موسوعة الإمام الخوئي - ج ١

الشيخ علي الغروي

المتقدمة ، إن كان هو أن الحجة المتأخرة لا تؤثر في بطلانها ولا يقلب الصحيح باطلاً فلا ينبغي التأمل في صحته. بل الأمر كذلك حتى في الحجة المقارنة فضلاً عن المتأخرة ، وذلك لأن المدار في الصحة والبطلان إنما هو مطابقة المأتي به مع الواقع وعدمها دون الحجة المقارنة أو المتأخرة ، مثلاً إذا كان المكلف جنباً وتيمم لعذر ثمّ أحدث بالأصغر وتوضأ فصلّى لفتوى مقلده على أن الوظيفة هو الوضوء حينئذ إلاّ أنه تيمم فصلّى لغفلته عن فتوى مقلّده ثمّ بلغ مرتبة الاجتهاد فجزم من الأدلّة بأن الوظيفة هو التيمم حالئذٍ دون الوضوء ، أفلا يحكم بصحة صلاته بدعوى كونها غير مطابقة للحجة المقارنة ، مع جزم المكلف واستكشافه أن الواجب الواقعي هو الصلاة مع التيمم. فلا ريب في أن المدار في الصحة والبطلان على مطابقة الواقع وعدمها دون الحجة المقارنة أو المتأخرة ، فإنّ شيئاً منهما غير مؤثر في البطلان كما أُفيد.

وإن أُريد به أن الحجة المتأخرة غير مؤثرة في الأعمال المتقدمة ولو بالكشف عن مطابقتها مع الواقع وعدمها فهو أمر مخالف للوجدان ، لأن مدلول الحجة المتأخرة غير مختص بعصر ، فإنها تكشف عن أن الحكم الواقعي هو وجوب الصلاة مع التيمم في المثال دون الصلاة مع الوضوء ، وهذا لا يختص بعصر دون عصر ، فالحجة المتأخرة تكشف عن بطلان الأعمال السابقة ووجوب إعادتها أو قضائها. ودعوى أن الحجة المتأخرة غير مؤثرة في الأعمال السابقة عليها أوّل النزاع وليست كبرى مسلمة ، بل قد عرفت أنها على خلاف الوجدان. فإذا أمكن أن تكون الحجة الثانية كاشفة عن مطابقة الأعمال المتقدمة مع الواقع ، أتى ما قدّمناه من أن العامي يشك حينئذٍ في وجوب الإعادة أو القضاء ، وإحراز وظيفته يتوقف على استكشاف كون الأعمال السابقة مطابقة للواقع وعدمها ، إلى آخر ما قدمناه فلا نعيد.

وبما سردناه يندفع ما ربما يتوهّم من أن الحكم بعدم الإجزاء عملاً بالحجة الثانية ترجيح بلا مرجح ، لأن الحجة السابقة كانت حجة في ظرفها كما أن الثانية حجة في ظرفها فلا موجب لتقديم إحداهما على الأُخرى.

والوجه في الاندفاع : أن الحجة السابقة قد سقطت عن الحجية في ظرف الرجوع بخلاف الحجة الثانية ، وهذا هو المرجح لها على سابقتها.

٤١

والمتحصل إلى هنا : أن القاعدة تقتضي وجوب الإعادة أو القضاء فيما إذا كان العمل المأتي به على طبق الحجة السابقة فاقداً لجزء ركني حسبما تدل عليه الحجة الثانية وكان بطلان العمل عند المجتهد الثاني من جهة الإفتاء به ، لا من جهة الاحتياط وقاعدة الاشتغال.

ومنها : أن قضاء العبادات السابقة على كثرتها أمر عسر وموجب للحرج على المكلفين وهما منفيان في الشريعة المقدسة ، وذلك لأن العمل على طبق الحجة السابقة قد يطول وقد يقرب طيلة الحياة ، كما إذا عدل عن فتوى مقلده بموت أو بغيره من الأسباب المسوّغة في أواخر عمره وقلّد مجتهداً يرى بطلان أعماله المتقدمة ، ولا شبهة في أن قضاء تلك الأعمال أمر حرجي.

وفيه : أن هذا الدليل لو تمّ فإنما يتمّ في القضاء ولا يأتي في الإعادة لأنه في مثل الصلاة إذا عدل إلى فتوى المجتهد الّذي يرى بطلانها ولم يفت بعد وقت الصلاة لم يكن في إعادتها حرج بوجه. نعم ، قد يتحقق الحرج في الحج لو قلنا بوجوب إعادته والإتيان به مطابقاً لفتوى المجتهد الثاني.

وكيف كان ، فقد بيّنا في محلّه أن الحرج كالضرر المنفيين في الشريعة المقدسة والمدار فيهما إنما هو على الحرج والضرر الشخصيين لا النوعيين ، والحرج الشخصي أمر يختلف باختلاف الموارد والأشخاص ، فكل مورد لزم فيه من الحكم بوجوب الإعادة أو القضاء حرج على المكلف ، فلا مناص من أن يلتزم بعدم وجوبهما كما إذا لزم منه وجوب قضاء العبادة خمسين سنة مثلاً وكان ذلك حرجياً على المكلف. وأمّا الموارد الّتي لا يلزم فيها من الحكم بوجوبهما حرج عليه ، فلا مقتضي للحكم بعدم وجوب الإعادة أو القضاء ، كما إذا بنى على أن التيمم ضربة واحدة فتيمم وصلّى ثمّ عدل عن ذلك غداً فبنى على أنه ضربتان ، ومن الواضح أن قضاء عبادة اليوم الواحد مما لا عسر فيه ولا حرج ، ومعه لا موجب لنفي وجوب الإعادة أو القضاء لأنه لازم كون المدار على الحرج الشخصي دون النوعي هذا.

على أن الاستدلال بقاعدة نفي الحرج ليس من الاستدلال في محل الكلام ، لأن البحث إنما هو في موارد قيام الحجة التعبدية على الخلاف ، ولا كلام في أن الحرج‌

٤٢

اللاّزم من الإعادة أو القضاء لا يختص به ، إذ قد يلزم الحرج في موارد انكشاف الخلاف بالعلم الوجداني ، فالنسبة بين موردي الكلام والقاعدة عموم من وجه لأن انكشاف الخلاف قد يكون بالحجة التعبدية ولا تكون الإعادة أو القضاء حرجياً بوجه ، وقد يكونان حرجيين ولا يكون الانكشاف بالحجة التعبدية بل بالعلم الوجداني كما عرفت ، وقد يكون الانكشاف بالحجة التعبدية وتكون الإعادة أو القضاء أيضاً حرجياً. والمتحصّل أن الاستدلال بالقاعدة على عدم وجوب الإعادة أو القضاء في مطلق موارد انكشاف الخلاف غير وجيه.

