موسوعة الإمام الخوئي - ج ١

الشيخ علي الغروي

الغيبة ليتمكن من نصب المتولي والقيّم ونحوهما ، إذن جعله المتولي أو القيّم في الحقيقة من التوكيل دون جعل التولية أو القيمومة. وقد تقدم أن بموت الموكّل تبطل وكالة الوكيل.

ودعوى : أن جعل القيمومة أو التولية ليس من جهة عموم الولاية للفقيه حتى يدفع بعدم الدليل عليه ، بل من جهة أن إعطاء هذه المناصب من الوظائف الراجعة إلى القضاة.

مندفعة بأن الفقيه إذا أنكرنا ثبوت الولاية المطلقة له فأنى له إعطاء هذه المناصب لغيره ، فإنه يحتاج إلى دليل ولم يدلنا أي دليل على أن القاضي يتمكن من إعطائها. وقوله في مقبولة عمر بن حنظلة : « فإني قد جعلته عليكم حاكماً » (١) أجنبي عن هذا المدعى ، لأنه بمعنى جعلته عليكم قاضياً كما ورد في صحيحة أبي خديجة حيث قال عليه‌السلام « فإني قد جعلته قاضياً » (٢) ويأتي أن جعل القضاوة لا دلالة له بوجه على تمكن القاضي من إعطاء تلك المناصب لمن أراد ، بل إثباته يحتاج إلى دليل. على أن المقبولة ضعيفة السند كما مرّ وغير صالحة للاستدلال بها على شي‌ء.

ونظيره دعوى : أن جعل القيّم أو المتولي من الحاكم كجعلهما من الله فليست القيمومة أو التولية راجعة إلى ولاية الفقيه ، أو أن المنصب من الله والحاكم واسطة في الثبوت فلا موجب لانعدامه بموت المجتهد الحاكم.

فإن كُلاًّ من الدعويين بلا دليل ، لوضوح أن كلامنا ليس في أن الحاكم هل يمكن أن ينصب قيّماً أو متولياً ولا ينعدم بموته ، فإن إمكانه أمر لا مناقشة فيه وإنما الكلام في ثبوته وهو يحتاج إلى دليل ، ولم يدلّنا أي دليل على أن للمجتهد نصب القيّم أو المتولي. اللهُمَّ إلاّ بناءً على ثبوت الولاية المطلقة له في عصر الغيبة ويأتي منّا أنها أيضاً مما لا دليل عليه.

بل لو سلمنا أن الفقيه له الولاية على النصب لا مناص من أن نلتزم بارتفاع القيمومة أو التولية الّتي جعلها المجتهد للقيّم والمتولي بموته ، فإن القدر المتيقّن من ثبوت‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٦ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣ / أبواب صفات القاضي ب ١ ح ٥.

٣٢١

[٥٢] مسألة ٥٢ : إذا بقي على تقليد الميت من دون أن يقلّد الحي في هذه المسألة كان كمن عمل من غير تقليد (١).

______________________________________________________

الولاية إنما هو ولايته على النصب وهو حي ، وأما ولايته على نصب القيّم مثلاً ما دام كون القيّم حياً ، وإن مات المجتهد فهي مشكوكة الثبوت ، وحيث لا إطلاق يتمسّك به لإثباتها فمقتضى الأصل عدم ولايته كذلك بعد موته.

ودعوى : أن السيرة جارية على إعطاء هذه المناصب من القضاة وبقاء المنصوبين من قبلهم على القيمومة أو التولية حتى بعد موت القاضي الجاعل لهما وخروجه عن الأهلية وأن هذا هو المرسوم في القضاة بالفعل أيضاً.

مندفعة بأن السيرة على ذلك غير ثابتة ، وأن المقدار الثابت على تقدير القول بالولاية إن القضاة لهم نصب القيّم والمتولي حال حياتهم وارتفاعهما بموتهم ، وأما أن لهم أن ينصبوا تلك المناصب إلى الأبد ليبقى بعد مماتهم فلم يحرز سيرتهم عليه.

ولا يمكن استصحاب بقاء القيمومة أو التولية للقيّم والمتولي بعد موت المجتهد الجاعل لهما ، لأنه من الاستصحابات الجارية في الشبهات الحكمية وقد مرّ غير مرّة عدم جريانها لابتلائها بالمعارض دائماً ، بل الاستصحاب لا مجال له في المقام وإن قلنا بجريانه في الشبهات الحكمية ، لأنه من المحتمل أن تكون ولاية القيّم أو المتولي من آثار ولاية القاضي الجاعل وشؤونها ، ومعه إذا مات الجاعل ارتفعت ولاية القيّم والمتولي لا محالة. إذن الموضوع غير محرز البقاء ، ومع عدم إحراز بقائه لا معنى للاستصحاب.

(١) نظير من عمل بآراء غير الأعلم من دون أن يقلّد الأعلم فيه ، لوضوح أنه ليس من التقليد الصحيح ، وليس للعامّي أن يكتفي بما أتى به كذلك فإن فتوى الميت أو غير الأعلم مشكوكة الاعتبار ، والعمل بما يشك في حجيته غير مؤمّن من احتمال العقاب ولا يجتزئ به العقل في امتثال التكاليف المنجزة بالعلم الإجمالي بوجه. اللهُمَّ إلاّ أن يرجع فيهما إلى الأعلم أو الحي المجوّزين تقليد غير الأعلم أو الميت بقاء ، فإن بذلك يستكشف أن إعماله كانت مطابقة للحجة فيحكم بصحتها.

٣٢٢

[٥٣] مسألة ٥٣ : إذا قلّد من يكتفي بالمرة مثلاً في التسبيحات الأربع واكتفى بها أو قلّد من يكتفي في التيمم بضربة واحدة ثمّ مات ذلك المجتهد فقلّد من يقول بوجوب التعدد لا يجب عليه (*) إعادة الأعمال السابقة (١) ، وكذا لو أوقع عقداً أو إيقاعاً بتقليد مجتهد يحكم بالصحة ثمّ مات وقلّد من يقول بالبطلان يجوز له البناء (**) على الصحة. نعم ، فيما سيأتي يجب عليه العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني. وأما إذا قلّد من يقول بطهارة شي‌ء كالغسالة ثمّ مات وقلّد من يقول بنجاسته فالصلوات والأعمال السابقة محكومة بالصحة وإن كانت مع استعمال ذلك الشي‌ء. وأما نفس ذلك الشي‌ء إذا كان باقياً فلا يحكم بعد ذلك بطهارته ، وكذا في الحلية والحرمة ، فإذا أفتى المجتهد الأول بجواز الذبح بغير الحديد مثلاً فذبح حيواناً كذلك فمات المجتهد وقلّد من يقول بحرمته فإن باعه أو أكله حكم بصحة البيع وإباحة الأكل. وأما إذا كان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه ولا أكله وهكذا.

