موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

[٩٢] مسألة ٢ : إذا شكّ في أن له مادّة أم لا وكان قليلاً ، ينجس بالملاقاة (١)

______________________________________________________

الإبريق على يد كافر مثلاً لا يحكم بتنجس ما في الإبريق بملاقاة الماء لليد القذرة ، وكذا في الفوارات إذا تنجس أعلاه بشي‌ء لا نحكم بنجاسة أسفله ، هذا كلّه فيما إذا علمنا باتصال الجاري بالمادّة أو عدم اتصاله.

الشكّ في المادّة‌

(١) يمكن أن يقال بطهارة الماء حينئذٍ مع قطع النظر عن استصحاب العدم الأزلي الآتي تفصيله ، وذلك لأن الشكّ في أن للماء مادّة أو أنّه لا مادّة له يساوق الشكّ في نجاسته وطهارته على تقدير ملاقاة النجس ، ومقتضى قاعدة الطهارة طهارته لقوله عليه‌السلام « كلّ شي‌ء نظيف » (١) أو « الماء كلّه طاهر حتى يعلم أنّه قذر » (٢) هذا وقد استدلّ على نجاسة الماء المذكور بوجوه :

الأوّل : التمسك بالعام في الشبهة المصداقية بناءً على جوازه ، كما ربّما يظهر من الماتن في بعض الفروع (٣) ، وإن صرح في بعضها (٤) الآخر بعدم ابتنائه على التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، بأن يقال في المقام : إنّ مقتضى عموم ما دلّ على انفعال القليل بملاقاة النجس ، نجاسة كل ماء قليل لاقته النجاسة ، وقد خرج عنه القليل الذي له مادّة ، ولا ندري أن القليل في المقام من أفراد المخصص وأن له مادّة حتى لا ينفعل ، أو أنّه باق تحت العموم ولا مادّة له فينفعل بالملاقاة ، فنتمسك بعموم الدليل‌

__________________

(١) كما في موثقة عمار المروية في الوسائل ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤.

(٢) كما في صحيحة حماد بن عثمان المرويّة في الوسائل ١ : ١٣٤ / أبواب الماء المطلق ب ١ ح ٥.

(٣) منشأ الظهور ملاحظة الفروع التي تبتني بظاهرها على التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية أو يحتمل فيها ذلك ، كما يجدها المتتبع في تضاعيف الكتاب [ منها : م / ٢٩٩ ] ومنها مسألتنا هذه كما هو ظاهر.

(٤) كما في مسألة ٥٠ من مسائل النكاح [٣٦٨٢] فيما إذا شكّ في امرأة في أنّها من المحارم أو من غيرها ، حيث قال : فمع الشكّ يعمل بمقتضى العموم لا من باب التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية ، بل لاستفادة شرطية الجواز أو المحرمية أو نحو ذلك ....

١٠١

وبه نحكم بانفعاله.

هذا ولكنا قد قررنا في الأُصول بطلان التمسك بالعام في الشبهات المصداقية وذكرنا أنّه مما لا أساس له بلا فرق في ذلك بين العموم والإطلاق لتساويهما من هذه الجهة ، فالتمسك بإطلاق قوله عليه‌السلام « الماء إذا بلغ ... » المقتضي لانفعال القليل بالملاقاة غير سائغ في الشبهات المصداقية.

الثاني : قاعدة المقتضي والمانع ، كما ذهب إليها بعض المتقدمين على ما نسب إليه وبعض المتأخرين ممن قارب عصرنا ، حيث ذهب إلى أنّها المستند لاعتبار الاستصحاب ، وتقريبها في المقام أن يقال : إن ملاقاة النجاسة للماء القليل مقتضية للانفعال ، واتصاله بالمادّة مانع عن الانفعال وكلما علمنا بوجود المقتضي وشككنا في ما يمنع عن تأثيره نبني على عدم المانع وعلى وجود المعلول.

وقد ذكرنا في بحثي العموم والاستصحاب (١) أن هذه القاعدة أيضاً لا ترجع إلى أساس متين ، والعقلاء لا يبنون على وجود المعلول عند إحراز المقتضي والشكّ في وجود مانعه ، بل المتّبع هو الاستصحاب والأخذ بالمتيقن السابق عند الشكّ في بقائه.

الثالث : ما أسسه شيخنا الأُستاذ قدس‌سره ورتّب عليه فروعاً كثيرة في الأبواب الفقهية منها المقام وحاصله : أن الاستثناء من الحكم الإلزامي أو ما يلازمه كالنجاسة الملازمة لحرمة الشرب والوضوء والغسل وغيرها من أحكام النجاسات إذا تعلق بعنوان وجودي فهو عند العرف بمثابة اشتراط إحراز ذلك العنوان الوجودي في ارتفاع الحكم الإلزامي أو ما يلازمه ولا يكفي في ارتفاعها مجرد وجوده الواقعي (٢) ، وكان قدس‌سره يمثّل له بما إذا نهى المولى عبده من أن يأذن لأحد في الدخول عليه إلاّ لأصدقائه فشكّ العبد في صداقة زيد وعداوته لمولاه ، فإنّه ليس له أن يتمسّك بالبراءة عن حرمة الترخيص لزيد في الدخول ، بلحاظ أن الشبهة تحريمية موضوعية وهي مورد للبراءة باتفاق من الأخباريين والأُصوليين وذلك لأن العرف في مثله يرى‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٢٤١.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٤٦٤.

١٠٢

لزوم إحراز عنوان الصداقة في جواز الاذن والترخيص ، فالمشكوك محرّم الاذن وإن كان في الواقع صديقاً له. وقد طبقها قدس‌سره على المقام بأن الاستثناء عن ملزوم الحكم الإلزامي وهو النجاسة قد تعلق بأمر وجودي أعني اتصاله بالمادّة ، فهو بمنزلة اشتراط إحراز الاتصال في الحكم بعدم النجاسة والانفعال ، وحيث إن الاتصال غير محرز في المقام فهو محكوم بالنجاسة لا محالة وإن كان متصلاً بها واقعاً ، وإنّما نحكم بالطهارة في خصوص القليل الذي أحرزنا اتصاله بالمادّة.

هذا ولا يخفى أنّا ذكرنا في محلّه أن هذه القاعدة كالقاعدتين السابقتين لا أساس لها. نعم ، الأمر في خصوص ما مثّل به للمقام كما أفاده فإنّه لا يمكن فيه إجراء البراءة وهذا لا لما أسّسه قدس‌سره بل لأجل استصحاب عدم حدوث الصداقة بين زيد ومولاه ، لأن الصداقة حادثة قطعاً وليست من الأُمور الأزلية غير المسبوقة بالعدم ومعه لا يبقى للبراءة مجال لاشتراط جريانها بعدم أصل حاكم عليها في البين. وتفصيل الكلام في الجواب عمّا بنى عليه موكول إلى محلّه.

