موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

إحداهما : صحيحة البقباق قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباغ فلم أترك شيئاً إلاّ سألت عنه؟ فقال : لا بأس به حتى انتهيت إلى الكلب؟ فقال : رجس نجس لا تتوضّأ بفضله وأصيب ذلك الماء ، واغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء » (١).

وثانيتهما : ما عن معاوية بن شريح قال : « سأل عذافر أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده عن سؤر السنور والشاة والبقرة والبعير والحمار والفرس والبغل والسباع يشرب منه أو يتوضأ منه؟ فقال : نعم ، اشرب منه وتوضأ منه قال : قلت له الكلب؟ قال : لا. قلت أليس هو سبع؟ قال : لا والله إنه نجس ، لا والله إنه نجس » (٢) وتقريب الاستدلال بهاتين الروايتين انّه عليه‌السلام علل الحكم بعدم جواز التوضؤ والشرب من سؤر الكلب بأنه رجس نجس.

فيعلم من ذلك أن المناط في التنجس وعدم جواز الشرب والوضوء هو ملاقاة الماء للنجس فنتعدّى من الكلب الذي هو مورد الرواية إلى غيره من أفراد النجاسات ومن الظاهر أن النجس كما يصح إطلاقه على الأعيان النجسة كذلك يصح إطلاقه على المتنجسات حيث لم يؤخذ في مادّة النجس ولا في هيئته ما يخصّه بالنجاسة الذاتية بل يعمها والنجاسة العرضية فالمتنجس نجس حقيقة ، فإذا لاقاه شي‌ء من القليل فقد لاقى نجساً ويحكم عليه بالنجاسة وعدم جواز الشرب والوضوء منه ، فالروايتان تدلاّن على منجسية المتنجسات للقليل سواء أكانت مع الواسطة أم بلا واسطة.

ولكن للمناقشة في الاستدلال بهما مجال واسع أمّا في الرواية الأُولى فلأنها وإن كانت صحيحة سنداً إلاّ أن دلالتها ضعيفة ، والوجه فيه : أن الرجس إنما يطلق على الأشياء خبيثة الذوات ، وهي التي يعبّر عنها في الفارسية بـ « پليد » كما في قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (٣) ولا يصح إطلاقه على المتنجِّسات فهل ترى‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢٦ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٤ ، ٦.

(٢) الوسائل ١ : ٢٢٦ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٤ ، ٦.

(٣) المائدة ٥ : ٩٠.

١٤١

صحّة إطلاقه على عالم هاشمي ورع لتنجس بدنه. وكيف كان فإن إطلاق الرجس على المتنجس من الأغلاط ، وعليه فالرواية مختصة بالأعيان النجسة ولا تعم المتنجسات.

على أن الرواية غير مشتملة على التعليل حتى يتعدى منها إلى غيرها بل هي مختصة بالكلب ولا تعم سائر الأعيان النجسة فما ظنك بالمتنجسات ومن هنا عقّبه عليه‌السلام بقوله « اغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء » فإنّه يختص بالكلب وهو ظاهر. ولازم التعدي عن مورد الصحيحة إلى غيره هو الحكم بوجوب التعفير في ملاقي سائر الأعيان النجسة أيضاً وهو ضروري الفساد ، ومع عدم إمكان التعدي عن موردها إلى سائر الأعيان النجسة كيف يتعدى إلى المتنجسات. وعلى الجملة لو كنّا نحن وهذه الصحيحة لما قلنا بانفعال القليل بملاقاة غير الكلب من أعيان النجاسات فضلاً عن انفعاله بملاقاة المتنجسات.

وأمّا في الرواية الثانية : فلأنها ضعيفة سنداً بمعاوية بن شريح بل يمكن المناقشة في دلالتها أيضاً ، وذلك لأن النجس وإن صحّ إطلاقه على المتنجس على ما أسلفناه آنفاً إلاّ أنّه عليه‌السلام ليس في الرواية بصدد بيان أن النجس منجّس وإنما كان بصدد دفع ما توهّمه السائل حيث توهّم أن الكلب من السباع ، وقد دفعه عليه‌السلام بأن الكلب ليس من تلك السباع التي حكم بطهارة سؤرها.

الأمر الثاني : صحيحة زرارة التي رواها علي بن إبراهيم بطريقه الصحيح وقد حكى فيها الإمام عليه‌السلام عن وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعا بوعاء فيه ماء فأدخل يده فيه بعد أن شمّر ساعده ، وقال : هكذا إذا كانت الكف طاهرة ... (١) فإنّها دلت بمفهومها على أن الكف إذا لم تكن طاهرة فلا يسوغ إدخالها الماء ولا يصح منه الوضوء ، ولا وجه له إلاّ انفعال القليل بالكف المتنجسة ، وبإطلاقها تعم ما إذا كانت نجسة بعين النجاسة وما إذا كانت نجسة بالمتنجس الذي نعبّر عنه بالمتنجس مع الواسطة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٨٧ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٢.

١٤٢

وهذه الرواية أحسن ما يستدل به في المقام لصحّة سندها وتمامية دلالتها على عدم الفرق بين المتنجس بلا واسطة والمتنجس مع الواسطة. ولكن الصحيح أن الرواية مجملة لا يعتمد عليها في إثبات المدعى وذلك لاحتمال أن يكون الوجه في اشتراطه عليه‌السلام طهارة الكف في إدخالها الإناء عدم صحّة الوضوء بالماء المستعمل في رفع الخبث حتى على القول بطهارته ذلك لأنّ العامّة ذهبوا إلى نجاسة الماء المستعمل في رفع الخبث حتى على القول بطهارته ذلك لأنّ العامّة ذهبوا إلى نجاسة الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر ، بل والمستعمل في رفع الحدث الأصغر أيضاً عند أبي حنيفة ، وقد ذهب إلى أن نجاسته مغلّظة (١) وأمّا عند الإمامية فالماء القليل المستعمل في رفع الحديث مطلقاً محكوم بالطهارة سواء استعمل في الأكبر منه أم في الأصغر. نعم ، في جواز رفع الحدث الأكبر ثانياً بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر خلاف عندهم فذهب بعضهم إلى جوازه ، ومنعه آخرون ، ويأتي ما هو الصحيح في محلّه إن شاء الله تعالى. وأمّا الماء المستعمل في رفع الحدث الأصغر وهو الماء المستعمل في الوضوء فلم يقع خلاف بين الأصحاب في طهارته ، وفي جواز استعماله في الوضوء ثانياً وثالثاً وهكذا ، هذا كلّه في المستعمل في رفع الحدث.