______________________________________________________

(١) قد أسلفنا تفصيل الكلام في هذه المسألة في أوائل الكتاب عند الكلام على الاجزاء فلا نعيد.

__________________

(*) الضابط في هذا المقام أن العمل الواقع على طبق فتوى المجتهد الأول إما أن يكون النقص فيه نقصاً لا يضر مع السهو أو الجهل بصحته ، وإما أن يكون نقصاً يضر بصحته مطلقاً ، ففي الأول لا تجب الإعادة وأما الثاني ففيه تفصيل ، فإذا قلّد من يقول بعدم وجوب السورة في الصلاة ثمّ قلّد من يقول بوجوبها فيها لم تجب عليه إعادة الصلاة الّتي صلاّها بغير سورة في الوقت فضلاً عن خارجه ، وأما في الثاني كالطهور فإن كان الاجتهاد الثاني من باب الأخذ بالمتيقن وقاعدة الاحتياط ، وجبت الإعادة في الوقت لا في خارجه ، وإن كان من جهة التمسك بالدليل ، فالظاهر وجوب الإعادة مطلقاً.

(**) إذا كان العقد أو الإيقاع السابق مما يترتب عليه الأثر فعلاً فالظاهر عدم جواز البناء على صحته في مفروض المسألة ، وكذا الحال في بقية موارد الأحكام الوضعية من الطهارة والملكية ونحوهما.

٣٢٣

[٥٤] مسألة ٥٤ : الوكيل في عمل عن الغير كاجراء عقد أو إيقاع أو إعطاء خمس أو زكاة أو كفارة أو نحو ذلك يجب أن يعمل بمقتضى تقليد الموكل لا تقليد نفسه إذا كانا مختلفين ، وكذلك الوصي في مثل ما لو كان وصياً في استئجار الصلاة عنه يجب أن يكون على وفق فتوى مجتهد الميت (١).

______________________________________________________

الوكيل في عمل عن الغير :

(١) المكلّف إذا أراد تفريغ ذمة الغير عمّا اشتغلت به من التكاليف أو الوكيل في إجراء عقد أو إيقاع ونحوهما ، فهل يعتبر أن يراعي وظيفة نفسه الثابتة بالتقليد أو الاجتهاد ، أو أن الواجب أن يراعي وظيفة الغير؟ يختلف حكم المسألة باختلاف الموارد ، فإن تفريغ ذمة الغير قد يصدر من المتبرع ، وأُخرى من الولي ، وثالثة من الوصي ، ورابعة من الوكيل.

فإن كان المتصدي للتفريغ هو المتبرع أو الولي كالولد الأكبر إذا أراد تفريغ ذمة والده الميت عن الصلاة والصيام ، فلا مناص من أن يفرغا ذمة الميت بما هو الصحيح عندهما حتى يسوغ لهما الاجتزاء به في تفريغ ذمته وجوباً أو استحباباً. فإذا كان الميت بانياً على وجوب التسبيحات الأربع ثلاثاً أو على وجوب السورة في الصلاة دون المتبرع أو الولي ، جاز لهما الاقتصار في التسبيحات الأربع بالمرة الواحدة أو بالصلاة من دون سورة لأنهما محكومان بالصحة ومفرّغان ذمة الميت عندهما ، وكذلك الحال فيما إذا اختلفا في الأركان كما إذا بنى الميت اجتهاداً أو تقليداً على وجوب التوضؤ في بعض الموارد مع الجبيرة ، وبنى الولي أو المتبرع على وجوب التيمم فيه ، فإن اللاّزم أن يراعيا الصحيح عندهما لا الصحيح عند الميت.

وأما لو كان المتصدي للتفريغ هو الوكيل أو الوصي فلا مناص من أن يراعيا الصحيح عند الموصي أو الموكّل ، فإن الوكالة من إيكال الأمر إلى الغير فالموكّل أوكل العمل إلى وكيله ليقوم مقامه فيه ويعمل عمله ، فالوكيل وجود تنزيلي لموكّله وعمله عمله ومن هنا يصح إسناد عمله إلى الموكّل في العقود والإيقاعات ، ويكون قبضه‌

٣٢٤

قبض الموكّل ، ومعه لا بدّ للوكيل من أن يراعي الصحة عند الموكّل ، وإلاّ فلم يأت بالعمل الموكول إليه.

وإن شئت قلت : عمل الوكيل عمل للموكّل بالتسبيب فلا مناص من أن يراعي فيه نظر ، كما هو الحال في فعله المباشري ، لأنه لا فرق في العمل بين المباشرة والتسبيب فلو وكّل أحداً في استئجار من يصلّي عن أبيه مثلاً وكان ممن يرى الترتيب في القضاء دون الوكيل ، لم يجز للوكيل استئجار أجير للقضاء إلاّ أن يراعي الترتيب فيه.

ومن ذلك يظهر الحال في الوصي ، لأنه أيضاً نائب عن الموصي في تصرفاته فليس له أن يأتي بأعماله حسب نظره واعتقاده ، إذ ليس العمل عمله ، فإذا أوصاه أن يستأجر أحداً للقضاء عنه لم يجز للوصي استئجاره للصلاة من دون سورة ، وإن كانت الصلاة من دونها صحيحة عنده ، بل يجب استئجاره لها مع السورة ، لأنها الواجبة عند الموصي بالاجتهاد أو التقليد ، فالمنصرف إليه من الوكالة والوصاية لدى العرف ما لم تقم قرينة على الخلاف إنما هو استنابة الموكّل أو الموصي للوكيل والوصي في عملهما الموجب لتفريغ ذمتهما على نظرهما. فلا يمكن قياسهما بالمتبرع والولي فإن التكليف من الابتداء متوجه إليهما وجوباً أو استحباباً فلا مناص من مراعاة نظرهما ، وهذا بخلاف الوصي والوكيل فإن التكليف غير متوجه إليهما ابتداءً وإنما هو توجّه إلى الموصي والموكّل وهما يعطيان السلطة في إعمالهما إلى الوكيل أو الوصي ، فهما نائبان عن الموكّل والموصي فيجب أن يراعيا نظرهما.

نعم ، يمكن المناقشة بالإضافة إلى الأجير ، بأن العمل العبادي الّذي يقع مورد الإجارة إنما هو العمل الصحيح الموجب لتفريغ ذمة المنوب عنه ، فإذا فرضنا أن العمل الّذي أتى به الأجير عن المستأجر باطل بنظره فكيف يتمشى منه قصد التقرب به وإن كان صحيحاً عند المستأجر والمنوب عنه ، ومع عدم تمشي قصد القربة ووقوع العمل باطلاً وغير موجب لتفريغ ذمة المستأجر لم تصح إجارته لعدم قدرته على العمل الّذي وقع مورداً للإجارة ، ومع كون العمل باطلاً عند الأجير لا يصح إجارته.

