موسوعة الإمام الخوئي - ج ١

الشيخ علي الغروي

وتثبت بشهادة العدلين (*) (١)

______________________________________________________

يرد منه أن يكون ظاهره مطابقاً للواقع.

وأما الوثوق بالأمانة كما في رواية الشيخ فلأنه لم يؤخذ في موضوع جواز الاقتداء بما أنه صفة نفسانية خاصة ، للقطع بجواز الصلاة خلف من ثبتت عدالته بالبينة أو بالاستصحاب مع عدم اطمئنان النفس بعدالة الإمام. إذن المراد بالوثوق بالأمانة هو الطريق الكاشف عن أمانته وإن كان غير الوثوق ومعه تكون الأخبار المتقدمة الدالة على أن حسن الظاهر طريق تعبدي في استكشاف العدالة ، حاكمة على هذه الرواية لدلالتها على أن الأمانة والعدالة لا ينحصر استكشافهما بالوثوق.

فالمتحصل : أن حسن الظاهر كاشف عن العدالة في نفسه. وإن لم يكن فيه أي كشف عن الملكة علماً أو ظنا.

طرق ثبوت العدالة

(١) لما تقدّم (١) من أن البينة بمعنى شهادة العدلين وإن لم يرد ما يدل على اعتبارها بالخصوص ، إلاّ أنها حجة عقلائية أمضاها الشارع بعمله ، لما بيّناه في البحث عمّا يثبت به الاجتهاد والنجاسة من أن البينة بمعنى ما يتبيّن به الشي‌ء ، وقد استعملت بهذا المعنى في غير واحد من الآيات المباركة ، وورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه إنما يقضي بالأيمان والبينات ، أي بمطلق ما يتبيّن به الشي‌ء لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد طبّق البينة عليها في المرافعات وعمله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا يكشف عن حجية البينة بالمعنى المصطلح عليه ، إلاّ في موارد دلّ الدليل فيها على عدم اعتبارها ، كما في الزنا والدعوى على الميت إذ البينة إنما تعتبر فيهما بضميمة شي‌ء آخر ولا يكفي فيهما من دون ضميمة.

فالمتحصل : أن البينة المصطلح عليها حجة ببناء العقلاء الّذي أمضاه الشارع كما‌

__________________

(*) تقدم أنه لا يبعد ثبوتها بشهادة عدل واحد ، بل بمطلق الثقة وإن لم يكن عدلاً.

(١) راجع ص ١٧٣.

٢٤١

مرّ ، من دون فرق في ذلك بين الشهادة القولية والفعلية ، لاستقرار سيرتهم على العمل بالشهادة الفعلية كالقولية ، فإذا رأينا عدلين قد ائتما رجلاً في الصلاة مع العلم بكون ذلك منهما صادراً بالاختيار وبداعي انعقاد الجماعة كشف ذلك عن عدالته.

بل ذكرنا في محلّه (١) أن الموضوعات الخارجية كما تكفي فيها البينة الاصطلاحية تكفي فيها شهادة العدل الواحد ، إلاّ فيما خرج بالدليل كما في موارد الترافع ونحوه بل لا تعتبر العدالة أيضاً لكفاية الوثوق في الاعتبار ، فإن عمدة الدليل على حجية خبر الثقة في الأحكام الشرعية هو السيرة العقلائية الممضاة بعدم الردع عنها في الشريعة المقدسة ، وهي بعينها قائمة على اعتباره في الموضوعات من غير أن يردع عنها الشارع كما بيّناه في البحث عمّا تثبت به النجاسة ، وما يثبت به الاجتهاد والأعلمية.

نعم ، في كفاية شهادة العدلين في العدالة والاجتهاد ونظائرهما إشكال آخر وحاصله : أن الشهادة إنما تعتبر في الأُمور المحسوسة بإحدى الحواس ، والعدالة والاجتهاد ونظائرهما أُمور مختفية عن الحواس ، ولا اعتبار بالشهادة في الحدسيات لأن المشهود به يعتبر أن يكون أمراً قابلاً للاحساس.

ويندفع بما أشرنا إليه من أن الشهادة إنما لا تعتبر في الأُمور المتمحّضة في الحدسية وأما الأُمور الحدسية القريبة من الإحساس فلا مانع من اعتبار الشهادة فيها بوجه لإمكان استكشافها بآثارها ، كما هو الحال في الملكات والصفات النفسانية بأجمعها كالجبن والشجاعة والسخاوة ، فكما إذا شاهدنا أحداً يقدم على المخاوف والأُمور الخطيرة مراراً متعددة ، استكشفنا شجاعته كاستكشاف جبنه من عكسه ، كذلك الحال في العدالة والاجتهاد وما شابههما ، فإذا رأينا أحداً يتمكن من الجمع بين الروايتين وله التصرف والتحقيق في غير مورد من المسائل ، أو أنه ساتر لعيوبه ومتعاهد للصلوات في أوقاتها وظاهره حَسَن في جملة من الموارد ، استكشفنا أنه واجد للاجتهاد والعدالة أو لملكتهما على القول بالملكة.

ثمّ إن العدالة تمتاز عن الاجتهاد وغيره في أن لها طريقاً آخر لاستكشافها دون الاجتهاد ونظائره وهو حُسن الظاهر كما مرّ.

__________________

(١) في المسألة [٢١٤].

٢٤٢

وبالشياع المفيد للعلم (١).

[٢٤] مسألة ٢٤ : إذا عرض للمجتهد ما يوجب فقده للشرائط يجب على المقلّد العدول إلى غيره (٢).

______________________________________________________

(١) لأن العدالة كالاجتهاد والأعلمية وغيرهما مما لا ينبغي التوقف في ثبوته بالعلم الوجداني لأنه حجة ذاتية من غير جعل ، كما لا إشكال في ثبوتها بالاطمئنان البالغ مرتبة العلم العادي الّذي لا يعتني العقلاء باحتمال الخلاف فيه لكونه موهوماً غايته ، لجريان السيرة العقلائية على الاعتماد عليه في أُمورهم من غير أن يردع عنها في الشريعة المقدسة ، ولا تشمله الأدلة الناهية عن العمل بالظن لخروجه عن موضوعها في نظرهم لأنه علم عندهم ، ومن هنا يعاملون معه معاملة العلم الوجداني.

ثمّ إنه لا فرق في حجية العلم الوجداني أو الاطمئناني العادي بين أسبابه ، فلا فرق بين حصوله من الشياع أو من غيره لأنه متى ما حصل للمكلف علم عادي أو وجداني بالعدالة أو غيرها ، جاز له أن يرتّب عليه آثار العدالة أو غيرها مما تعلق به علمه.

(٢) نسب إلى بعضهم القول بكفاية استجماع المجتهد للشرائط حدوثاً في جواز البقاء على تقليده ، وإن عرضه ما يوجب فقده للشرائط عدا الحياة فلا يعتبر كونه واجداً لها بقاءً في جواز تقليده بحسب البقاء.