ومنها : دعوى الإجماع على أن العمل المأتي به على طبق الحجة الشرعية لا تجب إعادته ولا قضاؤه إذا قامت حجة أُخرى على خلافها. نعم ، لا إجماع على الإجزاء في الأحكام الوضعية عند بقاء موضوعها إلى ظرف الحجة المتأخرة ، كما إذا ذبح حيواناً بغير الحديد لجوازه على رأي مقلده ، ثمّ عدل إلى فتوى من لا يرى جوازه والذبيحة بحالها ، أو أنه اشترى داراً بالمعاطاة ولا يرى المجتهد الثاني انعقاد البيع بها لاشتراطه الصيغة في صحته ، إلى غير ذلك من الموارد.

والجواب عن ذلك : أن الإجماع المدعى لو كان محصّلاً لم نكن نعتمد عليه لما يأتي بيانه ، فما ظنك بما إذا كان إجماعاً منقولاً بالخبر الواحد وسرّه أن تحصيل الإجماع في المسألة دونه خرط القتاد ، إذ كيف يمكن استكشاف قوله عليه‌السلام في المقام ولم يتعرض أكثر الأصحاب للمسألة ولم يعنونوها في كلماتهم.

هذا على أنّا لو سلّمنا اتفاقهم ، أيضاً لم يمكننا الاعتماد عليه لأنّا نعلم أو نظن ولا أقل من أنّا نحتمل استنادهم في ذلك إلى بعض الوجوه المستدل بها في المقام ومعه لا يكون الإجماع تعبدياً كاشفاً عن قوله عليه‌السلام.

ومنها : السيرة المتشرعية ، بدعوى أنها جرت على عدم لزوم الإعادة أو القضاء في موارد العدول والتبدل في الاجتهاد ، حيث لا نستعهد أحداً يعيد أو يقضي ما أتى به من العبادات طيلة حياته إذا عدل عن رأيه أو عن فتوى مقلده ، وحيث لم يردع عنها في الشريعة المقدسة فلا مناص من الالتزام بالاجزاء وعدم وجوب الإعادة أو القضاء عند قيام حجة على الخلاف.

٤٣

وفيه : أن موارد قيام الحجة على الخلاف وبطلان الأعمال الصادرة على طبق الحجة الأولية كما إذا كانت فاقدة لركن من الأركان ، من القلّة بمكان وليست من المسائل عامة البلوى ليستكشف فيها سيرة المتشرعة ، وأنهم بنوا على الاجزاء في تلك الموارد أو على عدمه.

على أنّا لو سلمنا استكشاف السيرة بوجه ، فمن أين يمكننا إحراز اتصالها بزمان المعصومين عليهم‌السلام إذ لا علم لنا بأن شخصاً واحداً فضلاً عن جماعة اتفق له العدول في عصرهم عليهم‌السلام وبنى على عدم إعادة الأعمال المتقدمة ولم يردع عنه الإمام عليه‌السلام حتى نستكشف اتصال السيرة بزمانهم وكونها ممضاة عندهم عليهم‌السلام ومن الممكن أن تكون السيرة مستندة إلى فتوى جماعة من الفقهاء ( قدّس الله أسرارهم ).

والّذي يوقفك على ذلك ، أن المسألة لو كانت عامة البلوى في عصرهم عليهم‌السلام لسئل عن حكمها ولو في رواية واحدة ، وحيث لم ترد إشارة إلى المسألة في شي‌ء من النصوص فنستكشف بذلك أن كثرة الابتلاء بها إنما حدثت في الأعصار المتأخرة ولم يكن منها في عصرهم عليهم‌السلام عين ولا أثر ، فالسيرة على تقدير تحققها غير محرزة الاتصال بعصرهم ولا سبيل معه إلى إحراز أنها ممضاة عندهم عليهم‌السلام أو غير ممضاة.

والخلاصة : أن مقتضى القاعدة وجوب الإعادة أو القضاء عند قيام الحجة على الخلاف ، اللهُمَّ إلاّ في الصلاة إذا كان الإخلال بغير الوقت والقبلة والركوع والسجود والطهور وذلك لحديث لا تعاد على ما هو الصحيح من شموله للجاهل القاصر أيضاً كما تقدّم (١).

٥ ـ هل الأُمور الثلاثة في عرض واحد؟

هل الاجتهاد والتقليد والاحتياط في عرض واحد ، وأن المتمكن من أحدها يتمكن من الامتثال بالآخرين أو أنها أُمور مترتبة ولا تصل النوبة إلى واحد منها إلاّ‌

__________________

(١) راجع ص ٣٣.

٤٤

بعد تعذر الأمر السابق عليه؟

الكلام في ذلك يقع في جهات :

الاولى : أن المتمكن من الاجتهاد والتقليد هل له أن يمتثل بالاحتياط فهو في عرض الأولين أو أنه في طولهما؟

يأتي تحقيق ذلك عند التكلم على مشروعية الاحتياط ، ونبيّن هناك أن الاحتياط والامتثال الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي بالاجتهاد أو التقليد ، والمكلف مخير بينهما في مقام الامتثال فلا تقدم لهما على الاحتياط.

الثانية : أن المتمكن من الاحتياط هل له الامتثال بالتقليد أو الاجتهاد‌

وأنهما في عرضه أو أن الامتثال بهما إنما هو في فرض العجز عن الاحتياط بمعنى أنهما في طول الامتثال به؟

قد يحتمل في المقام أن الاحتياط أعني الإتيان بجميع المحتملات الموجب للقطع بالامتثال مقدّم على الاجتهاد والتقليد ، لعدم كونهما موجبين للجزم بامتثال الحكم الواقعي وغاية الأمر أنهما يوجبان الظن به ، ولا شبهة في أن الامتثال القطعي مقدّم على الظني لدى العقل وإن كان القطعي إجمالياً والظني تفصيلياً.

ويدفعه : أن الشارع بعد ما نزّل الأمارات الظنية منزلة العلم بأدلة اعتبارها ، لم ير العقل أي فرق بين الامتثال الموجب للقطع الوجداني بالفراغ بالإتيان بجميع المحتملات ، وبين الامتثال القطعي التعبدي بالإتيان بما قامت الحجة على وجوبه ، هذا إذا كان الاحتياط أمراً سائغاً ومأموراً به شرعاً ، وأما إذا كان مبغوضاً لاستلزامه الإخلال بالنظام أو لم يكن مأموراً به لكونه عسراً أو حرجياً ، فلا إشكال في عدم كفايته للامتثال أو عدم وجوب اختياره ، ومعه لا بدّ من الاجتهاد أو التقليد.