نعم ، لا مانع من صحة الإجارة فيما إذا كان الأجير محتملاً لصحة العمل ، لأنه‌

٣٢٥

[٥٥] مسألة ٥٥ : إذا كان البائع مقلّداً لمن يقول بصحة المعاطاة مثلاً أو العقد بالفارسي ، والمشتري مقلّداً لمن يقول بالبطلان ، لا يصح البيع بالنسبة إلى البائع (*) أيضاً لأنه متقوّم بطرفين فاللاّزم أن يكون صحيحاً من الطرفين وكذا في كل عقد كان مذهب أحد الطرفين بطلانه ، ومذهب الآخر صحته (١).

______________________________________________________

يتمكّن حينئذٍ من إتيانه رجاءً وبما أنه صحيح عند المنوب عنه ، ومعه يحكم بصحة العمل ويكون موجباً لتفريغ ذمته ، فعلى ذلك أيضاً لا يعتبر في موارد الإجارة أن يكون العمل صحيحاً عند الأجير ، بل اللاّزم أن لا يكون باطلاً عنده فلاحظ.

اختلاف المتعاملين تقليداً أو اجتهاداً :

(١) قد يقال ببطلان المعاملة بالإضافة إلى كل من المتعاملين نظراً إلى أن المعاملة هي المعاقدة بين الالتزامين ولا إشكال في أنها قائمة بالطرفين ، فإذا حكم ببطلانها بالإضافة إلى المشتري مثلاً لم يكن مناص من الحكم ببطلانها بالإضافة إلى البائع أيضاً ، إذ لا معنى لصحتها بالإضافة إلى أحدهما وبطلانها بالإضافة إلى الآخر لأنها قائمة بالطرفين ، فلا يقاس أبواب العقود والمعاملات بالأحكام التكليفية ، لأنها يمكن أن تثبت في حق أحد دون آخر كالغسالة الّتي يرى بعضهم طهارتها وهي محكومة بالنجاسة عند غيره.

وقد يقال بصحتها بالإضافة إلى كليهما ، لأن المعاقدة والمعاملة أمران قائمان بطرفي المعاملة فإذا صححناها في طرف ، دلّ ذلك بالدلالة الالتزامية على صحتها في الطرف الآخر أيضاً.

ولا يمكن المساعدة على شي‌ء منهما ، وذلك لأن الحكم بالصحة في كلا الطرفين عند صحتها بالإضافة إلى أحدهما كما أصرّ عليه شيخنا المحقق في حاشيته على المكاسب (١) أو الحكم بالفساد عند الحكم بفسادها بالإضافة إلى أحدهما ، كما بنى‌

__________________

(*) بل يصح بالنسبة إليه ، وتقوّم البيع بالطرفين إنما هو بالإضافة إلى الحكم الواقعي دون الظاهري.

(١) حاشية المكاسب ( الأصفهاني ) : ٧٤.

٣٢٦

عليه الماتن إنما هو بحسب الحكم الواقعي لوضوح أن مع فساد المعاملة واقعاً من طرف المشتري مثلاً لا معنى لصحتها من طرف البائع كما لا معنى لفسادها من أحد الطرفين مع صحتها من أحدهما. إلاّ أن كلامنا إنما هو إذا رأى أحدهما بطلان المعاملة بحسب الحكم الظاهري الثابت عنده بالتقليد أو الاجتهاد ، ورأى الآخر صحتها ظاهراً كذلك ، وليس محل الكلام ما إذا صحت المعاملة أو فسدت عند أحدهما واقعاً ولا تلازم بين الفساد من طرف ظاهراً وبين الفساد من الجانب الآخر.

فالصحيح بناءً على الطريقية في باب الأمارات دون السببية والموضوعية أن يلتزم بصحة المعاملة عند القائل بالصحة وفسادها عند القائل بالفساد في مرحلة الظاهر ، لقيام الطريق على الصحة عند أحدهما وعلى الفساد عند الآخر ، فلا مناص من أن يعمل كل منهما حسبما تقتضيه الوظيفة الظاهرية وما أدت إليه الأمارة القائمة عنده ، والتفكيك والاختلاف بين المتلازمين في مرحلة الظاهر أمر لا محذور فيه فنلتزم بأن المبيع مثلاً خرج عن ملك البائع ظاهراً وأنه المالك للثمن ، كما نلتزم بأن الثمن باق على ملك المشتري وأن المثمن غير داخل في ملكه بحسب الظاهر.

نعم ، هذا يؤدي إلى الاختلاف والنزاع بين المتعاملين فيرجع فيه إلى حكم الحاكم ويعمل على طبق الموازين المقررة في باب القضاء ، وإلاّ فالبائع مالك للثمن ويجوز له أخذه من المشتري ولو حيلة ، ولا وجه معه للحكم بالصحة ولا للحكم بالفساد من كلا الجانبين.

نعم ، ما ذهب إليه الماتن قدس‌سره من الحكم بالفساد في كلا الطرفين إنما يتم بناءً على ما لا يلتزم به هو قدس‌سره ولا غيره من المحققين من القول بالسببية والموضوعية في باب الطرق ، وذلك لأنّا إذا التزمنا بانقلاب الواقع عند قيام الأمارة على الخلاف كانت الصحة عند القائل بها والفساد عند الآخر حكماً واقعياً حسبما أدت إليه الأمارة القائمة عندهما ، فليس هناك حينئذٍ حكم ظاهري ليجوز التفكيك بين المتعاملين بحسب الصحة والفساد. فإذا فرضنا أن الحكم الواقعي هو الفساد وكانت الأمارة القائمة عند أحدهما على صحة المعاملة مستلزمة لقلب الواقع وتبدل الفساد بالصحة واقعاً ، والحكم بالصحة في أحد الطرفين واقعاً لا يجتمع مع الحكم بالفساد‌

٣٢٧

[٥٦] مسألة ٥٦ : في المرافعات اختيار تعيين الحاكم بيد المدعي (١)

______________________________________________________

واقعاً في الطرف الآخر ، وكذا الحال فيما إذا كان الحكم الواقعي هو الصحة فإن الأمارة القائمة عند أحدهما على الفساد تستلزم قلب الواقع إلى مؤداها لا محالة وبها تتبدل المعاملة الصحيحة فاسدة واقعاً ، والحكم بالفساد في أحد الطرفين لا يجتمع مع الحكم بالصحة واقعاً في الطرف الآخر ، ومع عدم ثبوت صحتها وفسادها كانت النتيجة هو الفساد ، فلا يمكن الحكم بانتقال الثمن إلى البائع ولا بانتقال المثمن إلى المشتري كما أفاده الماتن قدس‌سره.

