موسوعة الإمام الخوئي - ج ١

الشيخ علي الغروي

إلى غير الأعلم عند تعذر الرجوع إلى الأعلم وانسداد بقية الطرق ، وتشهد له ملاحظتهم في مثل معالجة المريض المبتلى بمرض خطير غير الممكن تأخير علاجه فإنهم إذا لم يتمكنوا من الرجوع إلى الطبيب الأعلم لراجعوا غير الأعلم من دون كلام ، وهذه الصورة مستثناة عن عدم حجية فتوى غير الأعلم عند العلم بالمخالفة بينه وبين الأعلم إجمالاً.

وإذا لم يتمكن من الرجوع إلى غير الأعلم أيضاً اندرج مفروض الكلام تحت كبرى الانسداد ، وذلك لأن مفروضنا تنجز التكليف على المكلّف وأنه غير مهمل كالبهائم فلا تجري البراءة في حقه ولا طريق له إليه كما أن الاحتياط غير متيسّر له ومعه ينحصر طريق الامتثال للمكلّف بالامتثال الاحتمالي لا محالة ، فإن العقل المستقل بلزوم امتثال التكليف المتوجه إلى العبد من سيده ، يتنزل إلى كفاية الامتثال الاحتمالي عند تعذر الامتثال التفصيلي.

ثمّ إن للامتثال الاحتمالي مراتب بحسب قوة الاحتمال وضعفه ومع التمكن من المرتبة الأقوى منه لا يجوز الاقتصار بالقوي وهكذا ، فأول تلك المراتب العمل بقول المشهور بين الأصحاب لقوة احتمال مطابقته للواقع في مقابل القول النادر ، فمع عدم التمكن من العمل به رجع إلى فتاوى الأموات مقدماً للأعلم منهم على غيره ولو بالإضافة إلى المحصورين لتعذر تشخيص الأعلم من الأموات جمعاً. وإذا تعذر ذلك أيضاً عمل بظنه ، ومع عدم التمكن منه أيضاً ولو لعدم ظنه بشي‌ء عمل بأحد طرفي الاحتمال لأنه الميسور في حقه ، والتكليف بغير الميسور غير ميسور. وهذا كلّه من الامتثال الاحتمالي والتنزل إليه لتعذر الامتثال التفصيلي على الفرض.

ثمّ إن العامّي بعد ما عمل بفتوى غير الأعلم أو قول المشهور أو غيرهما من المراتب المتقدمة يرجع إلى فتوى من يجب عليه تقليده ، فإن كان ما أتى به مطابقاً للواقع حسبما أفتى به مقلّده فهو ، وإلاّ وجب قضاء أعماله أو إعادتها بلا فرق في ذلك بين أن يكون بطلانها مستنداً إلى فقدها لجزء أو شرط ركنين ، وأن يكون مستنداً إلى فقدها لشي‌ء من الأجزاء والشرائط غير الركنيتين. وذلك لما فرضناه من عدم مطابقة عمله للواقع ، وعدم قيام الدليل على كونه مجزئاً عن الواجب الواقعي ، وحديث‌

٣٤١

[٦١] مسألة ٦١ : إذا قلّد مجتهداً ثمّ مات ، فقلّد غيره ثمّ مات فقلّد من يقول بوجوب البقاء على تقليد الميت أو جوازه فهل يبقى على تقليد المجتهد الأول أو الثاني؟ الأظهر الثاني (*) والأحوط مراعاة الاحتياط (١).

______________________________________________________

لا تعاد وإن كان يدل على عدم وجوب الإعادة من غير الأركان إلاّ أنه يختص بما إذا كان العامل معتقداً صحة عمله بحيث لو لم ينكشف له الخلاف لم تجب عليه الإعادة وليس العامل في المقام كذلك لعدم اعتقاد صحة عمله للشك في مطابقته للواقع ووجوب الإعادة في مثله غير مقيد بما بعد الانكشاف ، لأنه لو لم ينكشف الخلاف أيضاً وجبت إعادته لتردده في مطابقة عمله للواقع وعدمها ، وبهذا يظهر الفرق بين المقام وبين ما إذا عمل عن تقليد صحيح ثمّ عدل أو تبدل رأي مجتهده حيث قلنا بعدم وجوب الإعادة حينئذٍ إذا كان العمل فاقداً لغير الأركان من الأُمور المعتبرة فيه.

(١) ما ذكره الماتن قدس‌سره من أن الأظهر أن يبقى على تقليد المجتهد الثاني يبتني على أن المكلّف بتقليده المجتهد الثاني وعدوله عن المجتهد الميت قد انتهى أمد تقليده الأول ، فيكون رجوعه إلى المجتهد الأول بعد ذلك من التقليد الابتدائي غير الجائز ، وعليه فيتعيّن البقاء على تقليد الثاني جوازاً أو وجوباً. ولا فرق في ذلك بين القول بأن التقليد هو الالتزام أو نفس العمل ، غاية الأمر أنه على الثاني لا بدّ من فرض العمل بفتوى المجتهد الثاني أيضاً.

أقول : قد تقدّم أنه لا أثر لتفسير التقليد بالعمل أو الالتزام في الحكم بجواز البقاء وعدمه وفي سعة موضوعه وضيقه.

والصحيح أن يقال : إنه لا مناص من الحكم بوجوب البقاء على تقليد الميت الأول إذا أفتى المجتهد الثالث وهو الحي بوجوب البقاء ، فإن وجوب البقاء على تقليد الميت إنما هو في فرض أعلمية الميت ومعه إذا علم المكلّف بالمخالفة بين الميت الأول والثاني في الفتوى وجب عليه البقاء على تقليد الميت الأول ، لما قدّمناه من أن فتوى الأعلم هي الحجة عند العلم بالمخالفة بينه وبين غير الأعلم. وأما عدوله إلى الثاني فقد كان مستنداً إلى عدم تجويز المجتهد الثاني للبقاء على تقليد الميت حتى إذا كان أعلم ، إذن‌

__________________

(*) هذا إذا كان المقلَّد قائلاً بجواز البقاء ، وأما إذا كان قائلاً بوجوبه فالأظهر هو الأول.

٣٤٢

فهو كان معذوراً في عدوله ولا يمنع هذا العدول المستند إلى فتوى الميت الثاني عن عدوله إلى الميت الأول ، لأنه كلا عدول عند المجتهد الثالث الّذي هو الحي ، لافتائه بوجوب البقاء على تقليد الميت الأول لأعلميته وعدم جواز العدول إلى الثاني ، ومع ذلك كيف يجوز البقاء على تقليد الثاني.

