موسوعة الإمام الخوئي - ج ١

الشيخ علي الغروي

اشتراط الحياة في من يجوز تقليده أو غير ذلك من الوجوه ، ومعه لا يمكن الاعتماد على إجماعهم ، لوضوح أن الاتفاق بما هو كذلك مما لا اعتبار به ، وإنما نعتبره إذا استكشف به قول المعصوم عليه‌السلام.

الثاني : أن الأدلة الدالة على حجية فتوى الفقيه ظاهرة الدلالة على اعتبار الحياة في جواز الرجوع إليه‌ ، لظهور قوله عزّ من قائل ( وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ) (١). في إرادة إنذار المنذر الحي ، إذ لا معنى لانذار الميت بوجه. وأمّا صحة حمل المنذر على الكتاب أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنما هي بلحاظ أنهما إنما ينذران بأحكام الله سبحانه وهو حي ، ولما ورد « من أن الكتاب حي وأنه يجري مجرى الشمس والقمر » (٢) ، وكذا قوله ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) (٣) لو تمت دلالته على حجية فتوى الفقيه ، وذلك لأن الميت لا يطلق عليه أهل الذكر بالفعل. وقوله : « أما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه » إذ الميت غير متّصف بشي‌ء مما ذكر في الحديث ، فإن لفظة « كان » ظاهرة في الاتصاف بالأوصاف المذكورة بالفعل ، لا الاتصاف بها في الأزمنة السابقة.

وأمّا الأخبار الآمرة بالرجوع إلى أشخاص معيّنين ، فقد تقدم أن ظهورها في إرادة الحي مما لا خدشة فيه ، لأن الميت لا معنى للإرجاع إليه.

وبما ذكرناه يظهر أن السيرة العقلائية المستدل بها على جواز الرجوع إلى الميت بحسب الابتداء مردوعة في الشريعة المقدّسة ، لظهور الأدلّة في اعتبار الحياة في من يرجع إليه في الأحكام وعدم جواز تقليد الميت ابتداء.

ويرد عليه : أن ظهور الأدلة في اشتراط الحياة في من يجوز تقليده وإن كان غير قابل للإنكار ، لما بيّنا من أن كل قضية ظاهرة في الفعلية بالمعنى المتقدم ، إلاّ أنها ليست بذات مفهوم لتدلّنا على حصر الحجية في فتوى الحي من المجتهدين وعدم حجية فتوى أمواتهم ، ومعه يمكن أن تكون فتوى الميت حجة كفتوى الحي ، غاية الأمر أن‌

__________________

(١) توبة ٩ : ١٢٢.

(٢) تفسير العياشي ١ : ١١ / ح ٥.

(٣) النحل ١٦ : ٤٣.

٨١

الأدلّة المتقدمة غير دالة على الجواز ، لا أنها تدل على عدم الجواز ، وبين الأمرين بون بعيد.

وأمّا رواية الاحتجاج « من كان من الفقهاء ... » فهي وإن لم يبعد دلالتها على حصر الحجية في فتوى الفقيه المتصف بالأوصاف الواردة فيها ، إلاّ أنها لضعفها غير صالحة للاستدلال بها كما مرّ. إذن لا يستفاد من شي‌ء من الكتاب والسنة عدم جواز التقليد من الأموات. نعم ، لو كان الدليل منحصراً بهما لم يمكننا الحكم بجواز تقليد الميت لعدم الدليل عليه إلاّ أن الدليل غير منحصر بهما كما لا يخفى. ثمّ إن الأدلة وإن لم تكن لها دلالة على عدم الحجية ، إلاّ أنه ظهر بما قدّمناه أنه لا مجال للاستدلال بإطلاقها على حجية فتوى الميت إذ لا إطلاق لها ، بل الأمر كذلك حتى على تقدير إطلاقها لما عرفت من أنه غير شامل للمتعارضين على ما قدّمنا تقريبه.

الثالث : أن فتوى الميت لو قلنا بحجيتها لا يخلو إما أن نقول باعتبارها‌ ، حتى إذا كان الميت مساوياً في الفضيلة مع الأموات والأحياء ولم يكن أعلم من كلتا الطائفتين وإمّا أن نقول بحجيتها فيما إذا كان الميت أعلم.

أمّا الصورة الأُولى : فالقول فيها بحجية فتوى الميت وجواز الرجوع إليه وإن كان أمراً ممكناً بحسب مرحلة الثبوت على ما التزمت به العامة وقلّدوا أشخاصاً معيّنين من الأموات ، إلاّ أنه لا يمكن الالتزام به بحسب مرحلة الإثبات لقصور الدليل ، وذلك لما تقدم من العلم بالاختلاف بين الأموات أنفسهم فضلاً عن الاختلاف بين الميت والأحياء ، وقد تقدم أن الأدلة غير شاملة للمتعارضين.

وأما دعوى أن المكلف عند تساوي المجتهدين في الفضيلة يتخير بينهما للإجماع الّذي ادعاه شيخنا الأنصاري قدس‌سره على ما يأتي في محلّه (١). فيدفعها : أن الإجماع على تقدير تسليمه أيضاً غير شامل لفتوى الميت ، لاختصاصه بالمتساويين من الأحياء فإن الأموات قد ادعوا الإجماع على عدم جواز تقليدهم كما مرّ ، ومعه كيف يمكن دعوى الإجماع على التخيير بينهم في أنفسهم أو بينهم وبين الأحياء. على‌

__________________

(١) راجع ص ٩٣.

٨٢

أنّا لا نلتزم بالتخيير بوجه حتى إذا كان كلا المجتهدين حياً فضلاً عمّا إذا كان أحدهما ميتاً كما يأتي عن قريب إن شاء الله.

وأمّا الصورة الثانية : أعني ما إذا كان الميت أعلم من الكل فالحكم فيها بجواز الرجوع إليه وإن كان ممكناً بحسب مرحلتي الثبوت والإثبات ، للسيرة العقلائية الجارية على الرجوع إلى قول الأعلم من المتخالفين ، بلا فرق في ذلك بين الحي والميت ، ومن هنا قلنا إنهم إذا شخصوا المرض في المريض لراجعوا في العلاج إلى مثل القانون من الكتب الطبية للأطباء الأقدمين ، وقدّموه على قول غيره من الأطباء الأحياء إذا كان مؤلّفه أعلم ولا يراجعون إلى الحي حينئذٍ ، إلاّ أن السيرة مما لا يمكن الاستدلال بها في المقام ، وذلك لاستلزامها حصر المجتهد المقلد في شخص واحد في الأعصار بأجمعها لأن أعلم علمائنا من الأموات والأحياء شخص واحد لا محالة ، فإذا فرضنا أنه الشيخ أو غيره تعيّن على الجميع الرجوع إليه حسبما تقتضيه السيرة العقلائية ، وذلك للعلم الإجمالي بوجود الخلاف بين المجتهدين في الفتيا ويأتي أن مع العلم بالمخالفة يجب تقليد الأعلم فحسب من دون فرق في ذلك بين عصر وعصر ، وهو مما لا يمكن الالتزام به لأنه خلاف الضرورة من مذهب الشيعة ولا يسوغ هذا عندهم بوجه لتكون الأئمة ثلاثة عشر.