وأما بناءً على ما هو الصحيح عند محققي الأصحاب من القول بالطريقية ، فاللاّزم هو الحكم بالصحة عند أحدها حسبما أدت إليه الأمارة القائمة عنده والحكم بالفساد عند الآخر حسبما أداه الطريق القائم عنده كما عرفت.

(١) الوجه فيه : أن إثبات القضية المدّعاة إنما هو على المدعي وهو الّذي يحتاج في ذلك إلى إقامة الحجة والدليل ، وله أن يحتج عليها بما شاء ، ويستدل بأي دليل أراده فالاختيار في ذلك إليه ، وليس للمنكر أن يقترح له الدليل ويعيّن له الحجة في استدلاله بأن يقول : إني لا أقبل قولك إلاّ أن تستدل عليه بدليل كذا ، فإنه أمر غير مسموع لدى العقلاء ولا يعتنون به بوجه ، فإن المنكر لا يروم من المدعي سوى إثبات مدعاه ، سواء في ذلك أن يحتج المدعي بهذا أو بذاك ، كما أن الأمر كذلك في الاستدلالات العلمية ، فإن المخالف في المسألة لا يطالب من المخالف في المسألة إلاّ الدليل ومطلق ما به البيان وليس له أن يطالبه بدليل يقترح له ، بل الاختيار في ذلك إلى المستدل. إذن للمدعي أن يختار أحد الحاكمين ، ويستدل بحكمه ، ويحتج به على مدعاه.

ومن هنا ذكرنا في بحث التفسير أن أمر المعجزة إنما هو بيد مدعي النبوة وأنه ليس للناس أن يقترحوا المعجزة على مدعيها ، وقد ورد في بعض الروايات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما مضمونه أن اقتراح المعجزة غير راجع إلى الناس ، وليس أمر تعيينها بيدهم وإنما ذلك إلى الله فهو الّذي يعيّن معجزة للنبي (١).

__________________

(١) راجع البرهان : تفسير سورة الإسراء الآية ٩٠.

٣٢٨

إلاّ إذا كان مختار المدعى عليه أعلم (١) بل مع وجود الأعلم وإمكان الترافع إليه الأحوط الرجوع إليه مطلقاً.

[٥٧] مسألة ٥٧ : حكم الحاكم الجامع للشرائط لا يجوز نقضه ولو لمجتهد آخر (٢).

______________________________________________________

(١) يأتي في المسألة الثامنة والستين أن الأعلمية غير معتبرة في حجية القضاء ونفوذ حكم الحاكم في المترافعين ، بل الأعلم وغيره سيّان. إذن اختيار تعيين الحاكم بيد المدعي مطلقاً سواء أكان مختار المنكر أعلم أم لم يكن.

حكم الحاكم لا يجوز نقضه :

(٢) قد يستدل عليه بالإجماع وأُخرى بما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة من قوله عليه‌السلام : « فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله ، وعلينا ردّ والرادّ علينا الرادّ على الله وهو على حد الشرك بالله » (١).

ويرد عليهما : أن الإجماع ليس من الإجماع التعبدي الكاشف عن قوله عليه‌السلام لاحتمال استناد المجمعين إلى المقبولة أو غيرها من الوجوه المذكورة في المقام فلا يمكن الاستدلال به بوجه. وأما المقبولة فهي على ما أشرنا إليه غير مرة ضعيفة السند لعدم ثبوت وثاقة عمر بن حنظلة فلاحظ.

فالصحيح أن يستدل على ذلك بما علمنا بالضرورة من تشريع القضاء في الشريعة المقدّسة وقد دلّ عليه قوله عزّ من قائل ( وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (٢) ويستفاد أيضاً من الروايات المأثورة عنهم عليهم‌السلام بوضوح. كصحيحة أبي خديجة قال : « قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام .... ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٦ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١.

(٢) النساء ٤ : ٥٨.

٣٢٩

إليه » (١) وصحيحته الأُخرى قال : « بعثني أبو عبد الله عليه‌السلام إلى أصحابنا فقال : قل لهم إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شي‌ء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق ، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضياً ... (٢) إلى غير ذلك من الروايات. بل لو لا مشروعية القضاء في الخصومات للزم اختلال النظام والهرج والمرج.

فمشروعية القضاء في الشريعة المقدسة من المسلّمات والقضاء بمعنى فصل الخصومة وحلّها. وقد قيل : إنما سمي ذلك بالقضاء ، لأن القاضي يقضي على الخصومة بفصلها ، فلا يجوز وصلها بعد فصلها فإن جوازه يستلزم لغوية القضاء. وحيث إن المستفاد من الروايات أن حكم الحاكم إذا صدر عن الميزان الصحيح معتبر مطلقاً ، وأن اعتباره ليس من جهة الأمارية إلى الواقع بل إنما هو لأجل أن له الموضوعية التامة في فصل الخصومات وحل المرافعات ، فلا مناص من الالتزام بعدم جواز نقضه مطلقاً سواء علمنا بعدم مطابقته للواقع أو بالخطإ في طريقه وجداناً أو تعبداً أم لم نعلم به بلا فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية فلا يجوز للمتخاصمين إعادة الدعوى عند ذلك الحاكم مرة ثانية أو عند حاكم آخر رضيا بها أم لم يرضيا ، كما لا يجوز للحاكم سماعها.

ويدلنا على ذلك مضافاً إلى ما قدّمناه من الإطلاق وأن اعتبار الحكم من باب الموضوعية ، أن حكم الحاكم لو جاز نقضه عند العلم بمخالفته للواقع أو الخطأ في طريقه للزم عدم نفوذه غالباً في الترافع في الشبهات الموضوعية وبقاء التخاصم فيها إلى الأبد ، لعلم كل من المترافعين غالباً بعدم صدق الآخر أو عدم مطابقة بينته للواقع مع أنه لا مجال للتأمل في شمول الإطلاقات للشبهات الموضوعية ، ونفوذ حكم الحاكم فيها جزماً ، ومنه يظهر أن الإطلاقات شاملة للشبهات الحكمية أيضاً كذلك وأن حكم الحاكم نافذ فيها ولو مع العلم بالمخالفة للواقع أو الخطأ في طريقه ، هذا كلّه إذا صدر الحكم على الميزان الصحيح.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣ / أبواب صفات القاضي ب ١ ح ٥.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٩ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٦.

٣٣٠

إلاّ إذا تبيّن خطؤه (١)

______________________________________________________

وأما لو حكم من دون أن يراعي الموازين الشرعية قصوراً أو تقصيراً كما إذا استند في حكمه إلى شهادة النساء في غير ما تصح فيه شهادتهن ، أو استند إلى بينة المنكر دون المدعي ، أو حكم بما هو ضروري الخلاف الكاشف عن قصوره في الاستنباط وعدم قابليته للقضاء فلا مانع من الترافع بعده ، إلاّ أن هذا ليس بنقض للحكم حقيقة لأن الخصومة لم تنفصل واقعاً حتى يجوز وصلها أو لا يجوز ، فإن الحكم غير الصادر على الموازين المقررة كالعدم فلا حكم لينقض.

