موسوعة الإمام الخوئي - ج ١

الشيخ علي الغروي

العقلية ، ولا يتمكن من ذلك فيما يرجع إلى الروايات ومباحث الألفاظ مثلاً ، لعدم تبحّره في تلك الأبحاث وعدم مؤانسته معها ، وربما يكون الأمر بالعكس. كما أنه قد يتمكن من استنباط الأحكام المربوطة بالمعاملات ، لقلّة رواياتها وعدم توقفه إلاّ على جملة من القواعد العامة وهي واضحة لديه ، ويعجز عن الاستنباط في أبواب العبادات لكثرة ما فيها من الأحاديث المتعارضة ، هذا.

بل لا يبعد أن يقال : إن المطلق من الاجتهاد مسبوق بالتجزي دائماً وأن أي مجتهد مطلق ، كان متجزّياً في زمان ثمّ قوي وترقى شيئاً فشيئاً حتى تمكن من استنباط أكثر الأحكام أو كلها ، وذلك لأن دعوى أن الرجل قد أصبح مجتهداً مطلقاً من ساعته أو ليلته من غير أن يكون مسبوقاً بالتجزي في زمان ، مما لا شاهد له بل هي أمر غير عادي ولا نستعهد وقوعه بوجه. ولعلّه إلى ذلك أشار صاحب الكفاية قدس‌سره بقوله : بل يستحيل حصول اجتهاد مطلق عادة غير مسبوق بالتجزّي (١).

نعم ، ليس ذلك من المستحيلات العقلية نظير اجتماع الضدين أو النقيضين ، وذلك لأن المسائل الفقهية في عرض واحد ولا تقدم لبعضها على بعض آخر زماناً أو رتبة بأن يكون التمكن من استنباط بعضها مقدمة للقدرة على استنباط بعضها الآخر ، حتى يتوهم أن المتأخر يستحيل أن يتحقق قبل حصول المتقدم ، حيث إن تحقق ذي المقدمة من دون مقدمته في المقام يستلزم الطفرة المحال ، فأي مانع لدى العقل من أن تحصل ملكة الاجتهاد المطلق دفعة واحدة ولو بالاعجاز والإفاضة من الله ( جلت عظمته ) هذا كلّه في إمكان التجزّي ووقوعه.

الجهة الثانية : جواز رجوعه إلى الغير فيما استنبطه وعدمه‌

قد اتضح الحال في ذلك مما سردناه في الاجتهاد بالقوة والملكة ، بل الأمر في المتجزّي أوضح بحيث لو قلنا بجواز رجوع من له ملكة الاجتهاد إلى الغير فرضاً لم نتمكن من الالتزام به في المقام ، لأن المتجزّي عالم بما استنبطه من الأحكام بل قد يكون أعلم من غيره ، ورجوعه إلى الغير وقتئذٍ من رجوع العالم إلى العالم أو إلى الجاهل باعتقاده ، لأنه قد يرى خطأه وهل يسوغ أن يرجع إلى من يعتقد خطأه في‌

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٦٧.

٢١

استنباطاته واجتهاده ، فيبني مثلاً على صحّة الصلاة الّتي يعتقد فسادها لرجوعه إلى فتوى من يرى صحتها ، وهذا مما لا سبيل إلى الالتزام به. وكذلك الحال بالإضافة إلى الأدلة اللفظية ، لما تقدم من أنها مختصة بمن لا يتمكن من تحصيل الحجة على الحكم فلا يشمل من يتمكن من تحصيلها فضلاً عمّن تصدى لذلك واستنبط جملة من المسائل والأحكام.

الجهة الثالثة : جواز الرجوع إليه وتقليده فيما استنبطه من الأحكام‌

قد أسلفنا أن الموضوع للحكم بجواز الرجوع والتقليد ، إنما هو عنوان العالم أو الفقيه أو غيرهما من العناوين الّتي لا تنطبق على من استنبط مسألة أو مسألتين ونحوهما ، فيشترط في جواز الرجوع إلى المتجزي أن يستنبط جملة معتداً بها من المسائل على نحو يصدق عليه عنوان الفقيه والعالم ، هذا كلّه حسبما تقتضيه الأدلة اللفظية في المقام.