وبهذا تكون السيرة العقلائية مردوعة ، فلا يبقى أي دليل يدل على جواز تقليد الميت إذا كان أعلم من كلتا الطائفتين ، هذا كلّه في المقام الأول وهو تقليد الميت ابتداءً.

٢ ـ البقاء على تقليد الميت‌

والكلام فيه أيضاً يقع في صورتين :

إحداهما : ما إذا احتمل موافقة الميت مع المجتهد الحي في الفتوى ولم يعلم المخالفة بينهما.

وثانيتهما : ما إذا علمت المخالفة بينهما.

أما الصورة الأُولى : فيمكن أن يستدل فيها على جواز البقاء على تقليد الميت بجميع الوجوه المتقدمة في الاستدلال على جواز تقليده بحسب الابتداء.

٨٣

أدلة المثبتين‌

الأوّل : الاستصحاب‌ ، أعني استصحاب حجية فتوى الميت قبل موته ، ولا يرد عليه ما أوردناه على استصحابها في تقليده ابتداء ، من أن الحجية الفعلية مقطوعة الخلاف إذ لا وجود للمكلف في عصر المجتهد فضلاً عن عقله وغيره من الشروط وقد مرّ أن الفعلية متوقفة على وجود المكلف في عصر المجتهد ، والحجية الإنشائية على نحو القضية الحقيقية مردّدة بين الطويل والقصير ، والقدر المتيقن منها هي الحجية ما دام الحياة ، وأمّا جعلها لفتوى الميت حتى بعد الممات فهو مشكوك فيه من الابتداء والأصل عدم جعلها زائداً على القدر المتيقن.

والوجه في عدم وروده على استصحاب الحجية في المقام ، أن الحجية المستصحبة إنما هي الحجية الفعلية في محل الكلام لأن العامّي قد كان موجوداً في عصر المجتهد الميت واجداً لجميع الشرائط ، بل قد كان قلّده برهة من الزمان ولكنّا نشك في أن الحجية الفعلية هل كانت مطلقة وثابتة حتى بعد الممات ، أو أنها مقيدة بالحياة فلا مانع من استصحاب حجية فتواه بعد الممات.

وبهذا يتضح أن المستصحب هو الحكم الظاهري أعني حجية فتوى الميت قبل موته ، ومعه ليس هناك أيّ خلل في أركان الاستصحاب لليقين بالحجية الفعلية والشك في بقائها ، وليس المستصحب هو الحكم الواقعي الّذي أفتى به المجتهد حال الحياة ليرد عليه أن الاستصحاب يعتبر في جريانه اليقين بتحقق المستصحب وحدوثه لدى الشك في البقاء ، وهذا في موارد ثبوت المستصحب باليقين الوجداني من الظهور بمكان لأن المكلف حينما يشك في بقاء المستصحب يتيقن من حدوثه بالوجدان ، وكذا في موارد ثبوته بالعلم التعبدي ، كما إذا ثبتت نجاسة شي‌ء بالبينة أو ثبتت نجاسة العصير المغلي بالرواية وشككنا بوجه في بقائها ، فإن لنا حينئذٍ يقيناً في ظرف الشك بحدوث المستصحب وتحققه وإن كان يقيناً تعبدياً ، لوضوح أنه لا فرق في جريان الاستصحاب بين كون اليقين السابق وجدانياً أو تعبدياً ، كما لا فرق من هذه الناحية بين الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية.

وأمّا في موارد استصحاب الحكم الواقعي الثابت بفتوى المجتهد بعد موته فلا يقين‌

٨٤

من حدوث المستصحب حينما يشك في بقائه وارتفاعه ، فلو أفتى المجتهد بنجاسة العصير العنبي بالغليان وشككنا فيها بعد موته للشك في حجية فتواه بعد الممات ، لم يكن لنا يقين وجداني لدى الشك من ثبوت النجاسة للعصير بالغليان حال حياة المجتهد ، وهذا أمر ظاهر لا يحتاج إلى البيان والاستدلال ، كما لا يقين تعبدي بنجاسته للشك في حجية فتوى الميت بعد موته ، وحيث إنه شك سار لاحتمال انقطاع حجية فتواه وطريقيتها بالممات ، فلا طريق لنا بالفعل إلى استكشاف نجاسة العصير بالغليان حتى نستصحبها إذا شككنا في بقائها وارتفاعها.

والمتلخص : أن استصحاب الحجية على مسلك المشهور مما لا شبهة فيه. نعم على ما سلكناه من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية لا يمكننا التمسك بالاستصحاب في المقام لأن الشبهة حكمية ، إذ الشك في أن الشارع هل جعل الحجية الفعلية مطلقة أو جعلها مقيّدة بالحياة ، فيكون استصحاب بقاء الحجية الفعلية معارضاً باستصحاب عدم جعل الحجية لفتوى الميت زائداً على القدر المتيقن وهو حال الحياة. إذن لا مجال للاستصحاب ولا بدّ من التماس دليل آخر على جواز البقاء.

الثاني : المطلقات‌ ، لأن آية النفر تقتضي وجوب العمل على طبق إنذار المنذر إذا أنذر وهو حي ، ولم تدل على اختصاصه بما إذا كان المنذر باقياً على الحياة حال العمل بفتواه وإنذاره. وعلى الجملة أنها تدلنا بإطلاقها على أن إنذار الفقيه حجة مطلقاً سواء كان حياً عند العمل به أم لم يكن ، وكذلك آية السؤال والأخبار الآمرة بالأخذ من محمد بن مسلم أو زكريا بن آدم أو غيرهما ، لأنهما إنما دلتا على وجوب السؤال من أهل الذكر أو الأخذ من الأشخاص المعينين ، ولم يدلا على تقييد ذلك بما إذا كان أهل الذكر أو هؤلاء الأشخاص حياً عند العمل بقوله. نعم ، يعتبر أن يكون الأخذ والسؤال كالانذار حال الحياة ، وهو متحقق على الفرض.

فالمتحصل : أن المطلقات شاملة للميت والحي كليهما ، لعدم العلم بمخالفتهما في الفتوى على الفرض وأن مقتضاها جواز البقاء على تقليد الميت.