وأمّا الماء القليل المستعمل في رفع الأخباث أعني به الغسالة فقد وقع الخلاف في طهارته ونجاسته بين الأعلام ، إلاّ أنه لا يجوز استعماله في رفع شي‌ء من حدثي الأكبر والأصغر حتى على القول بطهارته ، وقد تعرّض له الماتن عند تعرّضه لما يعتبر في الماء المستعمل في الوضوء. والماء الموجود في الإناء في مورد الرواية ماء مستعمل في رفع الخبث على تقدير نجاسة الكف فإنّه بمجرد إدخالها الإناء يصير الماء مستعملاً في الخبث. فإن صدق هذا العنوان واقعاً غير مشروط بقصد الاستعمال لكفاية مجرد وضع المتنجس في الماء في صدق المستعمل عليه كما هو ظاهر ، وبهذا تصبح الرواية مجملة لعدم العلم بوجه اشتراطه عليه‌السلام الطهارة في الكف ، وأنه مستند إلى أن المتنجس ولو مع الواسطة ينجّس القليل ، أو أنه مستند إلى عدم كفاية المستعمل في‌

__________________

(١) قد قدّمنا نقل أقوالهم في الماء المستعمل في الغسل والوضوء سابقاً ونقلنا ذهاب أبي حنيفة إلى النجاسة المغلظة عن ابن حزم في المجلد ١ من المحلى وإن لم يتعرض له في الفقه على المذاهب الأربعة فراجع ص ١٢٦.

١٤٣

حتى برأس إبرة من الدم الذي لا يدركه الطرف (١).

______________________________________________________

رفع الخبث في الوضوء وإن كان طاهراً في نفسه.

فالرواية مجملة لا يمكن الاستدلال بها على منجّسية المتنجس للقليل مطلقاً ، فاذن لا دليل على انفعال القليل بالمتنجس مع الواسطة ، فيختص الانفعال بما إذا لاقى القليل عين النجس ، أو المتنجس بعين النجس والتفصيل بين المتنجس بلا واسطة والمتنجس مع الواسطة متعيّن ، إذا لم يقم إجماع على خلافه كما ادعاه السيد بحر العلوم قدس‌سره فإن تمّ هذا الإجماع فهو ، وإلاّ فالتفصيل هو المتعيّن وعلى الأقل لا يسعنا الإفتاء بانفعال القليل بملاقاة المتنجس مع الواسطة ، والاحتياط مما لا ينبغي تركه.

انفعال القليل بالدم الذي لا يدركه الطرف‌

(١) هذه هي الجهة الخامسة من الكلام في هذه المسألة ، والكلام فيها في انفعال القليل بمقدار من الدم الذي لا يدركه الطرف كانفعاله بالدم الزائد على هذا المقدار وعدم انفعاله به.

وقد ذهب الشيخ الطوسي قدس‌سره إلى عدم انفعاله بالمقدار المذكور من الدم ومستنده في ذلك ما رواه هو قدس‌سره في مبسوطه (١) واستبصاره (٢) والكليني في الكافي في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلك الدم قطعاً صغاراً فأصاب إناءه هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال : إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس ، وإن كان شيئاً بيّناً فلا تتوضأ منه ... » (٣) والرواية صحيحة لا إشكال في سندها وإنما الكلام في دلالتها ومفادها وقد احتمل فيها وجوه :

الأوّل : ما عن شيخنا الأنصاري قدس‌سره من حمله الرواية على الشبهة‌

__________________

(١) المبسوط ١ : ٧.

(٢) الاستبصار ١ : ٢٣ / ٥٧.

(٣) الكافي ٣ : ٧٤ / ١٦ وفي الوسائل ١ : ١٥٠ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ١.

١٤٤

المحصورة وموارد العلم الإجمالي بوقوع قطرة من الدم في شي‌ء ، ولا يدري أنه داخل الإناء أعني الماء أو أنه خارجه ، وبما أن أحد طرفي العلم وهو خارج الإناء خارج عن محل الابتلاء ، فالعلم المذكور كلا علم ، ومن هنا حكم عليه‌السلام بعدم نجاسة ماء الإناء (١).

الثاني : ما ذكره الشيخ الطوسي قدس‌سره من حمله الرواية على الماء الموجود في الإناء والتفصيل في نجاسته بين ما إذا كان ما وقع فيه من الدم بمقدار يستبين في الماء فينفعل وما إذا لم يكن بمقدار يستبين فلا ينفعل.

الثالث : ما احتمله صاحب الوسائل وقوّاه شيخنا شيخ الشريعة الأصفهاني قدس‌سرهما في بحثه الشريف من حمل الرواية على الشبهات البدوية وأن المراد بالإناء هو نفسه دون مائه ولا الأعم من نفسه ومائه وقد فرض الراوي العلم بإصابة قطرة من الدم لنفس الإناء وتنجسه بذلك قطعاً ، إلاّ أنه شكّ في أنها هل أصابت الماء أيضا أو أصابت الإناء فحسب ، ففصّل الإمام عليه‌السلام بين صورتي العلم بإصابة القطرة لماء الإناء فحكم فيها بالانفعال وجهله باصابتها فحكم بطهارته ، فالمراد بالاستبانة هو العلم بوقوع القطرة في الماء ، فإذا لم يكن معلوما فهو مشكوك فيه فليحكم عليه بالطهارة.

وهذا الاحتمال الذي قوّاه شيخنا شيخ الشريعة قدس‌سره هو المتعين بناء على النسخة المطبوعة سابقاً المعروفة بالطبع البهادري المشتملة على زيادة قوله عليه‌السلام ولم يستبن في الماء بعد قوله فأصاب إناءه. فإن تقابل قوله عليه‌السلام ولم يستبن في الماء بقوله « أصاب إناءه » يوجب ظهور الإناء في نفس الظرف دون المظروف والماء ، ومعناها حينئذ أن القطرة أصابت الإناء قطعاً ولكنه يشك في أنها أصابت الماء أيضاً أم لم تصبه ، فيرجع في الماء إلى قاعدة الطهارة.

ولكن النسخة مغلوطة قطعاً ، والزيادة ليست من الرواية كما في الطبعة الأخيرة من الوسائل ، وعليه ففي الرواية احتمالات ثلاثة أبعدها ما ذكره شيخنا الأنصاري‌

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٤٢١.

١٤٥

( قدس‌سره ) فيدور الأمر بين الاحتمالين الباقيين أعني ما احتمله الشيخ الطوسي قدس‌سره وما قوّاه شيخنا شيخ الشريعة ( طاب ثراه ) وحيث لا معيّن لأحدهما في البين فتصبح الرواية مجملة لا يمكن الاعتماد عليها.