وإن شئت قلت : المفروض أن المجتهد الثالث يرى وجوب البقاء على تقليد المجتهد الأول لأنه كان أعلم من المجتهد الثاني ، ففتوى المجتهد الثاني لم تكن حجة في حق العامّي بنظر المجتهد الثالث حدوثاً ، ومع عدم حجيته حدوثاً في حال الحياة كيف يعقل أن تكون حجة بقاءً أي بعد موته لوضوح تبعية البقاء للحدوث. لأنّا إنما نتشبث في الاستدلال على حجية فتوى الميت بإطلاق الأدلة الدالة على حجية فتواه حال الحياة من جهة السيرة العقلائية الجارية على عدم الفرق بين صورتي موته وحياته فإذا لم تكن فتوى المجتهد حجة حدوثاً لم يمكن أن تتصف بالحجية بقاءً أي بعد موته. هذا بالإضافة إلى الميت الثاني.

وأما بالإضافة إلى الحي فإن كان الميت الأول كما أنه أعلم من الميت الثاني أعلم من الحي ، فلا ينبغي التردد في تعيّن البقاء على تقليده إذا علم المكلّف بالمخالفة في الفتوى بينهما ، وإذا لم يعلم بينهما بالمخالفة جاز له كل من البقاء على تقليد الميت الأول والعدول إلى الحي ، ولا يجب عليه الفحص عن مخالفتهما. نعم ، إذا اختار العدول إلى الحي ثمّ علم بالمخالفة بينه وبين الميت الأول ، وجب عليه العدول إلى الميت الأول لأنه أعلم على الفرض.

وأما إذا كان الحي أعلم من الميت الأول ، فإن لم يعلم المخالفة بينهما جاز للمكلّف كل من البقاء على تقليد الميت الأول والعدول إلى الحي ، وإن علم بينهما بالمخالفة تعيّن عليه العدول إلى تقليد المجتهد الحي لأنه أعلم على الفرض ، إلاّ أن محط كلام الماتن هو البقاء على تقليد الميت الأول بالإضافة إلى الميت الثاني لا بالإضافة إلى الحي ، هذا كلّه فيما إذا كان الميت الأول أعلم من الميت الثاني.

وإذا انعكس الأمر وكان المجتهد الثاني أعلم من الأول فإن كان المكلّف عالماً بالمخالفة بينهما في الفتوى ، كان المتعيّن في حقه الرجوع إلى الثاني فلم تكن فتوى المجتهد الأول حجة حتى فيما إذا كان حياً فضلاً عن موته ، ففي مثله لا يجوز البقاء على‌

٣٤٣

تقليده لا قبل موت المجتهد الثاني ولا بعد موته.

وأما إذا لم يكن المكلّف عالماً بالمخالفة بين المجتهد الأول والثاني فكان يجوز له أن يبقى على تقليد الأوّل ولا يفحص عن فتوى المجتهد الثاني ، لكنه إذا رجع إليه وتعلم فتواه المخالفة لفتوى المجتهد الأول على الفرض فقد سقطت فتوى المجتهد الأول عن الحجية فلا يجوز الرجوع إلى تقليده بعد موت المجتهد الثاني. والنتيجة أن في موارد جواز البقاء على تقليد الميت إذا رجع المقلّد إلى الحي لم يكن له الرجوع إلى الميت بعد ذلك.

ثمّ إن المجتهد الثاني الميت إذا كان أعلم من الحي أيضاً تعيّن البقاء على تقليده ، وأما إذا كان الأعلم هو الحي دون الميت الثاني فلا محالة يجوز للمكلّف أن يبقى على تقليد الميت الثاني لعدم العلم بالمخالفة بينه وبين الأعلم منه وهو المجتهد الحي وأن يعدل إلى الحي لفرض أنه أعلم من الميت ، ومع عدم العلم بالمخالفة بينهما تتصف فتواهما بالاعتبار ، ولا يجب على المكلّف الفحص عن مخالفتهما كما تقدم. نعم ، إذا اختار المكلّف العدول إلى الميت الثاني ثمّ علم بالمخالفة بينهما تعيّن عليه العمل بفتوى الحي لأنه الأعلم على الفرض.

وهناك صورة ثالثة : وهي ما إذا كان الميت الأول والثاني متساويين في الفضيلة أو احتملنا الأعلمية في كل منهما والمكلّف علم بينهما بالمخالفة ، ففي هذه الصورة لا يجوز البقاء على تقليد كل منهما ، لأن العلم بالمخالفة يسقط الفتويين عن الاعتبار فإن كان المجتهد الثالث أعلم منهما تعيّن الرجوع إليه. وإذا كان مساوياً معهما في الفضيلة فحاله حالهما لسقوط فتواه عن الحجية عند العلم بالمخالفة ، فإن أدلة الاعتبار غير شاملة للمتعارضين فيجب على المكلّف الاحتياط إن أمكنه وإلاّ فيتخيّر بحسب العمل.

ثمّ إنك عرفت أن مسألة جواز التقليد لا يمكن أن تكون تقليدية ، بل لا بدّ أن تستند إلى قطع المكلّف واطمئنانه. نعم ، لا مانع من التقليد في خصوصياته ، وفي المقام إن استقل عقل العامّي بشي‌ء من جواز البقاء على تقليد الميت أو عدمه فهو ، وأما إذا لم يستقل كما هو الغالب لعدم تمكنه من استقلال عقله بشي‌ء فلا يمكنه الرجوع في ذلك إلى فتوى الميت لأنها مشكوكة الحجية ، لعدم استقلال عقله بحجيتها أو عدمها. ولا يمكن أن تثبت حجية قوله بقول نفسه ، لأنه دور واضح فلا يمكن إثبات جواز البقاء‌

٣٤٤

[٦٢] مسألة ٦٢ : يكفي في تحقق التقليد (*) أخذ الرسالة والالتزام بالعمل بما فيها ، وإن لم يعلم ما فيها ولم يعمل (١) ، فلو مات مجتهده يجوز له البقاء (٢) وإن كان الأحوط مع عدم العلم بل مع عدم العمل ولو كان بعد العلم ، عدم البقاء والعدول إلى الحي (٣). بل الأحوط استحباباً على وجهٍ عدم البقاء مطلقاً ولو كان بعد العلم والعمل (٤).

______________________________________________________

على تقليد الميت بالرجوع إلى تقليد الميت ، ومعه لو عمل بفتوى الميت وقلّده فهو كالعمل من دون تقليد وقد مرّ أن العمل من دون تقليد أو عدليه باطل ظاهراً بمعنى أنه مما لا يمكن الاقتصار عليه لدى العقل ، لعدم ثبوت أن فتوى الميت مؤمّنة من العقاب فالمتعيّن أن يرجع في ذلك إلى الحي.

ما هو المحقق للتقليد :

(١) قد عرفت أن التقليد هو العمل استناداً إلى قول الغير ، ولا يكفي في تحققه الالتزام وأخذ الرسالة بوجه.