الثالث : السيرة العقلائية‌ الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم فيما جهله من الحِرف والعلوم والموضوعات وغيرها ، بلا فرق في ذلك بين أن يكون العالم باقياً على‌

٨٥

حياته عند العمل بقوله وعدمه ، لوضوح أن المريض لو رجع إلى الطبيب وأخذ منه العلاج ثمّ مات الطبيب قبل أن يعمل المريض بقوله ، لم يترك العقلاء العمل على طبق علاجه ، وهذه السيرة لم يردع عنها في الشريعة المقدسة لأن ما قدّمناه من الردع يختص بسيرتهم الجارية على الرجوع إلى العالم الميت من الابتداء ، لأنها وإن كانت محرزة كما مرّ إلاّ أن قيام الضرورة على بطلان انحصار المقلد في شخص واحد رادع عنها كما عرفت وهذا لا يأتي في المقام كما ترى ، إذ لا يلزم من البقاء على تقليد الميت محذور الانحصار ، فالأدلة مقتضية لجواز البقاء ولا مانع عنه سوى الإجماع المدعى في كلام شيخنا الأنصاري قدس‌سره حيث استظهر من كلمات المجمعين وإطلاقها عدم جواز تقليد الميت مطلقاً ولو بحسب البقاء (١) إلاّ أنه غير صالح للمانعية ، وذلك لما عرفت من أنّا لم نعتمد على إجماعهم هذا في تقليد الميت الابتدائي فضلاً عن أن نستدل به على عدم جواز التقليد البقائي ، حيث إن جماً غفيراً ممن منعوا عن تقليد الميت ذهبوا إلى جوازه.

إذن الصحيح في تقليد الميت هو التفصيل بين الابتداء والبقاء فلا يجوز في الأول ويجوز في الثاني ، بل يجب في بعض الصور كما يأتي تفصيله إن شاء الله.

بقي أمران‌

أحدهما : أنه هل يشترط في جواز البقاء على تقليد الميت أو وجوبه ، العمل بفتواه قبل موته أو لا يشترط فيه العمل؟

قد يتوهّم والمتوهم كثير أن الحكم في المسألة يختلف بالاختلاف في معنى التقليد وتفسيره ، فإن قلنا إن التقليد هو الاستناد إلى قول الغير في مقام العمل وأنه لون من ألوانه فلا بدّ من اشتراط العمل في الحكم بجواز البقاء فإن تقليد الميت من دون العمل بفتواه قبل موته من التقليد الابتدائي لا محالة وقد عرفت عدم جوازه. وأمّا إذا فسّرناه بالأخذ أو الالتزام بالعمل بفتوى الغير ، فلا وجه لاشتراط العمل في الحكم بجواز البقاء ، بل يكفي فيه مجرد الالتزام بالعمل قبل موت المجتهد.

__________________

(١) راجع ص ٩٣.

٨٦

وهذا التوهم لا يبتني على أساس صحيح فإن مسألتنا هذه غير مبتنية على ملاحظة معنى التقليد بوجه ، حيث إن البقاء على تقليد الميت بهذا العنوان لم يرد في آية أو رواية ليختلف بالاختلاف في معنى التقليد ، وإنما نلتزم بجوازه أو بعدمه من جهة الأدلة المتقدمة المثبتة لأحدهما. إذن لا بدّ من الرجوع إلى ما دلّ على جواز البقاء لنرى أنه هل يدلنا على شرطية العمل أو لا يدل.

فنقول : إن استندنا في الحكم بجواز البقاء على استصحاب الحجية فلا يشترط العمل في جواز البقاء ، لوضوح أن الاستصحاب لا يقتضي هذا الاشتراط حيث إن حجية فتوى المجتهد قبل موته غير مشروطة بالعمل ، لأنها تتصف بالفعلية بمجرّد تحقق موضوعها ، وهو المكلف بما له من الشروط من العقل والبلوغ وغيرهما ، سواء عمل بها المكلف أم لم يعمل ، ومع الشك في أن تلك الحجية مطلقة أو مقيدة بالحياة نستصحب حجيتها الفعلية بعد الممات.

وكذلك إذا كان المستند هو الإطلاقات أو السيرة العقلائية ، لأن مقتضى إطلاق الأدلة أن إنذار المنذر الحي أو قول أهل الذكر أو غيرهما من العناوين حجة على المكلف ، عمل به ما دام المنذر حياً أم لم يعمل به ، كما أن مقتضى السيرة أن الجاهل يجوز أن يرجع إلى العالم ويعمل على طبق قوله ونظره ، سواء سبق منه العمل بقوله في حياته أم لم يسبق. إذن التحقيق أن جواز البقاء على تقليد الميت أو وجوبه لا يشترط فيه العمل برأيه في حياته.

وثانيهما : أن البقاء على تقليد الميت هل يشترط في جوازه أو وجوبه أن يكون المقلّد ذاكراً لفتواه بعد موته‌ ، بحيث لو نسيها حينئذٍ بعد ما أخذها وتعلّمها لم يجب أو لم يجز له البقاء ، أو أن الذكر كالعمل غير معتبر في جواز البقاء أو وجوبه؟ الصحيح اعتبار الذكر في البقاء ، وذلك لأن بالنسيان ينعدم أخذه السابق ورجوعه إلى الميت قبل موته لأنه لا يترتّب معه أثر عليهما ، فإن المقلّد حينئذٍ إنما يعلم أن الميت أفتى في مسألة العصير مثلاً إما بنجاسته على تقدير غليانه أو بطهارته ، وهو كالعلم الإجمالي بأن الحكم الواقعي إمّا هو الحرمة أو الإباحة ليس بمورد للأثر بل يحتاج إلى رجوع جديد ، وجواز الرجوع إلى الميت حينئذٍ يحتاج إلى دليل لأنه تقليد ابتدائي من‌

٨٧

الميت ، ولا فرق بين الرجوع إليه وبين الرجوع إلى غيره من المجتهدين الأموات من الابتداء ، حيث إن كليهما رجوع إلى المجتهد بعد الموت وهو المعبّر عنه بالتقليد الابتدائي ، وقد تقدم عدم جوازه. ومعه يشترط في جواز البقاء على تقليد الميت أو وجوبه أن لا يكون المقلّد ناسياً لفتوى الميت ، هذا كلّه في الصورة الأُولى.

وأمّا الصورة الثانية : أعني ما إذا علمنا بالمخالفة بين المجتهد الميت والحي الّذي يسوغ الرجوع إليه في الفتوى ، فلا شبهة في أن العمل بما هو الموافق منهما للاحتياط مؤمّن من العقاب سواء أكان فتوى الميت أم الحي ، كما إذا أفتى أحدهما بالوجوب والآخر بالإباحة. وأمّا إذا فرضنا أن كلتا الفتويين على خلاف الاحتياط أو أن كلتيهما على وفق الاحتياط من جهة وعلى خلافه من جهة أُخرى ، فلا يخلو إما أن لا يعلم أعلمية أحدهما علم تساويهما أيضاً أم لم يعلم وإمّا أن يعلم أعلمية الميت من الحي أو العكس :

أمّا الصورة الاولى : أعني ما إذا لم يعلم أعلمية أحدهما مع العلم بمخالفتهما في الفتوى ، فلا يكاد أن يشك في أن الفتويين ساقطتان حينئذٍ عن الاعتبار لأن الإطلاقات كما مرّ غير شاملة للمتعارضين ، فلا حجية لفتوى الميت ولا الحي ومعه يتعيّن على المكلف الاحتياط ، لأن الأحكام الواقعية متنجزة في حقه ولا يمكنه الخروج عن عهدتها إلاّ بالاحتياط ، هذا إذا تمكن من الاحتياط.