الرابع : استصحاب عدم اتصاف القليل بالاتصال بالمادّة باستصحاب العدم الأزلي ، وتوضيح ذلك : أن الصور المتصورة للمسألة أربع :

الاولى : أن نعلم أن القليل الذي نشك في اتصاله وعدمه مسبوق بالاتصال بالمادّة ونشك في بقاء اتصاله حين ملاقاته النجس كما يتفق ذلك غالباً في المياه الجارية والأنابيب المعمولة في زماننا هذا ، وفي هذه الصورة لا إشكال في جريان استصحاب اتصاله بالمادّة وعدم انقطاعها عنه.

الثانية : أن نعلم أنّه مسبوق بالانقطاع ، كما إذا القي مقدار من الماء لم يبلغ الكر على حفيرة وقد وقعت فيها نجاسة أيضاً ، فشككنا في أن الحفيرة بئر ولها مادّة لئلاّ ينفعل الماء الملقى عليها بوقوع النجاسة عليه أو أنّها صورة بئر لا مادّة لها فالماء غير متصل بها ومحكوم بالانفعال ، وفي هذه الصورة أيضاً لا إشكال في جريان استصحاب عدم الاتصال بالمادّة.

الثالثة : ما إذا لم تحرز حالته السابقة من الاتصال والانقطاع ، وهذه الصورة هي‌

١٠٣

مورد الوجوه الثلاثة المتقدمة دون الصورتين الأوليين كما أن هذه الصورة هي التي ندعي جريان استصحاب العدم الأزلي فيها ، على ما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس‌سره ومثّل له بما إذا شكّ في قرشية المرأة وذكر أن المرأة حينما وجدت لا ندري أنّها هل اتصفت بالقرشية أم لم تتصف بها ولم تكن متصفة بها قبل وجودها قطعاً والأصل عدم اتصافها بتلك الصفة حين وجودها أيضاً (١).

وعلى هذا التقريب يقال في المقام : إن هذا القليل لم يكن متصفاً بالاتصال قبل خلقته ، ونشك في اتصافه به حين خلقته ووجوده فالأصل أنّه لم يتصف بالاتصال حين خلقته أيضاً ، فهو ماء قليل بالوجدان وغير متصل بالمادّة بالأصل ، فبضم الوجدان إلى الأصل يتم كلا جزئي الموضوع للحكم بالانفعال.

هذا ، وقد أورد عليه شيخنا الأُستاذ قدس‌سره (٢) بالمنع من جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية وبنى منعه هذا على مقدّمات :

الاولى : أن تخصيص العام بالمتصل أو بالمنفصل يوجب تعنون العام بعنوان غير عنوان الخاص لا محالة ، فإذا كان العنوان المأخوذ في الخاص وجودياً كان العام مقيداً بعنوان عدمي ، وإذا كان عدميا كان العام مقيداً بعنوان وجودي ، وذلك لأنّ الحاكم الملتفت إلى أن موضوع حكمه كالعالم مثلاً له قسمان : العادل والفاسق ، والإهمال في الواقع أمر غير معقول فهو إما أن يرى عدم دخل شي‌ء من الخصوصيتين في موضوع حكمه وإما لا ، وعلى الثاني إما أن يكون ما له دخل من الخصوصية في موضوع الحكم أمراً وجودياً أو عدميا ، وهذه أقسام ثلاثة لا رابع لها لدورانها بين النفي والإثبات فالحصر فيها عقلي. أمّا القسم الأول وهو ما إذا كان موضوع الحكم مطلقاً وغير مقيد بشي‌ء من الخصوصية : الوجودية والعدمية ، فهو أمر لا يجتمع مع التخصيص ، لأنّه يرجع إلى الجمع بين النقيضين ، فإن الموجبة الكلية تناقضها السالبة الجزئية لا محالة ، فإذا ثبت التخصيص في وجوب إكرام العالم وأن العالم الفاسق لا يجب‌

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٢٣.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٤٦٢.

١٠٤

إكرامه ، امتنع معه أن يجب إكرام مطلق العالم سواء أكان عادلاً أم كان فاسقاً ، كما أنّه يمتنع أن يختص وجوب الإكرام بالفاسق ، فلا مناص من تقييد موضوع وجوب الإكرام بعدم كونه فاسقاً. وهذا معنى ما ذكرناه من أن تخصيص العام بعنوان وجودي يستلزم تقييده بأمر عدمي.

الثانية : أن الموضوع إذا كان مركباً ، فإمّا أن يتركّب من غير العرض ومحلّه ، وإمّا أن يكون مركّباً من العرض ومحلّه.

أمّا على الأوّل : كما إذا كان الموضوع مركباً من جوهرين أو من جوهر وعرض في موضوعه ، أو من عرضين في موضوع واحد ، أو في موضوعين فلا موجب لأخذ أحد الجزءين نعتاً للجزء الآخر بل اللاّزم هو اجتماع الجزءين في الخارج بلا دخل خصوصية أُخرى.

وأمّا على الثاني كأخذ الكرية والماء في موضوع الاعتصام وعدم الانفعال بمجرد ملاقاة النجاسة ، فلا مناص من أن يؤخذ العرض في الموضوع على نحو وجوده النعتي ، فإنّه لا سبيل إلى أخذه على نحو الوجود المحمولي ، فإنّ انقسام الشي‌ء باعتبار أوصافه ونعوته في مرتبة سابقة على انقسامه باعتبار مقارناته ، فإذا كان التخصيص موجباً لتقييد موضوع العام ورافعاً لإطلاقه فإمّا أن يرجع التقييد إلى التقييد بلحاظ الانقسام الأولى ، فيكون الموضوع مقيداً بالوجود النعتي ، أو العدم النعتي المعبّر عنهما بمفاد كان وليس الناقصتين وإما أن يرجع إلى التقييد بلحاظ الانقسام الثانوي ، ليكون المأخوذ في الموضوع الوجود أو العدم المحمولي المعبّر عنهما بمفاد كان وليس التامتين.