والصحيح كما هو المعروف بين أصحابنا أن جواز تقليد المجتهد متوقف على استجماعه للشرائط حدوثاً وبقاءً ، ومتى زالت عنه بأجمعها أو ببعضها سقط عن قابلية الرجوع إليه في الفتوى ووجب العدول عنه إلى غيره ، بلا فرق في ذلك بين أن يكون فقد الشرط مستلزماً لزوال الرأي كزوال العقل والاجتهاد الموجب لزوال عنوان الفقيه ، وبين أن يكون مستلزماً لزوال الوصف مع بقاء الرأي كزوال الأعلمية والعدالة ونحوهما. وقد بيّنا الوجه في ذلك في التنبيه الأول من تنبيهات الشرائط المعتبرة في المجتهد (١) ولا نعيد ، ويأتي أيضاً في المسألة الثانية والأربعين إن شاء الله فلاحظ.

__________________

(١) راجع ص ٢٠٠.

٢٤٣

[٢٥] مسألة ٢٥ : إذا قلّد من لم يكن جامعاً ، ومضى عليه برهة من الزمان كان كمن لم يقلّد أصلاً (١) فحاله حال الجاهل القاصر (٢) أو المقصّر (٣).

[٢٦] مسألة ٢٦ : إذا قلّد من يحرّم البقاء على تقليد الميت فمات وقلّد من يجوّز البقاء ، له أن يبقى على تقليد الأول في جميع المسائل إلاّ مسألة حرمة البقاء (٤).

______________________________________________________

(١) لبطلان تقليده على الفرض.

(٢) هذا إذا كان معذوراً في تقليده ، كما إذا قلّده بشهادة البينة مثلاً على عدالته أو أعلميته ثمّ علم خطأها.

(٣) كما إذا لم يكن له معذّر في تقليده ، وحيث إنّا بيّنا (١) سابقاً أن الجاهل القاصر والمقصّر في صحة عملهما عند مطابقته للواقع على حدّ سواء ، كما مرّ أن الأحكام الظاهرية غير مجزئة عن الواقع عند انكشاف الخلاف ، فلا مناص من أن نلتزم على كلا التقديرين بصحة عمل المقلّد في مفروض المسألة إذا كان مطابقاً للواقع ، وبطلانه فيما إذا خالفه إلاّ في موارد يجري فيها حديث لا تعاد. وقد مرّ أن طريق استكشاف المطابقة للواقع إنما هو مطابقة العمل لفتوى من يجب الرجوع إليه بالفعل.

(٤) قد أسلفنا عند الكلام على مسألة جواز البقاء على تقليد الميت في مسألة البقاء ، أن المجتهد الحي إذا أفتى بجواز البقاء على تقليد الميت وأفتى الميت بحرمته ، جاز للمقلّد البقاء على تقليد الميت بفتوى المجتهد الحي بالجواز في جميع المسائل غير مسألة البقاء ، وذلك لسقوط فتوى الميت عن الحجية بموته ، وإنما يتصف بالاعتبار من جهة فتوى الحي بجواز البقاء بالمعنى الأعم الشامل للوجوب.

ولا يمكن أن تشمل فتوى الحي بالجواز مسألة البقاء الّتي أفتى فيها الميت بالحرمة والوجه فيه : أن معنى فتوى الحي بجواز البقاء إن العامّي يجوز أن يبقى على تقليد الميت في المسائل الفرعية ، ويلزمه عدم جواز البقاء على تقليد الميت في مسألة البقاء ، إذ‌

__________________

(١) راجع ص ١٦٣.

٢٤٤

[٢٧] مسألة ٢٧ : يجب على المكلف العلم بأجزاء العبادات وشرائطها وموانعها ومقدماتها ، ولو لم يعلمها لكن علم إجمالاً أن عمله واجد لجميع الأجزاء والشرائط وفاقد للموانع صح وإن لم يعلمها تفصيلاً (١).

______________________________________________________

لا يعقل أن يشمل فتوى الحي بجواز البقاء لكلتا المسألتين أعني مسألة البقاء وسائر المسائل الفرعية ، لأنها إن شملت مسألة حرمة البقاء فمعناه عدم جواز البقاء في بقية المسائل لأن الميت أفتى بحرمة البقاء ، كما أنها إن شملت سائر المسائل فمعناه عدم جواز البقاء في مسألة حرمة البقاء ، وإلاّ لحرم البقاء على تقليد الميت في سائر المسائل.

إذن فتوى المجتهد الحي بجواز البقاء إما أن تكون شاملة لمسألة حرمة البقاء فحسب ، وإما أن تكون شاملة لسائر المسائل الفرعية لعدم إمكان الجمع بينهما في الشمول.

إلاّ أن فتوى الحي بالجواز يستحيل أن تشمل مسألة حرمة البقاء ، وذلك لأنّا لا نحتمل حجية فتوى الميت بحرمة البقاء ومطابقتها للواقع بوجه. مع أن الحجية يعتبر فيها احتمال المطابقة للواقع إذ لا تجتمع الحجية مع القطع بكونها مخالفة للواقع ، والوجه في ذلك أن البقاء على تقليد الميت لا يخلو إما أن يكون محرّماً في الواقع ، وإما أن يكون جائزاً ولا ثالث ، فإن كان محرّماً بحسب البقاء ، فكيف يمكن البقاء على تقليد الميت في مسألة حرمة البقاء لأنه محرّم على الفرض ، وإن كان البقاء جائزاً في الواقع ففتوى الميت بحرمة البقاء ليست مطابقة للواقع فلا يعقل أن تكون حجة حينئذٍ. إذن فلنا علم تفصيلي بأن فتوى الحي بالجواز غير شاملة لمسألة حرمة البقاء ، وأن فتوى الميت بحرمته ليست بحجة على كل حال ومع عدم شمول فتوى الحي بالجواز لمسألة حرمة البقاء يتعيّن أن تكون شاملة لسائر المسائل الفرعية من دون مزاحم.

وجوب التعلم وموارده

(١) سبق أن ذكرنا في التكلم على جواز الاحتياط أن المكلف يجوز أن يمتثل الأحكام المتوجهة إليه امتثالاً إجمالياً بالاحتياط ، ولو مع التمكن من الامتثال التفصيلي بتحصيل العلم بما هو الواجب أو المستحب ولا سيّما إذا لم يستلزم الاحتياط تكرار‌

٢٤٥

العمل. وذلك إذ لا يعتبر في العبادة سوى الإتيان بالعمل مضافاً به إلى الله سبحانه وهذا متحقق في موارد العمل بالاحتياط ، فإذا فرضنا أن المكلف لو لم يحصّل العلم بإجزاء العبادة وشرائطها ، يتمكن من الاحتياط والإتيان بالعمل واجداً لجميع أجزائه وشرائطه وفاقداً لموانعه على نحو يقطع بحصول الامتثال ، لم يجب عليه تعلم الأجزاء والشرائط بوجه. وإليه أشار الماتن بقوله : ولو لم يعلمها لكن علم إجمالاً ...