(٢) مرّ أن البقاء على تقليد الميت واجب أو جائز من دون أن يشترط فيه العمل سواء قلنا إن التقليد هو الالتزام أو فسّرناه بغيره من المعاني المتقدمة في محلّها ، فلا يتوقف جواز البقاء على أن يكون التقليد بمعنى الالتزام كما هو المتراءى من المتن. نعم يشترط في البقاء أن يكون المقلّد ذاكراً لفتوى الميت فلاحظ.

(٣) لاحتمال عدم تحقق التقليد بالالتزام لأن معناه محل الخلاف كما مرّ ، إلاّ أن العدول إلى الحي وعدم البقاء على تقليد الميت عند عدم العمل بفتواه ولو كان بعد العلم بها إنما يكون موافقاً للاحتياط فيما إذا قلنا بجواز البقاء على تقليد الميت ، وأما لو قلنا بوجوبه كما إذا كان الميت أعلم من الحي مع العلم بالمخالفة بينهما في الفتوى ، فلا يكون العدول إلى الحي وعدم البقاء على تقليد الميت عند عدم العمل بفتواه احتياطاً أبداً. نعم ، إذا لم يكن ذاكراً لفتواه لم يجز له البقاء لأنه مشروط بالذكر وعدم نسيان فتوى الميت كما مرّ.

(٤) لاحتمال عدم جواز البقاء على تقليد الميت مطلقاً فإن المسألة خلافية كما تقدم وهذا أيضاً فيما إذا لم يكن الميت أعلم.

__________________

(*) مرّ حكم هذه المسألة [ في المسألة ٨ ].

٣٤٥

[٦٣] مسألة ٦٣ : في احتياطات الأعلم إذا لم يكن له فتوى يتخيّر المقلّد بين العمل بها وبين الرجوع إلى غيره (١) الأعلم فالأعلم (*) (٢).

[٦٤] مسألة ٦٤ : الاحتياط المذكور في الرسالة إما استحبابي ، وهو ما إذا كان مسبوقاً أو ملحوقاً بالفتوى ، وإما وجوبي وهو ما لم يكن معه فتوى ويسمّى بالاحتياط المطلق ، وفيه يتخيّر المقلّد بين العمل به ، والرجوع إلى مجتهد آخر.

وأما القسم الأول فلا يجب العمل به ، ولا يجوز الرجوع إلى الغير (٣) بل يتخيّر بين العمل بمقتضى الفتوى ، وبين العمل به.

______________________________________________________

(١) أما جواز العمل بالاحتياط فلما أسلفنا عند التكلّم على الاحتياط من جواز الامتثال الإجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي فلاحظ. وأما جواز الرجوع إلى غيره فلأن الأعلم غير عالم بالحكم في مورد الاحتياط فلا بدّ معه من أن يرجع فيه إلى العالم بالمسألة. هذا إذا كان احتياط الأعلم مستنداً إلى عدم علمه بالحكم الواقعي وكون الشبهة قبل الفحص بحيث لا يخطّأ غير الأعلم فيما أفتى به. وأما لو كان احتياطه مستنداً إلى جزمه بانسداد الطريق إلى الحكم الواقعي بحيث يخطّأ غيره فيما أفتى به فلا مسوّغ معه للرجوع إلى غيره أبداً بل لا بدّ من الاحتياط ، لوجود فتوى الأعلم في الحكم الظاهري أعني وجوب الاحتياط ، إذ لا يشترط في وجوب الرجوع إليه أن يكون للأعلم فتوى في الحكم الواقعي.

(٢) هذا فيما إذا علم المكلّف بالمخالفة بين الأعلم فالأعلم في الفتوى ، وأما إذا لم يعلم بها فلا يجب مراعاة الأعلم فالأعلم لحجية فتوى كل منهما في نفسه على ما أسلفناه في محلّه فلاحظ.

(٣) لأنه في الحقيقة عدول عن تقليد الأعلم إلى تقليد غير الأعلم من غير مسوّغ لأن مفروضنا وجود الفتوى للأعلم في المسألة وهي حجة متعينة على الفرض‌

__________________

(*) هذا فيما إذا علم بالمخالفة بينهما ، وإلاّ فلا تجب مراعاة الأعلم فالأعلم.

٣٤٦

[٦٥] مسألة ٦٥ : في صورة تساوي المجتهدين يتخيّر بين تقليد (*) أيّهما شاء كما يجوز له التبعيض حتى في أحكام العمل الواحد حتى أنه لو كان مثلاً فتوى أحدهما وجوب جلسة الاستراحة ، واستحباب التثليث في التسبيحات الأربع وفتوى الآخر بالعكس يجوز أن يقلّد الأول في استحباب التثليث ، والثاني في استحباب الجلسة (١).

______________________________________________________

واحتمال الخلاف في المسألة وعدم مطابقة الفتوى للواقع وإن كان موجوداً بالوجدان إلاّ أنه ملغى بأدلة اعتبار فتوى الأعلم تعبداً ، إذ لا مسوّغ للأخذ بخلاف فتوى الأعلم وهو الّذي أفتى به غيره وإن كان موافقاً للاحتياط ، لأنه مما قامت الحجة على خلافه ، ومن الظاهر أن تطبيق العمل على ما لا يجوز الاستناد إليه في مقام الامتثال تشريع محرّم ، فإذا أفتى الأعلم بعدم الوجوب في مورد وأفتى غير الأعلم فيه بالوجوب لم يجز للمقلّد أن يأتي بالعمل بعنوان الوجوب استناداً إلى فتوى غير الأعلم به ، لقيام الحجة وهي فتوى الأعلم بعدم جواز الاستناد إليه فيكون الإتيان به بعنوان الوجوب تشريعاً محرّماً وإن كان موافقاً للاحتياط. نعم ، العمل بالاحتياط أمر حسن بل هو مستحب كما أفتى به الأعلم إلاّ أنه غير الرجوع في المسألة إلى غير الأعلم فلاحظ.

(١) قد أسلفنا في المسألة الثالثة والثلاثين وكذا في السابعة والأربعين اختصاص جواز التبعيض في التقليد في عملين ، وكذا في أحكام العمل الواحد بما إذا لم يعلم المخالفة في الفتوى بين المجتهدين. وأما على القول بجواز التقليد لكل من المتساويين أو للأعلم وغير الأعلم حتى مع العلم بالمخالفة بينهما فالمقلّد إنما يجوز أن يقلّد كلا منهما في بابين أو عملين متعددين ، وليس له التبعيض في تقليدهما في أحكام العمل الواحد وقد ذكرنا الوجه في ذلك في المسألتين المذكورتين فليراجع.

__________________

(*) مع عدم العلم بالمخالفة ، وإلاّ فيأخذ بأحوط القولين كما مرّ ، وبذلك يظهر حال التبعيض.