وأما السيرة العقلائية فهي تقتضي جواز الرجوع إليه فيما استنبطه وإن كان قليلاً غايته ، لأنه من رجوع الجاهل إلى العالم ، حيث إن استنباطه واطلاعه على بقية المسائل وعدمهما أجنبيان عمّا علم به واستنبطه. وهذه السيرة هي المتبعة في المقام ويأتي عند التكلم على شرائط المجتهد أن الأدلة اللفظية غير رادعة عنها بوجه.

الجهة الرابعة : نفوذ قضائه وجواز أن يتصدى للأُمور الحِسبية وعدمهما.

والصحيح عدم نفوذ قضاء المتجزّي وعدم جواز أن يتصدى للأُمور الحِسبية ، لأن الموضوع في لسان الأدلة المثبتة لهذه الأحكام ، إنما هو عنوان العالم والفقيه والعارف وغيرها من العناوين الّتي لا يصدق على من استنبط حكماً أو حكمين ونحوهما ، فلا ينفذ قضاء المتجزّي حتى يستنبط جملة معتداً بها من الأحكام ، ويصدق عليه العناوين المأخوذة في لسان الأخبار كما يأتي تفصيله في محلّه إن شاء الله.

٣ ـ التخطئة والتصويب‌

لا شبهة ولا خلاف في الأُمور النفس الأمرية والواقعية الّتي لا يتوقف تحققها على‌

٢٢

اعتبار أيّ معتبر وفرض فارض ، وقد أطبقت كلماتهم (١) على أن العقل قد يصيبها في إدراكه وقد يخطأ بلا فرق في ذلك بين أن يكون الأمر الواقعي من قبيل الجواهر والأعراض كأكثر الموجودات الخارجية وأن يكون من غيرهما ، لأنّا بيّنا في محلّه أن الأُمور الواقعية قد تكون موجودة في الخارج كالذوات الجوهرية والعرضية ، وقد تكون ثابتة لا موجودة ، وهذا كما في الاستحالة والإمكان وغيرهما من الأُمور العقلية ، حيث إن استحالة اجتماع الضدين أو النقيضين ثابتة في الواقع ونفس الأمر من غير أن يتوقف على الاعتبار ، إلاّ أنها ليست موجودة في الخارج كالجواهر والأعراض.

وكيف كان لا سبيل إلى القول بالتصويب في تلك الأُمور ، لأنه يستلزم اجتماع الضدين أو النقيضين ، فإنه إذا بنى أحد على إمكان إعادة المعدوم مثلاً وبنى آخر على استحالتها لا مناص من أن يكون أحد هذين النظرين خطأً وغير مطابق للواقع ، إذ لازم إصابتهما في كلتا النظرتين أن يكون إعادة المعدوم ممكنة ومستحيلة ، وهذا ما ذكرناه من لزوم اجتماع الضدين أو النقيضين المحال فالتخطئة في تلك الأُمور مما لا كلام فيه.

وإنما الكلام في الأُمور الاعتبارية والشرعيات ، وأنها كالامور الواقعية مورد للتخطئة أو لا بدّ فيها من الالتزام بالتصويب؟

نسب القول بالتصويب إلى جماعة من الأشاعرة والمعتزلة (٢) وأنهم ذهبوا إلى أن‌

__________________

(١) نعم ، ذهب عبد الله بن الحسن العنبري إلى أن كل مجتهد مصيب في العقليات كما في الفروع. كذا في المستصفى ج ٢ ص ٣٥٨ وكتاب الإحكام في أُصول الأحكام ( للآمدي ) ج ٤ ص ٢٣٩.

(٢) ففي كتاب الإحكام في أصول الأحكام ( لابن حزم الأندلسي الظاهري ) ج ٥ ص ٧٠ : ذهبت طائفة إلى أن كل مجتهد مصيب وأن كل مفت محق في فتياه على تضاده.