وأمّا إذا لم يتمكّن من الاحتياط إما لدوران الأمر بين المحذورين وإمّا لعدم سعة الوقت للاحتياط ، كما إذا أفتى أحد المجتهدين بوجوب القصر في مورد وأفتى الآخر بوجوب التمام فيه ولم يسع الوقت للجمع بين القصر والتمام ، فهل حينئذٍ يجب الرجوع إلى أحدهما المعيّن لحجية نظره في حقه ، أو أن كلتا الفتويين ساقطتان عن الحجية كما في الصورة المتقدمة والوظيفة هو الامتثال الاحتمالي وهو العمل على طبق إحداهما مخيّراً لأن المكلف إذا لم يتمكن من الامتثال الجزمي في مورد تنزّل العقل إلى الامتثال الاحتمالي؟

الأخير هو الصحيح ، لعدم دلالة الدليل على حجية إحداهما المعيّنة بعد سقوط الإطلاقات عن الحجية بالمعارضة ، ومعه يتنزل العقل إلى الامتثال الاحتمالي لأنه‌

٨٨

الميسور للمكلف ، وهذا هو التخيير في مقام الامتثال لا أنه من التخيير في المسألة الأصولية لمكان حجية إحداهما شرعا.

وأمّا الصورة الثانية : أعني ما إذا علمنا أعلمية أحدهما ، فالمتعين هو الرجوع إلى أعلمهما سواء كان هو الميت أم الحي ، وذلك لأن الإطلاقات وإن لم تشمل شيئا من فتواهما للمعارضة ، إلاّ أن السيرة العقلائية قد جرت على الرجوع إلى الأعلم من المتعارضين بلا فرق في ذلك بين الأعلم الحي والميت ، ولم يردع عنها في الشريعة المقدّسة. إذن لا مناص في المقام من التفصيل بين ما إذا كان الميت أعلم من الحي فيجب البقاء على تقليده ، وما إذا كان الأعلم هو الحي فلا يجوز البقاء على تقليد الميت.

هذا إذا لم تجر سيرة العقلاء على العمل بالاحتياط عند العلم بأعلمية أحد المجتهدين المتخالفين في الفتوى ، أو لم نحرز سيرتهم وإلاّ فالمتعين هو العمل على طبق الاحتياط ، هذا إذا علمت المخالفة بينهما أو لم تعلم.

وأما لو علمنا بموافقة المجتهد الميت مع الحي فلا يترتب أثر عملي على البحث عن جواز البقاء على تقليد الميت ، لوضوح أن العمل الصادر على طبق الفتويين محكوم بالصحة مطلقا ، قلنا بجواز البقاء على تقليد الميت أم لم نقل. اللهُمَّ إلاّ على القول بوجوب الاستناد إلى الحجة في مقام الامتثال ، كما ذهب إليه شيخنا الأستاذ قدس‌سره حيث ذكر أن الحجج لا يكاد تتصف بالحجية بوجودها الخارجي وإنما تكون الحجة حجة فيما إذا استند إليها المكلف في عمله (١). وعليه لو قلنا بجواز البقاء على تقليد الميت جاز الاستناد إلى فتواه لا محالة ، بحيث لو استندنا إليها وكان الحكم الواقعي على خلافها لم نستحق العقاب على مخالفته لاستنادنا إلى الحجة على الفرض كما إذا لم نقل بجواز البقاء لم يجز الاستناد إلى فتوى الميت لعدم كونها معذّرة وحجة على الفرض وعلى ذلك ينبغي التكلم في موردين :

١ جواز البقاء على تقليد الميت عند العلم بموافقته مع الحي.

٢ أن الاستناد إلى الحجة أمر لازم أو لا دليل على لزومه.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٧٠.

٨٩

أمّا المورد الأول : فقد اتضح مما سردناه في المقام جواز البقاء على تقليد الميت عند العلم بموافقته مع الحي ، لأن الإطلاقات تشمل حينئذ فتوى كل من الحي والميت كما أنها تشمل كل حجتين متوافقتين كالبينتين الموافقتين في المفاد أو الروايتين المتحدتين في المدلول ، وإنما منعنا عن شمولها لهما عند العلم بمخالفتهما في الفتوى للتعارض المفروض عدمه في المقام ، ومع شمول أدلة الاعتبار فتوى كليهما لا موجب للمنع عن جواز البقاء على تقليد الميت بوجه.

وأمّا المورد الثاني : فالتحقيق أن الحجة لا دليل على لزوم الاستناد إليها في مقام الامتثال والوجه فيه أن الأثر المترتب على الحجية أمران :

أحدهما : تنجيز الواقع.

ثانيهما : التعذير عن مخالفته.

أمّا المنجزية ، فلم يناقش شيخنا الأستاذ قدس‌سره ولا غيره في أن الواقع إنما يتنجز بوجود الحجة ، وكونها في معرض الوصول بحيث لو فحص عنها المكلف لظفر بها ، ولا يتوقف كونها منجزة بعلم المكلف بها فضلا عن استناده إليها ، فإنها منجزة للواقع علم بها المكلف أم لم يعلم ، بحيث لو لم يعمل على طبقها استحق العقاب على مخالفة التكليف المنجّز في حقه بقيام الحجة عليه ، ومن ثمة قلنا بوجوب الفحص في الشبهات الحكمية لأن احتمال وجود الحجة في الواقع على نحو لو فحص عنها ظفر بها كاف في تنجز الواقع واستحقاق العقاب على مخالفته ، لوضوح أن العقاب مع كون الحجة في معرض الوصول ليس عقابا بلا بيان وإنما هو من العقاب مع البيان.

وأما التعذير فالأمر فيه أيضا كسابقه ، لأنا إذا منعنا عن البقاء على تقليد الميت ووجب على العامّي أن يراجع الحي وكان فتواهما على إباحة فعل وهو واجب واقعاً وتركه المكلف لا عن استناد إلى فتوى الحي بالإباحة بل لاشتهاء نفسه ورغبته مع العلم بقيام الحجة على الإباحة ، فهل يصح عقابه على مخالفته الواقع أو أن العلم بقيام الحجة على الإباحة يكفي في جواز الارتكاب وإن لم يستند إليها في مقام العمل؟

لا ينبغي التردد في عدم صحة عقابه لأنه بلا بيان بل هو من العقاب مع بيان العدم وهو أقبح من العقاب من دون بيان ، نعم إذا لم يعلم بافتائهما على الإباحة وتركه‌

٩٠

[١٠] مسألة ١٠ : إذا عدل عن الميت إلى الحيّ لا يجوز له العود إلى الميت (١).

______________________________________________________

المكلف لاشتهاء نفسه استحق العقاب على مخالفة الواقع لمكان أنه منجز في حقه ولم يستند في مخالفته إلى مؤمّن فإن الأمن من العقاب إنما يحصل بالاستناد إلى الحجة أو العلم بقيامها على الإباحة ، هذا كلّه فيما إذا كانت فتواهما أو فتاوى المجتهدين المتعددين على خلاف الاحتياط.