وأما إذا لم يتمكن من الإتيان بالمأمور به على نحو يقطع بحصول الفراغ لعدم علمه بما هو الجزء أو الشرط أو المانع ، واحتمل أن يكون العمل المأتي به واجداً لمانعه أو فاقداً لشي‌ء من أجزائه وشرائطه ، وجب أن يتعلم أجزاء العبادة وشرائطها وموانعها لا محالة ، وذلك لما قدّمناه في أوائل الكتاب من أن الأحكام الواقعية متنجّزة على المكلفين بالعلم الإجمالي بوجود أحكام إلزامية في الشريعة المقدسة ، ومعه يجب تحصيل العلم بالفراغ اقتضاءً لقاعدة الاشتغال ، ولا يتحقق هذا إلاّ بتحصيل العلم بإجزاء العبادة وغيرها من الأُمور المعتبرة فيها ، فإنه لولاه لم يحصل له الأمن من احتمال العقاب ، والعقل يلزمه بذلك لوجوب دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب ، هذا.

إلاّ أن وجوب التعلم بقاعدة الاشتغال لا يستتبعه سوى الإتيان بالواجب مع العلم بما اعتبر فيه من جزء أو شرط أو مانع ، وأما لزوم التعلم قبل تحقق الشرط في الواجبات المشروطة ، أو قبل دخول الوقت في الواجبات الموقتة فلا لكفاية التعلم بعدهما ، ومن هنا لا يتعلم الحجاج واجباتهم في الحج قبل استطاعتهم بل قبل اشتغالهم بالمناسك وإنما يتعلمونها حال الذبح أو الوقوف أو غيرهما من واجباتهم ، إذ بذلك يحصل العلم بالامتثال ويأمنون به عن احتمال العقاب ، ومعه لا حاجة إلى التعلم قبلهما ، هذا إذا كان متمكناً من التعلم بعد دخول الوقت في الموقتات أو بعد تحقق الشرط في الواجبات المشروطة.

وأما إذا لم يتمكن من التعلم بعدهما بحيث لو ترك التعلم قبل دخول الوقت أو قبل تحقق الشرط لم يتمكن من التعلم بعدهما فهو على قسمين :

لأن التعلم حينئذٍ قد يكون مقدمة إحرازية للامتثال ، ولا يترتب على تركه إلاّ عدم إحرازه فحسب مع تمكنه من الإتيان بنفس الواجب في وقته ، بحيث لو علم به‌

٢٤٦

لامتثله امتثالاً جزمياً وحيث لا يعلم به فيمتثله امتثالاً احتمالياً.

وقد يكون مقدمة وجودية للواجب لا إحرازية كما في الصورة المتقدمة بمعنى أنه لو لم يتعلّم الواجب قبل دخول وقته أو قبل تحقق شرطه لم تكن له أي قدرة على الإتيان بالمكلف به بعد فعلية أمره بدخول وقته أو بتحقق شرطه ، وهذا كما إذا فرضنا جاهلاً لا يتمكن من الصلاة بعد دخول وقتها إلاّ أن يتعلمها قبل دخوله لاشتمالها على القراءة وغيرها مما لا مناص من أن يتعلمه الجاهل باللغة قبل حصول شرط الواجب أو دخول وقته.

أما القسم الأول : فلا ينبغي التأمل في أن من علم أو احتمل ابتلاءه بالواجب بعد دخول وقته أو حصول شرطه في الأزمنة المستقبلة وجب أن يتعلمه قبلهما لوجوب امتثاله عليه في ظرفه ، ولا يمكنه إحراز ذلك إلاّ بالتعلم قبلهما. إذن فالعقل يستقل بلزوم التعلم قبل مجي‌ء وقت الواجب أو فعلية شرطه لوجوب دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب ، ولا يحصل الأمن إلاّ بالتعلم قبلهما فوجوب التعلم قبل وقت الواجب أو حصول شرطه مما لا إشكال فيه في هذا القسم.

وإنما الإشكال في وجوب التعلم قبلهما في القسم الأخير وذلك لأن المكلف بعد دخول وقت الواجب أو حصول شرطه غير مكلّف بالعمل لعجزه ، ولا شبهة في أن القدرة من شرائط الخطاب والتكليف ، كما أنه غير مكلّف به قبل مجي‌ء وقت الواجب أو حصول شرطه ، ومع عدم وجوب ذي المقدمة لا معنى للحكم بوجوب التعلم من باب المقدمة.

وتوضيحه : أن القدرة المعتبرة في التكاليف قد تكون دخيلة في الملاك كما أنها دخيلة في الخطاب ، بحيث لا يبقى أي ملاك عند عدمها. وقد تكون دخيلة في الخطاب من غير أن تكون دخيلة في الملاك ، بحيث يبقى العمل مشتملاً على الملاك والغرض الملزم في كلتا حالتي العجز والتمكن وإن كان الخطاب ساقطاً مع العجز.

ولا ينبغي التأمل في وجوب التعلم قبل مجي‌ء وقت الواجب أو حصول شرطه في الصورة الثانية ، وذلك لأن تركه حينئذٍ مفوّت للملاك الملزم في ظرفه وتفويت الملاك كتفويت الواجب والخطاب قبيح لدى العقل وموجب لاستحقاق العقاب عليه ، فإن‌

٢٤٧

الملاك روح التكليف وما به قوامه وهو الداعي إلى جعله وإنشائه ، ولا مسوّغ معه لترك التعلم قبل الوقت أو قبل تحقق الشرط.

وأما الصورة الأُولى : فهي الّتي وقع الكلام عنها في المقام نظراً إلى أن الملاك والتكليف إذا كان كلاهما مشروطاً بالقدرة بحيث لا يبقى أي ملاك ولا خطاب عند فقدها ، وفرضنا أن المكلف لو لم يتعلم الواجب قبل مجي‌ء وقته أو فعلية شرطه لم يتمكن منه بعدهما فلما ذا يجب تعلمه قبلهما؟ لوضوح أنه لا تكليف بالعمل قبلهما حتى تجب مقدمته وهو التعلم على الفرض كما أنه لا مقتضي لوجوبه بعدهما ، إذ لا قدرة للمكلف بعد مجي‌ء الوقت أو فعلية الشرط ، ومع العجز لا خطاب ولا ملاك ، ومن الظاهر أن مع عدم وجوب ذي المقدمة لا معنى لوجوب مقدمته. نعم ، المكلف لو تعلم الواجب قبلهما كان متمكناً من العمل في ظرفه إلاّ أنه مما لا ملزم له ، فإن الواجب على المكلف إنما هو امتثال التكاليف الثابتة في ذمته ولا تكليف عليه بإيجاد موضوعاتها بجعل نفسه متمكناً من المأمور به حتى يتوجه عليه الخطاب ، ولأجل هذه المناقشة التجأ المحقق الأردبيلي ومن تبعه إلى الالتزام بالوجوب النفسي في المقام وذهبوا إلى أن التعلم واجب نفسي والعقاب إنما هو على ترك التعلم نفسه لا أنه على ترك الواجب الواقعي.