(١) مقتضى الروايات الواردة في المقام وإن كان أن حكم الحاكم له الموضوعية التامة في فصل الخصومة والنزاع ، إلاّ أن مع التأمل فيها لا يكاد يشك في أن حكم الحاكم غير مغيّر للواقع عمّا هو عليه ، بل الواقع باق بحاله وحكم الحاكم قد يطابقه وقد يخالفه ، كيف وقد صرح بذلك في صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان ، وبعضكم ألحن بحجته من بعض ، فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعت له به قطعة من النار » (١) فإنها صريحة كما ترى في أن القضاء غير مبدّل للواقع وأن من حكم له الحاكم بشي‌ء إذا علم أن الواقع خلافه لم يجز له أخذه.

إذن لا يمكننا أن نرتّب آثار الواقع بحكم الحاكم عند العلم بعدم مطابقته للواقع بلا فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية ، وسواء علمنا بالخلاف بالوجدان أم بالتعبد ، فإذا ترافعا في صحة بيع وفساده وادعى أحدهما أنه مائع متنجّس لملاقاته العصير قبل ذهاب ثلثيه أو لاقى عرق الجنب عن الحرام ، والحجة قامت عنده على نجاستهما ، وبنى الآخر على صحة البيع لطهارتهما عنده ، وحكم الحاكم بصحة المعاملة لبنائه على طهارة الملاقي في الصورتين وجب على مدعي البطلان أن يرتّب على المعاملة آثار الصحة تنفيذاً لحكم الحاكم ، إلاّ أنه ليس له أن يرتّب آثار الطهارة على المبيع لعلمه بنجاسته تعبداً.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٣٢ / أبواب كيفية الحكم ب ٢ ح ١.

٣٣١

كما أن الحاكم إذا حكم بالمال لأحد المتخاصمين في ملكية شي‌ء وجب على كليهما أن يرتّبا على المال آثار ملكية المحكوم له ظاهراً ، فيجب على المحكوم عليه دفع المال إلى المحكوم له لعدم جواز نقض الحكم كما مرّ ، إلاّ أنه أي المحكوم له لا يتمكن من أن يتصرف فيه سائر التصرفات إذا علم أن الحكم على خلاف الواقع كما أن المحكوم عليه يجوز أن يسرقه من المحكوم له إذا علم أن المال له وأن حكم الحاكم غير مطابق للواقع. بل لا يبعد الحكم بجواز التقاصّ له من مال المحكوم عليه إذا توفرت الشروط كما إذا علم أن المحكوم له قد ظلمه وادعى المال مع علمه بأنه ليس له. هذا.

وقد يقال بالتفصيل في الشبهات الموضوعية بين ما إذا استند الحاكم إلى اليمين فلا يجوز للمحكوم عليه السرقة والتقاصّ وإن علم أن حكمه ذلك مخالف للواقع وبين ما إذا استند إلى البينة فيجوز ، وذلك للأخبار الواردة في أن من كان له على غيره مال فأنكره فاستحلفه لم يجز له الاقتصاص من ماله بعد اليمين فان اليمين تذهب بالحق وهي عدّة روايات.

منها : ما رواه خضر النخعي « في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده قال : فإن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقه » (١).

ومنها : رواية عبد الله بن وضّاح وفيها : « ولو لا أنك رضيت بيمينه فحلّفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك ، ولكنك رضيت بيمينه وقد ذهبت اليمين بما فيها ... » (٢).

ومنها غير ذلك من الروايات.

والصحيح عدم الفرق في جواز الاقتصاص بين اليمين والبينة ، وذلك فإن الأخبار الدالة على أن اليمين تذهب بالحق على طائفتين : إحداهما : واردة في الاستحلاف وأن من له المال لو استحلف المنكر لم يجز له الاقتصاص من ماله بعد اليمين. وثانيتهما : ما ورد في أن المنكر لو حلف لم يجز لمن له المال الاقتصاص من ماله.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٣ : ٢٨٥ / أبواب الأيمان ب ٤٨ ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٤٦ / أبواب كيفية الحكم ب ١٠ ح ٢.

٣٣٢

أما الطائفة الأُولى : فهي وإن كانت تامة دلالة ، ولا يمكن حملها على أن الحق الّذي يذهب به اليمين هو حق الدعوى لا الحق المدعى ، لأنه خلاف ما ورد في بعضها كما في الرواية المتقدمة « وقد ذهبت اليمين بما فيها » أي بما في يدك. وقوله في رواية موسى بن أكيل النميري « ذهبت اليمين بحق المدعي » (١) كما أنها غير معارضة في مداليلها ، إلاّ أنها ضعيفة السند وغير قابلة للاستدلال بها بوجه.

أما الطائفة الثانية : فمنها : صحيحة سليمان بن خالد قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف ثمّ وقع له عندي مال آخذه ( فآخذه ) لمكان مالي الّذي أخذه وأجحده ، وأحلف عليه كما صنع؟ قال : إن خانك فلا تخنه ، ولا تدخل فيما عبته عليه » (٢) إلاّ أنها معارضة بصحيحة أبي بكر الحضرمي قال « قلت له : رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذه منه بقدر حقي؟ قال : فقال : نعم ... » (٣) إذن لا مجال للتفصيل في الشبهات الموضوعية بين اليمين والبينة.

والمتحصل : أن بحكم الحاكم لا يجوز ترتيب آثار الواقع إذا علمنا مخالفته للواقع. نعم ، إذا لم يعلم أنه على خلافه أو مطابق له جاز ترتيب آثار الواقع بحكم الحاكم فلا مانع من ترتيب أثر الطهارة على المبيع ، أو مالية المال للمحكوم له في المثالين عند عدم العلم بمخالفة الحكم للواقع ، لأنه مقتضى السيرة القطعية فلاحظ.

ثمّ إن ما ذكرناه بناءً على ما استدللنا به من صحيحتي أبي خديجة المتقدمتين ظاهر لا اشكال فيه. وأما لو اعتمدنا على مقبولة عمر بن حنظلة فقد يتوهّم دلالتها على أن حكم الحاكم أمارة على الواقع ومعه لا مانع من ترتيب آثار الواقع بالحكم فيجوز لمدعي البطلان في المثال أن يرتّب آثار الطهارة على المبيع ، وكذلك المحكوم له يجوز أن يتصرف في المال وإن علم بعدم مطابقة الحكم للواقع ، فالأمارة القائمة على نجاسة الملاقي أو عدم كون المال للمحكوم له وإن كانت معارضة لحكم الحاكم وانهما أمارتان‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٤٤ / أبواب كيفية الحكم ب ٩ ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٢٧٤ / أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ٧.