٣٤٧

[٦٦] مسألة ٦٦ : لا يخفى أن تشخيص موارد الاحتياط عسر على العامّي ، إذ لا بدّ فيه من الاطلاع التام (١) ومع ذلك قد يتعارض الاحتياطان فلا بدّ من الترجيح ، وقد لا يلتفت إلى إشكال المسألة حتى يحتاط ، وقد يكون الاحتياط في ترك الاحتياط ، مثلاً الأحوط ترك الوضوء بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر لكن إذا فرض انحصار الماء فيه الأحوط التوضؤ به بل يجب ذلك بناءً على كون احتياط الترك استحبابياً ، والأحوط الجمع بين التوضؤ به والتيمم. وأيضاً الأحوط التثليث في التسبيحات الأربع ، لكن إذا كان في ضيق الوقت ، ويلزم من التثليث وقوع بعض الصلاة خارج الوقت ، فالأحوط ترك هذا الاحتياط ، أو يلزم تركه ، وكذا التيمم بالجص خلاف الاحتياط لكن إذا لم يكن معه إلاّ هذا فالأحوط التيمم به ، وإن كان عنده الطين مثلاً فالأحوط الجمع ، وهكذا.

[٦٧] مسألة ٦٧ : محل التقليد ومورده هو الأحكام الفرعية العملية فلا يجري في أُصول الدين (٢).

______________________________________________________

(١) على ما بيّنا تفصيله في المسألة الثانية عند التكلّم على الاحتياط فراجع.

محل التقليد ومورده :

(٢) الكلام في هذه المسألة يقع من جهات :

١ ـ التقليد في أُصول الدين :

قد عرفت أن التقليد هو الاستناد إلى فتوى الغير في مقام العمل ، والوجه في وجوبه على ما قدّمناه استقلال العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب ، ولا يتأتى هذا فيما اعتبر فيه اليقين والاعتقاد كما في الأُصول كالتوحيد والنبوة والمعاد لوضوح أنه لا عمل في تلك الأُمور حتى يستند فيها إلى قول الغير أو لا يستند ، فإن المطلوب فيها هو اليقين والاعتقاد ونحوهما مما لا يمكن أن يحصل بالتقليد فلا معنى له في مثلها ، بل لو عقد القلب في تلك الأُمور على ما يقوله الغير لم يكتف به بوجه ، إذ‌

٣٤٨

المعتبر في الأُصول إنما هو اليقين والعرفان والاعتقاد ، وشي‌ء من ذلك لا يتحقق بعقد القلب على ما يقوله الغير. بل هذا هو القدر المتيقن مما دلّ على ذم التقليد واتباع قول الغير في الأُصول كقوله عزّ من قال ( إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) (١).

نعم ، هناك كلام آخر في أنه إذا حصل له اليقين من قول الغير يكتفي به في الأُصول أو يعتبر أن يكون اليقين فيها مستنداً إلى الدليل والبرهان؟ إلاّ أنه أمر آخر أجنبي عمّا نحن بصدده ، وإن كان الصحيح جواز الاكتفاء به إذ المطلوب في الاعتقاديات هو العلم واليقين بلا فرق في ذلك بين أسبابهما وطرقهما ، بل حصول اليقين من قول الغير يرجع في الحقيقة إلى اليقين بالبرهان ، لأنه يتشكّل عند المكلّف حينئذٍ صغرى وكبرى فيقول : هذا ما أخبر به أو اعتقده جماعة ، وما أخبر به جماعة فهو حق ، ونتيجتهما أن ذلك الأمر حق فيحصل فيه اليقين بأخبارهم.

٢ ـ التقليد في الموضوعات الصرفة :

إذا رأى المجتهد أن المائع المعين خمر مثلاً أو أنه مما أصابته نجاسة ، فهل يجب على من قلّده متابعته في ذلك ويعامل مع المائع المعين معاملة الخمر أو ملاقي النجاسة؟

لا ينبغي التوقف في عدم جواز التقليد في الموضوعات الصرفة ، لأن تطبيق الكبريات على صغرياتها خارج عن وظائف المجتهد حتى يتبع فيها رأيه ونظره ، فإن التطبيقات أُمور حسية والمجتهد والمقلّد فيها سواء ، بل قد يكون العامّي أعرف في التطبيقات من المجتهد فلا يجب على المقلّد أن يتابع المجتهد في مثلها.

نعم ، إذا أخبر المجتهد عن كون المائع المعيّن خمراً ، أو عن إصابة النجس له وكان إخباره إخباراً حسياً ، جاز الاعتماد على إخباره إلاّ أنه لا من باب التقليد بل لما هو الصحيح من حجية خبر الثقة في الموضوعات الخارجية ، ومن ثمة وجب قبول خبره على جميع المكلّفين وإن لم يكونوا مقلّدين له كسائر المجتهدين.

__________________

(١) الزخرف ٤٣ : ٢٣.

٣٤٩

٣ ـ التقليد في الموضوعات المستنبطة :

كالصلاة والصوم والزكاة وغيرها مما وقع الكلام في أنها أسام للصحيحة أو الأعم ، أو الموضوعات العرفية واللغوية كما في الغناء ونحوه فإذا بنى المجتهد على أن السورة لا يعتبر في مسمى الصلاة وأنها اسم للأجزاء والشرائط غير السورة ، أو أن الغناء هو الصوت المطرب لا ما اشتمل على الترجيع من غير طرب ، فهل يجب على العامّي أن يقلّده فيهما ، أو أن الموضوعات المستنبطة من الشرعية والعرفية وغيرهما خارجة عن الأحكام الشرعية ولا يجري فيها التقليد بوجه؟

الصحيح وجوب التقليد في الموضوعات المستنبطة الأعم من الشرعية وغيرها وذلك لأن الشك فيها بعينه الشك في الأحكام ، ومن الظاهر أن المرجع في الأحكام الشرعية المترتبة على تلك الموضوعات المستنبطة هو المجتهد ، فالرجوع فيها إليه عبارة أُخرى عن الرجوع إليه في الأحكام المترتبة عليها. مثلاً إذا بنى المجتهد على عدم صحة صلاة الرجل إذا كانت بحياله امرأة تصلي أو العكس إلاّ أن يكون الفاصل بينهما عشرة أذرع ، فمعنى ذلك أن الصلاة اسم للأجزاء والشرائط الّتي منها عدم كونها واقعة بحذاء امرأة تصلّي ، كما أن المجتهد إذا كتب في رسالته أن الغناء هو الصوت المشتمل على الترجيع سواء أكان مطرباً أم لم يكن ، فمعناه أن الحرمة الشرعية إنما ترتبت على الأعم من الصوت المطرب وغيره مشروطاً بأن يشتمل على الترجيع.