وفيه : أن الأدلة المستدل بها على وجوب التفقه والتعلم ظاهرة في أن التعلم واجب طريقي ، وأنه مقدمة لامتثال الأحكام الواقعية ولا يكاد يستفاد منها أنه واجب نفسي أبداً (١). وعليه فلا دليل في شي‌ء من المقدمات المفوّتة على وجوب تحصيلها قبل مجي‌ء وقت الواجب أو حصول شرطه حتى يتمكن من الواجب بعدهما ، وذلك لما مرّ من أنه قبل الوقت لا تكليف بذي المقدمة حتى تجب مقدماته وبعده أيضاً الأمر كذلك لعدم‌

__________________

(١) لاحظ الرواية الواردة في تفسير قوله عزّ من قائل ( قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ). حيث ورد فيها : « إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال : نعم ، قال الله : أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال : كنت جاهلاً قال له : أفلا تعلّمت حتى تعمل؟ فيخصم فتلك الحجة البالغة. المروية في البحار ج ٢ ص ٢٩ وص ١٨٠ من الطبع الحديث. وفي تفسير البرهان في ج ١ ص ٥٦٠ بأدنى اختلاف في اللّفظ فإنها ظاهرة في أن التعلم إنما يجب من باب الطريق إلى العمل.

٢٤٨

القدرة على الواجب وانتفاء كل من الملاك والخطاب ، ووجوب حفظ القدرة قبل مجي‌ء الوقت أو حصول الشرط للفعل الواجب بعدهما ، لم يقم عليه دليل فللمكلف أن يهريق ما بيده من الماء قبل الوقت ، ولو مع العلم بعدم تمكنه منه للغسل أو الوضوء بعد فعلية الواجب بمجي‌ء وقته أو تحقق شرطه.

والصحيح أن التعلم خاصة ليس كسائر المقدمات المفوّتة ، وأنه أمر واجب قبل الوقت في الموقتات وقبل حصول الشرط في الواجبات المشروطة ، وذلك لإطلاق الأدلة القائمة على وجوبه ، ولدلالتها على أن ترك الواجب إذا استند إلى ترك التعلم استحق المكلف العقاب عليه ، سواء أكان تركه قبل دخول الوقت أو حصول الشرط أم بعدهما فدلنا ذلك على أن التعلم مأمور به مطلقاً ، وإن لم يدخل وقت الواجب ولا تحقق شرطه ، وحيث إن مفروضنا أن فوات الواجب في ظرفه مستند إلى ترك التعلم قبلهما فمقتضى إطلاق الأدلة وجوبه وأن المكلف معاقب بتركه الواجب فلا مسوّغ لترك التعلم ، وإن لم يكن هناك أي تكليف متوجه إلى ذي المقدمة. ومعنى ذلك أن وجوب التعلم طريقي وأنه إنما وجب للإتيان بالواجبات لا لأنه مطلوب نفسي كسائر الواجبات ، فإذا تركه المكلف عوقب بمخالفته للمكلف به الواقعي ولا يعاقب بتركه التعلم أبداً.

وتظهر الثمرة فيما إذا استند ترك الواجب إلى أمر آخر ولم يستند إلى ترك التعلم فإن المكلف حينئذٍ لا يعاقب بشي‌ء ، وإنما يعاقب بتركه إذا استند إلى ترك التعلم كما مرّ ، هذا كلّه فيما إذا علم المكلف بأنه سيبتلي بالواجب بعد مجي‌ء وقته أو علم أن شرطه سيتصف بالفعلية في المستقبل.

وأما إذا لم يعلم بذلك وإنما احتمل الابتلاء به في ظرفه فالأمر أيضاً كذلك لما قررناه في بحث البراءة ، من أن التكليف المحتمل إذا كان في معرض الوقوف عليه لم تجر البراءة العقلية عنه ، وذلك لأن وظيفة المولى ليست سوى التصدي لبيان أحكامه وجعلها في مورد لو فحص عنها المكلف لظفر بها ، فإذا جعل تكاليفه في مورد العثور عليها تمت الوظيفة من قبله وانتهت النوبة إلى وظيفة العبد ، أعني لزوم الخروج عن عهدة التكاليف المتوجهة إليه من سيده ، ومعه لا مؤمّن له من العقاب على مخالفة التكليف‌

٢٤٩

[٢٨] مسألة ٢٨ : يجب تعلّم مسائل الشك والسهو (١).

______________________________________________________

الصادر عنه إلاّ أن يفحص عنه في مظانّه فلا مجال للبراءة العقلية مع الاحتمال.

وأما البراءة الشرعية فمقتضى إطلاق أدلتها وإن كان جريانها في أمثال المقام لقوله عليه‌السلام : « رفع ما لا يعلمون » (١) ومنه ما نحن بصدده ، إلاّ أن الأدلة القائمة على وجوب التعلم واستحقاق العقاب على مخالفة التكليف الواقعي فيما إذا استند تركه إلى ترك التعلم ، مانعة عن جريان البراءة في تلك الموارد لدلالتها على وجوب الفحص والتعلم حينئذٍ ، لاستناد ترك الواجب إلى ترك الفحص والتعلم على الفرض فلا سبيل إلى شي‌ء من البرائتين ، فمقتضى إطلاق الأدلة وجوب التعلم قبل دخول الوقت أو تحقق الشرط مطلقاً سواء علم بابتلائه بالواجب في المستقبل أم احتمله.

(١) قد اتضح الحال في هذه المسألة مما سردناه في المسألة المتقدمة ، وحاصل الكلام فيها : أن المكلف إذا تمكن من الامتثال الإجمالي والاحتياط بأن أحرز امتثاله للتكليف المتوجه إليه بالاحتياط كما إذا أتم صلاته مثلاً بالبناء على أحد طرفي الشك ثمّ أتى بها ثانياً ، أو قطع صلاته فاستأنفها من الابتداء ، لم يجب عليه تحصيل العلم بمسائل الشك والسهو ، لجواز الامتثال الإجمالي ولو مع التمكن من الامتثال التفصيلي على ما أسلفناه في الاحتياط.

