام بجريان الاستصحاب في الثاني دون الأول ، وحاصل هذا التفصيل : أن المستصحب إذا كان من عوارض الوجود كالبياض والسواد ونحوهما ، فلا ينبغي الإشكال في جريان الاستصحاب في عدمه الأزلي لوضوح أن عدم مثل ذلك العارض قبل وجود موضوعه ومعروضه يقيني لا محالة فلا مانع من استصحاب عدمه المتيقن والبناء على أنه لم ينقلب إلى الوجود بوجود موضوعه.

وأمّا إذا كان من عوارض الماهية فلا مجال فيه لاستصحاب عدمه الأزلي بوجه فإنّه لا يقين سابق بعدم العارض المذكور حتى قبل وجود موضوعه ومعروضه إذ المفروض أنه من عوارض الماهية وطوارئها ، فهو على تقدير ثبوته عارض ولازم له‌

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٦٦٠.

(٢) ص ١٠٢.

١٧٧

ولو قبل وجوده في الخارج (١).

وهذه الكبرى المدعاة قد طبقت على مثل العشرة كالعشرة من الرجال لأنها من عوارض الماهية دون الوجود ، وعلى الكرية المبحوث عنها في المقام ، لأنها أيضاً من عوارض ماهية الماء لا من عوارض وجوده ، حيث إن الكرية مرتبة وسيعة من مراتب طبيعة الماء فلا يصدق أن يقال إن كرية هذا الماء لم تكن قبل وجوده لأنه كر قبل وجوده وبعده ، لا أنه يتصف بالكرية بعد وجوده فلا مجال لاستصحاب العدم الأزلي في مثله ، فهنا مقامان للكلام :

أحدهما : في أصل الكبرى المدعاة.

وثانيهما : في تطبيقها على محل الكلام.

أمّا المقام الأوّل : فحاصل الكلام فيه أنه لا معنى لعروض شي‌ء على الماهية لنعبّر عنه وعن أمثاله بعوارض الماهية ، لأنها في نفسها ليست إلاّ هي فهي في نفسها معدومة وثبوت شي‌ء لشي‌ء فرع ثبوت المثبت له ، ومع معدومية المعروض كيف يصح أن يقال إن له عرضاً موجوداً في الخارج. اللهم إلاّ أن يراد من عوارضها ما ينتزعه العقل عنها في نفسها لو خليت وطبعها كالامكان في الإنسان ، لأن العقل إذا لاحظه في نفسه يرى أنه عادم بكلتا جهتي الوجوب والامتناع ، فيدرك إمكانه لا محالة ويعبّر عنه بعارض الماهية نظراً إلى أن الإمكان لا يعرض على الإنسان بعد وجوده ، لأنه محكوم بالإمكان مطلقاً وجد في الخارج أم لم يوجد ويعبّر عنه أيضاً بالخارج المحمول بمعنى أنه خارج عن ذاتيات الماهية وليس من مقوماتها إلاّ أنه محمول عليها ، من غير حاجة في حمله إلى ضم ضميمة خارجية كما يحتاج إلى ضمها في حمل مثل العالم على الذات ، إذ لا يصح ذلك إلاّ بعد ضم العلم إليها ويعبّر عنه بالمحمول بالضميمة.

وكيف كان فإن أُريد من عوارض الماهية ما ينتزعه العقل منها في نفسها ، فلا ينبغي التأمل في عدم جريان الاستصحاب في أمثال ذلك إلاّ أنه غير مستند إلى مغايرة الموجود للمعدوم والفرق بين عوارض الوجود وعوارض الماهية.

__________________

(١) نهاية الأفكار ٤ : ٢٠٠.

١٧٨

بل الوجه فيه عدم العلم بالحالة السابقة في مثله ، فان عوارض الماهية بهذا المعنى أزلية غير مسبوقة بالعدم ، فإذا شككنا في ثبوت الإمكان للعنقاء مثلاً فلا نتمكن من استصحاب عدمه أزلاً ، إذ لا يقين لنا بعدم ثبوته له في زمان حتى نستصحبه ، لأنه لو كان ممكناً فهو كذلك من الأزل وإن لم يكن ممكناً فهو غير ممكن من الأزل ، وهي كالملازمات العقلية نظير ملازمة وجوب المقدمة لوجوب ذيها حيث إنها على تقدير ثبوتها أزلية غير مسبوقة بالعدم ، كما أشرنا إليه في أواخر بحث مقدمة الواجب.