لا سبيل إلى الثاني ، فإنّه مع تقييده بهذا الاعتبار إما أن يبقى الموضوع على إطلاقه بالاعتبار الأول ، أو يكون مقيداً به أيضاً. أمّا الأول فهو مستحيل ، إذ كيف يمكن أن يقيد الماء في موضوع المثال بأن يكون معه كريّة ومع ذلك يبقى على إطلاقه من جهة الاتصاف بالكرية وعدمه وهل هذا إلاّ تهافت وتناقض ، وأمّا الثاني فهو أيضاً لا يمكن من الحكيم لاستلزامه اللغو ، فإن التقييد بالاعتبار الأول يغني عن التقييد بالاعتبار الثاني.

١٠٥

ويترتّب على ما ذكرناه أن موضوع الحكم إذا كان مركباً من وجود العرض ومحلّه كما في المثال ، أو مركباً من عدم العرض ومحلّه كما فيما كان الاستثناء من العام عنواناً وجودياً ، ففي جميع ذلك لا مناص من أن يكون الدخيل في الموضوع الوجود أو العدم النعتيين ، دون الوجود أو العدم المحموليين.

الثالثة : أن العدم الأزلي وإن كان ثابتاً وحقاً فإن كل ممكن مسبوق بالعدم لا محالة فزيد لم يكن في وقت وعلمه وعدالته لم تكونا وهكذا ... إلاّ أن هذا العدم عدم محمولي لا نعتي ، فيصح أن يقال : علم زيد لم يكن ، ولا يصح أن نقول : زيد كان غير عالم ومتصفاً بعدم العلم فإنّه لم يكن موجوداً ليتصف بالوصف الوجودي أو العدمي ، فالعدم الأزلي محمولي دائماً ، ولا يصح فيه النعتي بوجه وذلك من جهة أن العدم النعتي كالوجود النعتي يحتاج إلى وجود الموضوع لا محالة.

ويترتّب على هذه المقدّمات : أن التخصيص بعنوان وجودي يقتضي تعنون العام بعنوان عدمي لا محالة بمقتضى المقدمة الأُولى ، وأن العدم المأخوذ في الموضوع عدم نعتي بمقتضى المقدمة الثانية ، وأن العدم النعتي كالوجود النعتي يحتاج إلى وجود الموضوع لا محالة ، والتقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، وعلى ذلك فلا يمكن استصحاب العدم النعتي إذ المفروض عدم العلم به سابقاً بل هو مشكوك فيه من أوّل الأمر ، وأمّا العدم المحمولي فهو وإن كان متيقناً إلاّ أنّه لا يثبت العدم النعتي. فإشكال جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية هو الإثبات خاصة لا أن العدم قبل وجود موضوعه مغاير للعدم بعد وجود موضوعه ، فإنّ العدم عدم ، وبقاؤه غير مغاير لحدوثه بل بقاء له.

ولا يخفى أنّ المقدّمة الأُولى والثالثة من هذه المقدّمات ممّا لا ينبغي الشكّ في صحته ، وكذلك المقدمة الثانية فيما إذا كان المأخوذ في موضوع الحكم وجود العرض وذلك لا لما ذكره قدس‌سره فإنّه يندفع بأن التقييد بكل من الاعتبارين يغني عن التقييد بالاعتبار الآخر ، كما هو الحال في كل أمرين متلازمين ، فإن التقييد بأحدهما لا يبقي مجالاً للإطلاق بالإضافة إلى الثاني منهما. بل لأجل أن وجود العرض في نفسه‌

١٠٦

عين وجوده لموضوعه ، إذ ليس للعرض وجودان أحدهما لنفسه وثانيهما لموضوعه بل له وجود واحد وهو عين وجوده لموضوعه وكونه وصفاً ونعتاً لمعروضه ، فإذا كان المأخوذ وجود العرض في موضوع خاص ، كالكرية المأخوذة للماء في موضوع الاعتصام وعدم الانفعال بملاقاة النجس ، فلا محالة يكون الدخيل في الموضوع هو اتصاف الماء بالكرية على نحو مفاد كان الناقصة ، فإن وجود الكرية في الماء هو بعينه اتصاف الماء بالكرية ، لما عرفت من أن وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه ، وأمّا إذا كان الدخيل في الموضوع هو عدم العرض كما هو الحال فيما إذا كان الخارج من العموم عنواناً وجودياً فإن العام يتعنون حينئذٍ بوصف عدمي لا محالة فلا موجب للالتزام بكون الدخيل في الموضوع هو العدم النعتي.

وبيان ذلك : أن ما أفاده من أن تركب الموضوع من العرض ومحلّه يستلزم أخذ الاتصاف بالعرض في موضوع الحكم ، وإن كان متيناً لما قدّمناه من أن وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه ، إلاّ أنّه يختص بوجود العرض أعني العرض الوجودي ، وأمّا العدمي فلا يأتي فيه ما ذكرناه لأن العدم لا وجود له حتى يقال : إن وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه ، فإذا تركب الموضوع من عدم العرض ومحلّه فلا يستفاد منه في نفسه أن الاتصاف بالعدم مأخوذ في موضوع الحكم فإنّه أعم ويحتاج اعتبار الاتصاف به إلى مئونة زائدة ، فإن قامت قرينة على اعتباره فهو وإلاّ لما اعتبرنا في موضوع الحكم غير المحل وعدم العرض ولو على نحو العدم المحمولي فإذا ورد لا تكرم فساق العلماء وضممناه إلى العام ، فيستفاد منهما أن موضوع وجوب الإكرام هو العالم الذي لا يكون فاسقاً ، لا العالم المتصف بعدم الفسق لأنّه يحتاج إلى دليل وهو مفقود ، وعليه فلا مانع من استصحاب عدم الاتصاف بالفسق الثابت قبل وجود زيد ، إذ لم يكن الاتصاف قبل وجوده والآن كما كان. نعم ، لا يثبت بذلك الاتصاف بعدم الفسق ، إلاّ أنا في غنى عنه فإنّه ليس بموضوع للأثر ، وإنّما الأثر مترتب على العالم الذي لا يكون متصفاً بالفسق على نحو العدم المحمولي ، والمفروض أن له حالة سابقة كما مرّ ، وكم فرّق بين الموجبة معدولة المحمول وبين السالبة المحصلة لأن الاتصاف معتبر في الأُولى دون الثانية.

١٠٧

وإلى ما ذكرنا أشار صاحب الكفاية (١) فيما ذكره من أن العام لا يتعنون بعد التخصيص بعنوان خاص ، بل هو بكل عنوان غير عنوان المخصص يشمله الحكم بمعنى أن العالم في مفروض المثال لا بدّ وأن لا يكون فاسقاً ، ولم يؤخذ فيه أي عنوان غير هذا العنوان ، وإن كان ذلك العنوان هو الاتصاف بالعدم على نحو مفاد ليس الناقصة ، فالخارج هو الذي اعتبر فيه الاتصاف بالفسق على وجه النعت دون الباقي تحت العموم.