وإذا لم يتمكن من إحراز الامتثال بالاحتياط ، وجب تعلّم المسائل المذكورة بعد دخول وقت الصلاة أو قبله على التفصيل المتقدم في المسألة السابقة ، وذلك لعلمه بالابتلاء أو احتماله على الأقل ، فعلى ذلك يبتني وجوب تعلم مسائل الشك والسهو وعدمه على جواز إبطال الصلاة وقطعها عمداً وحرمته ، إذ لو جاز قطعها وإبطالها كذلك يتمكن المكلف من إحراز امتثال الأمر بها على سبيل الاحتياط فلا يجب معه تعلّم المسائل عليه كما عرفت. وهذا بخلاف ما لو قلنا بعدم جواز قطعها وإبطالها ، لأن إحراز الامتثال حينئذٍ يتوقف على تعلم المسائل الراجعة إلى الشك لعدم تمكنه من‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٣ : ٢٣٧ / أبواب الأيمان ب ١٦ ح ٣ ، وقد بيّنا ما يرجع إلى الاستدلال بها في المسألة [٤١٦].

٢٥٠

قطع الصلاة واستينافها ، وعدم جواز البناء على أحد طرفي الشك وإتمامها مع الإعادة لاحتمال أن يكون المتيقن في حقه هو البناء على الطرف الآخر ، وقد قطعها بالبناء على عكس ذلك ، وهذا لاحتمال أن يكون ما أتى به ناقصاً عن الواجب أو زائداً عليه ويكون مع الإتيان به قد نقص عن صلاته أو زاد فيها متعمداً وهو موجب لبطلانها.

فعلى ما سلكه المشهور في تلك المسألة من حرمة قطع الصلاة وإبطالها يجب على كل مكلف أن يتعلّم المسائل الراجعة إلى الشك والسهو ، لأنه لا سبيل إلى إحراز امتثال الأمر بالصلاة سوى التعلم كما مرّ. هذا إذا علم بابتلائه بمسائل الشك والسهو.

وأما لو احتمل الابتلاء بها يجب تعلّم مسائلهما أيضاً أو لا لمكان استصحاب عدم الابتلاء بها في الأزمنة المستقبلة ونتيجته عدم وجوب تعلم المسائل المذكورة عليه؟

الصحيح أنه لا مانع من جريان الاستصحاب في نفسه ، لأنه على ما بيّناه في محلّه (١) كما يجري في الأُمور الحالية يجري في الأُمور الاستقبالية ، ومع حكم الشارع بعدم ابتلاء المكلف بتلك المسائل وكونه كالعالم بعدم الابتلاء ، لا وجه لوجوب تعلمها وتحصيلها فإن المجعول في الاستصحاب إنما هو الطريقية والوسطية في الإحراز أعني جعل ما ليس بعلم علماً تعبداً كما هو الحال في جميع الطرق والأمارات ، لا الحكم المماثل ليرد أن عدم الابتلاء بتلك المسائل ليس أثراً شرعياً في نفسه ، ولا أنه ذا أثر شرعي كي يتعبد به لدى الشك ، فالاستصحاب تام في نفسه ولا مانع عن جريانه سوى الأدلة القائمة على وجوب التفقه والتعلم ، لأنها بإطلاقها يقتضي عدم جريانه في المقام. لدلالتها على وجوب التعلم وجوباً طريقياً في كل مورد استند ترك الواجب في أوانه إلى ترك التعلم لدلالتها على أن المكلف يستحق العقاب بذلك على ترك الواجب وحيث إن المقام كذلك وأن ترك الواجب مستند إلى ترك التعلم ، فلا مناص من الحكم بوجوب تعلّم مسائل الشك والسهو حتى مع الاحتمال ، هذا إذا لم يكن هناك علم إجمالي بالابتلاء ببعض تلك المسائل. وأما معه فلا مجال للاستصحاب أبداً لعدم جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي بالمعارضة.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٨٩.

٢٥١

بالمقدار الّذي هو محل الابتلاء غالباً (١) نعم لو اطمأن من نفسه أنه لا يبتلي بالشك والسهو صحّ عمله (*) وإن لم يحصل العلم بأحكامهما (٢).

______________________________________________________

إذن لا بدّ من تعلّم مسائل الشك والسهو لوجوب دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب.

(١) لا وجه لاعتبار الغلبة في الابتلاء ، فإن المدار في وجوب التعلّم هو العلم بالابتلاء أو احتماله ، بلا فرق في ذلك بين كون المسألة مورداً لابتلاء الناس غالباً وعدمه ، فالتقييد بذلك في غير محلّه. نعم ، لا يختص وجوب التعلّم بموارد العلم بالابتلاء لوجوبه مع الاحتمال أيضاً كما عرفت.

(٢) قد اتضح مما ذكرناه في التعليقة المتقدمة أن تعلم المسائل الّتي يبتلى بها المكلف علماً أو احتمالاً أمر واجب بالوجوب الطريقي ، إما لوجوب دفع الضرر المحتمل أو لإطلاقات الأخبار كما مرّ ، إلاّ أن ذلك من حيث الوجوب وكون ترك التعلّم موجباً لاستحقاق العقاب على مخالفة الواقع. وأما من حيث الصحة والبطلان فالمدار فيهما على مطابقة الواقع ومخالفته ، مثلاً إذا فرضنا أن المكلف ترك التعلّم قبل الوقت ولم يكن متمكناً منه بعد دخوله ولا من الامتثال الإجمالي والاحتياط ، وبالأخص إذا كان مطمئناً بعدم الابتلاء بالمسائل الّتي لم يتعلّم حكمها ، إلاّ أنه ابتلي بها في وقت العمل وبنى على أحد طرفي الشك والاحتمال وأتمّ صلاته رجاءً وكان عمله هذا مطابقاً للواقع ، حكمنا بصحة صلاته فإنه لا يعتبر في العبادة إلاّ الإتيان بها مضافاً إلى الله والمفروض أنها قد أُتيت كذلك فلا مجال لتوهّم بطلانها من جهة ترك التعلّم ، فلو ظنّ أنه قد ركع ولم يعلم أن الظن حجة في أفعال الصلاة كالركعات إلاّ أنه بنى على عدم الاعتبار وأتى بالركوع رجاءً وأتمّ صلاته ، وانكشف بعد هذا أن فتوى مقلّده أيضاً عدم الاعتناء بالظن في الأفعال صحّت صلاته كما مرّ.

__________________

(*) بل يصح مع احتمال الابتلاء أيضاً إذا لم يتحقق الابتلاء به خارجاً ، أو تحقق ولكنه قد أتى بوظيفة الشك أو السهو رجاءً.

٢٥٢

بقي شي‌ء :

وهو أن المنسوب إلى شيخنا الأنصاري قدس‌سره في رسالته العملية الحكم بفسق من ترك تعلّم مسائل الشك والسهو ، وهذه الفتيا منه قدس‌سره يحتمل أن يستند إلى أحد أُمور :

الأوّل : أن يقال : إن الوجه في ذلك أن ترك تعلّم المسائل المذكورة مع العلم بالابتلاء أو احتماله ، من أظهر مصاديق التجري على المولى سبحانه لكشفه عن أنه غير معتنٍ بأحكام الله وتكاليفه ولا مبال بأوامره ونواهيه ، والتجري مضافاً إلى أنه موجب لاستحقاق العقاب عليه ، من المحرمات في الشريعة المقدسة ، ولا شبهة في أن ارتكاب المحرّم موجب للفسق والانحراف.