والمتحصّل : أن الرجوع في الموضوعات المستنبطة إلى المجتهد رجوع إليه في أحكامها والتقليد فيها من التقليد في الفروع.

٤ ـ التقليد في مبادئ الاستنباط :

وهي العلوم الأدبية واللغة وعلم الرجال ، وهل يجوز للمجتهد أن يقلّد عالماً من علماء الأدب أو الرجال في شي‌ء من القواعد الأدبية أو في تفسير كلمة أو فيما يرجع إلى الرجال ، حتى يرتّب على ذلك حكماً من الأحكام الشرعية عند التصدي لاستنباطها عن مداركها؟

٣٥٠

الصحيح عدم جريان التقليد في تلك الأُمور وذلك لأن مشروعية التقليد إنما ثبتت بالسيرة والكتاب والسنة ولا يشمل شي‌ء منها للمقام. أما الكتاب فلأن قوله عزّ من قائل ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ... ) (١) إنما يدل على مشروعية التقليد في الأحكام الشرعية الراجعة إلى الدين ، ومن الظاهر أن القاعدة الأدبية ، أو وثاقة راوٍ وعدمها ليست من الدين بوجه.

وأما السنة فلأن المستفاد من الروايات إنما هو مشروعية التقليد فيما يرجع إلى الحلال والحرام أو معالم الدين ونحوها ، ولا ينطبق شي‌ء من ذلك على القواعد الأدبية أو الرجالية لوضوح عدم كونها من الحلال والحرام ولا أنها من المعالم كما لا يخفى.

وأما السيرة العقلائية فلأنها وإن جرت على رجوع الجاهل إلى العالم ، ورجوع المجتهد إلى العالم بتلك القواعد أيضاً من رجوع الجاهل إلى العالم ، إلاّ أن ذلك على إطلاقه ليس مورداً للسيرة أبداً ، لاختصاصها بالمسائل النظرية المحتاجة إلى التدقيق والاستدلال كما في الطبابة والهندسة وغيرهما. وأما الأُمور الحسية الّتي لا يحتاج فيها إلى الدقة والاستنباط فلم تقم فيها السيرة على رجوع الجاهل إلى العالم ، وهذا كموت زيد وولادة ابنه ونحوهما فإنه إذا علم بها أحد باجتهاده وحدسه لم يكن أي مجوّز لتقليده ، لأنهما أمران حسيان لا يحتاجان إلى الاستنباط والاجتهاد ، ولا سيرة على رجوع الجاهل إلى العالم في مثلهما. ومبادئ الاستنباط من هذا القبيل ، لأن القواعد الأدبية راجعة إلى إثبات الظهور ، وهو من الأُمور الحسية فإذا بنى اللغوي أو غيره على أن اللفظة المعينة ظاهرة في معنى كذا بحدسه واجتهاده ، لم يجز اتباعه فيه لأنه لا دليل على مشروعية التقليد في الأُمور الحسية ، ومن هنا قلنا في محله إن اللغوي لا دليل على حجية قوله ونظره ، وكذلك الحال بالنسبة إلى علم الرجال ، لأن العدالة والوثاقة من الأُمور المحسوسة والاخبار عنها حدساً ليس بمورد للتقليد أبداً.

__________________

(١) التوبة ٩ : ١٢٢.

٣٥١

وفي مسائل أُصول الفقه ، ولا في مبادئ الاستنباط من النحو والصرف ونحوهما ، ولا في الموضوعات المستنبطة العرفية (*) أو اللغوية ولا في الموضوعات الصرفة ، فلو شكّ المقلّد في مائع أنه خمر أو خل مثلاً وقال المجتهد أنه خمر لا يجوز له تقليده. نعم ، من حيث إنه مخبر عادل يقبل قوله ، كما في إخبار العامّي العادل ، وهكذا. وأما الموضوعات المستنبطة الشرعية كالصلاة والصوم ونحوهما فيجري التقليد فيها كالأحكام العملية.

______________________________________________________

٥ ـ التقليد في أُصول الفقه :

المجتهد الواجد لملكة الاستنباط في الأحكام إذا لم يتمكن من الاستنباط في المسائل الأُصولية بأجمعها أو ببعضها ، كمسألة حجية الاستصحاب أو الخبر الواحد أو التخيير في تعارض الروايتين أو غيرها ، فهل يجوز أن يقلّد في تلك المسائل ويستنبط الفروع الفقهية بذلك بأن يكون هذا متوسطاً بين المقلّد والمجتهد ، أو أن المسائل الأُصولية كالموضوعات الصرفة وغيرها مما لا مجال فيه للتقليد؟

الّذي ينبغي أن يقال : إن المجتهد إذا تمكن من الاستنباط في الأحكام الفرعية ولم يتمكن منه في المسائل الأُصولية جاز له التقليد في تلك المسائل وهو مما لا محذور فيه ، فإن الأدلة المتقدمة الدالة على مشروعية التقليد وجوازه كما أنها شاملة للتقليد في الفروع كذلك شاملة للتقليد في الأُصول.

أما الكتاب فلما مرّ من أنه إنما دلّ على مشروعية التقليد في الأُمور الراجعة إلى الدين ، ومن البديهي أن حجية الاستصحاب أو الخبر الواحد أيضاً راجعة إلى الدين فتعلّمها تفقّه في الدين ، فالانذار بها حجة بمقتضى الآية المباركة فإنها مطلقة من ناحية كون الحكم الشرعي المنذر به حكماً للعمل من دون واسطة كما في الأحكام الفقهية أو‌

__________________

(*) لا فرق في الموضوعات المستنبطة بين الشرعية والعرفية في أنها محل للتقليد ، إذ التقليد فيها مساوق للتقليد في الحكم الفرعي كما هو ظاهر.

٣٥٢

حكماً للعمل مع الواسطة كما في المسائل الأُصولية.

وأما السنة فلأنها كما مرّ إنما دلت على مشروعية التقليد فيما يرجع إلى معالم الدين المنطبقة على المسائل الأُصولية أيضاً ، لوضوح أن حجية الخبر مثلاً من معالم الدين فلا مانع من الرجوع فيها إلى العالمين بها.

وأما السيرة فلأجل أنها جرت على رجوع الجاهل إلى العالم في الأُمور النظرية المبتنية على الاستدلال وإعمال الدقة والمسائل الأُصولية ، كذلك وبهذا نستنتج أن المسائل الأُصولية كالمسائل الفرعية قابلة للتقليد.

نعم ، لا يجوز للغير أن يقلّده فيما استنبطه كذلك لأنه في الحقيقة مقلّد في الحكم لوضوح أن النتيجة تتبع أخس المقدمتين ، فهو وإن كان مجتهداً في الفروع ومتمكناً من استنباطها إلاّ أنه مقلّد في الأُصول ، ومعه ينتهي الحكم الفرعي المستنبط إلى التقليد ولم يقم دليل على حجية النظر من مثله لغيره ، فلا يجوز للعامّي أن يقلّده فيما استنبطه كذلك ، هذا كلّه في كبرى المسألة.