(٣) ورد مضمونه في وسائل الشيعة ١٧ : ٢٧٤ / أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ٥.

٣٣٣

[٥٨] مسألة ٥٨ : إذا نقل ناقل فتوى المجتهد لغيره (١) ثمّ تبدل رأي المجتهد في تلك المسألة لا يجب على الناقل إعلام من سمع منه الفتوى الاولى وإن كان أحوط ، بخلاف ما إذا تبيّن له خطوة في النقل فإنه يجب عليه الاعلام (*)

______________________________________________________

متعارضتان ، إلاّ أن الحكم مقدم على الأمارة المخالفة لورود المقبولة في مورد تعارض الحجتين ، فإن موردها هو التنازع في الدين أو الميراث الظاهر في التنازع في الحكم الكلّي ، والاختلاف في الحكم الشرعي إنما يتصوّر مع الحجة والدليل ، ومعه لو قدمنا العمل بالحجة على الحكم استلزم ذلك تخصيص المورد وهو أمر غير جائز.

ويدفعه : مضافاً إلى أن المقبولة ضعيفة سنداً ولا دلالة لها على الأمارية وترتيب أثر الواقع لأنها إنما تدل على تقدم حكم الحاكم قضاءً للتخاصم ، أن جعل الأمارة والطريق مع العلم بالخلاف أمر لا معنى له ، وما معنى كون الحكم حجة وطريقاً مع القطع بكونه مخالفاً للواقع ، وكيف يمكن الالتزام بوجوب قبوله وحرمة ردّه مع العلم بأنه خلاف ما أنزله الله سبحانه.

ثمّ إن هذا كلّه في موارد الترافع والخصومات الأعم من الشبهات الحكمية والموضوعية. وهل ينفذ حكم الحاكم ويحرم نقضه في غير موارد الترافع أيضاً كثبوت الهلال ونصب القيّم والمتولي ونحوها؟ يأتي عليه الكلام في المسألة الثامنة والستين إن شاء الله ، ونبيّن هناك أنه لا دليل على نفوذ حكم الحاكم في غير موارد الترافع فليلاحظ.

تبدّل الرأي بعد نقل الفتوى :

(١) أو أن المجتهد أفتى بشي‌ء ثمّ تبدل رأيه كما تعرض له في المسألة التاسعة والستين فهل يجب على الناقل أو المجتهد نفسه إعلام المقلّدين ومن سمع منه الفتوى الأُولى أو لا يجب؟

وذلك فإن المجتهد قد يفحص عن أدلة المسألة ومداركها بالمقدار اللاّزم في الاجتهاد‌

__________________

(*) مرّ الكلام فيه [ في المسألة ٤٨ ].

٣٣٤

كما لو فحص عنها في مظانّها والأبواب المناسبة لتلك المسألة ولا يظفر بما يدله على الحرمة أو الوجوب ومن هنا يفتي في المسألة بالجواز ، ويقف بعد ذلك في غير الباب المناسب لها على ما يدله على الحرمة أو الوجوب فيضطر بذلك إلى العدول عن فتواه الاولى بالجواز.

وأحسن مثال لتلك الكبرى مسألة حرمة تمكين الزوجة الحائض زوجها من نفسها ، فإن قوله عزّ من قائل ( فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ ) (١) خطاب للأزواج والأخبار الدالة على حرمة وطء الحائض في الأبواب المناسبة لها كلّها يختص بهم فمن فحص عن حرمة وطء الحائض لا يعثر في الأبواب المناسبة لها على دليل يدل على الحرمة بالإضافة إلى الزوجة لاختصاص الأدلة بالزوج ، ومن هنا وقع الكلام في أن الحائض هل يجوز أن تمكّن زوجها من نفسها ، كما إذا أراد الوقاع عصياناً من غير ناحية الإعانة على الإثم أو كان زوجها مجنوناً أو غير بالغ حتى يخرج عن شبهة الإعانة على الإثم لعدم حرمة الوطء بالإضافة إليها أو لا يجوز؟ فالمجتهد الفاحص عنها في مظانها لا يكاد تصله الحرمة بالإضافة إلى الزوجة ومعه يفتي بجواز تمكينها. إلاّ أنه إذا عثر في أبواب العدد على باب أن المعتدة بالأقراء إذا رأت الدم في أول الحيضة الثالثة جاز لها أن تتزوج ، ولم يجز لها أن تمكن من نفسها حتى تطهر ، ورأى الأخبار الدالة على حرمة التمكين على الحائض من نفسها اضطر إلى العدول والإفتاء بالحرمة في المسألة ، فهل في تلك الموارد المذكورة يجب على المجتهد أو ناقل الفتوى السابقة أعلام من سمع منه الفتوى الاولى بعد العدول أو لا يجب؟

والصحيح عدم وجوب الاعلام لعدم دلالة الدليل عليه والوجه فيه : أن المقلّد السامع للفتوى الاولى وإن كان يقع في مخالفة الواقع من جهة أخبار المجتهد أو الناقل إلاّ أن التسبيب إلى وقوعه في المحرّم إنما هو من الله سبحانه دون الناقل أو المجتهد ، فإن الفتوى الاولى للمجتهد حجة شرعية في ظرفها ، والمجتهد أو الناقل كان كلاهما مرخصين في بيانها ، فإن المقدار المعتبر من الفحص إنما هو الفحص عن المسألة في مظانها والأبواب المناسبة لها كما مرّ ، ولا يجب الفحص عنها في جميع الأبواب الفقهية‌

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٢٢.

٣٣٥

[٥٩] مسألة ٥٩ : إذا تعارض الناقلان في نقل الفتوى تساقطا وكذا البينتان وإذا تعارض النقل مع السماع من المجتهد شفاهاً قدم السماع (*) ، وكذا إذا تعارض ما في الرسالة مع السماع ، وفي تعارض النقل مع ما في الرسالة قدّم ما في الرسالة مع الأمن من الغلط (١).

______________________________________________________

بوجه. ومن الظاهر أن حجية الفتوى السابقة مستندة إلى الشارع ، لأنه الّذي اعتبر الفتوى الأُولى حجة ، فالالقاء في مخالفة الواقع مستند إلى الله نظير ما ذكره ابن قبة في شبهته المعروفة وإن أجبنا عنها في محلّها ، ومع أن التسبيب من الشارع دون المجتهد أو الناقل لا مقتضي لوجوب الاعلام عليهما من ناحيته.

وأما وجوب تبليغ الأحكام الشرعية فهو إنما يقتضي وجوب الفتوى الثانية بجعلها في معرض الوصول إليها ، ولا يقتضي وجوب إيصالها إلى المقلّد الّذي سمع منه الفتوى الاولى من أحدهما ، وعليه فالاعلام في هذه الصورة لا دليل على وجوبه.