الثالثة : أن الاجتهاد هل هو مقدم على التقليد أو أنهما في عرض واحد؟

لا شبهة في عدم وجوب التصدي لتحصيل ملكة الاجتهاد لما يأتي قريباً من أن الاجتهاد ليس بواجب عيني على المكلفين ، بل المكلف له أن يرجع إلى فتوى من يجوز تقليده لأنه مقتضى إطلاق أدلة التقليد ، وللسيرة العقلائية الممضاة بعدم الردع عنها في الشريعة المقدسة الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم وإن كان متمكناً من‌

٤٥

تحصيل العلم بالمسألة ، فالتقليد وتحصيل الاجتهاد في عرض واحد ، هذا في غير الواجد للملكة.

وأمّا من له ملكة الاستنباط إذا لم يتصد للاجتهاد بالفعل ، فهل له التقليد من غيره أو يتعيّن عليه الاجتهاد؟ تقدم تفصيل الكلام في ذلك عند التكلم على أقسام الاجتهاد ، وقلنا إن من له الملكة لا يجوز له الرجوع إلى فتوى غيره وذلك لأن مقتضى العلم الإجمالي تنجز الأحكام الواقعية على من له ملكة الاجتهاد ، فلا بدّ عليه من الخروج عن عهدة التكاليف المنجّزة في حقه وتحصيل المؤمّن من العقاب ، ولا ندري أن فتوى الغير حجة في حقه ، وأن عمله على طبقه مؤمّن من العقاب لأنا نحتمل أن يجب عليه العمل على فتوى نفسه ونظره ، ومع الشك في الحجية يرجع إلى أصالة عدم الحجية كما برهنّا عليه في محله (١) وهذا بخلاف الفاقد للملكة لعدم احتمال وجوب الاجتهاد في حقه لما مرّ من أن الاجتهاد واجب كفائي وليس بواجب عيني على المكلفين.

٦ ـ حكم الاجتهاد في نفسه‌

قد ظهر مما سردناه أن الاجتهاد الّذي هو عديل الاحتياط والتقليد واجب عقلي وأنه لا يتّصف بالوجوب الشرعي ( النفسي أو الغيري أو الطريقي ) اللهُمَّ إلاّ بمعنى المعذرية على تقدير الخطأ. هذا في موارد وجود العلم الإجمالي المنجز للأحكام. نعم الاجتهاد في غير موارد العلم الإجمالي والأمارات واجب طريقي لأنه منجّز للواقع حيث لا منجّز سواه ، وكذلك الحال في التقليد والاحتياط.

وأما الاجتهاد في نفسه فهو واجب نفسي كفائي ، لوجوب التحفظ على الأحكام الشرعية وصيانتها عن الاندراس. وإن شئت قلت : إن الاجتهاد بالنظر إلى إعمال نفس المجتهد واجب عقلي والأمر به إرشادي لا محالة ، فإذا فرضنا أن المكلف يتمكن من التقليد والاحتياط تخير بين الأُمور الثلاثة ، كما إذا فرضنا عدم تمكنه منهما بأن لم يكن هناك مجتهد حي يجوز تقليده ولم يجز تقليد الميت ابتداءً وكان الاحتياط مخلاًّ‌

__________________

(١) مصباح الأصول ٢ : ١٠٩.

٤٦

للنظام أو المكلف لم يعلم كيفيته ، تعيّن عليه الاجتهاد.

وأما بالنظر إلى رجوع الغير إليه ، فهو واجب على المكلفين وجوباً نفسياً كفائياً لبداهة وجوب حفظ الشريعة المقدسة عن الانطماس والاندراس ، ومن الظاهر أن إهمال الأحكام الشرعية وترك التصدي لاستنباطها في كل عصر ، يؤدي إلى انحلالها واضمحلالها لأنه لا سبيل إلى تحصيلها وامتثالها حينئذ غير التقليد من العلماء الأموات ، ويأتي في محلّه (١) أن تقليد الميت ابتداءً أمر غير مشروع ، أو الاحتياط ولكنه أيضاً لا سبيل إليه ، لأن الاحتياط لا يمكن الإلزام به في بعض الموارد ، لعدم إمكانه كموارد دوران الأمر بين المحذورين ، أو لعدم معرفة العامّي كيفيته وطريقته ، أو لاستلزامه العسر والحرج بل إخلال النظام ، أو لاحتمال عدم مشروعيته كما إذا كان محتمل الوجوب عبادة واحتمل المكلف عدم جواز امتثالها بالاحتياط عند التمكن من امتثالها التفصيلي بالاجتهاد أو التقليد ، فإن المكلف لا يتمكن معه من الاحتياط إلاّ أن يحرز مشروعيته بالتقليد أو الاجتهاد. نعم ، لا أثر للاجتهاد في خصوص تلك المسألة بالإضافة إلى الحكم بجواز الرجوع إليه ، لأنه وإن كان من رجوع الجاهل إلى العالم فتشمله السيرة لا محالة ، إلاّ أن مقتضى الأدلة اللفظية عدم جواز الرجوع إليه ، لعدم صدق عنوان الفقيه أو العالم بالأحكام بمجرد الاجتهاد في مسألة واحدة كما قدّمناه في الكلام على أقسام الاجتهاد. نعم ، له أثر بالإضافة إلى عمل نفسه ، لأن للمكلف أن يعمل على طبق نظره واجتهاده فيما استنبطه من الأحكام.

إذن الاجتهاد صيانة للأحكام عن الاندراس واحتفاظ على الشريعة المقدسة عن الاضمحلال ، وهو واجب كفائي وإلى ذلك أشار سبحانه بقوله عزّ من قائل ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (٢) ، حيث دلّ على أن كل طائفة من كل فرقة مأمور بالتفقه وتحصيل الأحكام الشرعية وتبليغها للجاهلين ، فهي ظاهرة الدلالة على وجوب تحصيل الأحكام الشرعية كفائياً ، ويؤيد ما ذكرناه ما ورد‌

__________________

(١) راجع ص ٧٣.

(٢) التوبة ٩ : ١٢٢.

٤٧

[٢] مسألة ٢ : الأقوى جواز العمل بالاحتياط مجتهداً كان أو لا (١)

______________________________________________________

من الأخبار في تفسير الآية المباركة فليراجع (١).

وكيف كان فقد دلّتنا الآية المباركة على عدم كون الاجتهاد واجباً عينيّاً على المكلفين كما هو المنسوب إلى جمع من الأقدمين وفقهاء حلب ( قدّس الله أسرارهم ) على أنه عسر على المكلفين بل دونه خرط القتاد. مضافاً إلى قيام السيرة على الرجوع إلى فتوى الرواة وغيرهم من العالمين بالأحكام حتى في عصرهم عليهم‌السلام من غير ردع عنها بوجه ، هذا تمام الكلام في الاجتهاد ويقع الكلام بعد ذلك في الاحتياط والتقليد.