والأمر في المقام كذلك حيث إن أدلّة انفعال الماء القليل قد خصصت بالقليل الذي له مادّة ، وهو يوجب تعنون الباقي بالماء القليل الذي لا يكون له مادّة لا القليل المتصف بعدم المادّة ، وعليه فلنا أن نستصحب عدم المادّة في ظرف الشكّ إذ لم تكن له مادّة قبل وجوده والآن كما كان ، وهو استصحاب العدم المحمولي ، لأنّه الذي يترتب عليه الأثر عند تركب الموضوع من المحل وعدم العرض ، ما دام لم تقم قرينة خارجية على اعتبار الاتصاف بالعدم ، هذا تمام كلامنا في هذه الصورة.

الرابعة : ما إذا كان القليل مسبوقاً بحالتين متضادتين أعني الاتصال بالمادّة في زمان وعدم الاتصال بها في زمان آخر ، واشتبه المتقدم منهما بالمتأخر ، ولم يجر فيه شي‌ء من استصحابي الاتصال وعدمه للتعارض أو لعدم المقتضي ، فهل هناك أصل آخر يحكم به على الماء بالطهارة؟.

قد يقال : إن مقتضى الاستصحاب في الماء طهارته ، لأنّه قبل أن يغسل به المتنجس كان طاهراً قطعاً ، فهو الآن كما كان وإن كنّا نشك في اتصاله بالمادّة وعدمه ، كما أن مقتضى الاستصحاب في المتنجس المغسول به نجاسة المغسول وعدم ارتفاع نجاسته بالغسل به ، ولا معارضة بين الاستصحابين كما ذكرناه غير مرّة لأنّا وإن علمنا بالملازمة الواقعية بين طهارة الماء وطهارة المتنجس المغسول به ، إلاّ أن التفكيك بينهما في مقام الظاهر بالأصل مما لا مانع عنه بوجه (٢) وهذا نظير ما ذكره السيد ( قدس‌

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٢٣.

(٢) لا يخفى أن المراد بغسل المتنجس به إنما هو إلقاؤه على الماء لا إيراد الماء على المتنجس ، وإلاّ فلا إشكال في كفايته في طهارة الثوب بعد ما حكمنا بطهارة الماء.

١٠٨

سره ) في ماء يشك في كريته مع عدم العلم بحالته السابقة.

ثمّ إنّ التفكيك بين طهارة الماء وطهارة المغسول به في محل الكلام إنما يتم إذا كان الحكم بنجاسة القليل المحتمل اتصاله بالمادّة في الصورة السابقة مستنداً إلى جريان الاستصحاب في العدم الأزلي ، وأمّا بناء على استناده إلى صحّة التمسّك بالعام في الشبهات المصداقية أو تمامية قاعدة المقتضي والمانع أو صحّة ما أسّسه شيخنا الأُستاذ قدس‌سره من أخذ الإحراز فيما علّق عليه الترخيص فلا بدّ من الحكم في المقام بنجاسة الماء أيضاً لأنّه قليل ، ولا ندري أن له مادّة ومقتضى عموم انفعال القليل أو قاعدة المقتضي والمانع أو عدم إحراز اتصاله بالمادّة هو الحكم بنجاسته.

ولا يبقى بعد ذلك للحكم بطهارته بالاستصحاب أو بغيره مجال ، ولا يلزم حينئذٍ التفكيك بين الماء والمغسول به بل كلاهما محكومان بالنجاسة ، وهذا بخلاف ما إذا اعتمدنا في الحكم بنجاسة الماء عند الشكّ في أنّ له مادّة على استصحاب عدم اتصاله بالمادّة على نحو العدم الأزلي ، فإنّ التفكيك بناء عليه تام لا إشكال فيه. والوجه فيه : أنّ الاستصحاب المذكور لا يجري في المقام لسبقه بحالتين متضادتين ، ومعه لا يجري شي‌ء من استصحابي الاتصال وعدمه ، إما للتعارض وإما لعدم المقتضي على خلاف في ذلك بيننا وبين صاحب الكفاية قدس‌سره (١) وعليه فلا مانع من استصحاب الطهارة في الماء كما لا مانع من استصحاب بقاء النجاسة في المغسول به ، فيلزم التفكيك بين طهارة الماء وطهارة المغسول به.

ثم إن الحكم بنجاسة المغسول به بالاستصحاب في المقام يبتني على اعتبار ورود الماء على المتنجس في التطهير بالقليل ، وأمّا إذا قلنا بعدم اعتباره ، وكفاية ورود المتنجس على الماء فلا ينبغي التأمل في طهارة المغسول به ، إذ المفروض كفاية الغسل به حتى لو لم تكن له مادّة في الواقع فلا يبقى مجال للتفكيك.

ثم إنّا إذا اعتبرنا ورود الماء على النجس في التطهير بالقليل فلا بدّ من أن نلاحظ دليل اعتبار ذلك ، فإن كان دليله ما اعتمد عليه بعضهم من أن القليل ينفعل بمجرّد‌

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٢١.

١٠٩

[٩٣] مسألة ٣ : يعتبر في عدم تنجس الجاري اتصاله بالمادّة (١) فلو كانت المادّة من فوق تترشح وتتقاطر ، فإن كان دون الكر ينجس. نعم إذا لاقى محل الرشح للنجاسة لا ينجس.

______________________________________________________

اتصاله بالنجس ، فلا يمكن تطهير المتنجس به فيما إذا ورد على الماء ، فلا بدّ من اعتبار ورود الماء عليه لئلاّ ينفعل بمجرد الاتصال فنحكم في المقام أيضاً بطهارة المغسول به وإن ورد على الماء ، لأن الماء لا ينفعل في المقام بمجرد اتصاله بالنجس وملاقاته معه كما لا ينفعل بعده ، وذلك بحكم الاستصحاب القاضي بطهارة الماء عند الشكّ في انفعاله ، فهو طاهر حين الاتصال وبعده فلا مانع من تطهير المغسول به مطلقاً.

نعم ، إذا اعتمدنا في الحكم باعتبار ورود الماء على النجس على الروايات الناطقة بذلك لقوله عليه‌السلام : « صبّ عليه الماء مرّتين » (١) ونحوه فلا محيص من الالتزام بعدم طهارة المتنجس إذا ورد على الماء للشكّ في حصول شرط طهارة المغسول به لأن الماء إن كان له مادّة حين الغسل فهو طاهر يطهّر المتنجس المغسول به لا محالة وإن لم تكن له مادّة فالمغسول به محكوم بالنجاسة لعدم حصول شرط التطهير به وهو ورود القليل على النجس ، وبما أنّا نشك في بقاء نجاسته وارتفاعها فمقتضى استصحابها نجاسة المغسول به ، كما أن مقتضى استصحاب الطهارة في الماء طهارته فالتفكيك حينئذٍ صحيح.