وفيه : أن هذا الوجه مما لا يلتزم به الشيخ قدس‌سره ولا ينبغي الالتزام به لعدم قيام الدليل على حرمة التجري وإن كان موجباً لاستحقاق العقاب عليه ، والفسق إنما يتحقق بارتكاب المعاصي والمحرمات ، وقد عرفت أنه مفقود في المقام.

والثاني : أن التجري وإن لم يكن محرّماً في نفسه إلاّ أنه يكشف عن عدم ملكة العدالة لا محالة ، لأنه مع وجودها لا يقدم المكلف على ما فيه احتمال المخالفة والمعصية ، فبالتجري يستكشف أن المتجري على نحو يقدم على معصية الله ومخالفته ولا رادع نفساني له عن ارتكابها ، وقد اعتبر هو قدس‌سره وجماعة كثيرين وجود الملكة النفسانية في العدالة كما مرّ وقالوا إن من لا ملكة له لا عدالة له ومن لم يكن بعادل فهو فاسق لا محالة.

وهذا الاحتمال يبعّده أمران :

أحدهما : ما قدّمناه (١) من أن العدالة ليست إلاّ الاستقامة العملية في جادّة الشرع وأنه لم يدلّنا دليل على اعتبار شي‌ء آخر في العدالة وراء الإتيان بالواجبات وترك المحرمات ليسمى بالملكة النفسانية.

وثانيهما : أن القول باعتبار الملكة لا يستلزم إنكار الواسطة بين الفسق والعدالة ولا‌

__________________

(١) راجع ص ٢١٥.

٢٥٣

يستتبع الحكم بأن من ليس بعادل فهو فاسق ، وذلك لوضوح أن من لم يرتكب بعد بلوغه شيئاً من المعاصي والمحرمات ، ولم يحصل له أيضاً ملكة العدالة فهو ليس بعادل ولا بفاسق. أما أنه ليس بعادل فلأجل عدم تحصيله الملكة على الفرض ، وأما عدم كونه فاسقاً فلأن الفسق يتوقف على ارتكاب المعصية ، بل اشترط بعضهم أن تكون المعصية من الكبائر ولو كانت هي الإصرار على الصغائر ، ومع عدم ارتكاب شي‌ء من المعاصي لا موجب للفسق أبداً ، وعليه فهب أن المتجري ليست له ملكة العدالة وأنه ليس بعادل فرضاً ، إلاّ أنه لا مقتضي للحكم بفسقه مع عدم صدور فسق منه على الفرض.

الثالث : أن الوجه في ذلك أن التعلّم واجب نفسي فتركه يستلزم الفسق وإن لم يبتل المكلف بمسائل الشك والسهو أصلاً.

ويندفع بأن الشيخ قدس‌سره لا يلتزم بالوجوب النفسي في التعلّم ، وإنما يراه واجباً بالوجوب الطريقي الّذي لا يترتب على مخالفته إلاّ التجري لا الفسق.

الرابع : وهو أنسب الوجوه المذكورة في المقام أن يقال : إن التجري وإن لم يكن محرّماً في الشريعة المقدسة ، إلاّ أن المتجري لا يمكن الحكم بعدالته لأن العدالة كما تقدمت هي الاستقامة في جادة الشرع ، وكون الحركة بإذن الشارع وترخيصه فالعادل هو الّذي لا يقدم على عمل لم يرخّص فيه الشارع. ومن الظاهر أن التجري بترك التعلّم وإن لم يكن محرّماً لعدم وجوبه النفسي على الفرض ، إلاّ أنه غير مرخّص فيه من قبله فالإقدام عليه إقدام على ما لم يرخّص فيه الشارع ، ولا يطلق على المتجري والمرتكب لما لم يأذن به الله عنوان الصالح أو الخيّر ، ولا يعدّ من الموثوقين بدينه وكيف يوثق بدينه وهو لا يبالي بالدين ولا يعتني باحتمال مخالفة الله وعصيانه كما لا يصدق عليه غير ذلك من العناوين الواردة في الروايات.

وكذا الحال في غير المقام من موارد التجري وعدم كون الفعل مرخّصاً فيه من الله كما إذا ارتكب أحد الفعلين المعلومة حرمة أحدهما ، فإن شرب ما في أحد الإناءين مع العلم الإجمالي بحرمته وإن لم يكن محرّماً شرعياً ، لاحتمال إباحته وكون المحرّم هو الآخر ، إلاّ أنه غير مرخّص فيه من قبل الشارع ، وكذا إذا علم بنجاسة أحد ثوبيه‌

٢٥٤

[٢٩] مسألة ٢٩ : كما يجب التقليد في الواجبات والمحرّمات يجب في المستحبّات ، والمكروهات ، والمباحات ، بل يجب تعلّم حكم كل فعل يصدر منه سواء كان من العبادات ، أو المعاملات ، أو العاديات (١).

______________________________________________________

علماً إجمالياً وصلّى في أحدهما ، فإنه وإن لم يمكن الحكم بأنه لم يأت بالصلاة وأنه تارك لها لاحتمال أن يكون النجس هو الثوب الآخر ، إلاّ أنه مما لم يأذن به الله فمثله لا يطلق عليه شي‌ء من العناوين المتقدمة ولا بدّ من الحكم بفسقه ، فهذا الوجه هو الصحيح وما أفاده قدس‌سره في غاية المتانة.

(١) إذا احتمل معها حكماً إلزامياً أيضاً ، كما إذا احتمل أن يكون ما هو المستحب واجباً واقعاً ، أو يكون المكروه أو المباح حراماً كذلك ، فإنه عند احتمال حكم إلزامي معها لا بدّ من تحصيل المؤمّن على ترك ما يحتمل وجوبه أو ارتكاب ما يحتمل حرمته ، ولا مؤمّن سوى الاجتهاد والتقليد والاحتياط.

وأما لو جزم بالجواز وإن لم يعلم بأنه مباح أو مستحب أو مكروه فلا حاجة فيه إلى التقليد ولا إلى قرينية ، اللهُمَّ إلاّ أن يريد الإتيان بالعمل بعنوان الاستحباب مثلاً فإنه يحتاج معه إلى أحد الطرق الثلاثة ، إذ لو لم يستند في عمله إلى أحدها لكان الإتيان به بذلك العنوان من التشريع المحرّم ، هذا بالإضافة إلى غير العامّي من المكلفين.