مباحث الاحتياط

(١) يقع الكلام في ذلك تارة في المعاملات وأُخرى في العبادات :

أمّا المعاملات ، فلا شبهة ولا خلاف في جواز الاحتياط بل في حسنه في المعاملات بالمعنى الأعم ، كما إذا احتاط في تطهير المتنجّس ، بالغسل مرتين لشكّه في أنه هل يطهر بالغسل مرة واحدة أو يعتبر فيه التعدد. ولا نعهد مخالفاً في الاحتياط في مثله سواء أكان المكلف متمكناً من الامتثال التفصيلي وتحصيل العلم بالحال أم لم يكن وسواء كان الاحتياط فيها مستلزماً للتكرار أم لم يكن.

وأمّا المعاملات بالمعنى الأخص أعني العقود والإيقاعات ، فالظاهر أن الاحتياط فيها كالاحتياط في المعاملات بالمعنى الأعم وأنه أمر حسن لا شبهة في مشروعيته مثلاً إذا شكّ المكلف في أن الطلاق هل يجوز أن يكون بالجملة الفعلية كبقية الصيغ بأن يقول : طلقتك ، أو أنه لا بدّ أن تكون بالجملة الاسمية بأن يقول : أنتِ طالق أو زوجتي طالق ، فلا مانع من أن يجمع بين الصيغتين ويحتاط بالتكرار.

نعم ، قد يستشكل في الاحتياط في المقام أعني المعاملات بالمعنى الأخص ، بأن‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٤١ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١٠.

٤٨

الإنشاء يعتبر فيه الجزم به ولا يتحقق هذا بالاحتياط لأنه لا يدرى حين قوله : طلقتك مثلاً أن ما أراده من الطلاق هل يحصل به أو لا يحصل ، فلا يمكن أن يكون جازماً بإنشاء الطلاق بالاحتياط.

ويندفع بأن الإنشاء على ما حققناه في محلّه (١) عبارة عن إبراز الاعتبار النفساني بمبرز ، ولا شبهة في أن المتكلم بقوله : طلقتك قد قصد إبراز ما اعتبره في نفسه من بينونة زوجته وإطلاقها من جهته ، فهو جازم بالإنشاء حينئذٍ ولا تردد له في نيته وإنما يشك في أمر آخر خارج عن إنشائه وهو إمضاء الشارع وحكمه بصحة طلاقه ومن البديهي أنه أمر آخر غير راجع إلى إنشائه الطلاق.

نعم ، لو كان متردداً في إنشائه كما إذا قال : بعتك هذا المال إن كان اليوم جمعة ، لقلنا ببطلانه وإن تحقق شرطه بأن كان اليوم جمعة واقعاً ، وذلك لأن الشك في أن اليوم جمعة يسبّب الشك في أنه هل باع ما له أم لم يبع ، ومع عدم علمه ببيعه لا معنى لأن يكون جازماً بما قصده في نفسه من البيع والتمليك.

فالمتلخص : أن الاحتياط في كل من المعاملات بالمعنى الأعم والمعاملات بالمعنى الأخص مما لا تأمل في جوازه وحسنه‌ ، وأمّا العبادات أعني الأُمور المعتبر فيها قصد القربة والامتثال فيقع الكلام فيها في مقامين :

أحدهما : في جواز الاحتياط غير المستلزم للتكرار.

وثانيهما : في جواز الاحتياط المستلزم للتكرار.

أمّا المقام الأوّل : فالصحيح أن العبادات كالمعاملات يجوز فيها الاحتياط ولو مع التمكن من الامتثال التفصيلي وتحصيل العلم بالمأمور به ، كما إذا شك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو في وجوب السورة في الصلاة ، فإنه يجوز أن يحتاط بالإتيان بما يحتمل وجوبه ، إذ الامتثال الإجمالي كالتفصيلي على ما يأتي تحقيقه إن شاء الله ، هذا.

وقد يقال بعدم جواز الاحتياط مع التمكن من الامتثال التفصيلي في العبادات ، نظراً إلى احتمال وجوب قصد الوجه والتمييز ، ولا يمكن إتيان العبادة بقصد الوجه متميزة‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ١ : ٨٩.

٤٩

عن غيرها بالاحتياط. وعمدة القائلين باعتبارهما هم المتكلمون ، بدعوى أن العقل مستقل بحسن الإتيان بالمأمور به بقصد الوجه متميزاً عن غيره وأنه لا حسن في العمل الفاقد للأمرين.

ويدفعه : أن اعتبار الأمرين في الواجبات يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه ، إذ لو كانا معتبرين في الواجبات لأشاروا عليهم‌السلام إلى اعتبارهما في شي‌ء من رواياتهم لكثرة الابتلاء بهما ، فمن عدم ورود الأمر بهما في الأخبار يستكشف عدم وجوبهما واقعاً ، هذا ولو شككنا في وجوبهما فأصالة البراءة تقضي بعدم اعتبارهما في الواجبات.

على أن الدعوى المتقدمة لو تمت فإنما يتم في الواجبات النفسية ، وأما الواجبات الضمنية فلا تأتي فيها بوجه لأن الحسن المدعى إنما هو في الإتيان بمجموع الأجزاء والشرائط بقصد الوجه والتمييز ، لا في كل واحد واحد من الأجزاء. إذن لا مانع من الإتيان بشي‌ء مما يحتمل أن يكون واجباً ضمنياً بالاحتياط وإن كان فاقداً لقصد الوجه والتمييز.

ثمّ إن لشيخنا الأستاذ قدس‌سره تفصيلاً في المقام ذكره في دورته الأخيرة وتوضيحه : أن العمل العبادي قد نعلم بتعلق الأمر به ونشك في وجوبه واستحبابه وهذا لا إشكال في جواز الاحتياط فيه لا مكان الإتيان فيها بالعمل بداعي أمر المولى للعلم بوجوده وتعلقه بالعمل ، وإن لم نعلم أنه وجوبي أو ندبي. نعم ، لا يمكننا الإتيان به بقصد الوجه إلاّ أنه غير معتبر في العبادات. وقد نعلم أن العمل عبادي بمعنى أنه على تقدير تعلق الأمر به يعتبر أن يؤتى به بقصد القربة ، من غير أن نعلم بكونه متعلقاً للأمر كما في الفرض السابق ، بأن نشك في أنه هل تعلق به الأمر الوجوبي أو الندبي أم لم يتعلق ، وهذا كما في الوضوء بعد الغسل في غير غسل الجنابة ، حيث إن الوضوء فعل عبادي يعتبر فيه قصد القربة قطعاً إلاّ أنا نشك في أنه هل تعلق به أمر في المقام أم لم يتعلق ، وأفاد أن في أمثال ذلك لا مجال للاحتياط بأن يؤتى به رجاءً مع التمكن من الامتثال التفصيلي والعلم بالمأمور به.