وأمّا إذا كانت على وفق الاحتياط كما إذا أفتيا بوجوب السورة في الصلاة وأتى بها المكلف من باب الاحتياط لا الاستناد إلى فتواهما ، فلا إشكال في صحة عمله لأنه عمل بالاحتياط وموجب للقطع بالامتثال وإن لم يستند في عمله إلى شي‌ء من الحجتين أو الحجج ، إلاّ أنه خارج عن محل الكلام إذ البحث إنما هو في لزوم الاستناد عند اتفاق فتوى الميت والحي أو الفتاوى ، فالعمل بالاحتياط أجنبي عمّا نحن بصدده.

والمتحصل : أن الاستناد إلى الحجة لا دليل على لزومه ، سواء علمنا بالموافقة بين الحي والميت أو المجتهدين المتعددين أم لم نعلم بالوفاق أو علمنا بالخلاف.

إذن لا أثر للبحث عن جواز البقاء على تقليد الميت عند العلم بموافقتهما. نعم ، لو قلنا بعدم جواز البقاء على تقليد الميت واستند المكلف في عمله إلى فتواه ، كان هذا تشريعاً محرّماً لأنه إسناد للحجية إلى ما لم يعتبره الشارع حجة وقابلاً للاستناد إليه وهذا بخلاف ما إذا جوزنا البقاء إلاّ أنه أمر آخر غير راجع إلى التقليد في محل الكلام.

ثمّ إن بما سردناه في تقليد الميت بحسب البقاء يظهر الحال في تقليده بحسب الابتداء عند العلم بموافقته مع الحي ، لأنه أيضاً لا يترتب عليه ثمرة إلاّ على القول بلزوم الاستناد إلى الحجة في مقام الامتثال وقد تقدم فساده.

أحكام العدول

(١) والوجه في ذلك : أن التقليد عند الماتن قدس‌سره هو الالتزام فإذا عدل المكلف عن الميت إلى الحي فقد رفع يده عن التزامه وأبطل تقليده من الميت فكأنه لم يراجع إليه من الابتداء ، ومعه لو عدل من الحي إلى الميت كان هذا تقليداً ابتدائياً من الميت ، وهو ممنوع كما مرّ.

٩١

[١١] مسألة ١١ : لا يجوز العدول عن الحي إلى الحي إلاّ إذا كان الثاني أعلم (١).

______________________________________________________

وفيه : أن مسألة البقاء على تقليد الميت ليست واردة في آية أو رواية حتى يلاحظ أن معناه الالتزام ، كي يترتب عليه عدم جواز العدول إلى الميت في المقام أو أنه بمعنى العمل حتى يجوز فلا يختلف حكم المسألة بالاختلاف في معنى التقليد ، هذا.

وقد يقال : إن الوجه في عدم جواز العدول إلى الميت قاعدة الاشتغال ، لأن الأمر في المقام يدور بين التعيين والتخيير ، إذ الشك في أن فتوى الحي حجة تعيينية أو تخييرية لاحتمال أن تكون فتوى الميت أيضاً حجة ، والعقل يستقل حينئذٍ بلزوم الأخذ بما يحتمل تعيّنه لأنه مقطوع الحجية والآخر مشكوك الاعتبار ، والشك في الحجية يساوق القطع بعدمها.

ويرد عليه : أن هذا إنما يتم فيما إذا كان المجتهد الحي أعلم من الميت. وأمّا لو فرضنا أن الميت أعلم من الحي مع العلم بالمخالفة بينهما ، فلا يحتمل تعين فتوى الحي عليه بل الأمر بالعكس لاحتمال تعيّن البقاء على تقليد الميت الأعلم ولا أقل من تساويهما في الاحتمال ، فأين هناك دوران الأمر بين التعيين والتخيير؟

ولو فرضنا تساوي الميت والحي مع العلم بالمخالفة بينهما ، فمقتضى القاعدة سقوط فتواهما عن الاعتبار للمعارضة ولا يبقى معه أيضاً لدوران الأمر بين التعيين والتخيير مجال. فالصحيح أن يلاحظ حال العدول فإن كان عدول المكلف إلى الحي عدولاً صحيحاً شرعياً ، لم يكن أي مسوغ للعدول عنه إلى الميت حالئذٍ فإن صحة العدول إنما تكون في موردين :

أحدهما : فيما إذا كان الحي أعلم من الميت.

وثانيهما : فيما إذا كان الميت أعلم إلاّ أن المكلف نسي فتواه.

إذ معه لا مسوّغ للبقاء على تقليد الميت والمفروض أن عدوله إلى الحي صحيح ومع فرض صحة العدول لا مجوّز بوجه للعدول عنه إلى تقليد الميت. نعم ، إذا لم يصح عدوله إلى الحي لأن الميت أعلم أو لأن المكلف ذاكر لفتواه فلا مناص من أن يعدل إلى الميت ، ولا يضرّه الرجوع إلى الحي حينئذٍ لأنه كالعدم لبطلانه شرعاً.

(١) إذا قلّد المكلّف مجتهداً ثمّ أراد العدول عن تقليده إلى مجتهد آخر ، فإن كان‌

٩٢

ذلك المجتهد الّذي يريد العدول إلى تقليده أعلم ممن كان يقلّده أولاً ، جاز له البقاء على تقليد المجتهد الأول كما جاز له العدول إلى من هو أعلم منه وذلك لعدم العلم بالمخالفة بينهما في الفتوى ، ويأتي أنه إذا لم يعلم المخالفة بين فتوى الأعلم وغير الأعلم جاز تقليد غير الأعلم ولا يجب الفحص عن المخالفة بينهما ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله. (١) نعم ، إذا عدل ثمّ علم بالمخالفة بينهما لم يجز له أن يرجع إلى الأول ، لأنه يشترط في جواز تقليد غير الأعلم عدم العلم بالمخالفة بينه وبين الأعلم في الفتوى.

وأما إذا كان المجتهد الثاني مساوياً في الفضيلة مع المجتهد الأول ، فأيضاً يتخير المكلف بين البقاء على تقليد الأول وبين الرجوع إلى الثاني لعدم العلم بالمخالفة بينهما وأما لو عدل ثمّ التفت إلى المخالفة بينهما ، أو علم بالمخالفة قبل العدول فبناءً على ما يأتي من أن القاعدة تقتضي التساقط حينئذٍ ، لم يجز البقاء على تقليد المجتهد الأول ولا الرجوع إلى المجتهد الآخر لسقوط فتواهما عن الحجية بالمعارضة ، وأما على المسلك المشهور من أن القاعدة تقتضي التخيير عند تعارض الحجتين ، فيقع الكلام في المقام في أن التخيير هل هو استمراري وقتئذ بمعنى أن المكلف يتخير بين البقاء على تقليد المجتهد الأول والرجوع إلى المجتهد الآخر كما كان مخيراً بينهما حدوثاً فلا مانع من العدول عن الحي إلى الحي ، أو أن التخيير ابتدائي فحسب فلا يجوز العدول من الحي إلى الحي. والتكلم على ذلك وأن التخيير استمراري أو ابتدائي وإن كان لا يناسبه ما اخترناه من التساقط إلاّ أنّا نتعرض له تتميماً للفائدة.