وفي الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج ٤ ص ٢٤٦ : المسألة الظنية من الفقهيات إما أن يكون فيها نص أو لا يكون ، فإن لم يكن فيها نص فقد اختلفوا فيها فقال قوم : كل مجتهد فيها مصيب وأن حكم الله فيها لا يكون واحداً بل هو تابع لظن المجتهد فحكم الله في حق كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده وغلب على ظنه وهو قول القاضي أبي بكر وأبي الهذيل والجبائي وابنه. وقال

٢٣

كل مجتهد مصيب ، وتبدل الرأي في الأحكام من باب التبدل في الموضوع كتبدل المسافر حاضراً أو العكس.

والصحيح أن يقال : قد يطلق التصويب ويراد به أن قيام الطرق والأمارات سبب لحدوث المصلحة فيما أدّتا إليه ، وأن تلك المصلحة تستتبع جعل الحكم على طبقها فلا حكم واقعي وراء ما أدت إليه الأمارة عند المجتهد ، والنتيجة أن الأحكام الواقعية تابعة لآراء المجتهدين ، وجعل الحكم متأخر عن قيام الأمارة عليه ، وهذا هو المعبّر عنه بالتصويب الأشعري إلاّ أنه أمر غير معقول ، وذلك لأنه لو لم يكن هناك حكم مجعول واقعاً قبل قيام الأمارة ، فالأمارة تحكي عن أيّ شي‌ء ، وأنها تؤدّي إلى أيّ حكم وهل يعقل الكشف من دون مكشوف والحكاية من غير محكي؟ فلو توقف ثبوته على قيام الأمارة عليه لدار ، على أن لازمه اختصاص الأحكام الشرعية بمن قامت عنده الأمارة ، وهو خلاف التسالم والأخبار الدالة على أن لله سبحانه في كل واقعة حكماً يشترك فيه العالم والجاهل ومن قامت عنده الأمارة ومن لم تقم.

وقد يراد به أن في الواقع أحكاماً مجعولة حسبما فيها من المصالح المقتضية لجعلها‌

__________________

آخرون : المصيب فيها واحد ومن عداه مخطئ ، لأن الحكم في كل واقعة لا يكون إلاّ معيناً لأن الطالب يستدعي مطلوباً وذلك المطلوب هو الأشبه عند الله في نفس الأمر.

وفي فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت المطبوع بهامش المستصفى للغزالي ج ٢ ص ٣٨٠ : كل مجتهد في المسألة الاجتهادية أي فيما يسوغ فيه الاجتهاد مصيب عند القاضي أبي بكر والشيخ الأشعري كما قال أهل العراق وقال أهل خراسان لم يثبت عن الأشعري ونسب إلى الإمام حجة الإسلام الغزالي قدس‌سره والمزني من كبار أصحاب الشافعي رضي‌الله‌عنه وغيرهما. ولا يذهب عليك ما في هذا القول من الإشارة إلى ضعف هذه النسبة فلا تغفل.

وهؤلاء ظنّوا أن لا حكم لله تعالى في تلك الواقعات إلاّ أنه إذا وصل رأي المجتهد إلى أمر فهو الحكم عند الله تعالى ... إلى أن قال : وبعض منهم قالوا الحكم من الأزل هو ما أدى إليه رأي المجتهد وعليه الجبائي من المعتزلة ونسبته إلى جميع المعتزلة لم تصح ، كيف والحسن أو القبح عندهم في مرتبة الذات فما فيه حسن واقعي هو الواجب لا يمكن أن يكون محرماً وما فيه القبح الواقعي فهو محرم لا غير ولا ينقلب الحسن والقبح الذاتيان ، وإذا كان كل مجتهد مصيباً فالحق عندهم متعدد فعلى كل من أدى اجتهاده إلى حكم فهو الحكم ، وإذا أدى رأي آخر إلى آخر فهو الحكم عليه ...