بل يمكن أن يقال : إن ما احتمله شيخنا شيخ الشريعة قدس‌سره هو الأظهر من سابقه ، فإن إطلاق الإناء على الماء وإن كان صحيحاً بإحدى العلاقات المسوّغة للتجوّز كالحالية والمحلية ، إلاّ أنه بالنتيجة معنى مجازي للإناء لا مقتضي للمصير إليه بعد إمكان حمله على معناه الحقيقي ، فنحمله على ذلك المعنى وهو الظرف كما حمله عليه شيخنا المتقدم ، ويلزمه التفصيل بين صورتي العلم بالنجاسة كما في الإناء والجهل بها كما في الماء ، فهو شبهة موضوعية بدوية يحكم فيها بالطهارة كما هو واضح ، وهذا الاحتمال هو المتعيّن.

وأمّا ربما يقال من أن قاعدة الطهارة أو استصحابها كادت أن تكون من الأُمور البديهية ، ومثلها لا يخفى على مثل علي بن جعفر عليه‌السلام فحمل الرواية على الشبهات الموضوعية بعيد ، ولا محيص من حملها على إرادة معنى آخر.

فهو مما لا يصغي إليه فإن قاعدة الطهارة أو استصحابها إنما صارت من الواضحات في زماننا لا في زمانهم ، حيث إنها مما ثبت بتلك الروايات لا بشي‌ء آخر قبلها ، هذا.

على أن المورد قد احتف بما يوجب الظن بالإصابة ، ولعلّه الذي دعا علي بن جعفر إلى السؤال فإنّه إذا رعف وامتخط وأصاب الدم الإناء ، فهو يورث الظن باصابته للماء أيضاً ولمكان هذا الظن سأله عليه‌السلام عن حكمه. وقد وقع نظير ذلك في بعض روايات الاستصحاب أيضاً حيث سأله زرارة عن أن الخفقة والخفقتين توجب الوضوء أو لا؟ وأنه إذا حرّك في جنبه شي‌ء وهو لا يعلم ... فإن استصحاب الطهارة في الشبهات الموضوعية والحكمية مما لا يكاد يخفى على زرارة وأضرابه ولكنه إنما صار واضحاً بتلك الأخبار ، ولعلّ الذي دعاه للسؤال عن الشبهتين ملاحظة ما يثير الظن بالمنام في مورد السؤال أعني تحريك شي‌ء في جنبه وهو لا يعلم ، فالإشكال مندفع بحذافيره والرواية إما مجملة وإما ظاهرة فيما قدّمناه ، فلا دلالة فيها على التفصيل المذكور بوجه ، ومقتضى الإطلاقات والعمومات الدالّة على انفعال القليل‌

١٤٦

سواء كان مجتمعاً أم متفرقاً مع اتصالها بالسواقي (١) فلو كان هناك حفر متعددة فيها الماء واتصلت بالسواقي ، ولم يكن المجموع كراً إذا لاقى النجس واحدة منها تنجس الجميع ، وان كان بقدر الكر لا ينجس ، وإن كان متفرقاً على الوجه المذكور ، فلو كان ما في كل حفرة دون الكر وكان المجموع كراً ولاقى واحدة منها النجس لم تنجس ، لاتصالها بالبقية.

______________________________________________________

بالملاقاة انفعاله بملاقاة الدم الذي لا يدركه الطرف أيضا.

نعم ، ان في المقام شيئاً ولعلّه مراد الشيخ الطوسي قدس‌سره وإن كان بعيداً ، وهو أن النجس دماً كان أو غيره كالعذرة إذا لم يطلق عليه عنوانه عند العرف لدقته وصغره ، فلا نلتزم في مثله بانفعال القليل إذا لاقى مثله ، وهذا كما في الكنيف والأمكنة التي فيها عذرة فإن كنسها أو هبوب الرياح إذا أثار منها الغبار ، ووقع ذلك الغبار على موضع رطب من البدن كالجبين المتعرق أو من غيره ، فلا يوجب تنجس الموضع المذكور مع أن فيه أجزاء دقيقة من العذرة أو من غيرها من النجاسات.

ولكن هذا لا يحتاج فيه إلى الاستدلال بالرواية فإن المدرك فيه انصراف إطلاقات ما دلّ على نجاسة العذرة ونحوها عن مثله وعدم دخوله تحتها ، لأن المفروض عدم كونه عذرة لدى العرف لدقته وصغره.

(١) وذلك لأن الاتصال مساوق للوحدة ، وهي المعيار في عدم انفعال الماء إذا بلغ قدر كر وانفعاله فيما إذا لم يبلغه ، فما عن صاحب المعالم قدس‌سره من عدم اعتصام الكر فيما إذا كان متفرقاً ، ولو مع اتصالها بالسواقي والأنابيب (١) فمما لم نقف له على وجه محصل ، إذ لا مجال لدعوى انصراف الإطلاقات عن مثله ، وهذا من الوضوح بمكان إلاّ فيما إذا اختلف سطح الماءين لما أسلفناه من أن العالي منهما إذا اندفع بقوة ودفع وتنجس بشي‌ء لا ينجس سافلهما كما عرفت تفصيله.

__________________

(١) المعالم ( فقه ) : ١٢.

١٤٧

[٩٩] مسألة ١ : لا فرق في تنجس القليل بين أن يكون وارداً على النجاسة أو موروداً (١).

______________________________________________________

التفصيل بين الوارد والمورود

(١) هذه هي الجهة السادسة من الكلام في المقام وتفصيل ذلك أن السيد المرتضى قدس‌سره فصّل في انفعال القليل بملاقاة النجس ، بين ورود الماء على النجس أو المتنجس فلا ينفعل وبين ورودهما عليه فينفعل (١).

وهذا التفصيل مبني على أن أدلّة انفعال القليل بالملاقاة لا يفهم منها عرفاً إلاّ سراية النجاسة من الملاقي إلى الماء القليل في خصوص ما إذا وردت النجاسة عليه دون ما إذا ورد الماء على النجس ، وذلك لأن روايات اشتراط اعتصام الماء ببلوغه كراً لا تدل على انفعال القليل بكل فرد من أفراد النجاسات والمتنجسات كما مرّ ، فضلاً عن أن يكون لها إطلاق أحوالي يقتضي انفعال القليل بالملاقاة بأي كيفية كانت. بل لو سلمنا دلالتها على الانفعال بكل فرد فرد من النجاسات والمتنجسات لم يكن لها إطلاق أحوالي كي تدل على نجاسة القليل حالة وروده على النجس.