اعتبار الاتصال في الاعتصام

(١) بأن ينفصل الخارج عن المادّة ، كما مثّل به بقوله : فلو كانت المادّة. فإنّه إذا انفصل عنها فالمياه المجتمعة المنفصلة عن مادتها غير البالغة حدّ الكر ماء قليل ينفعل بملاقاة النجاسة لا محالة. نعم ، القطرة المتصلة بالمادّة محكومة بالاعتصام ما لم تنفصل عنها ، كما أشار إليه بقوله : نعم ، إذا لاقى ..

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٩٥ / أبواب النجاسات ب ١ ح ٣ ، ٤ ، ٧.

١١٠

[٩٤] مسألة ٤ : يعتبر في المادّة الدوام فلو اجتمع الماء من المطر أو غيره تحت الأرض ، ويترشح إذا حفرت لا يلحقه حكم الجاري (١).

______________________________________________________

والوجه فيما ذكرناه أن ظاهر قوله عليه‌السلام في صحيحة ابن بزيع « لأن له مادّة » أن يكون للماء مادّة بالفعل بأن يتصل بها فعلاً ، وأمّا ما كان متصلاً بها في وقت مع انفصاله عنها بالفعل فهو خارج عن مدلول الرواية كما عرفت. هذا في الانفصال بالطبع وكذلك الحال في الانفصال بالعرض كانسداد المنبع من اجتماع الوحل والطين لأنّه لانفصاله عن المادّة محكوم بعدم الاعتصام ، وقد أشار إليه الماتن في المسألة الخامسة كما يأتي.

(١) الظاهر أن مراده بالدوام على ما يساعد عليه تفريعه بقوله فلو اجتمع ... كون المادّة طبيعية موجبة لجريان الماء على وجه الأرض بطبعها ، وأمّا المادّة الجعلية الموجبة لجريان الماء ورشحه بالجعل دون الطبع فهي غير كافية في الاعتصام ، كما إذا جعلنا مقداراً من الماء في أرض منخفضة الأطراف ، أو اجتمع فيها ماء المطر ، فإنّه يوجب الرشح في جوانبها وجريان الماء لا محالة إلاّ أنّها غير عاصمة ، وذلك لأن ظاهر قوله في صحيحة ابن بزيع : « لأن له مادّة » أن يكون للماء مادّة متصلة فعلاً يجري الماء عنها بطبعها. فالجعلية أو غير المتصلة منها لا تصدق عليها المادّة الفعلية كما هو ظاهر.

اعتبار دوام النبع عند الشهيد ( قدس‌سره )

ذكر الشهيد قدس‌سره في الدروس أن الجاري لا يشترط فيه الكرية على الأصح. نعم ، يشترط فيه دوام النبع (١) وقد وقع هذا مورداً للإشكال والكلام عند الأصحاب فنقول في شرح مراده قدس‌سره إن الدوام في كلامه هذا يحتمل أُموراً :

الأوّل : ما عن الشهيد الثاني قدس‌سره في روض الجنان من حمل الدوام على‌

__________________

(١) الدروس : ١٥.

١١١

الاستمرار في النبع ، وأن ما ينبع في بعض فصول السنة دون بعضها الآخر لا يحكم عليه بالاعتصام (١).

ويضعّف هذا الاحتمال أمران :

أحدهما : ما أورده عليه صاحب الحدائق قدس‌سره من أن اشتراط دوام النبع في المادّة على خلاف إطلاق صحيحة ابن بزيع ، لأن المادّة فيها غير مقيدة بدوام النبع فهو مضافاً إلى أنّه مما لا شاهد له من الأخبار ولا يساعد عليه الاعتبار قد دلّ الدليل على خلافه (٢).

وثانيهما : أن استمرار النبع إن أُريد به الاستمرار إلى الأبد فهو مما لا يوجد في أنهار العالم إلاّ نادراً ، على أن إحراز ذلك أمر غير ميسور ، فبأي شي‌ء يحرز دوام نبعه إلى الأبد ، وإن أُريد به الاستمرار المقيد بوقت خاص فيقع الكلام في تعيين ذلك الوقت ، وأن الزمان الذي لا بدّ من أن يستمر الجاري إلى ذلك الزمان أيّ زمان ، فهذا الاحتمال في غاية السقوط. ومن هنا طعن عليه المحقق الثاني قدس‌سره بقوله : إن أكثر المتأخرين عن الشهيد ( طاب ثراه ) ممن لا تحصيل لهم فهموا هذا المعنى من كلامه ...

الثاني : أن يراد بالدوام استمرار النبع حين ملاقاة النجس ، لا على وجه الإطلاق. ولعلّ هذا هو الظاهر من اعتبار الدوام ، ولا بأس به في نفسه إلاّ أنّه ليس أمراً زائداً على ما اعتبرناه في الجاري من الاتصال بالمادّة ، حيث قلنا إن الماء إذا انقطع عنها يحكم بانفعاله على تقدير قلته وعليه فيصبح اعتبار الدوام في كلامه قيداً توضيحياً وإن كان أمراً صحيحاً في نفسه.

الثالث : ما نسب احتماله إلى بعضهم من إرادة الاحتراز عمّا ينبع آناً وينقطع آناً لفتور مادته وضعفها ، وأن مثله ينفعل إذا لاقى نجساً لعدم إحراز اتصاله بالمادّة حال ملاقاة النجس ، ولعلّها لاقته حين انقطاع نبعها.

__________________

(١) الروض : ١٣٥ السطر ٨ ١٠.

(٢) الحدائق ١ : ١٩٥.

١١٢

هذا ولا يخفى أن ذلك أيضاً ليس بشرط جديد وراء شرط الاتصال وأمّا الحكم عليه بالانفعال على تقدير ملاقاته النجس فيدفعه ما أشرنا إليه سابقاً من أن الجاري إذا كان مسبوقاً بحالتين متضادتين أعني الاتصال وعدمه ، فهو وإن كان لا يجري فيه استصحاب الاتصال وعدمه إلاّ أن استصحاب الطهارة في الماء مما لا مانع عنه بوجه فبه يحكم بطهارته بل ولا أقل من قاعدة الطهارة ، فالماء لا يحكم عليه بالانفعال.