٢٤

وهي الّتي تحكي عنها الأمارات ، إلاّ أن قيام الأمارة سبب لحدوث مصلحة فيما أدّت إليه أقوى مما فيه من المصلحة الواقعية ، ولذا يكون الحكم الفعلي المجعول على طبق الأمارة ومؤداها دون الواقع ، لأن الأحكام الواقعية ليست بفعلية بل هي صورية وإنشائية ، ولا تتصف بالفعلية إلاّ فيما إذا أدّت الأمارة إليها فمن لم يقم عنده أمارة على الحكم لم يكن حكم فعلي في حقّه. وهذا هو المعبّر عنه بالتصويب المعتزلي ، وهو وإن كان أمراً معقولاً في نفسه فإنه لا مانع من أن تكون الأحكام الواقعية إنشائية تتوقف فعليتها على قيام الأمارة على طبقها ، وأن تكون مختصة بالعالمين بها دون الجاهلين نظير اختصاص بعض الأحكام ببعض المكلفين دون بعض كأحكام النساء المختصة بهنّ دون الرجال.

إلاّ أن الإجماع قد انعقد على أن الأمارة لا تكون مغيّرة للواقع ولا تمسّ كرامته بوجه ، بل ادّعى شيخنا الأنصاري قدس‌سره أن وجود الحكم المشترك بين الجاهل والعالم ممّا تواترت عليه الأخبار والآثار (١) ومعه لا يبقى مجال لتوهم اختصاص الأحكام بالعالمين بها ، بل هي تعمّهم والجاهلين فحالها حال بقية الأُمور الواقعية الّتي قد تصاب وقد تخطأ.

على أن ذلك هو الّذي تقتضيه إطلاقات الأدلة في نفسها ، كما دلّ على حرمة الخمر ونجاستها أو على مملّكية شي‌ء أو سببيّته للضمان أو غير ذلك من الأحكام ، لأن مقتضى إطلاقها عدم اختصاص مداليلها بالعالمين ، وأن الخمر محرّمة وموت المورّث سبب لملكية الوارث ، علم بهما أم لم يعلم ، قام هناك طريق على الخلاف أم لم يقم هذا.

وقد يتوهّم أن تعميم الأحكام للجاهلين لازمه اجتماع حكمين متضادين على موضوع واحد وهو مستحيل ، وذلك لأن مقتضى إطلاق الدليل لو كان ثبوت الحكم الواقعي حتى على الجاهلين ، فالجاهل محكوم بذلك الحكم الواقعي لا محالة ، كما أنه‌

__________________

(١) لعلّه قدس‌سره ينظر بذلك إلى الأخبار الآمرة بالتوقف أو الاحتياط أو غيرها مما يدلنا بالدلالة الالتزامية على أن الأحكام الواقعية مشتركة بين العالمين والجاهلين وإلاّ فلم ترد على ذلك رواية واحدة فيما عثرنا عليه فضلاً عن أن تكون متواترة.

٢٥

محكوم بحكم آخر يخالفه أو يماثله وهو الحكم الظاهري المدلول عليه بالأمارات أو الأُصول الجارية في حق الجاهل بالحكم الواقعي ، إذن يكون المكلف مورداً لحكمين متنافيين أو متماثلين.

إلاّ أن هذه الشبهة قد أجبنا عنها في أوائل بحث الظن مفصّلاً وبيّنا أن الأحكام الواقعية غير متنافية مع الأحكام الظاهرية فليراجع (١) هذا كلّه بالإضافة إلى الأحكام الواقعية.

أما الأحكام الظاهرية فلها مرحلتان :

مرحلة الجعل : أعني جعل الحكم على موضوعه المقدّر الوجود كما هو شأن القضايا الحقيقية ، سواء أكان موضوعها أمراً متحققاً وموجوداً في الخارج أم لم يكن له وجود أصلاً ، لأن الحكم إنما جعل عليه على تقدير وجوده وتحققه ، ومن هنا قلنا إن القضية الحملية مرجعها إلى القضية الشرطية وبالعكس.

ومرحلة الفعليّة : الّتي نعبّر عنها بمرتبة المجعول ونريد بها ما إذا وجد موضوع الحكم وتحقق خارجاً.