وهذا لا لاعتبار قصد الوجه والتمييز ، لما تقدم من عدم اعتبارهما في الواجبات بل‌

٥٠

لما أفاده من أن الامتثال الإجمالي والاحتياط إنما هو في طول الامتثال التفصيلي لاعتبار أن يكون التحرك والانبعاث في الواجبات العبادية مستنداً إلى تحريك المولى وبعثه ، ولا يتحقق هذا مع الاحتياط لأن الداعي للمكلف نحو العمل والإتيان به حينئذ ليس إلاّ احتمال تعلق الأمر به ، فالانبعاث مستند إلى احتمال البعث لا إلى البعث نفسه ، فمع التمكن من الامتثال التفصيلي والعلم بالواجب لا تصل النوبة إلى الاحتياط.

ثمّ لو شككنا في ذلك ولم ندر أن الامتثال الإجمالي والاحتياط في عرض الامتثال التفضيلي أو في طوله ، بمعنى أن الانبعاث يعتبر أن يكون مستنداً إلى الأمر جزماً أو أن الانبعاث إذا استند إلى احتمال الأمر أيضاً يكفي في الامتثال ، فلا مناص من أن يرجع إلى قاعدة الاشتغال لأنه من الشك في كيفية الإطاعة والامتثال ، وأنه لا بدّ أن يكون تفصيلياً أو يكفي فيه الاحتياط ، فإن العمل عبادي على تقدير وجوبه فإذا شكّ في كيفية طاعته لا بدّ من الاحتياط. وقصد القربة والتعبد وإن كان مأخوذاً في المتعلق شرعاً عنده وعندنا ، والشك في اعتباره من الشك في الأقل والأكثر إلاّ أن اعتبار قصد القربة إذا كان معلوماً في مورد ، وشك في كيفية طاعته فهو يرجع إلى الشك في التعيين والتخيير وهو مورد لقاعدة الاشتغال. وبذلك منع جواز الاحتياط فيما إذا استلزم التكرار ، وزاد أن العلم بالتكليف موجود في مورده فلا بدّ من الخروج عن عهدته بما يراه العقل طاعة.

والجواب عنه : أنّا لا نشك في أن الامتثال الإجمالي في طول الامتثال التفصيلي أو في عرضه بل نجزم بأنهما في عرض واحد ، وسرّه أن الفارق بين العبادة وغيرها أن العمل العبادي لا بدّ أن يؤتى به مضافاً إلى المولى سبحانه ، بخلاف التوصلي لأن الغرض منه إنما هو ذات العمل من غير لزوم الإضافة إلى الله. والإضافة إلى الله سبحانه قد تتحقق بالإتيان بالمأمور به على وجه التفصيل ، وقد تتحقق بالإتيان به على وجه الإجمال لأنه أيضاً نحو إضافة إلى الله ، ومن هنا لا يشترط العقلاء في العمل بالاحتياط أن لا يتمكن المكلف من العلم بالواجب والإتيان به على وجه التفصيل وذلك لأنهم ببابك فلو سألتهم عن أن العبد إذا أتى بالعمل رجاءً لاحتماله أنه مطلوب لسيده فهل يعدّ ممتثلاً أو أنه لم يمتثل لفرض كونه متمكناً من الإتيان به على وجه‌

٥١

لكن يجب أن يكون عارفاً بكيفية الاحتياط بالاجتهاد أو بالتقليد (١).

______________________________________________________

التفصيل ، ترى أنهم متفقون على أنه إطاعة وانقياد للسيد. إذن الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي لا في طوله ، هذا.

على أنا لو شككنا في ذلك فالمرجع هو البراءة دون الاشتغال إذ لا شكّ لنا في مفهوم العبادة ، وإنما الشك في واقعها وما يتّصف به العمل بالعبادة ، فمرجع الشك حينئذٍ إلى أن الشارع هل اعتبر في متعلق الأمر التحرك عن تحريكه مع التمكن من العلم بالواجب ، أو أنه اعتبر الأعم من التحرك عن تحريكه والتحرك عن احتمال الأمر والتحريك ، فالجامع بين الاحتمالين وهو لزوم الإتيان بالعمل بقصد الامتثال معلوم واعتبار كونه على وجه التفصيل أعني اعتبار كون التحرك مستنداً إلى تحريك المولى مشكوك فيه ، ومعه يرجع إلى البراءة عن اعتبار ما يشك فيه بناء على ما هو الصحيح عندنا من جريان البراءة في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

والنتيجة : أن الاحتياط أمر جائز في العبادات بلا فرق في ذلك بين الاستقلالية والضمنية ، ولا بين ما إذا كان أصل المحبوبية معلوماً وما إذا لم تكن ، هذا كلّه في المقام الأوّل.

وأمّا المقام الثاني : أعني ما إذا كان الاحتياط في العبادة مستلزماً للتكرار ، فيأتي عليه الكلام عند تعرض الماتن له في المسألة الرابعة إن شاء الله.

(١) يشترط في العمل بالاحتياط العلم بموارده وكيفياته بالاجتهاد أو التقليد لأنه لولاه لم يتحقق الاحتياط المؤمّن من العقاب ، فإن الاحتياط في انفعال الماء القليل بالمتنجسات يقتضي التجنب عن الماء القليل الّذي لاقاه المتنجس وعدم استعماله في رفع الخبث أو الحدث ، فلو أصاب هذا الماء ثوب المكلف مثلاً فمقتضى الاحتياط عند انحصار الثوب به بناء على وجوب الصلاة عارياً عند انحصار الثوب بالنجس أن يكرّر الصلاة ، بأن يصلي عارياً تارة وفي ذلك الثوب اخرى ، وليس مقتضى الاحتياط أن يؤتى بالصلاة عارياً فحسب ، من جهة الاجتناب عن الماء الملاقي للمتنجس وما أصابه ذلك الماء. وإذا فرضنا في المثال أن الوقت لم يسع لتكرار الصلاة كشف ذلك‌

٥٢

[٣] مسألة ٣ : قد يكون الاحتياط في الفعل كما إذا احتمل كون الفعل واجباً وكان قاطعاً بعدم حرمته (١) وقد يكون في الترك ، كما إذا احتمل حرمة فعل وكان قاطعاً بعدم وجوبه (٢) وقد يكون في الجمع بين أمرين مع التكرار ، كما إذا لم يعلم أن وظيفته القصر أو التمام (٣).

______________________________________________________

عن عدم قابلية المحل للاحتياط ووجب الامتثال تفصيلاً بتحصيل العلم بالمسألة.