وأما بالإضافة إلى العامّي فإن احتمل الوجوب وشيئاً من الأحكام غير الإلزامية كما إذا احتمل استحبابه أو إباحته أو كراهته مع القطع بعدم حرمته فلا حاجة فيه إلى التقليد لتمكن العامّي حينئذٍ من الاحتياط ، فله أن يأتي بالعمل برجاء الوجوب فإنه يكفي في التوصليات من غير نكير ، وكذلك الحال في العبادات لما مرّ من أن العبادة لا يعتبر فيها إلاّ الإتيان بالعمل مضافاً به إلى الله وهو أمر يتحقق عند الإتيان به رجاءً ، وقد قدّمنا جواز الامتثال الإجمالي ولو مع التمكن من الامتثال التفصيلي فلاحظ (١). كما أنه لو احتمل الحرمة وشيئاً من الأحكام الثلاثة مع القطع بعدم‌

__________________

(١) راجع ص ٤٩.

٢٥٥

[٣٠] مسألة ٣٠ : إذا علم أن الفعل الفلاني ليس حراماً ، ولم يعلم أنه واجب أو مباح أو مستحب أو مكروه يجوز له أن يأتي به لاحتمال كونه مطلوباً وبرجاء الثواب ، وإذا علم أنه ليس بواجب ، ولم يعلم أنه حرام أو مكروه أو مباح ، له أن يتركه لاحتمال كونه مبغوضاً (١).

[٣١] المسألة ٣١ : إذا تبدل رأي المجتهد لا يجوز للمقلّد البقاء على رأيه الأول (٢).

______________________________________________________

الوجوب أيضاً يتمكن العامّي من الاحتياط من غير حاجة إلى التقليد فيه.

نعم ، إذا احتمل وجوب شي‌ء وحرمته وإباحته ، أو هما وكراهته أو استحبابه تعيّن التقليد في حقه ، لعدم قابلية المورد للاحتياط وعدم تمكن المكلف منه مجتهداً كان أم مقلّداً.

ومما سردناه ظهر أن الأدعية والأوراد المنقولة في كتب الأدعية المتداولة بين الناس لا يسوغ أن يؤتى بها بإسناد محبوبيتها إلى الله سبحانه أي بعنوان أنها مستحبة ، إلاّ مع القطع بكونها مستحبة أو التقليد فيها ممن يفتي بذلك ، وإلاّ كان الإتيان بها كذلك من التشريع المحرّم. نعم ، لا بأس بالإتيان بها رجاءً فإنه لا يحتاج معه إلى التقليد كما مرّ.

(١) قد اتضح الحال في تلك المسألة مما بيّناه في التعليقة المتقدمة ، وقلنا إن مع احتمال الوجوب وشي‌ء من الأحكام الثلاثة مع القطع بعدم الحرمة ، أو احتمال الحرمة وأحدها مع القطع بعدم الوجوب يتمكن العامّي من الاحتياط والإتيان بالعمل رجاءً أو تركه باحتمال مبغوضيته من غير حاجة إلى التقليد فيه.

(٢) لعدم بقاء الرأي السابق على الحجية بعد تبدله وانكشاف كونه مخالفاً للواقع من الابتداء بالفتوى الثانية على الخلاف ، ومن هنا ذكرنا في التكلّم على إجزاء الأحكام الظاهرية عن الواقع أن حجية الفتوى الثانية وإن كانت حادثة إلاّ أن مدلولها غير مختص بعصر دون عصر ، وبها يستكشف عدم كون الفتوى السابقة مطابقة للواقع من الابتداء.

٢٥٦

[٣٢] مسألة ٣٢ : إذا عدل المجتهد عن الفتوى إلى التوقف والتردد يجب على المقلّد الاحتياط أو العدول إلى الأعلم بعد ذلك المجتهد (*) (١)

[٣٣] مسألة ٣٣ : إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم كان للمقلّد تقليد (**) أيّهما شاء (٢) ويجوز التبعيض في المسائل (٣).

______________________________________________________

(١) لعدم حجية الفتوى مع العدول عنها وعدم إحراز كونها مطابقة للواقع وحيث لا فتوى للمجتهد المقلّد بالفعل فيجب على مقلّديه الاحتياط أو الرجوع إلى مجتهد آخر جامع لشرائط الحجية حتى يقطع بفراغ ذمته عمّا اشتغلت به من الأحكام المتنجزة عليه بالعلم الإجمالي.

(٢) وقد مرّ تفصيل الكلام في التخيير بين المجتهدين المتساويين في المسألة الثالثة عشرة ولا نعيد.

(٣) قد اتضح مما ذكرناه في المسألة الثالثة عشرة من أن المكلف مخيّر بين المجتهدين المتساويين عند عدم العلم بالمخالفة بينهما ، جواز التبعيض في المسائل فإن للمقلّد أن يقلّد أحدهما في مسألة ويقلّد الآخر في مسألة أُخرى لعدم العلم بالمخالفة بينهما في الفتوى ، بل يجوز له التبعيض في الرجوع بالإضافة إلى أجزاء عمل واحد وشرائطه بأن يقلّد أحدهما في الاكتفاء بالمرّة الواحدة في غسل الثياب ويقلّد الآخر في جواز المسح منكوساً مثلاً ، أو يقلّد أحدهما في عدم وجوب السورة ويقلّد الآخر في الاكتفاء بالتسبيحات الأربع مرّة واحدة وهكذا. وذلك لأن فتوى كلا المجتهدين حجة معتبرة وله أن يستند في أعماله إلى أيهما شاءه. هذا إذا خصصنا جواز التخيير بين المجتهدين المتساويين بما إذا لم يعلم المخالفة بينهما في الفتوى كما مرّ.

وأما لو عممنا القول بالتخيير إلى صورة العلم بالمخالفة بينهما ، فالمقلّد وإن جاز أن يبعّض في التقليد ويقلّد أحدهما في عمل أو باب ويقلّد الآخر في باب أو عمل آخرين كما لو رجع في عباداته إلى مجتهد وفي معاملاته إلى مجتهد آخر ، إلاّ أنه لا يتمكن من‌

__________________

(*) على تفصيل تقدم [ في المسألة ١٢ ].

(**) مرّ حكم هذه المسألة [ في المسألة ١٣ ].

٢٥٧

وإذا كان أحدهما أرجح من الآخر في العدالة أو الورع أو نحو ذلك فالأولى بل الأحوط اختياره (١).

______________________________________________________

التبعيض في التقليد بالإضافة إلى مركب واحد ، بأن يقلّد في بعض أجزائه أو شرائطه من أحدهما ويقلّد في بعضها الآخر من المجتهد الآخر ، كما لو قلّد أحدهما في عدم وجوب السورة في الصلاة فلم يأت بها في صلاته ورجع إلى أحدهما الآخر في الاكتفاء بالتسبيحات الأربع مرّة واحدة مع العلم بالمخالفة بينهما في الفتوى.