وأما بحسب الصغرى وأنه هل يتحقق في الخارج شخص يتمكن من الاستنباط في الفروع الفقهية من دون أن يكون قادراً على الاستنباط في المسائل الأُصولية ، حتى يقلّد في تلك المسائل وبها يستنبط حكماً فرعيا بالاجتهاد أو لا يوجد لتلك الكبرى صغرى في الخارج؟

فالتحقيق أن مسألتنا هذه لا صغرى لها بوجه وتوضيحه : أنّا وإن ذكرنا في محلّه أن التجزي في الاجتهاد أمر ممكن بل لا كلام في وقوعه ، فلا مانع من أن يتمكن أحد من الاستنباط في باب أو مسألة لسهولة مأخذها دون مسألة أُخرى لصعوبتها ، بل قلنا إن التجزي مما لا بدّ منه في الاجتهاد المطلق عادة ، إلاّ أن ذلك فيما إذا كان المتجزي مجتهداً في مسألة حقيقة حتى فيما يتوقف عليه من المسائل الأُصولية وإن لم يكن كذلك في مسألة أُخرى لعجزه عن الاجتهاد فيها أو فيما يتوقف عليه. وأما أن المجتهد يتمكن من الاجتهاد في المسألة الفقهية وغير واجد لملكة الاجتهاد في المسألة الأُصولية الّتي‌

٣٥٣

تتوقف عليها تلك المسألة الفقهية ، فهو مما لا وقوع له وذلك لأن الاجتهاد في الأحكام الشرعية ليس بأهون من الاجتهاد في المسائل الأُصولية ، فإذا فرضنا أن المجتهد يتمكن من الاستنباط في الفروع وتطبيق الكبريات على صغرياتها ، فلا مناص من أن يكون متمكناً من الاجتهاد في المسائل الأُصولية أيضاً وإن لم يتصد لاستنباطها ، وقد أسلفنا عند التكلّم على الاجتهاد أن واجد الملكة لا يجوز له التقليد بوجه لعدم شمول الأدلة له.

أما آية النفر فلأنها دلت على حجية إنذار المنذر بالإضافة إلى من لا يتمكن من التفقه في الدين دون من هو مثل المنذر في القدرة على التفقه والإنذار.

وأما آية السؤال فلأنها على تقدير دلالتها إنما تدل على حجية جواب العالم لمن ليس له سبيل إلى التعلّم غير السؤال ، ولم تدل على حجيته بالإضافة إلى من يتمكن من التعلّم بالاجتهاد.

وأما الروايات فلأن القدر المتيقن من مداليلها حجية فتوى الفقيه على من لا يتمكن من تحصيل العلم بالواقع ، وكذلك السيرة لعدم جريانها في من يتمكن من تحصيل العلم بنفسه ، فإن الطبيب المتمكن من الطبابة والعلاج لنفسه أو لأولاده مثلاً لا نستعهد رجوعه أو إرجاعه المريض إلى طبيب آخر ، فصاحب الملكة لا مسوّغ لتقليده. وقد مرّ (١) أن شيخنا الأنصاري قدس‌سره ادعى الإجماع على عدم جواز التقليد له ، فلا مناص من أن يجتهد أو يحتاط.

والمتحصل : عدم جواز التقليد في المسائل الأُصولية مطلقاً أما مع التمكن من الاجتهاد في الأحكام الفرعية فلأجل عدم انفكاكه عن التمكن من الاجتهاد في المسائل الأُصولية ، وقد عرفت أن واجد الملكة ليس له التقليد فيما يتمكن من الاجتهاد فيه ، وأما مع العجز عن الاجتهاد في الأحكام الفرعية فلأنه لا يترتب أي فائدة على التقليد في المسائل الأُصولية حينئذٍ.

__________________

(١) راجع ص ١٧.

٣٥٤

[٦٨] مسألة ٦٨ : لا يعتبر الأعلمية فيما أمره راجع إلى المجتهد إلاّ في التقليد (١) ، وأما الولاية على الأيتام والمجانين والأوقاف التي لا متولِّي لها والوصايا التي لا وصيّ لها ونحو ذلك فلا يعتبر فيها الأعلمية ، نعم الأحوط في القاضي أن يكون أعلم من في ذلك البلد أو في غيره مما لا حرج في الترافع إليه.

______________________________________________________

ما لا يعتبر فيه الأعلمية :

(١) قد أسلفنا أن من جملة الشرائط المعتبرة في من يرجع إليه في التقليد هو الأعلمية إما مطلقاً ، وإما فيما إذا علمت المخالفة بينه وبين غير الأعلم في الفتوى على الخلاف ، إلاّ أن ذلك إنما هو بالإضافة إلى التقليد في الفروع.

وهل تعتبر الأعلمية في غيره من الأُمور الراجعة إلى المجتهد كالولاية على القصّر من الصغار والمجانين وعلى الأوقاف الّتي لا متولي لها ، والوصايا الّتي لا وصي لها وغيرها من الأُمور الّتي لا مناص من تحققها في الخارج وهي المعبّر عنها بالأُمور الحسبية ، كبيع مال اليتيم عند اقتضاء الضرورة له ، أو تزويج الصغير أو الصغيرة مع اقتضاء المصلحة في حقهما ، وصرف سهم الإمام عليه‌السلام في موارده ونحوها أو لا تعتبر؟

يقع الكلام في ذلك تارة في غير القضاء من الأُمور الراجعة إلى المجتهد ، وأُخرى في القضاء.

أما المقام الأول : فالمشهور بين الأصحاب قدس‌سرهم عدم اعتبار الأعلمية في من يرجع إليه في تلك الأُمور ، فلا مانع من الرجوع فيها إلى غير الأعلم وهو الّذي اختاره الماتن قدس‌سره إلاّ أن ذلك يبتني على أن يكون للفقيه في زمان الغيبة ولاية مطلقة قد ثبتت له بدليل لفظي قابل للتمسك بإطلاقه عند الشك في اعتبار الأعلمية في المجتهد الّذي يرجع إليه في تلك الأُمور ، فيقال حينئذٍ إن الأدلة المثبتة للولاية غير مقيدة بالأعلمية ، فلا مانع من أن ندفع بإطلاقها احتمال اعتبار الأعلمية في تلك الأُمور.

إلاّ أنّا ذكرنا في التكلّم على ولاية الفقيه أن ما استدل به على الولاية المطلقة في‌

٣٥٥

عصر الغيبة غير قابل للاعتماد عليه ومن هنا قلنا بعدم ثبوت الولاية له إلاّ في موردين وهما الفتوى والقضاء.