أما مرحلة الجعل فلا ينبغي الإشكال في أن الأحكام الظاهرية كالأحكام الواقعية في تلك المرحلة فقد تخطأ وقد تصاب ، وذلك لأن القول فيها بالتصويب أيضاً يستلزم اجتماع الضدين أو النقيضين ، فترى أن مثل الاستصحاب مورد للآراء المتخالفة ، فمنهم من ذهب إلى حجيته مطلقاً كصاحب الكفاية (٢) وغيره ، ومنهم من ذهب إلى عدم اعتباره في الشبهات الحكمية كما اخترناه ، ومنهم من فصّل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع ، ومنهم من ذهب إلى غير ذلك من التفاصيل المذكورة في محلّها. ومن البديهي عدم إمكان مطابقة الأقوال المذكورة للواقع بأجمعها لأنه يستلزم جعل الحجية على الاستصحاب وعدم جعلها ، وهو ما قدّمناه من المحذور فلا مناص من أن يكون أحدها مطابقاً للواقع دون غيره. فالأحكام الظاهرية في مرحلة جعلها مما‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ١٠٩.

(٢) كفاية الأُصول : ٣٨٧.

٢٦

لا يمكن فيه الالتزام بالتصويب.

وأمّا بحسب مرحلة الفعلية فالأحكام الظاهرية فيها ممّا لا يتصوّر فيه التردد والخطأ ، ولا بدّ فيها من الالتزام بالتصويب لأن الاختلاف فيها في تلك المرحلة يستند دائماً إلى التبدل في الموضوع ، ولعلّه لأجل ذلك أخذوا العلم في تعريفهم للفقه وقالوا : الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية ... وتوضيح ما ذكرناه : أن أحداً إذا بنى على وجوب الاحتياط مثلاً عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين لمكان العلم الإجمالي بوجوب أحدهما وعدم انحلاله ، وبنى آخر على جريان البراءة عن الأكثر لانحلال العلم الإجمالي باليقين بوجوب الأقل والشك في وجوب الزائد عليه ، أو اختلفا في جريان البراءة عن حرمة وطء الزوجة بعد انقطاع دمها وقبل الاغتسال فقال أحدهما بجريانها لعدم جريان استصحاب الحرمة عنده ، وقال الآخر بعدم جريانها لأنه مورد لاستصحاب الحرمة المتيقنة قبل انقطاع حيضها ، أو اختلفا في غير ذلك من الأحكام الظاهرية فلا ينبغي التأمل في عدم إمكان مطابقة كلتا النظريتين للواقع ، لاستلزامه كون الاستصحاب أو البراءة مثلاً حجة في مورد وعدم كونه حجة فيه ، فإحداهما خطأ بحسب مرحلة الجعل والثبوت فلا مجال للتصويب في تلك المرحلة كما مرّ.

وأمّا بحسب مرحلة المجعول والوظيفة الفعلية أعني ظرف تحقق الموضوع في الخارج وهو الشك في الأصول ، فليس ما بنى عليه كل منهما قابلاً للتردد والشبهة عنده ، لأن المجتهد إذا بنى على عدم انحلال العلم الإجمالي في المثال فوظيفته الاحتياط لمكان العلم الإجمالي وكونه منجزاً للتكليف ولا يتصوّر في ذلك الخطأ ، كما أن وظيفة من يرى انحلال العلم الإجمالي حينئذٍ هو البراءة للشك في وجوب الزائد على الأقل بالوجدان ، وكذا الحال في المثال الثاني وغيره من الموارد ، فكل مجتهد عالم بالإضافة إلى الأحكام الظاهرية الفعلية لعلمه بتحقق موضوعاتها ، وهو مصيب فيما هو الوظيفة الفعلية وإن كان يحتمل الخطأ في عقيدته ومسلكه بحسب مرحلة الجعل كما مرّ. إذن صحّ أن يقال : إن كل مجتهد مصيب في الأحكام الظاهرية حسب مرحلة الفعلية والمجعول.