والوجه في ذلك : أن صحة كل جزء من الأجزاء الارتباطية مقيّدة بما إذ أتى بالجزء الآخر صحيحاً ، فمع بطلان جزء من الأجزاء الارتباطية تبطل الأجزاء بأسرها. وإن شئت قلت : إن صحة الأجزاء الارتباطية ارتباطية ، فإذا أتى بالصلاة فاقدة للسورة مع الاكتفاء بالمرّة الواحدة في التسبيحات الأربع واحتمل بعد ذلك بطلان ما أتى به لعلمه بأنه خالف أحد المجتهدين في عدم إتيانه بالسورة كما خالف أحدهما الآخر في اكتفائه بالمرّة الواحدة في التسبيحات الأربع ، فلا محالة يشك في صحة صلاته وفسادها فلا مناص من أن يحرز صحتها ويستند في عدم إعادتها إلى الحجة المعتبرة ، لأن مقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الإعادة وبقاء ذمته مشتغلة بالمأمور به ، ولا مجتهد يفتي بصحتها لبطلانها عند كليهما وإن كانا مختلفين في مستند الحكم بالبطلان لاستناده عند أحدهما إلى ترك السورة متعمداً ويراه الآخر مستنداً إلى تركه التسبيحات الأربع ثلاثاً ، ومع بطلانها عند كلا المجتهدين وعدم إفتائهما بصحة الصلاة لا بدّ للمكلف من إعادتها وهو معنى بطلانها.

(١) مرّ في المسألة الثالثة عشرة أن الأورعية ونحوها ليست من المرجحات في المقام.

٢٥٨

[٣٤] مسألة ٣٤ : إذا قلّد من يقول بحرمة العدول حتى إلى الأعلم ، ثمّ وجد أعلم من ذلك المجتهد فالأحوط العدول (*) إلى ذلك الأعلم ، وإن قال الأول بعدم جوازه (١).

[٣٥] مسألة ٣٥ : إذا قلّد شخصاً بتخيل أنه زيد فبان عمراً فإن كانا متساويين في الفضيلة ولم يكن على وجه التقييد ، صح وإلاّ فمشكل (**) (٢)

______________________________________________________

(١) لا أثر لفتوى المجتهد بحرمة العدول عند وجود من هو أعلم منه ، والوجه فيه : أن المقلّد إنما جاز له تقليد المجتهد المفتي بحرمة العدول من جهة فتوى الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم إذا لم يعلم المخالفة بينهما في الفتوى ، لوضوح أنه لا معنى لجواز تقليده بفتوى نفسه لاستلزامه الدور الظاهر. ومعه لا بدّ من ملاحظة أن المقلّد عالم بالمخالفة بينهما أولاً ، فعلى تقدير علمه بالمخالفة يجب عليه العدول إلى فتوى الأعلم لعدم جواز تقليد غير الأعلم عند العلم بالمخالفة بينهما ، وإذا لم يكن له علم بالمخالفة يجوز أن يبقى على تقليد المجتهد غير الأعلم كما يجوز أن يعدل إلى الأعلم ، فعلى كلا التقديرين لا أثر لفتوى غير الأعلم بحرمة العدول.

الفارق بين الداعي والتقييد‌

(٢) فصّل الماتن قدس‌سره عند تساوي المجتهدين في الفضيلة بين ما قلّد أحدهما على وجه التقييد ، كما إذا كان بحيث لو علم أن من قلّده زيد مثلاً لم يكن يقلّده بوجه لأنه إنما يريد أن يقلّد عمراً بخصوصه ، وما إذا قلّد أحدهما على وجه الداعي كما إذا كان بحيث لو علم أن من قلّده زيد أيضاً كان يقلّده ، بالاستشكال في صحة التقليد في الصورة الأُولى والحكم بصحته في الثانية.

ويرد على ما ذكره : أن التقليد من الأُمور غير القابلة للتقييد وتوضيحه : أن مورد الخطأ قد يكون من الأُمور المتقوّمة بالقصد بحيث ينتفي بانتفائه فإنها ليست شيئاً آخر‌

__________________

(*) بل هو الأظهر مع العلم بالمخالفة على ما مرّ‌

(**) لا إشكال فيه ، إذ لا أثر للتقييد في أمثال المقام.

٢٥٩

وراء القصد ، ويعبّر عنها بالعناوين القصدية وهذا كما في التأديب والهتك ونحوهما. وقد يكون من العناوين غير القصدية ، بحيث قد يتعلّق بها القصد ويصيب وقد يتعلّق بها القصد ويخطأ ، وهي قد تتحقق في الأُمور الاعتبارية وقد تتحقق في الأُمور التكوينية الخارجية ، وهذه أقسام ثلاثة :

أما القسم الأول : وهي العناوين القصدية فلا شبهة في أنها ليست من الموارد القابلة للتفصيل بين الداعي والتقييد ، بل المتعيّن فيها هو الحكم بالبطلان على كل حال لتقوم العمل فيها بالقصد وهو منتف على الفرض ، سواء أتى بالعمل على وجه الداعي أو التقييد ، مثلاً إذا اشتغل بالصلوات القضائية فاعتقد زوال الشمس ودخول وقت الفريضة فأتى بالصلاة قاصداً بها الأداء ، ثمّ انكشف خلافه لعدم دخول وقتها ، بطلت صلاته ولا يمكن أن تقع قضاءً لأنه لم يقصد بها القضاء كما لا يمكن أن تقع أداءً لأن الوقت لم يدخل على الفرض ، ولا مجال لتصحيحها بأن المكلف لما كان بصدد الإتيان بالقضاء كان بحيث لو علم بعدم دخول وقت الصلاة أتى بها قضاءً فقصده الأداء من باب الداعي لا التقييد ، وأن ما أتى به محكوم بالصحة فيحسب قضاء. ومثله ما لو صلّى ركعتين ناوياً بهما الفرض والوجوب لاعتقاد دخول وقت الفريضة ثمّ ظهر خلافه ، أو نوى بهما التنفل معتقداً عدم طلوع الفجر ثمّ ظهر طلوعه فإنهما حينئذٍ لا تقعان نافلة في الصورة الأُولى ، ولا فريضة في الثانية ، لعدم قصدهما فلا بدّ من الحكم ببطلانهما.

كما أنه لو أنشأ الهبة لم يقع به البيع لعدم تعلّق القصد به فإن عناوين المعاملات من العناوين القصدية وإنما يقع به الهبة لو كان قصدها لتمامية شرائطها ، والمتحصّل : أن في العناوين القصدية إنما يقع ما قصد منها من الأُمور فيما إذا كان واجداً لشرائطه وإذا لم يكن كذلك حكم ببطلانها ، وعلى الجملة أن العناوين القصدية لا مجال فيها للتفصيل بين أن يكون قصد العنوان من باب الداعي والتقييد ، بل هي أظهر موارد ما يقال : ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع.

أما القسم الثاني : وهي الأُمور غير القصدية المتحققة في الأُمور الاعتبارية كالمعاملات فهو على أقسام ثلاثة :

٢٦٠