حكم التخيير عند تساوي المجتهدين‌

ذهب جماعة إلى عدم جواز العدول عن الحي إلى الحي ، بل عن غير واحد حكاية الإجماع عليه واختاره شيخنا الأنصاري قدس‌سره في رسالة الاجتهاد والتقليد (٢) وعن المحقق والشهيد الثانيين التصريح بجوازه تبعاً للمحكي عن النهاية وعليه بنى بعض مشايخنا المحققين ( قدّس الله أسرارهم ) (٣).

__________________

(١) راجع ص ١٣٣.

(٢) الاجتهاد والتقليد : ٦٥.

(٣) الاجتهاد والتقليد ( الأصفهاني ) : ١٤٨.

٩٣

واستدلّ للجواز بوجهين.

أدلة القول بجواز العدول‌

أحدهما : الإطلاقات‌ ، لأن ما دلّ على حجية فتوى المجتهد وجواز الأخذ بها غير مقيد بما إذا لم يرجع إلى غيره ، فمقتضى الإطلاق حجية فتوى المجتهد وإن أخذ العامّي بفتوى غيره ، هذا.

وفيه : أنّا قد تعرضنا لحال التمسك بالإطلاق في التكلم على التعادل والترجيح (١) وبيّنا أن الإطلاق غير شامل للمتعارضين لأنه يستلزم الجمع بين المتنافيين ، ولا أنه يشمل أحدهما المعيّن دون الآخر لأنه بلا مرجح ، ولا لأحدهما غير المعين لما سيأتي من أن الحجية التخييرية مما لا يمكن المساعدة عليه (٢).

وثانيهما : الاستصحاب‌ ، وذلك لأن المكلف قبل الأخذ بفتوى أحدهما كان مخيّراً بين الأخذ بهذا أو بذاك ، لفرض أن المجتهدين متساويان وفتوى كل منهما واجدة لشرائط الحجية ، فإذا رجع إلى أحدهما وشككنا لأجله في أن فتوى الآخر باقية على حجيتها التخييرية أو أنها ساقطة عن الاعتبار ، حكمنا ببقاء حجيتها التخييرية بالاستصحاب ، ومقتضى ذلك أن المكلف مخيّر بين البقاء على تقليد المجتهد الأول والعدول إلى المجتهد الّذي يريد العدول إليه.

وهذا الاستدلال يمكن المناقشة فيه من جهات :

الجهة الاولى : أن الاستصحاب ، على ما بيّناه في محله (٣) يعتبر في جريانه اتحاد القضية المتيقنة والمشكوك فيها ، ولا يتحقق هذا إلاّ ببقاء الموضوع فيه ، ولم يحرز بقاؤه في المقام ، وذلك لأن الحكم بالتخيير إن قلنا إن موضوعه من لم يقم عنده حجة فعلية فلا شبهة في أن ذلك يرتفع بالأخذ بإحدى الفتويين لأنها صارت حجة فعلية‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٣٦٦.

(٢) راجع ص ١٣٢.

(٣) مصباح الأُصول ٣ : ٢٢٧.

٩٤

بأخذها ، فلا موضوع لاستصحاب التخيير وهو ظاهر ، وإن قلنا إن موضوعه من تعارض عنده الفتويان ، نظير من تعارض عنده الخبران أو جاءه حديثان متعارضان الّذي هو الموضوع للحكم بالتخيير في تعارض الروايتين على القول به ، فهو أمر يرتفع بالرجوع إلى إحدى الفتويين. فلو شككنا بعد ذلك في بقاء الحكم بالتخيير وارتفاعه لم يكن مانع من استصحابه بوجه ، ولكنا لم نحرز أن الموضوع أيهما حيث إن مدعي التخيير في المسألة إنما يروم إثباته بالإجماع أو السيرة وهما دليلان لبيان وليسا من الأدلة اللفظية ، لنستظهر أن موضوع الحكم فيها مَن تعارض عنده الفتويان كما استظهروا ذلك في تعارض الروايتين وقالوا إن مقتضى الروايات أن موضوع الحكم بالتخيير مَن جاءه حديثان متعارضان ، أو تعارض عنده الخبران وهذا باق بحاله قبل الأخذ بأحدهما وبعده ، بحيث لو لم يكن لتلك الروايات عموم أو إطلاق مثبت للتخيير بعد الأخذ بأحدهما أمكننا استصحابه لبقاء موضوعه. وهذا بخلاف المقام لدوران الموضوع فيه بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع. وقد ذكرنا غير مرة أن في مثله لا مجال للاستصحاب بالكلية لأنه لا يجري في الموضوع ولا في حكمه ، أمّا عدم جريانه في الحكم فلأجل الشك في بقاء موضوعه ، وأما عدم جريانه في الموضوع فلأجل أن استصحابه بوصف أنه كذلك عبارة أُخرى عن استصحاب الحكم نفسه ، وأما ذاته لا بوصف أنه موضوع فهو ليس بمورد للاستصحاب فإنه لا شك فيه ، حيث إنه مقطوع البقاء أو مقطوع الارتفاع.

الجهة الثانية : أن الاستصحاب إن تمّ فإنما يتم فيما إذا كانت الحالة السابقة هو التخيير ، ولا يتم فيما إذا كان المجتهد الأول أعني من يريد العدول عنه أعلم ممن يريد العدول إليه ، إلاّ أنه ترقي متدرجاً حتى بلغ مرتبة المجتهد الأول وساوى معه في الفضيلة ، لأنا إذا شككنا حينئذٍ في تعين البقاء على تقليد الأول وجواز الرجوع إلى المجتهد الثاني ، لم يمكننا استصحاب التخيير بوجه إذ ليست له حالة سابقة لتستصحب بل الحالة السابقة هو التعيين لما فرضناه من أنه أعلم من المعدول إليه. إذن الاستدلال بالاستصحاب أخص من المدعى.

الجهة الثالثة : أن الاستصحاب غير تام في نفسه ، لأنه من الاستصحابات الجارية‌

٩٥

في الأحكام وقد بيّنا غير مرّة أن الأحكام الكلّية ليست مورداً للاستصحاب لابتلائه بالمعارض دائماً على ما قرّرناه في محلّه.