٢٧

وعلى الجملة أن الحكم الظاهري قد أُخذ في موضوعه الشك ، فمن لم يتم عنده انحلال العلم الإجمالي فهو يحتمل العقاب على ترك الأكثر فوظيفته الاحتياط ، ومن أحرز الانحلال فيشمله حديث الرفع وجداناً فهو لا يحتمل العقاب. وكذلك مسألة الحائض فإن من تمّ عنده الاستصحاب لا يمكنه الرجوع إلى البراءة لأنه غير شاك في الحكم ، ومن لم يتم عنده فهو لم يصله الحكم وتجري في حقه البراءة ، إذن لا خطأ في الأحكام الظاهرية في مرحلة المجعول ، وإنما الاختلاف فيها من جهة الاختلاف والتبدل في الموضوع ، هذا كلّه في الشبهات الحكمية.

وبذلك ظهر الحال في الشبهات الموضوعية لأن من قامت البينة عنده على نجاسة شي‌ء فوظيفته الاجتناب عنه لقيام البينة على نجاسته ، كما أن من لم تقم عنده البينة على نجاسته وظيفته الحكم بطهارته حسب قاعدة الطهارة لتحقق موضوعها بالوجدان ، أعني الشك في طهارته وهو أمر غير قابل للخطإ كما تقدم.

فالاختلاف في الأحكام الظاهرية من باب التبدل في الموضوع وليس من الاختلاف على موضوع واحد كما في الأحكام الواقعية والأُمور النفس الأمرية.

٤ ـ الإجزاء‌

إذا تبيّن أن المجتهد قد يصيب في استنباطاته فيطابق رأيه الواقع ، وقد يخطأ وهو معذور ، تحققت مسألة أُخرى في المقام وهي إجزاء الأحكام الظاهرية عن الأحكام الواقعية على تقدير خطئها وعدمه ، وذلك لأنا لو التزمنا بالتصويب في الأحكام الشرعية ، لم يبق مجال لمسألة الإجزاء عند انكشاف خطأ الأحكام الظاهرية ، لأنه لا موضوع معه لانكشاف الخلاف فإن كل مجتهد مصيب كما يأتي تفصيله ، والتبدل في الرأي من باب تبدل الحكم الواقعي بتبدل موضوعه وليس من باب انكشاف الخلاف ، فلا موقع للتكلم في الإجزاء حينئذٍ. نعم ، إذا بنينا على التخطئة كما هو الصحيح تحقق الموضوع لتلك المسألة وأمكن التكلم على أن الحكم الظاهري عند انكشاف خطئه وخلافه ، هل يجزي عن الواقع فلا تجب إعادته أو قضاؤه أو لا؟

فنقول : إن انكشاف الخلاف في الأحكام الظاهرية قد يكون بالعلم وعدم مطابقتها‌

٢٨

مع الواقع وجداناً ، بأن يقطع المجتهد مثلاً على أن فتواه السابقة مخالفة للواقع ، وقد ادعي الإجماع على عدم الإجزاء في تلك الصورة وذلك لعدم امتثال الحكم الواقعي وبقائه بحاله.

وقد يكون بقيام حجة معتبرة على الخلاف. وهل يجزي الإتيان بالمأمور به الظاهري عن الواجب واقعاً ، إعادة أو قضاءً أو لا يجزي؟ فيه خلاف ، فقد يقال بالإجزاء مطلقاً وأُخرى يلتزم بعدمه كذلك ، وفصّل الماتن قدس‌سره بين العبادات والمعاملات بالمعنى الأخص أعني العقود والإيقاعات ، وبين غيرهما من الأحكام الوضعية والتكليفية. حيث ذكر في المسألة الثالثة والخمسين :