ولو انحصر الماء بالماء القليل الّذي لاقاه المتنجّس فظاهر الحال يقتضي الاحتياط بالجمع بين التيمم والوضوء بذلك الماء المشكوك في طهارته ، إلاّ أن هذا الاحتياط على خلاف الاحتياط ، لأن الماء على تقدير نجاسته تستتبع تنجس أعضاء الوضوء ونجاسة البدن مانعة عن صحة الصلاة. فلا مناص في مثله من الامتثال التفصيلي بتحصيل العلم بالمسألة وجداناً أو تعبداً لعدم إمكان الاحتياط فيه. فمعرفة موارد الاحتياط وكيفياته مما لا بدّ منه عند الاحتياط.

(١) كما في الدعاء عند رؤية الهلال ، لاحتمال وجوبه مع القطع بعدم حرمته.

(٢) كما في شرب التتن لاحتمال حرمته مع القطع بعدم وجوبه ، لأنه لم يكن موجوداً في عصرهم عليهم‌السلام أو لو كان ، فلا يحتمل وجوبه جزماً.

(٣) أو أن وظيفته الظهر أو الجمعة وهكذا.

ثمّ إن ذلك قد يكون في عملين مستقلين كما مثّل ، وقد يكون في عمل واحد ، كما إذا دار الأمر بين وجوب الجهر والإخفات كما في صلاة الظهر يوم الجمعة للأمر بالإجهار فيها في جملة من الأخبار ، ومقتضى الاحتياط حينئذٍ أن يكرّر القراءة فيها مرتين فيقرأها إخفاتاً تارةً وإجهاراً اخرى ناوياً في إحداهما القراءة المأمور بها ، وفي ثانيتهما عنوان القرآنية لجواز قراءة القرآن في الصلاة ، هذا.

وقد يكون الاحتياط في الجمع في الترك ، كما إذا علم بحرمة أحد فعلين فإن الاحتياط يقتضي تركهما معاً. وقد يكون في الجمع بين الإتيان بأحد الفعلين وترك الآخر كما إذا علم إجمالاً بوجوب الأوّل أو حرمة الثاني. وهذان لم يتعرض لهما الماتن قدس‌سره.

٥٣

[٤] مسألة ٤ : الأقوى جواز الاحتياط ولو كان مستلزماً للتكرار وأمكن الاجتهاد أو التقليد (١).

______________________________________________________

(١) كما إذا تردّد الواجب بين القصر والتمام أو الظهر والعصر أو غيرهما من الأمثلة ، فهل يجوز فيه الاحتياط بالتكرار مع التمكن من الامتثال التفصيلي بتحصيل العلم بالواجب أو لا يجوز؟

قد يقال بعدم الجواز نظراً إلى أنه مخلّ بقصد الوجه والتمييز ومناف للجزم بالنيّة ولأن التحرك عن الأمر الجزمي وامتثال الأمر تفصيلاً في مرتبة سابقة على التحرك عن احتماله كما يراه شيخنا الأستاذ قدس‌سره (١) ومع الشك في أنهما عرضيان أو أن الثاني في طول الأول يرجع إلى قاعدة الاشتغال ، ومقتضاها عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط مع التمكن من الامتثال التفصيلي.

وهذه الوجوه قد قدّمنا عنها الجواب ولا حاجة إلى إعادته. بل لو سلّمناها في الاحتياط غير المستلزم للتكرار ، لم نتمكن من تتميمها في الاحتياط المستلزم للتكرار بوجه ، والوجه فيه أن الجزم بالنية لو قلنا باعتباره ، وإن كان لا يفرق في ذلك بين الاحتياط المستلزم للتكرار وغير المستلزم له ، لعدم تمكن المكلف من الجزم بها مع الاحتياط ، إلاّ أن الوجهين الباقيين لا يجريان في الاحتياط المستلزم للتكرار ، وذلك لأن المكلف إنما يأتي بالواجب المردد بين الفعلين لوجوبه ، بحيث لولا كونه واجباً لم يأت بشي‌ء من المحتملين ، فقصد الوجه أمر ممكن في المقام لأن معناه أن يؤتى بالعمل لوجوبه أو استحبابه وقد عرفت أن المكلف إنما يأتي بالعمل لوجوبه.

نعم ، الاحتياط المستلزم للتكرار فاقد للتمييز ، إذ لا يمكن معه تمييز أن أياً منهما واجب وأيهما مستحب أو مباح. كما أن المكلف إنما ينبعث إلى الإتيان بالواجب المردد بين الفعلين عن الأمر الجزمي المتعلق به ، وغاية الأمر أنه لا يتمكن من تطبيق الواجب على المأتي به ، لا أنه ينبعث إليه عن احتمال الأمر وذلك للعلم بوجوب‌

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٤.

٥٤

أحدهما على الفرض ، فهذان الوجهان لا يأتيان في المقام.

نعم ، قد يستشكل في الاحتياط في العبادات إذا كان مستلزماً للتكرار ، بأن الاحتياط بالتكرار يعدّ عند العقلاء لعباً وعبثاً بأمر السيد ، إذ المكلف مع قدرته على تحصيل العلم بواجبه وجداناً أو تعبداً وتمكنه من الإتيان به من غير ضم ضميمة ، يأتي به مع الضمائم في ضمن أفعال متعددة ، وما كان عبثاً ولعباً كيف يمكن أن يقع مصداقاً للامتثال ، لأن اللعب والعبث مذمومان والمذموم لا يقع مصداقاً للمأمور به والمحبوب.

ويندفع بأن الاحتياط مع التكرار ليس من اللغو والعبث عند تعلق الغرض العقلائي به ، كما إذا توقف تحصيل العلم بالواجب والامتثال التفصيلي على معونة زائدة كالمشي إلى مكان بعيد للمطالعة أو السؤال عمّن قلّده ، ولأجل الفرار عن تحمّل المشقّة يحتاط ويمتثل بالإجمال ، ومعه كيف يكون تكراره لغواً وعبثاً لدى العقلاء.

على أنه إذا عدّ في مورد لعباً وعبثاً ، كما إذا فرضنا أن القبلة اشتبهت بين أربع جهات والمكلف يتمكن من تحصيل العلم بالقبلة من غير صعوبة ، إلاّ أنه أراد العمل بالاحتياط فأتى بالصلاة إلى أربع جهات ، أي كرّرها أربع مرّات ، ولا سيّما إذا ترددت صلاته بين القصر والتمام ، لأن الاحتياط حينئذٍ إنما يتحقق بالإتيان بثمان صلوات وإذا فرضنا أن ثوبه الطاهر أيضاً مردّد بين ثوبين بلغ عدد الصلوات المأتي بها ستة عشر ، كما أنّا لو فرضنا تردّد المسجد أيضاً بين شيئين لا يصح السجود على أحدهما أو كان نجساً مثلاً بلغ عدد الصلوات المأتي بها احتياطاً اثنين وثلاثين ، وقلنا إنّ تكرار صلاة واحدة اثنين وثلاثين مرّة مع التمكن من الامتثال التفصيلي والإتيان بالواجب منها عبث ولعب ، لم يمنع ذلك من الحكم بصحة الامتثال لأن الواجب من الامتثال إنما يتحقق بواحدة من تلك الصلوات ، وهي الصلاة الواقعة إلى القبلة في الثوب والمسجد الطاهرين ، وهي صلاة صحيحة لا لعب فيها ولا عبث وإنما هما في طريق إحراز الامتثال لا أنهما في نفس الامتثال.