الجهة الرابعة : أنّا لو أغمضنا عن ذلك وبنينا على جريان الاستصحاب في الأحكام أيضاً لم يكن مجال لاستصحاب التخيير في المقام ، لأنه مبتلى بالمعارض وهو استصحاب الحجية الفعلية للفتوى المأخوذ بها وتوضيحه :

أن الحجية التخييرية لا معنى محصل لها ، حيث إن الحجة بمعنى الطريقية والوسطية في الإثبات أعني جعل ما ليس بعلم علماً تعبداً ، إذن ما معنى كون الحجة تخييرية؟ فإن أُريد بها أن الجامع بين ما أدى من الأمارات إلى حرمة شي‌ء وما أدى إلى وجوبه قد جعل علماً تعبداً وطريقاً مستكشفاً عن الواقع على ما ذكرناه في الواجبات التخييرية وقلنا إن الواجب التخييري هو الجامع بين الفعلين والخصوصيات الفردية أو النوعية كلّها خارجة عن حيّز الطلب إلاّ أن المكلف له أن يطبقه على هذا وذاك ، فهو وإن كان أمراً معقولاً في نفسه إلاّ أنه في الحجية مما لا محصّل له ، فإن اعتبار الطبيعي الجامع بين ما دلّ على وجوب شي‌ء وما دلّ على حرمته ، علماً تعبداً وحجة كاشفة عن الواقع معناه أن الجامع بين المتنافيين قد جعل طريقاً إلى الواقع ، ولا معنى لجعل الجامع بين الضدّين مثلاً طريقاً وكاشفاً عن الواقع فلا معنى للحجية التخييرية ، اللهُمَّ إلاّ أن يرجع إلى إيكال أمر الحجية إلى اختيار المكلف بأن يتمكن من أن يجعل ما ليس بحجة حجة بأخذه فتوى أحد المتساويين ، لأنه حينئذٍ قد جعل الفتوى المأخوذ بها حجة فعلية وطريقاً إلى الواقع بعد ما لم يكن كذلك ، والحجية التخييرية بهذا المعنى صحيحة إلاّ أنها ليست مورداً للاستصحاب لابتلائه بالمعارض ، وذلك لأن فتوى أحد المتساويين إذا اتصفت بالحجية الفعلية لأخذ المكلف بها ، وشككنا في أن فتوى المجتهد الآخر هل يجوز الأخذ بها أو لا يجوز جرى هناك استصحابان متعارضان ، أحدهما : استصحاب جواز الأخذ بفتوى المجتهد الآخر الّذي نشك في جواز الأخذ بها بقاءً ، لأنه مسبوق بالجواز على الفرض. وثانيهما : استصحاب حجية ما اتصف بالحجية الفعلية بالأخذ به ، لأن الأصل عدم سقوطه عن الحجية بالرجوع إلى المجتهد الآخر ، فاستصحاب بقاء التخيير بالنسبة إلى ما لم يأخذ به قبل ذلك‌

٩٦

معارض باستصحاب بقاء الحجية الفعلية فيما أخذ به.

وأما ما عن شيخنا الأنصاري قدس‌سره من أن استصحاب الحجية التخييرية حاكم على استصحاب بقاء الحجية في أحدهما المعين (١) فمما لا يمكن المساعدة عليه ، لما عرفت من أن الحجية التخييرية لا معنى لها سوى إيكال أمر الحجية إلى اختيار المكلف ، بأن تتصف الفتوى بالحجية الفعلية بأخذها ، ومن الظاهر أن عدم الحجية الفعلية بهذا المعنى ليس من الآثار الشرعية المترتبة على بقاء الحجية التخييرية ليكون استصحابها حاكماً على استصحاب بقاء الحجية التعيينية ، وإنما هو من الآثار العقلية الّتي لا يترتب على الاستصحاب بوجه ، هذا.

والصحيح أن استصحاب الحجية التخييرية غير جار في نفسه ، لأنه بمعنى استصحاب الحجية الشأنية أعني الحجية على تقدير الأخذ بها ، وهو من الاستصحاب التعليقي ولا نقول به حتى إذا قلنا بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية في موارد الأحكام التخييرية ، ومع عدم جريان الاستصحاب إذا شككنا في حجية فتوى المجتهد الّذي يريد العدول إليه لا مناص من الحكم بعدم حجيتها لأن الشك في الحجية يساوق القطع بعدمها ، هذا.

ثمّ إن لشيخنا المحقق قدس‌سره كلاماً في المقام وحاصله : أن مقتضى حجية الطرق والأمارات على الطريقية كما هي الأصح ، أن تكون فتوى المجتهد منجّزة للواقع على تقدير الإصابة ومعذّرة عنه على تقدير الخطأ ، وإذا فرضنا أن الفتويين متعارضتان لم يكن معنى لكونهما منجّزتين لعدم احتمال الإصابة في كلتيهما وإنما هي تحتمل في إحداهما. نعم ، لا مانع من أن تكونا معذّرتين ومبرئتين للذمة معاً ، لأن التعارض إنما يمنع عن تصديق دليل الحجية من حيث منجزيتهما للواقع ، إذ لا واقع فيهما ولا يمنع عن تصديقه من حيث معذّريتهما بوجه ، ومعنى ذلك أن الشارع جعلهما معذّرتين تخييراً أي اقتنع عن الواقع بموافقة أحدهما مع دوران عقاب الواقع على مخالفتهما معاً ، وهذا المعنى من الحجية مما لا بدّ من الالتزام به في المقام ، للإجماع والعلم بعدم خروج وظيفة المكلف عن إحدى الفتويين ، وعدم تساقطهما والرجوع إلى غير‌

__________________

(١) رسالة في الاجتهاد والتقليد : ٨٧.

٩٧

فتوى المجتهد ، والمفروض أن الطريق للمقلّد منحصر في اتباع فتوى المجتهد. بل يمكن استفادة ذلك من نفس دليل الحجية لما عرفت من أن التعارض لا يمنع إلاّ عن تصديقه من حيث المنجّزية ، ولا يمنع عن تصديق دليل الحجية من حيث معذّريتهما معاً. فعلى ما ذكرناه من أن الفتويين قد جعلهما الشارع حجتين تخييراً بالمعنى المتقدم إذا شكّ المكلّف بعد العمل بإحدى الفتويين في أن ما أخذ به هل تعيّن في حقه أم أن كلا منهما باقية على ما كانت عليه من المنجّزية والمعذّرية ، كان مقتضى الاستصحاب بقاءهما على تلك الصفة المجعولة وهي الحجية التخييرية بالمعنى الّذي عرفت.

ومن هذا يتضح أن استصحاب الحكم الّذي أخذه المكلف قبل ذلك لا يوجب تعينه عليه ، لوضوح أنه كان ثابتاً من الابتداء ولم يكن ثبوته مانعاً عن ثبوت الآخر فكيف يمنع عن ثبوته بقاء ، فاستصحاب الحجية الفعلية لقول المجتهد الأول لا ينافي استصحاب الحجية التخييرية لفتوى المجتهد الآخر ، فإن حال الحكمين بحسب البقاء حالهما بحسب الحدوث ، ومعه لا حاجة إلى ما أفاده الشيخ الأجل قدس‌سره من أن استصحاب الحجية التخييرية حاكم على استصحاب الحكم المختار. بل بناء على الطريقية ليس هناك حاكم ولا محكوم ولا حكم شرعي ، وإنما الموجود منجّزية الفتويين ومعذّريتهما ، ومن الظاهر أن حجية الفتوى المأخوذ بها بالمعنى المتقدم ، غير مانعة عن حجية الأُخرى بوجه وكلتاهما في عرض واحد.