الرابع : ما حكاه صاحب الحدائق قدس‌سره (١) عن بعض الأفاضل من المحدثين من أن يراد به نبع المادّة دائماً ، أو بعد أخذ مقدار من مائها وقد ذكر في توضيح ذلك أن المواد على أنحاء ثلاثة :

إحداها : ما تكون نابعة على وجه الاستمرار بالفعل بأن تنبع ويجرى ماؤها على وجه الأرض كما في العيون الجارية.

وثانيتها : ما تكون نابعة على نحو الاستمرار أيضاً ولكنه لا بالفعل بل بالاقتضاء بمعنى أن تكون نابعة إلى أن يبلغ الماء حداً معيناً ، وهو تساوي الماء الخارج المجتمع منها في البئر للماء الموجود في مادتها وفي عروق الأرض ، وحينئذٍ تقف ولا تنبع إلاّ أن يؤخذ مقدار من مائها لينزل به سطح الماء ، فتنبع ثانياً بدل المتحلل مما أُخذ منه من الماء إلى أن يتصاعد الماء إلى السطح السابق وهكذا ... فللمادّة اقتضاء النبع دائماً ، وهذا هو الغالب في المواد فإن نبعها لو كان دائمياً وغير منقطع في زمان لأوجب غرق العالم بالماء.

وثالثتها : ما تكون نابعة إلاّ أنّه إذا أخذنا منها ماءها ينقطع نبعها وتقف ولا تنبع ثانياً إلاّ بعد حفر جديد ثم تنبع بمقدار ، وإذا أخذنا منها ذلك المقدار تقف ولا تنبع إلاّ بعد حفر آخر وهكذا .... كما يتفق ذلك في بعض الأراضي والبلدان ، فالنبع في القسمين الأولين دائمي فعلاً أو بحسب الاقتضاء ، وأمّا في الثالث فلا دوام للنبع فيه بوجه بل ولا تصدق على مثله المادّة أصلاً ، لأنّ المادّة من المدد والإمداد والمفروض أنّها لا تمد الماء بعد أخذه فلا يستمد منها في شي‌ء ، والماء الحاصل منها غير مستند إلى‌

__________________

(١) الحدائق ١ : ١٩٦.

١١٣

المادّة فينفعل بالملاقاة لا محالة ، ومن هنا ذكر أن شمول الأخبار المستفاد منها حكم الجاري لهذه الصورة غير واضح. وعلى هذا الاحتمال كان اعتبار دوام النبع عبارة أُخرى عن اعتبار اتصال الماء بالمادّة لأن المادّة إذا لم تمدّ الماء فلا محالة تكون منقطعة وغير متصلة بالماء.

الخامس : أن يراد بالدوام نبع المادّة وجريانها فعلاً ، وأمّا إذا لم تنبع بالفعل ولو لأجل مانع لا لأجل ضعفها وفتورها ، بل لحصر أطرافها على ما هو الغالب في الآبار إذ المادّة إنما تنبع إلى أن يساوي المقدار الخارج منها المجتمع في البئر للماء الموجود في المادّة وفي عروق الأرض ، وينقطع النّبع بعد ذلك فيحكم عليه بالانفعال ، وعلى الجملة لا يكفي اقتضاء النبع في الحكم بالاعتصام بل يعتبر فيه فعلية النّبع.

وفساد هذا الاحتمال من الظهور بمكان لأن احتمال اعتبار الجريان الفعلي إنما يصح فيما إذا كان الحكم مترتباً في لسان الدليل على عنوان الجاري ويقال وقتئذٍ إن حكمه لا يأتي في مثل الآبار المسدودة الأطراف لعدم الجريان الفعلي فيها ، ولكن الحكم في الدليل إنما رتب على عنوان ماله المادّة ، ومن الظاهر أن الآبار المذكورة مما له مادّة قطعاً ، وهذا العنوان صادق عليها بلا ريب وليس اعتصام الآبار متفرعاً على اعتصام الجاري حتى يحتمل فيها اعتبار الجريان الفعلي أيضاً بل الأمر بالعكس ، وإنما استفدنا حكم الجاري من قوله عليه‌السلام لأن له مادّة في صحيحة ابن بزيع الواردة في البئر حيث تعدينا من موردها إلى كل ماله مادّة.

وأمّا اعتبار فعلية النبع وعدم كفاية الاقتضاء بالمعنى المتقدم وهو كون المادّة بحيث يخرج منها بدل المتحلل من الماء ويستمد منه ، فلم يقم عليه دليل بل الغالب في الآبار أن مادّتها تقتضي النبع بمقدار المتحلل من مائها ولا تنبع فيها دائماً فإنه يؤدي إلى غرق العالم كلّه.

السادس : أن يراد بالدوام ما ذكره الماتن قدس‌سره في الكتاب وهو أن تكون المادّة طبيعية موجبة للجريان بطبعها في مقابل المواد الجعلية كما إذا جعلنا مقداراً من الماء على مكان منخفضة الأطراف أو فاض البحر أو النهر واجتمع الماء من فيضانهما في الغدران وأوجب النبع في الأمكنة المنخفضة عنها ، فإنها أيضاً مواد فعلية تنقطع بعد‌

١١٤

[٩٥] مسألة ٥ : لو انقطع الاتصال بالمادّة (١) كما لو اجتمع الطين فمنع من النبع كان حكمه حكم الراكد ، فإن أُزيل الطين لحقه حكم الجاري ، وإن لم يخرج من المادّة شي‌ء ، فاللاّزم مجرد الاتصال.

[٩٦] مسألة ٦ : الراكد المتصل بالجاري كالجاري (*) (٢) فالحوض المتصل بالنهر بساقية يلحقه حكمه ، وكذا أطراف النهر ، وإن كان ماؤها واقفاً.

[٩٧] مسألة ٧ : العيون التي تنبع في الشتاء مثلاً وتنقطع في الصيف يلحقها الحكم في زمان نبعها (٣).

[٩٨] مسألة ٨ : إذا تغيّر بعض الجاري دون بعضه الآخر فالطرف المتصل‌

______________________________________________________

مدّة كيوم أو أُسبوع ونحوهما وهذا بخلاف المواد الطبيعية في الآبار والأنهار وهي التي تنصرف إليها لفظة المادّة في صحيحة ابن بزيع كما قدمناه.

وهذه احتمالات ستة في كلام الشهيد ( طاب ثراه ) وقد ظهر ما هو الصحيح منها من سقيمها وأمّا أنّ أيّاً منها قد أراده الشهيد قدس‌سره فهو أعلم بمراده والله سبحانه هو العالم بحقيقة الحال.