فالصحيح جواز الاحتياط في العبادات وإن كان مستلزماً للتكرار ، وعليه فيجوز ترك طريقي الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط استلزم التكرار أم لم يستلزم.

٥٥

[٥] مسألة ٥ : في مسألة جواز الاحتياط يلزم أن يكون مجتهداً أو مقلداً (١) لأن المسألة خلافية.

[٦] مسألة ٦ : في الضروريات لا حاجة إلى التقليد كوجوب الصلاة والصوم ونحوهما ، وكذا في اليقينيات إذا حصل له اليقين ، وفي غيرهما يجب التقليد إن لم يكن مجتهداً إذا لم يمكن الاحتياط ، وإن أمكن تخير بينه وبين التقليد (٢).

______________________________________________________

(١) لأن جواز الاحتياط ليس من المسائل القطعية الّتي لا تحتاج إلى الاجتهاد والتقليد ، وإنما هو مورد الخلاف فلا مناص في الاستناد إلى الاحتياط من تحصيل العلم بجوازه ومشروعيته اجتهاداً أو تقليداً ، وسرّه أنه لو لم يقلّد من يجوّز الاحتياط ولم يجتهد في جوازه ، بل احتاط مع احتماله عدم الجواز لم يطمئن بعدم العقاب ، لفرض احتمال الحرمة وكونه مستحقاً للعقاب بارتكابه ، وحيث إن العقل يرى وجوب دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب ويجب أن يكون المكلف مأموناً من جهته ، فلا مناص من أن يستند في جوازه إلى التقليد أو الاجتهاد ، إذ لا مؤمّن غيرهما.

وبما ذكرناه يظهر أن طرق الامتثال وإن مرّ أنها ثلاثة إلاّ أنها في الحقيقة منحصرة بالتقليد والاجتهاد بل بخصوص الاجتهاد كما تقدم في محلّه ، فتارك طريقي الاجتهاد والتقليد أيضاً لا بدّ أن يكون مجتهداً أو مقلداً في جواز العمل بالاحتياط.

(٢) قد أسبقنا في أوائل الكتاب أن لزوم كون المكلف في جميع أفعاله وتروكه مقلداً أو محتاطاً أو مجتهداً إنما هو بحكم العقل ، نظراً إلى استقلاله بوجوب دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب ، لتنجز الأحكام الواقعية في حقه بالعلم الإجمالي أو بالاحتمال ، لأن الشبهة حكمية وقبل الفحص ، فالمكلف إذا خالف الحكم المنجّز في حقه استحق عليه العقاب ، وبما أن ما يأتي به ممّا يحتمل حرمته كما أن ما يتركه محتمل الوجوب في الواقع ، فهو يحتمل العقاب في أفعاله وتروكه ، وبهذا يستقل عقله بلزوم دفع هذا الاحتمال وتحصيل المؤمّن من العقاب على تقدير مخالفة عمله الواقع ، والمؤمّن كما مرّ منحصر بالطرق الثلاثة المتقدمة وإن كان مرجع الأولين أيضاً إلى الاجتهاد. ومن هذا يتّضح أن مورد التقليد وأخويه إنما هو ما يحتمل المكلف فيه العقاب ، وأما ما علم‌

٥٦

[٧] مسألة ٧ : عمل العامي بلا تقليد ولا احتياط باطل (*) (١)

______________________________________________________

بإباحته أو بوجوبه أو حرمته فلا ، لعدم كونها مورداً لاحتمال العقاب كي يجب دفعه لدى العقل بالتقليد أو بغيره لجزمه بعدم العقاب أو بوجوده ، فعلى ذلك لا حاجة إلى التقليد في اليقينيات فضلاً عن الضروريات ، هذا تمام الكلام في الاحتياط ويقع الكلام بعد ذلك في التقليد.

مباحث التقليد‌

(١) لم يرد بذلك البطلان الواقعي بأن تكون أعمال العامي من غير تقليد ولا احتياط فاسدة وإن انكشفت صحتها بعد ذلك ، كما إذا بلغ رتبة الاجتهاد وادي نظره إلى صحتها ، بل المراد به البطلان عقلاً وعدم جواز الاقتصار على ما أتى به من دون تقليد ولا احتياط ، وذلك لأن قاعدة الاشتغال تقضي حينئذٍ ببطلانه. مثلاً إذا عقد على امرأة بالفارسية من دون أن يعلم بصحته أو يقلّد من يفتي بها ، لم يجز له أن يرتّب على المرأة آثار الزوجية. وكذا إذا غسل المتنجّس مرّة واحدة وهو لا يعلم كفايتها لأنه ليس له أن يرتّب عليه آثار الطهارة لاحتمال بطلان العقد واقعاً ، وعدم صيرورة المرأة بذلك زوجة له أو عدم طهارة المغسول وبقائه على تنجسه ، فحيث إنه لم يحرز صحة العقد أو كفاية المرّة الواحدة ، فقاعدة الاشتغال تقتضي بطلانه وعدم كفاية الغسل مرة مع قطع النظر عن الاستصحاب الجاري فيهما.

وعلى الجملة إذا لم يحرز المكلف صحة عمله واحتمل معه الفساد ، فمقتضى قاعدة الاشتغال أعني حكم العقل بأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية ، عدم ترتيب آثار الصحة عليه.

__________________

(*) بمعنى أنه لا يجوز الاقتصار عليه في مقام الامتثال ما لم تنكشف صحته.

٥٧

[٨] مسألة ٨ : التقليد هو الالتزام (*) (١)

______________________________________________________

معنى التقليد

(١) قد عرّف التقليد بوجوه :

منها : أن التقليد أخذ فتوى الغير للعمل به.

ومنها : أنه الالتزام بالعمل بفتوى الغير وإن لم يعمل به بعد ولا أخذ فتواه.

ومنها : غير ذلك من التفاسير.

والتحقيق : أن التقليد عنوان من عناوين العمل وطور من أطواره ، وهو الاستناد إلى قول الغير في مقام العمل ، بأن يكون قول الغير هو الّذي نشأ منه العمل وأنه السبب في صدوره ، فإن المقلّد في أعماله يتّكئ ويستند إلى قول الغير فهو المسئول عن وجهه دون العامل المقلّد.