اللهُمَّ إلاّ أن يكون وقوع المكلّف في الحرام أو ترك الواجب مستنداً إلى المجتهد أو الناقل بحسب البقاء ، وذلك كما إذا صلّى المقلّد من دون سورة بمرأى منهما استناداً إلى فتوى المجتهد أو النقل ، لأنهما حينئذٍ لو لم يبيّنا له وجوبها ولم ينبهاه بالعدول استند الحكم بوجوب الصلاة من دون سورة إليهما بقاءً ، وهو من التسبيب إلى الوقوع في مخالفة الواقع وهو حرام ولا مناص معه من الالتزام بوجوب الاعلام عليهما ، وهذا بخلاف ما إذا لم يستند ذلك إليهما بحسب البقاء. ولا يقاس هذه المسألة بما لو أفتى المجتهد خطأ أو نقل الناقل فتواه كذلك ، لأن التسبيب حينئذٍ من المجتهد أو الناقل. وأما في المقام أعني مسألة العدول وتبدل الرأي فالتسبيب مستند فيها إلى الشارع كما مرّ.

تعارض الناقلين في نقل الفتوى :

(١) وتفصيل الكلام في هذه المسألة أن فتوى المجتهد قد تثبت بالسماع إما من نفسه شفاهاً أو بالنقل عنه ، وقد تثبت بالبينة ، وثالثة بوجدانها في رسالته إذا كانت مأمونة‌

__________________

(*) في إطلاقه وإطلاق ما ذكر بعده إشكال بل منع.

٣٣٦

من الغلط ، ولا كلام في ثبوتها بتلك الأُمور وإنما الكلام فيما إذا وقعت المعارضة بينها.

والتعارض قد يتحقق بين فردين من سنخ واحد ، كما إذا سمع منه الفتوى بالجواز مرّة والفتوى بالحرمة أُخرى ، أو أن الناقل نقل عنه الفتوى بالجواز ونقل آخر عنه الفتوى بالحرمة ، أو أن بيّنة أخبرت عن فتواه بالحرمة وبيّنة اخرى أخبرت عن فتواه بالجواز ، أو وجد في إحدى رسالتيه الفتوى بشي‌ء وفي الأُخرى الفتوى بشي‌ء آخر.

وفي هذه الصورة إذا كان أحدهما ناظراً إلى زمان والآخر إلى زمان آخر ، كما إذا حكى أحدهما عن فتوى المجتهد السابقة وحكى الآخر عن فتواه الفعلية واحتمل العدول في حقه ، وجب العمل على طبق المتأخر منهما لعدم المعارضة بينهما إذ لا معارض للمتأخر منهما زماناً سوى استصحاب عدم عدول المجتهد عن الفتوى السابقة وهو لا يعارض الدليل.

وإذا كان كلاهما ناظراً إلى زمان واحد كما لو وجد في إحدى رسالتيه المطبوعة في تاريخ معيّن فتواه في المسألة بالجواز ، وفي رسالته الأُخرى المطبوعة في ذلك التاريخ بعينه في مطبعة اخرى أفتى فيها بالحرمة ، أو بيّنة أخبرت عن أن فتواه الفعلية هي الجواز ، وأخبرت اخرى عن أن فتواه الفعلية هي الحرمة ، أو أن أحد الناقلين نقل إفتاءه الفعلية بالجواز والآخر نقل إفتاءه الفعلية بالحرمة. نعم ، هذا لا يتصور في السماع بالمشافهة لعدم إمكان فتويين متنافيتين في زمان واحد. أو كان أحدهما ناظراً إلى زمان والآخر إلى زمان آخر ، كما إذا حكى أحدهما عن فتواه السابقة وحكى الآخر عن فتواه الفعلية إلاّ أنّا لم نحتمل في حقه العدول عن فتواه السابقة ، فلا مناص من تساقطهما بالمعارضة كما هو مقتضى القاعدة في المتعارضين. هذا إذا وقع التعارض بين فردين من سنخ واحد كما عرفت.

وقد تتحقق المعارضة بين سنخين من الأُمور المتقدمة وهذا له صور ثلاث :

الاولى : أن يعارض السماع بالمشافهة مع الرسالة المأمونة من الغلط.

الثانية : أن يعارض الرسالة مع النقل بالخبر أو البيّنة.

الثالثة : أن يعارض السماع بالمشافهة مع النقل بالخبر أو البيّنة.

ذكر الماتن قدس‌سره أن السماع من المجتهد شفاهاً مقدّم على النقل والرسالة كما‌

٣٣٧

أن الرسالة مقدمة على النقل.

والصحيح أن يقال : إن المتعارضين من تلك الأُمور إن كانا ناظرين إلى زمانين متعددين فلا تعارض بينهما حقيقة فيما إذا احتمل العدول في حقه ، بل اللاّزم وقتئذٍ هو الأخذ بالمتأخر منهما زماناً ، واستصحاب عدم العدول عن الفتوى السابقة لا يعارض الأمارة كما تقدم.

وإذا فرضناهما ناظرين إلى زمان واحد أو زمانين مع العلم أيضاً بعدم العدول كانت الأمارتان متعارضتين لا محالة ، وحينئذٍ إذا كانت المعارضة بين السماع من المجتهد شفاهاً وبين نقل الثقة أو البينة فإن لم يحتمل الخطأ فيما سمعناه من المجتهد كما لو اتحد المجلس وسئل فيه المجتهد عن المسألة واختلف فيما أجاب به عن السؤال فأخبر الثقة أو البينة عن أنه أفتى في المجلس بالجواز ، والمقلّد سمع منه الفتوى بالحرمة مثلاً فهما من الدليلين المتعارضين أحدهما قطعي والآخر ظني ، للقطع بعدم الخطأ في الفتوى المسموعة من المجتهد وأن ما سمعناه منه بالمشافهة من الحكم بالحرمة هو فتواه في المسألة ، ومعه يسقط النقل عن الحجية للعلم بعدم مطابقته للواقع ، لأنه إما كاذب أو مشتبه في نقله ، هذا إذا كانا ناظرين إلى زمان واحد.

وأما إذا كان كل منهما ناظراً إلى زمان ، وعلمنا عدم عدول المجتهد عن الفتوى السابقة فالأمر أيضاً كذلك ، لاستلزام العلم بفتواه الفعلية بالسماع العلم بأن فتواه السابقة أيضاً كذلك ، لأن مفروضنا العلم بعدم عدول المجتهد عن فتواه السابقة ، إذن يقع التعارض بين السماع والنقل في الزمان السابق فيتقدم السماع لأنه قطعي ، والنقل معلوم الخلاف كما مرّ.