(١) هذا هو انقطاع النبع بالعرض ، وقد قدّمنا حكمه في المسألة الثالثة من هذا الفصل ، فراجع.

(٢) وحكمه حكم الجاري في الاعتصام بلا خلاف لاتصاله به قليلاً كان أم كثيراً وأمّا الأحكام الخاصّة المترتّبة على عنوان الجاري ككفاية الغسل به مرّة في المتنجس بالبول فهي لا تترتّب عليه ، وذلك لعدم صدق الجاري على الراكد وهو ظاهر ، اللهمّ إلاّ أن نقول بكفاية المرّة في الكر أيضاً وهو أمر آخر.

(٣) قد عرفت أن احتمال عدم اعتصام تلك العيون في زمان نبعها مدفوع بوجهين عمدتهما إطلاق صحيحة ابن بزيع فما أفاده في المتن هو الصحيح.

__________________

(*) في الاعتصام وعدم انفعاله بالملاقاة.

١١٥

بالمادّة لا ينجس بالملاقاة وإن كان قليلاً ، والطرف الآخر حكمه حكم الرّاكد إن تغيّر تمام قطر ذلك البعض المتغيّر ، وإلاّ فالمتنجس هو المقدار المتغيّر فقط ، لاتصال ما عداه بالمادّة (١).

______________________________________________________

تغيّر بعض الجاري‌

(١) قد أسلفنا أن الجاري وغيره إذا تغيّر في شي‌ء من أحد أوصافه بتمامه يحكم عليه بالنجاسة ، وطريق تطهيره كما أشرنا إليه هو أن يتصل بالمادّة بعد زوال تغيّره وأمّا إذا تغيّر بعضه فلا يخلو إما أن يتغيّر بعض الجاري في تمام قطر الماء أعني به عرضه وعمقه ، وإما أن يتغيّر في بعض قطره.

أمّا على الأوّل : فلا ينبغي الإشكال في أن الماء المتصل بالمادّة المتقدم على المقدار المتغيّر معتصم بتمامه قليلاً كان أم كثيراً لاتصاله بالمادّة وهو ظاهر ، وأمّا الماء المتأخر عن المتغيّر بعرضه وعمقه فإن كان كراً فلا كلام أيضاً في اعتصامه وطهارته ، وعليه فالمتقدم والأخير طاهران والمتنجس هو الوسط ، وأمّا إذا كان قليلاً فهو محكوم بالانفعال لاتصاله بالنجس وهو البعض المتغيّر بعرضه وعمقه ، وعليه فالوسط والأخير محكومان بالنجاسة والمتقدم هو الطاهر. وقد تأمل صاحب الجواهر قدس‌سره في الحكم بنجاسة الماء المتأخر في هذه الصورة بعد ما ضعّف الحكم بالطهارة فيه فإنه يصدق عليه عنوان الجاري واقعاً ، فلا وجه للحكم بانفعاله لأنّه جار غير متغيّر. على أنّا لو احتملنا عدم دخوله في عنوان الجاري فهو معارض باحتمال دخوله فيه ، فالاحتمالان يتعارضان فيتساقطان ، ويرجع معه إلى قاعدة الطهارة فيه هذا ما ذكره قدس‌سره في المقام (١).

والذي ينبغي أن يقال : إن الموضوع للحكم بالاعتصام ليس هو عنوان الجاري كما عرفته سابقاً وإنما حكم عليه بعدم الانفعال لأن له مادّة على ما استفدناه من صحيحة ابن بزيع ، وقد أسلفنا أن المادّة بمعنى ما يمد الماء وما منه يستمد بخروج المقدار المتحلل‌

__________________

(١) الجواهر ١ : ٨٩.

١١٦

من الماء ، والمادّة بهذا المعنى غير متحقّقة في الماء المتأخر فإنّه لا يستمد من المادّة بوجه لانفصاله عنها فلا يصدق أنّه ماء له مادّة فحكمه حكم الراكد فينفعل إذا كان قليلاً وهذا بخلاف الماء المتصل بالمادّة المتقدم على البعض المتغيّر ، لأنّه يستمد من المادّة دائماً ويصدق حقيقة أن له مادّة ، فالحكم بطهارة الماء المتأخر بلا وجه.

ثم لو فرضنا إجمال الدليل ولم نستفد من مجموع صدر الصحيحة وذيلها دوران الاعتصام مدار الاتصال بالمادّة بالمعنى المتقدم ، واحتملنا كفاية صدق الجاري على الماء في الحكم بالاعتصام ، فالمقام من أحد موارد إجمال المخصص الذي يتردد الأمر فيه في غير المقدار المتيقن بين استصحاب حكم المخصص وبين الرجوع إلى حكم العام وهو نزاع معروف ، وذلك لأن الدليل قد دلّ بعمومه على انفعال كل ماء قليل بملاقاة النجس وقد خرج عنه القليل الذي له مادّة ، وحيث إنّا فرضنا إجمال المخصص المذكور وكان المتيقن منه هو القليل الذي يستمد من مادته فلا محيص من الاقتصار عليه في الحكم بالاعتصام ، وأمّا ما لا استمداد فيه من المادّة فيدور الأمر فيه بين استصحاب حكم المخصص والحكم بعدم الانفعال ، لأنّه قبل أن يتغيّر المتوسط منه بالنجس كان متصلاً بمادته ، وكان مشمولاً للمخصص قطعاً ، وبين الرجوع إلى عمومات انفعال القليل ، فإن رجّحنا أحدهما على الآخر فهو ، وأمّا إذا توقفنا عن ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر فيرجع إلى قاعدة الطهارة لا محالة.

ولعلّ صاحب الجواهر قدس‌سره يرجّح استصحاب حكم المخصص في أمثال المقام الذي لا يكون الزمان مأخوذاً فيه على وجه التقييد كما ذهب إليه جملة من الأعلام كشيخنا الأنصاري وصاحب الكفاية وغيرهما قدس‌سرهم بدعوى أن الشكّ إنما هو في حكمه بعد التخصيص لا في مقدار ما وقع عليه التخصيص أو أنّه يتوقّف عن الترجيح ويرجع إلى قاعدة الطهارة. وحيث إنّا اخترنا في محلّه الرجوع إلى العام مطلقاً سواء أُخذ الزمان فيه ظرفاً أم على وجه التقييد ، فالمتعيّن هو الحكم بانفعال الماء المتأخر أيضاً بمقتضى عمومات انفعال القليل. والذي يسهّل الخطب عدم إجمال المخصص بوجه ، لأنّ الصحيحة بصدرها وذيلها دلّت على أن المناط في الاعتصام هو اتصال الماء بالمادّة ، وهذا غير صادق على الماء المتأخر عن المتغيّر كما‌

١١٧

فصل

في الماء الراكد : الكرّ والقليل

الراكد بلا مادّة إن كان دون الكر ينجس بالملاقاة من غير فرق بين النجاسات (١).