وأمّا الأخبار الخاصة الدالّة على انفعال القليل بمجرد الملاقاة فهي كلّها واردة في موارد ورود النجاسة على الماء ، فلا دلالة لها على انفعال القليل فيما إذا ورد الماء على النجس هذا.

ولكن الإنصاف أن العرف يستفيد من أدلّة انفعال القليل بملاقاة مثل الكلب والعذرة وغيرهما من المنجسات ، أن الحكم بالنجاسة والانفعال مستند إلى ملاقاة النجس للماء ، بلا خصوصية في ذلك لوروده على النجس أو لورود النجس عليه ، فلا خصوصية للورود بحسب المتفاهم العرفي في التنجيس ، لأنه يرى الانفعال معلولاً للملاقاة خاصة ، كما هو الحال فيما إذا كان ملاقي النجس غير الماء كالثوب واليد ونحوهما ، فإنّه إذا دلّ دليل على أن الدم إذا لاقى ثوباً ينجس الثوب مثلاً فالعرف لا يفهم منه إلاّ أن ملاقاة الدم للثوب هي العلّة في تنجسه ، فهل ترى من نفسك أن‌

__________________

(١) الناصريات : ١٧٩ السطر ١١.

١٤٨

العرف يستفيد من مثله خصوصية لورود الدم على الثوب.

ويؤيد ما ذكرناه اعتراف السيد المرتضى قدس‌سره بوجود المقتضي لتنجس الماء في كلتا الصورتين ، إلاّ أنه تشبث بإبداء المانع من تنجسه فيما إذا كان الماء وارداً على النجس ، بتقريب أن الماء القليل لو كان منفعلاً بملاقاة النجس مطلقاً لما أمكننا تطهير شي‌ء من المتنجسات به ، وهذا باطل بالضرورة.

والجواب عنه ما أشرنا إليه سابقاً من أن الالتزام بالتخصيص ، أو دعوى حصول الطهارة به حينئذٍ وإن اتصف الماء بالنجاسة في نفسه ، يدفع المحذور برمته.

ويؤيد ما ذكرناه أيضاً ويستأنس له بجملة من الروايات :

منها : ما قدمناه من صحيحة البقباق (١) حيث علل فيها الإمام عليه‌السلام نجاسة سؤر الكلب بأنه رجس نجس ، دفعاً لما تخيله السائل من أنه من السباع ، فلو كان لورود النجاسة خصوصية في الانفعال لذكره الإمام عليه‌السلام لأنه في مقام البيان.

ومنها : تعليله عليه‌السلام في رواية الأحول (٢) طهارة ماء الاستنجاء بأن الماء أكثر بعد قوله عليه‌السلام : « أو تدري لم صار لا بأس به » ولم يعللها بورود الماء على النجس ، فلو كان بين الوارد والمورود فرق لكان التعليل بما هو العلّة منهما أولى.

هذا كلّه مع وجود الإطلاق في بعض الروايات ، وفي ذلك كفاية فقد دلت رواية أبي بصير (٣) على نجاسة الماء الملاقي لما يبلّ ميلاً من الخمر من غير تفصيل بين ورود الخمر على الماء وعكسه.

التفصيل بين استقرار النجس وعدمه‌

الجهة السابعة : فيما ذهب إليه بعض المحققين من المتأخرين من التفصيل في انفعال القليل بين صورتي ملاقاة الماء لشي‌ء من النجاسات والمتنجسات واستقراره معه‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢٦ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٤.

(٢) الوسائل ١ : ٢٢٢ / أبواب الماء المضاف ب ١٣ ح ٢.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٧٠ / أبواب النجاسات ب ٣٨ ح ٦.

١٤٩

وملاقاته لأحدهما وعدم استقراره معها ، كما إذا وقعت قطرة ماء على أرض نجسة فطفرت عنها إلى مكان آخر بلا فصل فالتزم بعدم انفعال القليل في صورة عدم استقراره مع النجس.

واستدلّ عليه برواية عمر بن يزيد قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أغتسل في مغتسل يبال فيه ويغتسل من الجنابة ، فيقع في الإناء ما ينزو من الأرض؟ فقال : لا بأس به » (١). فإنّها دلت على أن الماء الذي لاقى أرضاً متنجسة أو النجس الموجود فيها ولم يستقر معه بل انفصل عنه بمجرد الاتصال ، لا ينفعل بملاقاتهما حيث إن ظاهرها أن ما ينزو إنما ينزو من الأرض النجسة التي يغتسل فيها وهو المكان الذي يبال فيه ويغتسل فيه من الجنابة ، ودلالتها على هذا ظاهرة.

وقد تحمل الرواية على أن السؤال فيها عن حكم الملاقي لأطراف العلم الإجمالي فإن البول والغسالة إنما وقعا على قطعة من الأرض لا على جميعها ولا يدري أن ما نزى على إنائه هل نزى من القطعة النجسة أو من القطعة الطاهرة من الأرض ، وعليه فمدلول الرواية أجنبي عن محل الكلام بل إنها تدل على أن الماء الملاقي لأحد طرفي العلم الإجمالي غير محكوم بالنجاسة.

ولكن هذا الحمل بعيد غايته ، فإن ظاهر الرواية أن النزو إنما هو من المكان النجس ، لا أنه يشك في أنه نزى من النجس أو الطاهر فإن أرادته تتوقف على مئونة زائدة وإضافة أنه نزى من مكان لا يعلم أنه نجس أو طاهر ، وإطلاق السؤال والجواب وعدم اشتمالها على الزيادة المذكورة يدفع هذا الاحتمال. وكيف كان فالمناقشة في دلالة الرواية مما لا وجه له. وإنما الاشكال كلّه في سندها لأنها ضعيفة بمعلى بن محمد (٢) لعدم ثبوت وثاقته ، فالاستدلال بها على التفصيل المذكور غير تام. وربّما‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١٣ / أبواب الماء المضاف ب ٩ ح ٧.

(٢) هكذا أفاده مدّ ظلّه ولكنه عدل عن ذلك أخيراً وبنى على أن الرجل موثق لوقوعه في أسانيد كامل الزيارات ، ولا يقدح في ذلك ما ذكره النجاشي [ ٤١٨ / ١١١٧ ] في ترجمته من انّه مضطرب الحديث والمذهب لأن معنى الاضطراب في الحديث أن رواياته مختلفة فمنها ما لا يمكن الأخذ بمدلوله ومنها ما لا مانع من الاعتماد عليه ، لا أن اضطرابه في نقله وحكايته. إذن لا ينافي الاضطراب في الحديث وثاقته ولا يعارض به توثيق ابن قولويه.