الولاية المطلقة للفقيه :

وتفصيل الكلام في ذلك : أن ما يمكن الاستدلال به على الولاية المطلقة للفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة أُمور :

الأول : الروايات كالتوقيع المروي عن كمال الدين وتمام النعمة ، والشيخ في كتاب الغيبة والطبرسي في الاحتجاج : « وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله ... » (١) نظراً إلى أن المراد برواة حديثنا هو الفقهاء دون من ينقل الحديث فحسب. وقوله عليه‌السلام : « مجاري الأُمور والأحكام بيد العلماء بالله الامناء على حلاله وحرامه ... » (٢). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الفقهاء أُمناء الرسل ... » (٣) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللهُمَّ ارحم خلفائي ثلاثاً قيل يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال : الّذين يأتون بعدي يروون حديثي وسنتي » (٤) وغيرها من الروايات.

وقد ذكرنا في الكلام على ولاية الفقيه من كتاب المكاسب أن الأخبار المستدل بها على الولاية المطلقة قاصرة السند أو الدلالة وتفصيل ذلك موكول إلى محلّه. نعم يستفاد من الأخبار المعتبرة أن للفقيه ولاية في موردين وهما الفتوى والقضاء ، وأما ولايته في سائر الموارد فلم يدلنا عليها رواية تامة الدلالة والسند.

الثاني : أن الولاية المطلقة للفقهاء في عصر الغيبة إنما يستفاد من عموم التنزيل وإطلاقه ، حيث لا كلام من أحد في أن الشارع قد جعل الفقيه الجامع للشرائط قاضياً وحاكماً وقد نطقت به مقبولة عمر بن حنظلة حيث ورد فيها ( قوله عليه‌السلام ) :

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٤٠ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٩.

(٢) تحف العقول : ١٧٢ ومستدرك الوسائل ١٧ : ٣١٥ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١٦.

(٣) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٢٠ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٢٩.

(٤) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٩ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٧.

٣٥٦

« فإني قد جعلته عليكم حاكماً ... » (١). وصحيحة أبي خديجة ، ففيها : « فإني قد جعلته عليكم قاضياً ... » (٢) فإن مقتضى الإطلاق فيهما أن يترتب الآثار المرغوبة من القضاة والحكّام بأجمعها على الرواة والفقهاء ، ومن تلك الآثار تصدّيهم لنصب القيّم والولي على القصّر ، والمتولي على الأوقاف الّتي لا متولي لها والحكم بالهلال وغيرها.

وذلك لأنه لا شبهة ولا كلام في أن القضاة المنصوبين من قبل العامة والخلفاء كانوا يتصدون لتلك الوظائف والمناصب كما لا يخفى على من لاحظ أحوالهم وسبر سيرهم وسلوكهم.

ويكشف عن ذلك كشفاً قطعياً صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : « مات رجل من أصحابنا ، ولم يوص فرفع أمره إلى قاضي الكوفة فصيّر عبد الحميد القيّم بماله ، وكان الرجل خلّف ورثة صغاراً ومتاعاً وجواري ، فباع عبد الحميد المتاع فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهن ، إذ لم يكن الميت صيّر إليه وصيته ، وكان قيامه فيها بأمر القاضي ، لأنهن فروج قال : فذكرت ذلك لأبي جعفر عليه‌السلام وقلت له : يموت الرجل من أصحابنا ولا يوصي إلى أحد ويخلف جواري فيقيم القاضي رجلاً منّا فيبيعهن أو قال : يقوم بذلك رجل منّا فيضعف قلبه لأنهن فروج فما ترى في ذلك؟ قال فقال : إذا كان القيّم به مثلك ومثل عبد الحميد فلا بأس (٣). لأنها صريحة في أن القضاة كانوا يتصدون لنصب القيّم ونحوه من المناصب ، فإذا دلت الرواية على أن المجتهد الجامع للشرائط قد جعل قاضياً في الشريعة المقدسة ، دلتنا بإطلاقها على أن الآثار الثابتة للقضاة والحكّام بأجمعها مترتبة على الفقيه ، كيف فإن ذلك مقتضى جعل المجتهد قاضياً في مقابل قضاتهم وحكّامهم. لأن الغرض من نصبه كذلك ليس إلاّ عدم مراجعتهم إلى قضاة الجور ، ورفع احتياجاتهم عن قضاتهم ، فلو لم تجعل له الولاية المطلقة ولم يكن متمكناً من إعطاء تلك المناصب لم يكن جعل القضاوة له موجباً لرفع احتياجاتهم ، ومع احتياجهم واضطرارهم إلى الرجوع في تلك‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٦ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٩ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٦.

(٣) وسائل الشيعة ١٧ : ٣٦٣ / أبواب عقد البيع وشروطه ب ١٦ ح ٢.

٣٥٧

الأُمور إلى قضاة الجور لا معنى لنهيهم عن ذلك.

وعلى الجملة : أن الولاية من شؤون القضاء ، ومع الالتزام بأن المجتهد مخوّل للقضاء لا بدّ من الالتزام بثبوت الولاية المطلقة له وبجواز أن يتصدى لما يرجع إليها في عصر الغيبة.

والجواب عن ذلك : أن القضاء بمعنى إنهاء الخصومة ، ومن هنا سمي القاضي قاضياً لأنه بحكمه ينهى الخصومة ويتم أمرها ويفصله. وأما كونه متمكناً من نصب القيّم والمتولي وغيرهما أعني ثبوت الولاية له فهو أمر خارج عن مفهوم القضاء كلّية ، فقد دلتنا الصحيحة على أن الشارع نصب الفقيه قاضياً ، أي جعله بحيث ينفذ حكمه في المرافعات وبه يتحقق الفصل في الخصومات ويتم أمر المرافعات ، ولا دلالة لها بوجه على أن له الولاية على نصب القيّم والحكم بثبوت الهلال ونحوه. لما تقدم من أن القاضي إنما ينصب قاضياً لأن يترافع عنده المترافعان وينظر هو إلى شكواهما ويفصل الخصومة بحكمه ، وأما أن له إعطاء تلك المناصب فهو أمر يحتاج إلى دليل آخر ولا دليل عليه. فدعوى أن الولاية من شؤون القضاء عرفاً ممنوعة بتاتاً. بل الصحيح أنهما أمران ويتعلّق الجعل بكل منهما مستقلا.