______________________________________________________

عرفت ، هذا كلّه على الأوّل.

وأمّا على الثاني : وهو تغيّر بعض الجاري في بعض قطره ، فالمتقدم والمتأخر كلاهما طاهران ، كان المتأخر بمقدار كر أم لم يكن ، وذلك لأجل اتصاله بالمادّة بالمعنى المتقدم فإن المفروض عدم تغيّر المتوسط بتمامه ، وإنما تغيّر ببعضه دون بعضه كما إذا غسلنا شاة مذبوحة في الشط وتغيّر بذلك بعض جوانب الماء ، لأن المتنجس حينئذٍ هو خصوص البعض المتغيّر دون سابقه ولاحقه. هذا تمام الكلام في الجاري.

فصل في الراكد بلا مادّة‌

(١) الكلام في هذه المسألة يقع من جهات :

الراكد بمقدار الكر‌

الجهة الاولى : أن الراكد إذا كان بمقدار كر فلا خلاف في اعتصامه وعدم انفعاله بملاقاة النجس ، ويأتي الكلام فيه مفصلاً بعد بيان حكم القليل إن شاء الله تعالى.

ما هو الغرض في المقام‌

الجهة الثانية : أن الغرض من البحث عن انفعال القليل في المقام إنما هو إثبات انفعاله على نحو الموجبة الجزئية في قبال ابن أبي عقيل القائل بعدم انفعاله رأساً ، وأمّا أنّه هل ينفعل بالنجس والمتنجس كليهما أو لا ينفعل بالمتنجس؟ وأنّه هل ينفعل بالدم الذي لا يدركه الطرف؟ وغير ذلك من التفاصيل فهي مباحث أُخر يأتي الكلام عليها في طي مسائل مستقلة إن شاء الله.

١١٨

انفعال الماء القليل‌

الجهة الثالثة : فيما دلّ على انفعال القليل بالملاقاة ، ويقع الكلام فيها في مقامين :

أحدهما : في بيان ما يدل على انفعاله.

وثانيهما : في معارضته لما دلّ على عدم الانفعال.

أمّا المقام الأول : فالمعروف بين الأصحاب المتقدمين منهم والمتأخرين أن القليل ينفعل بملاقاة النجس ، وخالفهم في ذلك ابن أبي عقيل فذهب إلى عدم انفعاله بشي‌ء (١) ، ووافقه على ذلك المحدث الكاشاني قدس‌سره (٢).

والذي يقتضي الحكم بانفعال القليل عدّة روايات ربّما يدعى بلوغها ثلاثمائة رواية كما حكاه شيخنا الأنصاري قدس‌سره في طهارته عن بعضهم (٣). وهي وإن لم تبلغ تلك المرتبة من الكثرة إلاّ أن دعوى تواترها إجمالاً قريبة جدّاً ، لأنّ المنصف يرى من نفسه أنّه لا يحتمل الكذب في جميع هذه الروايات ، على أن فيها صحاحاً وموثقات ومعهما لا يهمنا إثبات تواترها الإجمالي فإنهما كافيتان في إثبات الحكم شرعاً.

الأخبار الدالّة على انفعال القليل‌

ومن تلك الأخبار صحيحة محمد بن مسلم وغيرها الواردة بمضمون « أن الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شي‌ء ». وهذا المضمون قد ورد ابتداءً في بعضها (٤) وبعد السؤال عن الماء الذي تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب في بعضها الآخر (٥) وفي ثالث بعد السؤال عن الوضوء من الماء الذي تدخله الدجاجة والحمامة وأشباههما وقد وطأت عذرة (٦).

__________________

(١) المختلف ١ : ١٣.

(٢) مفاتيح الشرائع ١ : ٨١.

(٣) كتاب الطهارة : ٩ السطر ٢٢.

(٤) كما في صحيحة معاوية بن عمّار المروية في الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٢ ، ٦.

(٥) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ ، ٥.

(٦) الوسائل ١ : ١٥٩ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٤.

١١٩

وصحيحة إسماعيل بن جابر قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الماء الذي لا ينجسه شي‌ء فقال : كر ... » (١).

وصحيحته الأُخرى « عن الماء الذي لا ينجسه شي‌ء؟ قال : ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته » (٢) وقد أسندها في الحدائق إلى عبد الله بن سنان (٣) ولعلّه من سهو القلم.

وصحيحة محمد بن مسلم قال : « سألته عن الكلب يشرب من الإناء قال : اغسل الإناء » (٤) ومن الظاهر أن الكلب إنما يشرب من وسط الإناء ولا يمسه فلا وجه للحكم بغسله إلاّ نجاسة الماء الموجود فيه ، فإنّ الكلب نجّس الماء بإصابته وهو قد لاقى الإناء وأوجب نجاسته ، وبهذا تدلنا هذه الرواية وغيرها من الأخبار الآمرة بغسل الآنية التي شرب منها الحيوان النجس على انفعال القليل بملاقاة النجس إلى غير ذلك من الأخبار ، وستأتي جملة أُخرى منها في مطاوي هذا البحث وفي البحث عن تنجس الماء القليل بالمتنجس ، هذا كلّه في المقام الأول.

وأمّا المقام الثاني : فقد عرفت أن ابن أبي عقيل ذهب إلى عدم انفعال القليل كالماء الكثير ، ووافقه على ذلك المحدث الكاشاني ( طاب ثراه ) واستدلّ عليه بوجوه من الأخبار وغيرها.

الأخبار الدالّة على عدم انفعال القليل‌

فمنها : ما استدلّ به الكاشاني قدس‌سره من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « خلق الله الماء طهوراً لا ينجّسه شي‌ء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٥) وادّعى أنّها مستفيضة وقد دلت على حصر موجب الانفعال بالتغيّر في أحد الأوصاف الثلاثة‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٩ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٧.

(٢) الوسائل ١ : ١٦٤ / أبواب الماء المطلق ب ١٠ ح ١.

(٣) الحدائق ١ : ٢٨١.

(٤) الوسائل ١ : ٢٢٥ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٣.

(٥) قد قدمنا نقلها عن المستدرك والمحقق وابن إدريس ونقلنا مضمونها عن كتب العامّة أيضاً فراجع ص ١١.

١٢٠