معنى التقليد بحسب اللغة‌

ويرشدك إلى ذلك ملاحظة اللغة ، حيث إن التقليد بمعنى جعل الشخص أو غيره ذا قلادة فيقال : تقلد السيف أي ألقى حمالته في عنقه ، ومنه تقليد البدنة في الحج لأن معناه أنه علّق بعنقها النعل ليعلم أنها هدي فيكف عنها ، وفي حديث الخلافة : « قلّدها رسول الله علياً » (١) ، أي جعلها قلادة له ، فمعنى أن العامي قلّد المجتهد أنه جعل أعماله على رقبة المجتهد وعاتقه وأتى بها استناداً إلى فتواه ، لا أن معناه الأخذ أو الالتزام أو غير ذلك من الوجوه ، لعدم توافق شي‌ء من ذلك معنى التقليد لغة. مثلاً إذا فسّرناه بالالتزام رجع معنى تقليد المجتهد إلى أن العامي جعل فتوى المجتهد وأقواله قلادة لنفسه ، لا أنه جعل أعماله قلادة على رقبة المجتهد. وقد عرفت أن المناسب لمعنى التقليد هو الثاني دون الأول ، فإن لازمه صحة إطلاق المقلّد على المجتهد دون العامي.

__________________

(*) بل هو الاستناد إلى فتوى الغير في العمل ، ولكنه مع ذلك يكفي في جواز البقاء على التقليد أو وجوبه تعلم الفتوى للعمل وكونه ذاكراً لها ..

(١) كذا في مجمع البحرين في مادة ( قلّد ).

٥٨

معنى التقليد بحسب الأخبار‌

ثمّ إن ما ذكرناه في معنى التقليد ، مضافاً إلى أنه المناسب للمعنى اللغوي قد أُشير إليه في جملة من الروايات كمعتبرة عبد الرحمن بن الحجاج قال : « كان أبو عبد الله عليه‌السلام قاعداً في حلقة ربيعة الرأي ، فجاء أعرابي فسأل ربيعة الرأي عن مسألة فأجابه ، فلمّا سكت قال له الأعرابي : أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يردّ عليه شيئاً ، فأعاد المسألة عليه فأجابه بمثل ذلك ، فقال له الأعرابي : أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : هو في عنقه قال أو لم يقل ، وكل مفتٍ ضامن » (١).

وكالأخبار المستفيضة الدالة على أن « من أفتى بغير علم فعليه وزر من عمل به » (٢).

ويؤيد ذلك ما ورد في الحج « من أن كفارة تقليم الأظافر على من أفتى به » (٣) لا على المباشر.

ومن ذلك يستكشف بوضوح أن ما ذكرناه في معنى التقليد هو المعنى المتفاهم العرفي من لفظة التقليد عند إطلاقها ، بل عليه جرت اللغة الدارجة في عصرنا حيث ترى يقولون : قلّدتك الدعاء والزيارة. إذن الاصطلاح الدارج واللغة والعرف متطابقة على أن التقليد هو الاستناد إلى قول الغير في مقام العمل ، هذا.

إلاّ أن صاحب الكفاية قدس‌سره لم يرتض بذلك وذهب إلى أن التقليد هو الأخذ والالتزام ، ومنع عن تفسيره بالعمل استناداً إلى رأي الغير ، نظراً إلى أن التقليد إذا كان نفس العمل على طبق فتوى الغير فأوّل عمل يصدر من المكلف يصدر من غير تقليد ، لأن ذلك العمل غير مسبوق بالتقليد الّذي هو العمل ، مع أن العمل لا بدّ أن يكون مسبوقاً بالتقليد ، لأن المكلف لا بدّ أن يستند في أعماله إلى حجة فكما أن المجتهد يستند إلى اجتهاده وهو أمر سابق على عمله ، كذلك العاميّ لا بدّ أن يستند إلى‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٢٠ / أبواب آداب القاضي ب ٧ ح ٢.

(٢) ورد بهذا المضمون في وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٠ / أبواب صفات القاضي ب ٤.

(٣) ورد بهذا المضمون في وسائل الشيعة ١٣ : ١٦٤ / أبواب بقية كفارات الإحرام ب ١٣.

٥٩

التقليد ويلزم أن يكون تقليده سابقاً على عمله (١).

ويرد عليه : أن التقليد كما مرّ لون وعنوان للعمل ، فهو أمر مقارن معه ولا يعتبر فيه السبق زماناً ، فإذا عمل المكلّف عملاً مستنداً إلى فتوى الغير ، كان ذلك العمل مقروناً بالتقليد لا محالة وهو كاف في صحته ، ولا دليل على اعتبار سبق التقليد على العمل.

وقد يورد على تفسير التقليد بما ذكرناه ، بأن ذلك مستلزم للدور فإن مشروعية العبادة وصحتها من المقلد تتوقف على تقليده ، إذ لو لم يقلّد لم يتمكن من الإتيان بها بما أنها مأمور بها حتى تقع عبادة ، فلو كان تقليده متوقفاً على إتيانه بالعبادة لعدم تحقق التقليد إلاّ بالعمل ، لدار.

ويندفع بأن المتوقف عليه ، غير المتوقف عليه ، وذلك لأن مشروعية أي عمل عبادي أو غيره لا يمكن أن تكون ثابتة بالتقليد ، لعدم كونه مشرعاً في الدين. بل إنما تتوقف المشروعية على الدليل ولو كان هو فتوى مقلده. نعم ، إذا أتى المكلف بالعمل بعد العلم بمشروعيته مستنداً فيه إلى فتوى المجتهد ، انطبق عليه التقليد لا محالة. فالتقليد وإن كان متوقفاً على العمل إلاّ أنه لا يتوقف على التقليد بوجه ، فلا توقف في البين ، وعلى الجملة أن التقليد إنما يتحقق بالعمل على قول الغير ولا توقف له على الالتزام.

معنى التقليد عند اختلاف الفتاوى‌

وقد يقال : إنه إذا تعدد المجتهدون واختلفوا في الفتوى ، توقف التقليد على الالتزام بالعمل على إحدى الفتويين أو الفتاوى ، أو أن التقليد حينئذٍ ينتزع عن نفس الالتزام والدليل على وجوبه حكم العقل بلزوم تحصيل الحجة على امتثال الأحكام الشرعية.

بل عن بعضهم أن الخلاف في أن التقليد هو العمل أو الالتزام إنما هو فيما إذا اتحد المجتهد أو تعددوا واتفقوا في الفتوى ، وأما مع التعدد والتعارض بين الفتويين أو‌

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٧٢.

٦٠