١٥٠

[١٠٠] مسألة ٢ : الكر بحسب الوزن ألف ومائتا رطل بالعراقي وبالمساحة ثلاثة وأربعون شبراً (*) إلاّ ثمن شبر ، فبالمن الشاهي وهو ألف ومائتان وثمانون مثقالاً يصير أربعة وستين مناً إلاّ عشرين مثقالاً (١).

[١٠١] مسألة ٣ : الكر بحقّة الاسلامبول وهي مائتان وثمانون مثقالاً مائتا حقّة واثنتان وتسعون حقّة ونصف حقّة (**)

[١٠٢] مسألة ٤ : إذا كان الماء أقل من الكر ولو بنصف مثقال ، يجري عليه حكم القليل.

______________________________________________________

يستدل بها على عدم منجسية المتنجس مطلقاً ، ولعلّنا نتعرض لها عند التكلّم على منجسية المتنجس إن شاء الله تعالى.

تحديد الكر بالوزن‌

(١) لا خلاف بين أصحابنا في أن الماء البالغ قدر كر لا يتنجس بملاقاة شي‌ء من النجاسات والمتنجسات ما دام لم يطرأ عليه التغيّر في أحد أوصافه الثلاثة كما عرفت أحكامه مفصلاً ، وإنما الكلام في تحديد الكر وقد حدّد في الروايات بنحوين بالوزن وبالمساحة.

فأمّا بحسب الوزن : فقد حدّدته الرواية (١) الصحيحة إلى ابن أبي عمير والمرسلة بعده بألف ومائتي رطل ، وفي صحيحة (٢) محمد بن مسلم أن الكر ستمائة رطل ، وذهب المشهور إلى تحديده بالوزن بألف ومائتي رطل عراقي ، وعن السيد المرتضى (٣)

__________________

(*) على الأحوط ، والأظهر أنه سبعة وعشرون شبراً.

(**) وبالكيلوات ثلاثمائة وسبعة وسبعون كيلواً تقريباً.

(١) الوسائل ١ : ١٦٧ / أبواب الماء المطلق ب ١١ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ١٦٨ / أبواب الماء المطلق ب ١١ ح ٣.

(٣) رسائل الشريف المرتضى المجموعة الثالثة ٣ : ٢٢.

١٥١

والصّدوق في الفقيه (١) تحديده بألف وثمانمائة رطل بالعراقي بحمل الرطل في رواية ابن أبي عمير على الرطل المدني فإنّه يوازي بالرطل العراقي رطلاً ونصف رطل فيكون الألف ومائتا رطل بالأرطال المدنية ألفاً وثمانمائة رطل بالعراقي.

والكلام في المقام يقع تارة على مسلك المشهور من معاملتهم مع مراسيل ابن أبي عمير معاملة المسانيد لأنّه لا يروي إلاّ عن ثقة ، فاعتماده على رواية أحد ونقلها عنه توثيق لذلك الراوي وهو لا يقصر عن توثيق مثل الكشي والنجاشي من أرباب الرجال ، وأُخرى على مسلك غير المشهور كما هو المنصور من عدم الاعتماد على المراسيل مطلقاً كان مرسلها ابن أبي عمير أو غيره لا لأجل أن توثيقه بنقل الرواية عن أحد يقصر عن توثيق أرباب الرجال ، بل لأجل العلم الخارجي بأنه قد روى عن غير الثقة أيضاً ولو من باب الاشتباه والخطأ في الاعتقاد ، وهذا ممّا نعلم به جزماً. وإذن يحتمل أن يكون البعض في قوله عن بعض أصحابنا ، هو البعض غير الموثق الذي روى عنه ابن أبي عمير في موضع آخر مسنداً ، ومع الشبهة في المصداق لا يبقى مجال للاعتماد على مراسيله.

فأما على مسلك المعروف فالصحيح هو ما ذهب إليه المشهور من حمل الأرطال في الروايات على الأرطال العراقية وتحديد الكر بألف ومائتي رطل بالعراقي ، دون ما ذهب إليه السيد والصدوقان من تحديدهم الكر بألف وثمانمائة رطل بالعراقي بحمل ألف ومائتي رطل في الروايات على الأرطال المدنية ، والوجه في ذلك هو أن ما ذهبوا إليه في المقام هو الذي يقتضيه الجمع بين مرسلة ابن أبي عمير وصحيحة محمد بن مسلم ، وهذا لا لما قالوا من أن الجمع بين الروايات مهما أمكن أولى من طرحها ، أو أن الأخذ بأحد احتمالاتها وتعيّنه أولى من طرحها بأجمعها للإجمال كما عن جملة من الأصحاب ، لما قلنا في محلّه من أن هذه القاعدة لا ترجع إلى أساس صحيح وأن العبرة بظهور الرواية لا بالجمع بين الروايات. بل الوجه فيما ذكرناه أن كل واحدة من المرسلة والصحيحة قرينة لتعيين المراد من الأُخرى.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٦.

١٥٢

بيان ذلك : أن الرِّطل بكسر الراء وفتحه لغة بمعنى : الوزن رطله ، كذا أي وزنه بكذا ، ثم جعل إسماً لمكيال معيّن يكال به طريقاً إلى وزن خاص ، كما هو الحال في زماننا هذا في كيل الجص حيث إنه موزون ولكنهم يكيلونه بمكيال خاص بجعله طريقاً إلى وزن معيّن تسهيلاً لأمرهم وكذا في اللبن على ما نشاهده في النجف فعلاً. وكيف كان فهذا المكيال الخاص كالمن في زماننا هذا له معان ، فكما أن المن يطلق على الشاهي تارة وعلى التبريزي اخرى وعلى الاستامبولي ثالثة وعلى العراقي رابعة ، كذلك الرطل في زمانهم عليهم‌السلام كان يطلق على العراقي مرة وهو ألف وثلاثمائة درهم ، وأُخرى على المدني وهو ألف وتسعمائة وخمسون درهماً ، وثالثة على المكي وهو ضعف العراقي أعني ألفين وستمائة درهم. وقد استعمل في كل من هذه المعاني في الأخبار على ما يستفاد من بعض الروايات. وعليه فهو مجمل مردد في الروايتين بين محتملات ثلاثة ، ولا وجه لحملة على المكي في صحيحة محمد بن مسلم بدعوى أنه من أهل الطائف والإمام عليه‌السلام تكلّم بلغة السامع ، إذ لا عبرة بعرف السامع في المحاورات والمتكلّم إنما يلقي كلامه بلغته وحسب اصطلاحه ، ولا سيما إذا لم يكن مسبوقاً بالسؤال وهم عليهم‌السلام كانوا يتكلّمون بلغة المدينة. هذا على أن محمد بن مسلم على ما ذكره بعض آخر كوفي قد سكن بها ، وكيف كان فالرطل في الروايتين مجمل في نفسه إلاّ أن كل واحدة منهما معينة لما أُريد منه في الأُخرى ، حيث إنّ لكل منهما دلالتين إيجابية وسلبية ، وهي مجملة بالإضافة إلى إحدى الدلالتين وصريحة بالإضافة إلى الأُخرى وصراحة كل منهما ترفع الإجمال عن الأُخرى وتكون مبيّنة لها لا محالة.