وأما لو احتملنا الخطأ في فتواه الّتي سمعناها منه شفهاً ، كما إذا تعدد المجلس فسمعنا منه الفتوى بالجواز في مجلس ونقل عنه الثقة أو البينة الفتوى بعدم الجواز في مجلس آخر ، مع العلم بعدم عدوله عن فتواه السابقة ، فلا علم لنا حينئذٍ بكذب الناقل أو خطأه ، لأنه من المحتمل أن يكون الخطأ في فتوى المجتهد الّتي سمعناها عنه شفاهاً ، ومع هذا الاحتمال لا مانع من شمول أدلة الاعتبار لنقل الثقة أو البينة. وحيث إنّا نحتمل الخطأ في كل من الناقل والمجتهد تجري أصالة عدم الغفلة والخطأ في كل منهما ومقتضاها القطع التعبدي بصدور كلتا الفتويين لولا المعارضة ، لكنا علمنا بالخطإ في‌

٣٣٨

إحداهما فلا مناص من الحكم بتساقطهما بالمعارضة.

ولا يقاس المقام بما إذا تعارض السماع من الإمام عليه‌السلام مع النقل فإنا إذا سمعنا الحكم من الإمام عليه‌السلام شفاهاً جزمنا بعدم مطابقة النقل للواقع لعدم احتمال الخطأ في الإمام عليه‌السلام وهذا بخلاف المقام لاحتمال صدور كلتا الفتويين عن المجتهد حتى مع السماع عنه مع العلم بالخطإ في إحداهما ، ولأجل هذا العلم الإجمالي تقع المعارضة بين الفتويين ويتساقطان فلا يمكن الأخذ بشي‌ء منهما ، فتقدم السماع على النقل إنما هو في صورة العلم بعدم خطأ المجتهد في الفتوى المسموعة عنه شفاهاً ، هذا كلّه فيما إذا كانت المعارضة بين السماع والنقل.

وأما إذا وقع التعارض بين السماع والرسالة فإن كانت الرسالة من غيره كما يتفق كثيراً فترى أن الثقة جمع فتاوى المجتهد في كتاب ، فالتعارض وقتئذٍ من تعارض النقل والسماع فيأتي فيه جميع ما قدّمناه في تعارضهما آنفاً.

وأما لو كانت الرسالة بخطه وكتابته أو بخط غيره ولكنها مما لاحظه المجتهد كما إذا جمعها غير المجتهد وهو قد راجعها ونظر فيها ، فالمعارضة من تعارض الفتويين الصادرتين من المجتهد إحداهما شفاهاً والأُخرى كتابة ، وأصالة عدم الخطأ وإن جرت في كل منهما في نفسه ، إلاّ أنه عند تعارضهما لا يبعد دعوى جريان السيرة العقلائية على عدم إجرائها في الفتوى المسموعة عنه شفاهاً ، وذلك لأن الخطأ فيها مظنون ولكنه في فتواه بالكتابة موهوم ، فإن الإنسان بالطبع يهتم ويحتفظ بخصوصيات المطلب عند الكتابة بما لا يحتفظ به في مكالماته شفاهاً ، ومن هنا يشتبه فيها كثيراً بخلاف الكتابة ولا سيما في مقام الاستدلال والاستنباط ، فبما أن الكتابة أضبط وأوثق إذا كانت مأمونة من الغلط لم تجر أصالة عدم الخطأ في معارضها وهي الفتوى بالمشافهة ، عند العقلاء.

ومن ذلك يظهر حكم ما إذا وقع التعارض بين النقل والرسالة ، فإن الكتابة كما تقدم أضبط من الفتوى بالمشافهة فضلاً عن نقلها ، فلا تجري فيها أصالة عدم الخطأ. وعلى الجملة إذا قدّمنا الرسالة على سماع الفتوى من المجتهد بالمشافهة تقدمت على النقل الحاكي عن تلك الفتوى الشفهية بطريق أولى فيحكم بخطإ الناقل ويعمل على طبق الرسالة.

٣٣٩

[٦٠] مسألة ٦٠ : إذا عرضت مسألة لا يعلم حكمها ولم يكن الأعلم حاضراً فإن أمكن تأخير الواقعة إلى السؤال ، وجب ذلك (*) وإلاّ فإن أمكن الاحتياط تعين ، وإن لم يمكن يجوز الرجوع إلى مجتهد آخر الأعلم فالأعلم ، وإن لم يكن هناك مجتهد آخر ولا رسالته يجوز العمل بقول المشهور بين العلماء إذا كان هناك من يقدر على تعيين قول المشهور ، وإذا عمل بقول المشهور ثمّ تبيّن له بعد ذلك مخالفته لفتوى مجتهده فعليه الإعادة أو القضاء ، وإذا لم يقدر على تعيين قول المشهور يرجع إلى أوثق الأموات ، وإن لم يمكن ذلك أيضاً يعمل بظنه ، وإن لم يكن له ظن بأحد الطرفين يبني على أحدهما ، وعلى التقادير بعد الاطلاع على فتوى المجتهد إن كان عمله مخالفاً لفتواه فعليه الإعادة أو القضاء (١).

______________________________________________________

(١) بناءً على ما قدّمناه من جواز الرجوع إلى غير الأعلم فيما إذا لم يعلم المخالفة بينه وبين الأعلم جاز الرجوع إلى غير الأعلم في مفروض الكلام ، وإذا لم يتمكن من الرجوع إليه من جهة العلم الإجمالي بمخالفة فتاواه مع فتاوى الأعلم في المسائل المبتلى بها يلزمه تأخير الواقعة أو الاحتياط ، وإذا لم يمكن ذلك رجع إلى غير الأعلم حتى مع العلم بالمخالفة إجمالاً.

وإذا لم يتمكن من الرجوع إلى غير الأعلم أيضاً أخّر الواقعة إلى السؤال عن حكمها ، فإن التكاليف الواقعية قد تنجّزت في حقه ومعه يحتاج المكلّف في موارد التكليف إلى المؤمّن من العقاب لوجوب دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب ، ولا يتحقق ذلك إلاّ بتأخير الواقعة.

وإذا لم يتمكن من تأخيرها احتاط إن أمكنه لأنه أمر سائغ محصّل للجزم بالامتثال وفراغ الذمة حتى مع التمكن من الرجوع إلى الأعلم فضلاً عمّا إذا لم يتمكن من الرجوع إليه ، وإذا لم يتمكّن من الاحتياط لدوران الأمر بين جزئية شي‌ء ومانعيته مثلاً رجع إلى فتوى غير الأعلم حتى مع العلم بالمخالفة بينه وبين الأعلم في المسألة إجمالاً ، وذلك لحجية فتوى غير الأعلم وقتئذٍ للسيرة العقلائية الجارية على الرجوع‌

__________________

[١] بل يجوز له تقليد غير الأعلم حينئذٍ.

٣٤٠