نعم ، لو قلنا بلزوم الالتزام بالحكم فيتحقق هناك حاكم ومحكوم ، لأن الحكم بالالتزام بهذا أو بذاك أمر ، ووجوب القصر أو وجوب الإتمام أمر آخر ، إلاّ أن وجوب الالتزام لو ثبت فإنما يخص التقليد ولا يأتي في العمل بالخبرين ، بل لا يمكن تصديقه في التقليد أيضاً ، لأنه يبتني على أن يكون التقليد هو الالتزام وقد مرّ أنه العمل دون الالتزام.

أضف على ذلك أن الالتزام لا معنى محصّل له إلاّ أن يتعلق بالحكم الفعلي ، لأن الالتزام مقدمة للعمل بمتعلقه فلا مناص من أن يكون متعلقه أمراً صالحاً للبعث نحو العمل ، ولا يعقل أن يكون كلا الحكمين فعلياً تعيينياً ، لأنهما متعارضان. إذن لا مناص من أن يكون الحكمان فعليين تخييريين تحقيقاً للالتزام بهذا أو بذاك ، ومعه لا يكون استصحاب الحكم المختار موجباً للتعين وإنما يقتضي الاستصحاب بقاء كل من‌

٩٨

الحكمين على ما كان عليه أولاً. انتهى ما أردنا نقله ملخّصاً موضّحاً (١).

ويرد عليه : أنّا بيّنا فيما سبق وسنبين قريباً أيضاً أن الحجية التخييرية لا معنى محصل لها سوى إيكال أمر الحجية إلى اختيار المكلف ، بحيث يتمكن من أن يجعل ما ليس بحجة حجة باختياره وأخذه ، ومرجعه إلى حجية كل من الفتويين مشروطة بالأخذ بها ، ومعنى الحجية بناءً على ما هو الصحيح من الطريقية ، هو الكاشفية والوسطية في الإثبات أعني جعل ما ليس بعلم علماً تعبداً ، ونتيجة ذلك أن المجعول شرعاً إنما هو إحراز الواقع تعبداً لا المنجزية والمعذرية لأنهما من الأحكام العقلية المترتبة على الحجية بالمعنى الّذي ذكرناه ، لا أن الحجية هي المنجزية والمعذرية. ويترتب على هذا أن المكلف إذا أخذ بإحدى الفتويين كانت الفتوى المأخوذة حجة فعلية عليه ، ولازمها أن يكون الحكم الّذي أدّت إليه الفتوى المأخوذة متنجزاً عليه ومع صيرورة الفتوى الأُولى حجة فعلية لا تبقى الفتوى الثانية على الحجية التخييرية بوجه ، كما أن الحكم الفرعي قد تنجز على المكلف بأخذه الفتوى المؤدّية إليه ، وهو حكم تعييني منجّز عليه ولا معنى معه لبقاء الفتوى الثانية على الحجية التخييرية.

فبهذا يتّضح أن الفتوى الثانية بعد ما اتصفت الفتوى الأُولى بالحجية الفعلية من جهة أخذ المكلف بها ، لا يعقل اتصافها بالحجية التخييرية حدوثاً كما لا يعقل بقاؤها عليها ، سواء أكان المستصحب حجية الفتوى المأخوذ بها سابقاً أو كان هو الحكم الفرعي الّذي أدت إليه الفتوى المأخوذ بها. بل ذلك في الحكم الفرعي أوضح لأنه حكم تعييني منجّز على المكلف بأخذه الفتوى المؤدية إليه ، فإن التخيير إنما هو في الحجية والمسألة الأُصولية دون الحكم الفرعي لتعينه بالأخذ بما أدت إليه. إذن كان استصحاب الحجية الفعلية أو الحكم الفرعي المتنجز معارضاً لاستصحاب الحجية التخييرية الثابتة على الفتوى الثانية كما ذكرناه. وبهذا يظهر أن هناك حكماً فعلياً شرعياً وهو الحكم الفرعي الّذي أدت إليه الفتوى المأخوذ بها وتعبدنا به الشا رع بمقتضى حجيتها ، فإن حال المقام حال بقية الأحكام الثابتة بالحجج والأمارات الشرعية.

__________________

(١) رسالة في الاجتهاد والتقليد ( الأصفهاني ) : ١٤٨.

٩٩

ثمّ إن الموافقة الالتزامية وإن لم يقم دليل على وجوبها ، إلاّ أن لتعارض الحجتين خصوصية مستتبعة للالتزام بناءً على القول بالتخيير ، وذلك لما قدّمناه من أن الحجية التخييرية لا معنى لها سوى إيكال أمر الحجية إلى المكلف بحيث يتمكن من جعل ما ليس بحجة حجة ، وذكرنا أن معنى ذلك أن الحجية الفعلية متوقفة على أخذ المكلف واختياره ، ولا معنى للأخذ والاختيار سوى الالتزام بتطبيق العمل على طبق إحدى الفتويين أو غيرهما من الأمارات المتعارضة ، فوجه الحاجة إلى الالتزام في تلك الموارد أن موضوع الحجية التخييرية لا يتحقق من دونه وليس ذلك مستنداً إلى أن التقليد هو الالتزام أو إلى القول بوجوب الموافقة الالتزامية في الأحكام.

ثمّ إن كون الحجية منوطة بالاختيار إنما يخص القول بالتخيير عند تعارض الحجتين ، لوضوح أن حجية الحجة إذا لم تكن معارضة غير منوطة بالاختيار بل يتوقف فعليتها على العلم بها فحسب.

وبما سردناه يظهر أن متعلق الالتزام إنما هو الاستناد إلى الفتوى المأخوذ بها في مقام الامتثال ولا يلزم أن يكون متعلقه حكماً تخييرياً كما أفاده قدس‌سره حتى بناء على وجوب الموافقة الالتزامية أو تفسير التقليد بالالتزام ، وذلك أما بناء على وجوب الموافقة الالتزامية فلأن متعلق الالتزام إنما هو الحكم الواقعي ، فإن كان معلوماً تفصيلياً للمكلف فهو ، وأمّا إذا كان معلوماً إجمالياً له فلا مناص من أن يلتزم بالحكم الواقعي على إجماله وتردده.

وأمّا بناءً على أن التقليد هو الالتزام فمن الظاهر أن الالتزام إنما يتعلق بالعمل على طبق الفتوى المأخوذ بها ، والاستناد إليها في مقام الامتثال. والمتلخص أن الالتزام لا يلزم أن يتعلق بالحكم الفعلي أو التخييري ليدعى أن استصحاب الحكم المختار لا يكون موجباً للتعين وأن مقتضى الاستصحاب بقاء كل من الحكمين على ما كان عليه أولاً.

فعلى ما بيّناه يكون استصحاب الحكم الّذي أفتى به المجتهد الأول وكذا استصحاب الحجية التعيينية لفتواه معارضاً باستصحاب الحجية التخييرية لفتوى المجتهد الآخر.

١٠٠