فصحيحة محمد بن مسلم لها دلالة على عقد إيجابي ، وهو أن الكر ستمائة رطل وعلى عقد سلبي وهو عدم كون الكر زائداً على ذلك المقدار وهي بالإضافة إلى عقدها السلبي ناصّة لصراحتها في عدم زيادة الكر عن ستمائة رطل ولو بأكثر محتملاته الذي هو الرطل المكي ، فهو لا يزيد على ألف ومائتي رطل بالأرطال العراقية ، إلاّ أنها بالنسبة إلى عقدها الإيجابي مجملة إذ لم يظهر المراد بالرطل بعد ، هذا حال الصحيحة.

وأمّا المرسلة فلها أيضاً عقدان إيجابي وهو أن الكر ألف ومائتا رطل وسلبي وهو‌

١٥٣

عدم كون الكر أقل من ذلك المقدار ، وهي صريحة في عقدها السلبي لدلالتها على أن الكر ليس بأقل من ألف ومائتي رطل قطعاً ولو بأقل محتملاته الذي هو الرطل العراقي ، ومجملة بالإضافة إلى عقدها الإيجابي لإجمال المراد من الرطل ، ولم يظهر أنه بمعنى العراقي أو المدني أو المكي. وحيث إن الصحيحة صريحة في عقدها السلبي لدلالتها على عدم زيادة الكر على ألف ومائتي رطل بالعراقي ، فتكون مبينة لإجمال المرسلة في عقدها الإيجابي ، وتدل على أن الرطل في المرسلة ليس بمعنى المدني أو المكي ، وإلاّ لزاد الكر عن ستمائة رطل حتى بناء على إرادة المكي منه ، لوضوح أن ألفاً ومائتي رطل مدنيّاً كان أم مكيّاً يزيد عن ستمائة رطل ولو كان مكيّاً.

فهذا يدلنا على أن المراد من ألف ومائتي رطل في المرسلة هو الأرطال العراقية لئلاّ يزيد الكر عن ستمائة رطل كما هو صريح الصحيحة ، بل قد استعمل الرطل بهذا المعنى في بعض (١) الأخبار من دون تقييده بشي‌ء ولما سئل عمّا قصده بيّن عليه‌السلام أن مراده منه هو الرطل العراقي. بل ربما يظهر منها أن الشائع في استعمالات العرب هو الرطل العراقي حتى في غير العراق من دون أن يتوقف ذلك على نصب قرينة عليه.

كما أن المرسلة لما كانت صريحة في عدم كون الكر أقل من ألف ومائتي رطل على جميع محتملاته كانت مبيّنة لإجمال الصحيحة في عقدها الإيجابي وبياناً على أن المراد بالرطل فيها خصوص الأرطال المكية ، إذ لو حملناه على المدني أو العراقي لنقص الكر عن ألف ومائتي رطل بالأرطال العراقية وهذا من الوضوح بمكان ، وبالجملة أن النص من كل منهما يفسّر الإجمال من الأُخرى وهذا جمع عرفي مقدم على الطرح بالضرورة. على أن محمد بن مسلم على ما ذكره بعضهم طائفي ، ولعلّه عليه‌السلام تكلّم بعرفه واصطلاحه.

فما ذهب إليه المشهور في تحديد الكر بالوزن هو الحق الصراح بناء على المسلك المعروف من معاملة الصحيحة مع مراسيل مثل ابن أبي عمير دون ما اختاره السيد والصدوقان قدس‌سرهم.

وأمّا بناء على مسلك غير المشهور كما هو الصحيح عندنا من عدم الاعتماد على‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٠٣ / أبواب الماء المضاف ب ٢ ح ٢.

١٥٤

المراسيل مطلقاً ، فالصحيح أيضاً ما ذهب إليه المشهور بيان ذلك : أن المرسلة ساقطة عن الاعتبار على الفرض فلا رواية في البين غير الصحيحة المتقدمة الدالّة على تحديد الكر بستمائة رطل ، وقد مرّ أن للرطل إطلاقات فهو في نفسه من المجملات ، ولكنّا ندّعي أن الصحيحة دالّة على مسلك المشهور والرطل فيها محمول على المكي فيكون الكر ألفاً ومائتي رطل بالعراقي. وإثبات هذا المدعى من وجوه :

الأوّل : أن الرطل فيها لو حمل على غير المكي لكانت الصحيحة على خلاف الإجماع القطعي من الشيعة فلا بدّ من طرحها ، فإنّه لا قائل من الأصحاب بأن الكر ستمائة رطل بالأرطال العراقية أو المدنية. نعم ، نسب إلى الراوندي قدس‌سره تحديد الكر بما بلغ مجموع أبعاده الثلاثة عشرة أشبار ونصف (١) ، ولو صحت النسبة فهو أقل من ستمائة رطل بكثير.

الثاني : أن الأخبار الواردة في تحديد الكر بالمساحة تدل على أن الكر لا يقل عن سبعة وعشرين شبراً لأنه أقل التقديرات الواردة في الأخبار كستة وثلاثين وثلاثة وأربعين إلاّ ثمن شبر ، وهو لا يوافق ستمائة رطل غير مكي حيث إنّا وزنّاه غير مرّة ووجدنا سبعة وعشرين شبراً مطابقاً لألف ومائتي رطل عراقي المعادلة لستمائة رطل مكي.

ويؤيد ما ذكرناه صحيحة علي بن جعفر (٢) الدالّة على أن الماء البالغ ألف رطل لا يجوز الوضوء به ولا شربه إذا وقع فيه بول ، فانّا لو حملنا الرطل في الصحيحة على غير المكي لكان مقدار ألف رطل كراً عاصماً وهو خلاف ما نطقت به الرواية المتقدمة.

الثالث : أنّا بيّنا في الأُصول أن المخصص المنفصل إذا كان مجملاً لدورانه بين الأقل والأكثر لا يسري إجماله إلى العام بل لا بدّ من تخصيص العام بالمقدار المتيقن منه ، ويرجع إلى عمومه في المقدار المشكوك فيه (٣) ، ومقامنا هذا من هذا القبيل لإجمال كلمة الرطل في الصحيحة لدورانه بين الأقل والأكثر ، والعام دلّنا على أن الماء إذا لاقى‌

__________________

(١) المختلف ١ : ٢٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٦ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ١٦.