وأما تصدي قضاة العامة لكل من القضاء وما يرجع إلى الولاية فهو أيضاً من هذا القبيل ، بمعنى أنهما منصبان مستقلان والخليفة ربما كان يعطي منصب القضاء لأحد ويعطي منصب الولاية لأشخاص آخرين ، وربّما كان من باب الاتفاق يعطي ذلك المنصب أيضاً للقاضي فيصير القاضي بذلك ذا منصبين مجعولين بجعلين لا أن أحدهما من شؤون الآخر ، بحيث يغني جعل أحدهما عن جعل الآخر ، وفي عصر الحكومة العثمانية الّتي هي قريبة العهد من عصرنا أيضاً كان الأمر كما ذكر ، ولم يكن الولاية فيه من شؤون القضاء لئلاّ يحتاج إلى الجعل بعد جعل القضاء.

وأما عدم ارتفاع الحاجة عن أصحابهم عليهم‌السلام فيما إذا كان الفقيه قاضياً فحسب ولم يكن له الولاية على بقية الجهات ففيه : أن هذه المناقشة إنما تتم فيما إذا لم يتمكن الفقيه المنصوب قاضياً شرعاً من التصرف في تلك الجهات أبداً ، وأما لو جاز له أن يتصدى لها لا من باب الولاية بل من باب الحِسبة على ما سيتضح قريباً‌

٣٥٨

إن شاء الله ، فلا تبقى لأصحابهم أية حاجة في الترافع أو الرجوع إلى قضاة الجور ومعه يصح النهي عن رجوعهم إلى القضاة.

الثالث : أن الأُمور الراجعة إلى الولاية مما لا مناص من أن تتحقق في الخارج مثلاً إذا مات أحد ولم ينصب قيّماً على صغاره ولم يوص إلى وصي ليقوم بامورهم واحتيج إلى بيع مال من أمواله أو تزويج صغيرة من ولده ، لأن في تركه مفاسد كثيرة أو أن مالاً من أموال الغائب وقع مورد التصرف ، فإن بيع ماله أو تزويج الصغيرة أمر لا بدّ من وقوعه في الخارج ومَن المتصدّي لتلك الأُمور؟

فإن الأئمة عليهم‌السلام منعوا عن الرجوع إلى القضاة ، وإيقاف تلك الأُمور أو تأخيرها غير ممكن لاستلزامه تفويت مال الصغار أو الغائب أو انتهاك عرضهم ومعه لا مناص من أن ترجع الأُمور إلى الفقيه الجامع للشرائط ، لأنه القدر المتيقن ممن يحتمل أن يكون له الولاية في تلك الأُمور ، لعدم احتمال أن يرخّص الشارع فيها لغير الفقيه كما لا يحتمل أن يهملها لأنها لا بدّ من أن تقع في الخارج فمع التمكن من الفقيه لا يحتمل الرجوع فيها إلى الغير. نعم ، إذا لم يمكن الرجوع إليه في مورد ، تثبت الولاية لعدول المؤمنين.

والمتحصّل : أن الفقيه له الولاية المطلقة في عصر الغيبة ، لأنه القدر المتيقن كما عرفت.

والجواب عن ذلك : أن الأُمور المذكورة وإن كانت حتمية التحقق في الخارج وهي المعبّر عنها بالأُمور الحِسبية ، لأنها بمعنى الأُمور القربية الّتي لا مناص من تحققها خارجاً ، كما أن الفقيه هو القدر المتيقن كما مرّ إلاّ أنه لا يستكشف بذلك أن الفقيه له الولاية المطلقة في عصر الغيبة ، كالولاية الثابتة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام. حتى يتمكن من التصرف في غير مورد الضرورة ، وعدم مساس الحاجة إلى وقوعها أو ينصب قيّماً أو متولياً من دون أن ينعزل عن القيمومة أو التولية بموت الفقيه ، أو يحكم بثبوت الهلال أو غير ذلك من التصرفات المترتبة على الولاية المطلقة ، بل إنما يستكشف بذلك نفوذ التصرفات المذكورة الصادرة عن الفقيه بنفسه أو بوكيله كما هو مفاد قوله عليه‌السلام في الصحيحة المتقدمة : « إذا كان القيّم‌

٣٥٩

مثلك أو مثل عبد الحميد فلا بأس ». فإن تلك الأُمور لا يمكن للشارع إهمالها كما لا يحتمل أن يرخّص فيها لغير الفقيه دون الفقيه ، فيستنتج بذلك أن الفقيه هو القدر المتيقن في تلك التصرفات وأما الولاية فلا. أو لو عبّرنا بالولاية فهي ولاية جزئية تثبت في مورد خاص ، أعني الأُمور الحِسبية الّتي لا بدّ من تحققها في الخارج ومعناها نفوذ تصرفاته فيها بنفسه أو بوكيله.

ومن هنا يظهر أن الفقيه ليس له الحكم بثبوت الهلال ولا نصب القيّم أو المتولي من دون انعزالهما بموته ، لأن هذا كلّه من شؤون الولاية المطلقة وقد عرفت عدم ثبوتها بدليل ، وإنما الثابت أن له التصرف في الأُمور الّتي لا بدّ من تحققها في الخارج بنفسه أو بوكيله ، ومعه إذا نصب متولياً على الوقف أو قيّماً على الصغير فمرجعه إلى التصرف فيهما بالوكالة ولا كلام في أن الوكيل ينعزل بموت موكّله وهو الفقيه في محل الكلام.

فذلكة الكلام :

أن الولاية لم تثبت للفقيه في عصر الغيبة بدليل وإنما هي مختصة بالنبي والأئمة عليهم‌السلام ، بل الثابت حسبما تستفاد من الروايات أمران : نفوذ قضائه وحجية فتواه ، وليس له التصرف في مال القصّر أو غيره مما هو من شؤون الولاية إلاّ في الأمر الحِسبي فإن الفقيه له الولاية في ذلك لا بالمعنى المدعى ، بل بمعنى نفوذ تصرفاته بنفسه أو بوكيله وانعزال وكيله بموته ، وذلك من باب الأخذ بالقدر المتيقن لعدم جواز التصرف في مال أحد إلاّ بإذنه ، كما أن الأصل عدم نفوذ بيعه لمال القصّر أو الغيّب أو تزويجه في حق الصغير أو الصغيرة ، إلاّ أنه لما كان من الأُمور الحِسبية ولم يكن بدّ من وقوعها في الخارج كشف ذلك كشفاً قطعياً عن رضى المالك الحقيقي وهو الله ( جلّت عظمته ) وأنه جعل ذلك التصرف نافذاً حقيقة ، والقدر المتيقن ممن رضى بتصرفاته المالك الحقيقي ، هو الفقيه الجامع للشرائط فالثابت للفقيه جواز التصرف دون الولاية.

وبما بيّناه يظهر أن مورد الحاجة إلى إذن الفقيه في تلك الأُمور الحِسبية ما إذا كان الأصل الجاري فيها أصالة الاشتغال ، وذلك كما في التصرف في الأموال والأنفس والأعراض ، إذ الأصل عدم نفوذ تصرف أحد في حق غيره.

٣٦٠