وعلى الجملة : عدم جريان استصحاب العدم الأزلي في هذه الصورة من أجل عدم العلم بالحالة السابقة ، ومن الظاهر أن جريانه في الأعدام الأزلية لا يزيد بشي‌ء على جريانه في العدم أو الوجود النعتيين وجريانه فيهما مشروط بالعلم بالحالة السابقة فهذا ليس تفصيلاً في جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية بوجه.

وإن أُريد من عوارض الماهية ما يعرض الشي‌ء في مطلق وجوده ذهناً كان أم خارجاً ، كما هو أحد الاصطلاحين في عوارض الماهية كالزوجية العارضة للأربعة أينما وجدت ، فإنّها إن وجدت في الذهن فهي زوج ذهناً وإن وجدت في الخارج فهي زوج خارجاً فهي لا تنفك عن الأربعة في الوجود ، في مقابل ما يعرض الشي‌ء في وجوده الخارجي خاصة كالحرارة العارضة للماء في الخارج ، لبداهة عدم عروضها عليه في الذهن فهو اصطلاح محض ، وإلاّ فهو من عوارض الوجود الأعم من الذهني والخارجي لا من عوارض الماهية ، لأن عارض الوجود على أقسام منها ما يعرض وجود الشي‌ء ذهناً فقط كما في قولنا الإنسان نوع ، لأنه نوع في وجوده الذهني دون الخارجي ، ومن هنا يعبّر عنه بالمحمولات الثانوية ، بمعنى أن النوع إنما يحمل على الإنسان بعد تصوره وتلبسه بالوجود ذهناً ، فأوّلاً يتصور الإنسان وثانياً يحمل عليه النوع ، ومنها ما يعرض الشي‌ء في وجوده الخارجي خاصة كما في عروض الحرارة على النار ، ومنها ما يعرض الشي‌ء في مطلق وجوده إن ذهناً فذهناً وإن كان خارجاً فخارجا.

وكيف كان فعدّ مثل ذلك من عوارض الماهية مع أنه من عوارض الوجود اصطلاح محض لا واقعية له. وعليه فان صحّ جريان استصحاب العدم الأزلي في‌

١٧٩

عوارض الوجود صح جريانه فيما يعرض الأعم من الوجود الخارجي والذهني أيضاً هذا كلّه في الكلام على أصل الكبرى.

وأمّا الكلام في تطبيقها على الكرية فبيانه : أن الكرية من مقولة الكم المتصل ، فإنّها عبارة عن كثرة الماء الواحد بحد تبلغ مساحته سبعة وعشرين شبراً ، أو يبلغ وزنه ألفاً ومائتي رطل عراقي ، والكم من إحدى المقولات العرضية التسعة التي هي من عوارض الوجود ، وبهذا يتضح أن الكرية من عوارض وجود الماء خارجاً وليست من عوارض الماهية ولا من عوارض الأعم من الوجود الخارجي والذهني ، وذلك لأن الماء في نفسه وماهيته لم يؤخذ فيه كم خاص ، إذ كما أن القليل تصدق عليه ماهية الماء كذلك الكر وأضعافه كالبحار ، كما أن تصور الماء لا يلازم وجود الكرية في الذهن.

نعم ، القلة والكرية من عوارض وجوده الخارجي فصح أن يقال : إن هذا الماء لم يكن كرّاً قبل وجوده ، كما أنه لم يكن متصفاً بغير الكرية من الأوصاف الخارجية ، فإن الأوصاف إذا لم تكن من عوارض ماهية الشي‌ء فهي حادثة مسبوقة بالعدم لا محالة وقد عرفت أن الكرية ليست من عوارض ماهية الماء. فإذا علمنا بوجود الماء وتحققه وشككنا في تحقق الكرية معه فنستصحب عدمها الأزلي ، فالإنصاف أنه لا مانع من جريان الاستصحاب في العدم الأزلي فيما نحن فيه ، بل إن جريان الاستصحاب في عدم الكرية أولى من جريانه في عدم القرشية فليلاحظ.

هذا كلّه على أنّا نقول : إن الحكم بقلة الماء المشكوك كريته وعدم اعتصامه لا يتوقف على جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية ، فإن الأصل يجري في عدم كرية المشكوك حتى على القول بعدم جريانه فيها أي في الأعدام الأزلية ، والسر في ذلك أن الأصل في عدم كرية المشكوك يجري في العدم النعتي دون المحمولي ، وتوضيح ذلك :

أن جملة من الآيات المباركة كما عرفت قد نطقت بأن المياه كلّها نازلة من السماء وذكر المستكشفون العصريون أن أصل مياه الأرض هو المطر ، وبعد ما نزلت المياه من السماء وهي قطرات تشكلت منها البحار والأنهار والكر وغيرها بضم بعضها إلى‌

١٨٠