(٣) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ٢٤٥.

١٥٥

نجساً ينجس كما هو مقتضى الأخبار الخاصة المتقدمة من غير تقييد الماء بالقليل ، وقد علمنا بتخصيص ذلك العام بالكر وهو مجمل والمقدار المتيقن منه ألف ومائتا رطل عراقي وهو مساوق لستمائة رطل مكي ونلتزم فيه بعدم الانفعال ، وأمّا فيما لم يبلغ هذا المقدار فهو مشكوك الخروج لإجمال المخصص على الفرض ، فلا بدّ فيه من الرجوع إلى مقتضى العام أعني انفعال مطلق الماء بملاقاة النجس.

وإن شئت توضيح ما ذكرناه قلنا إن الأخبار الواردة في الماء على طوائف :

فمنها : ما جعل الاعتبار في انفعال الماء بالتغيّر وأنّه لا ينفعل بملاقاة شي‌ء من المنجسات ما دام لم يطرأ عليه تغيير ، وهذا كما في صحيحة حريز « كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا توضأ منه ولا تشرب » (١) ودلالتها على حصر العلّة للانفعال في التغيّر ظاهرة.

ومنها : ما دلّ على أن الماء ينفعل بملاقاة النجس وإن لم يحصل فيه تغيّر لأن مفروض هذه الطائفة هو الماء الذي لا تغيّر فيه في شي‌ء ، وهذا كصحيحة شهاب بن عبد ربّه قال : « أتيت أبا عبد الله عليه‌السلام أسأله فابتدأني فقال : إن شئت فاسأل يا شهاب وإن شئت أخبرناك بما جئت له قال : قلت له : أخبرني جعلت فداك قال : جئت تسألني عن الجنب يسهو فيغمز « فيغمس » يده في الماء قبل أن يغسلها؟ قلت : نعم قال : إذا لم يكن أصاب يده شي‌ء فلا بأس » ... (٢) حيث دلّت على انفعال الماء بإصابة اليد المتنجسة.

وموثقة عمار بن موسى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال بعد قوله سئل عمّا تشرب منه الحمامة ، وعن ماء شرب منه باز ، أو صقر أو عقاب؟ فقال : كل شي‌ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه ، إلاّ أن ترى في منقاره دماً فإن رأيت في منقاره دماً فلا توضأ منه ولا تشرب (٣) وقد دلّت على انفعال الماء بإصابة منقار الطيور إذا كان فيه‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٧ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٦٦ / أبواب الجنابة ب ٤٥ ح ٢.

(٣) الوسائل ١ : ٢٣٠ / أبواب الأسآر ب ٤ ح ٢.

١٥٦

دم كما دلّت على انفعاله بإصابة منقار الدجاجة الذي فيه قذر بناء على رواية الشيخ حيث زاد على الموثقة « وسئل عن ماء شربت منه الدجاجة قال : إن كان في منقارها قذر لم يتوضأ منه ولم يشرب ... » إلى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع في تضاعيف الأبواب ومن البديهي أن إصابة هذه الأشياء للماء لا توجب تغيراً فيه وهو ظاهر. والنسبة بين هاتين الطائفتين هي التباين لدلالة إحداهما على أن المدار في الانفعال على التغيّر فحسب ، وثانيتهما دلت على أن المناط فيه هو ملاقاة النجس دون غيرها إذ لا يتصوّر في مواردها التغيّر بوجه فهما متعارضتان.

ثم إنّ هناك طائفتين أُخريين مخصصتين للطائفة الثانية إحداهما غير مجملة وثانيتهما مجملة.

أمّا ما لا إجمال فيه فهو صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع (١) المخصصة للطائفة الثانية بما لا مادّة له ، وأن ما له مادّة لا ينفعل بالملاقاة وإنما ينفعل بالتغيّر ، ومنها يظهر أن المراد بالماء في تلك الطائفة هو الماء الذي لا مادّة له ، وهو كما ترى مما لا إجمال فيه. فإذا خصصنا الطائفة الثانية بتلك الصحيحة انقلبت النسبة بين الطائفتين المتعارضتين من التباين إلى العموم المطلق لدلالة أُولاهما على حصر الانفعال في التغيّر مطلقاً كان للماء مادّة أم لم يكن ودلت ثانيتهما على حصره في الملاقاة في خصوص ما لا مادّة له وهي أخص مطلقاً من الاولى فيخصصها وتدل على أن الماء الذي لا مادّة له ينفعل بالملاقاة.

وأمّا المخصّص المجمل فهو الروايات الواردة في الكر لدلالتها على عدم انفعال الكر بالملاقاة ولكنها مجملة فإن للكرّ إطلاقات كما تقدم. وبما إن إجمال المخصص المنفصل لا يسري إلى العام فنخصصه بالمقدار المتيقن من الكر وهو ألف ومائتا رطل عراقي وأمّا ما ينقص عن هذا المقدار فلا محالة يبقى تحت العموم المقتضي لانفعال ما لا مادّة له بالملاقاة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤١ / أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١٢ ، وص ١٧٢ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٦.

١٥٧

تحديد الكرّ بالمساحة‌

وأمّا تحديده بالمساحة فقد اختلفت فيه الأقوال فمن الأصحاب من حدّده بما يبلغ مائة شبر ، وحكي ذلك عن ابن الجنيد (١).

ومنهم من ذهب إلى تحديده بما بلغ مكعبه ثلاثة وأربعين شبراً إلاّ ثمن شبر ، وهذا هو المشهور بين الأصحاب.

وثالث اعتبر بلوغ مكعب الماء ستة وثلاثين شبراً ، وهو الذي ذهب إليه المحقق (٢) وصاحب المدارك قدس‌سرهما (٣).

ورابع اكتفى ببلوغ المكعب سبعة وعشرين شبراً ، وهذا هو المعروف بقول القميين (٤) وقد اختاره العلاّمة (٥) والشهيد (٦) والمحقق الثانيان (٧) والمحقق الأردبيلي (٨) ونسب إلى البهائي أيضاً (٩) ، وهو الأقوى من أقوال المسألة.

وهناك قول خامس وهو الذي نسب إلى الراوندي قدس‌سره من اعتبار بلوغ مجموع أبعاد الماء عشرة أشبار ونصف (١٠). هذه هي أقوال المسألة (١١).

__________________

(١) المختلف ١ : ٢١.

(٢) المعتبر ١ : ٤٦.

(٣) المدارك ١ : ٥١.

(٤) المختلف ١ : ٢١.

(٥) المختلف ١ : ٢٢.

(٦) الروض : ١٤٠ سطر ١٨.

(٧) حكاه في الحدائق ١ : ٢٢١.

(٨) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٦٠.

(٩) حبل المتين : ١٠٨.

(١٠) المختلف ١ : ٢٢.

(١١) ويظهر من السيد إسماعيل الطبرسي شارح نجاة العباد أن هناك قولاً سادساً : وهو بلوغ مكعب الماء ثلاثة وثلاثين شبراً وخمسة أثمان ونصف ثمن حيث نسبه إلى المجلسي والوحيد البهبهاني قدس‌سرهما أخذاً برواية حسن بن صالح الثوري بحملها على المدور ، بتقريب أن

١٥٨

أمّا ما حكي عن ابن الجنيد فهو مما لا ينبغي أن يصغي إليه إذ لم نجد ما يمكن أن يستند إليه في ذلك ولو رواية ضعيفة ، وكم له قدس‌سره من الفتيا الشبيهة بآراء العامة ، ولعلّ الروايات الواردة من طرقنا لم تصل إليه.

كما أن ما نسب إلى الراوندي قول ضعيف مطرود لا قائل به سواه بل هو غلط قطعاً ، لأن بلوغ مجموع الأبعاد إلى عشرة ونصف قد ينطبق على مسلك المشهور كما إذا كان كل واحد من الأبعاد الثلاثة ثلاثة أشبار ونصف ، فإن مجموعها عشرة ونصف ومكسّرها ثلاثة وأربعون شبراً إلاّ ثمن شبر ، وهو في هذه الصورة كلام صحيح ، وقد لا ينطبق عليه ولا على غيره من الأقوال كما إذا فرضنا طول الماء تسعة أشبار وعرضه شبراً واحداً وعمقه نصف شبر ، فإن مجموعها عشرة أشبار ونصف ، إلاّ أنّه بمقدار تسع ما هو المعتبر عند المشهور تقريباً لأن مكسّرة حينئذٍ أربعة أشبار ونصف بل لو فرضنا طول الماء عشرة أشبار ، وكلاً من عرضه وعمقه ربع شبر لبلغ مجموعها عشرة أشبار ونصف ، ومكسّره نصف شبر وثمن شبر ، إلاّ أن هذه المقادير مما لم يقل أحد باعتصامه ، فما ذهب إليه الراوندي غلط جزماً. فيبقى من الأقوال ما ذهب إليه القميون وقول المشهور وما ذهب إليه المحقق وصاحب المدارك قدس‌سرهم.

__________________

القطر فيها ثلاثة ونصف فيكون المحيط أحد عشر شبراً فإن نسبة القطر إلى المحيط نسبة السبعة إلى اثنين وعشرين ، فنصف القطر شبر وثلاثة أرباعه ، ونصف المحيط خمسة أشبار ونصف فإذا ضربنا أحدهما في الآخر كان الحاصل تسعة أشبار ونصف ثمن ، وإذا ضربنا ذلك الحاصل في ثلاثة ونصف صار المتحصل ثلاثة وثلاثين شبراً وخمسة أثمان ونصف ثمن تحقيقاً.

إلاّ أن المصرح به في حواشي المدارك للوحيد البهبهاني قدس‌سره أنه لا قائل بهذا الوجه بخصوصه فهذا يدلنا على أنّه احتمال احتمله المجلسي والوحيد قدس‌سرهما في الرواية فلا ينبغي عدّه من الأقوال ، مع أن الرواية ضعيفة لأن الرجل زيدي بتري لم يوثق في الرجال بل عن التهذيب أنه متروك العمل بما يختص بروايته. إذن يشكل الاعتماد على روايته مضافاً إلى ما أورده الشيخ في استبصاره على دلالتها من المناقشة باحتمال أن يكون المراد بالركي فيها هو المصنع الذي كان يعمل في الطرق والشوارع لأن يجتمع فيها ماء المطر وينتفع بها المارّة ولم يعلم أن المصانع مدورة لأن من الجائز أن يكون بعضها أو الكثير منها مربعاً ولا سيّما في المصانع البنائية التي يعمل على شكل الحياض المتعارفة في البيوت.

١٥٩

والصحيح من هذه الأقوال هو قول القميين أعني ما بلغ مكسّرة سبعة وعشرين شبراً ، والدليل على ذلك صحيحة إسماعيل بن جابر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الماء الذي لا ينجسه شي‌ء؟ قال : ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته (١). والاستدلال بها يتوقف على تقديم أُمور :

الأوّل : أنّ المراد بالسعة فيها ليس هو الطول والعرض بل ما يسعه سطح ذلك الشي‌ء على ما يتفاهم منه عرفاً.

الثاني : أنّ كل ذراع من أي شخص عادي شبران متعارفان على ما جرّبناه غير مرة ووجدناه بوجداننا ، وبهذا المعنى أيضاً أُطلق الذراع في الأخبار الواردة في المواقيت (٢). فما ادعاه المحقق الهمداني قدس‌سره من أن الذراع أكثر من شبرين (٣) مخالف لما نجده بوجداننا ، فإنّه يشهد على أن الذراع شبران ، ولعلّه قدس‌سره وجد ذلك من ذراع نفسه وادعى عليه الوجدان ، وعلى هذا فمعنى الرواية أن الكر عبارة عن أربعة أشبار عمقه وثلاثة أشبار سعته.

الثالث : أنّ ظاهر قوله عليه‌السلام ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته هو أنّ مفروض كلامه عليه‌السلام هو المدوّر ، حيث فرض أن سعته ذراع وشبر مطلقاً أي من جميع الجوانب والأطراف ، وكون السعة بمقدار معيّن من جميع النواحي والأطراف لا يتصوّر إلاّ في الدائرة ، لأنها التي تكون نسبة أحد أطرافها إلى الآخر بمقدار معيّن مطلقاً لا تزيد عنه ولا تنقص ، وهذا بخلاف سائر الإشكال من المربّع والمستطيل وغيرهما حتى في متساوي الأضلاع ، فإن نسبة أحد أطرافها إلى الآخر لا تكون بمقدار معيّن في جميعها ، إذ البعد المفروض بين زاويتين من المربع وأمثاله أزيد من البعد الكائن بين نفس الضلعين من أضلاعه ، وعلى الجملة أن ما تكون نسبة أحد جوانبه إلى‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦٥ / أبواب الماء المطلق ب ١٠ ح ١.

(٢) وقد روى زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن وقت الظهر فقال : ذراع من زوال الشمس ووقت العصر ذراعان ... » المرويّة في الوسائل ٤ : ١٤١ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ٣.

(٣) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٣٠ السطر ١٩.

١٦٠