إذا قلّد من يكتفي بالمرة مثلاً في التسبيحات الأربع ، واكتفى بها أو قلّد من يكتفي في التيمم بضربة واحدة ، ثمّ مات ذلك المجتهد فقلّد من يقول بوجوب التعدد ، لا يجب عليه إعادة الأعمال السابقة. وكذا لو أوقع عقداً أو إيقاعاً بتقليد مجتهد يحكم بالصحة ، ثمّ مات وقلّد من يقول بالبطلان يجوز له البناء على الصحة. نعم ، فيما سيأتي يجب عليه العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني. وأمّا إذا قلّد من يقول بطهارة شي‌ء كالغسالة ، ثمّ مات وقلّد من يقول بنجاسته فالصلوات والأعمال السابقة محكومة بالصحة وإن كانت مع استعمال ذلك الشي‌ء وأمّا نفس ذلك الشي‌ء إذا كان باقياً فلا يحكم بعد ذلك بطهارته. وكذا في الحلية والحرمة فإذا أفتى المجتهد الأول بجواز الذبح بغير الحديد مثلاً فذبح حيواناً كذلك فمات المجتهد وقلّد من يقول بحرمته ، فإن باعه أو أكله حكم بصحة البيع وإباحة الأكل ، وأمّا إذا كان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه ولا أكله وهكذا.

وحاصله : أن في العقود والإيقاعات وكذلك العبادات ، يجوز للمقلد أن يرتّب آثار الصحة عليهما ولو بحسب البقاء ، بأن يعمل فيهما على فتوى المجتهد السابق وإن علم مخالفتهما للواقع بحسب فتوى المجتهد الّذي قلّده ثانياً ، وهذا بخلاف الأحكام الوضعية أو التكليفية فإن العمل فيهما على فتوى المجتهد السابق يختص بصورة انعدام‌

٢٩

موضوعهما ، وأمّا مع بقائه فلا بدّ من العمل على فتوى المجتهد الّذي قلّده ثانياً ، هذا.

إلاّ أنه لا يرجع إلى محصّل معقول ، فإن فتوى المجتهد السابق إن كانت حجة على مقلديه وجاز تطبيق العمل عليها بحسب البقاء ، فهي كذلك في كلا الموردين وإن لم تكن كذلك ولم يجز تطبيق العمل عليها بقاءً ، فهي أيضاً كذلك في كليهما. اللهم إلاّ أن يدعى أن الإجزاء على خلاف القاعدة ولا يمكن الالتزام به إلاّ بدليل وقد قام الدليل عليه وهو الإجماع في العبادات والمعاملات بالمعنى الأخص دون غيرهما. وسيأتي الجواب عن ذلك قريباً إن شاء الله ، فهذا التفصيل لا أساس له. إذن لا بدّ من الالتزام إمّا باجزاء الأحكام الظاهرية مطلقاً وإمّا بعدمه كذلك.

وتفصيل الكلام في المسألة : أن حجية الطرق والأمارات لو قلنا إنها من باب السببية دون الطريقية بأن يكون قيام الأمارة سبباً لحدوث مصلحة في المؤدى ، ففي المعاملات بالمعنى الأخص أعني العقود والإيقاعات وكذا المعاملات بالمعنى الأعم كما في الطهارة والنجاسة والجامع الأحكام الوضعية بأجمعها ، لا يتحقق انكشاف خلاف قط ووجهه : أن الأحكام الوضعية ليست متعلقة بأفعال المكلفين لتكون كالأحكام التكليفية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، بل الأحكام الوضعية تتعلق بالموضوعات الخارجية غالباً كما في الملكية والزوجية ونحوهما ، فلا معنى لكون متعلقاتهما ذات مصلحة أو مفسدة بل الأحكام الوضعية تتبع المصالح والمفاسد في جعلها وإنشائها. فإذا أدى اجتهاده مثلاً إلى أن المعاطاة مفيدة للملكية اللاّزمة ، ثمّ قامت عنده الأمارة على أنها لا تفيد إلاّ الإباحة لاشتراط الصيغة في البيع ، كانت الأمارة القائمة على كون المعاطاة مفيدة للملك موجبة لحدوث مصلحة في الحكم بالملكية اللاّزمة في المعاطاة ، كما أنها إذا قامت على الإباحة أوجبت حدوث مصلحة في الحكم بالإباحة بسببها ، ومعه لا معنى لانكشاف الخلاف في الأحكام الوضعية ، إذ المصلحة في الحكم بالملكية إنما تحققت بقيام الحجة على أن المعاطاة تفيد الملكية ، كما أن المصلحة في الحكم بالإباحة كذلك ، إذن ما معنى انكشاف الخلاف في مثلها ، فإن ذلك من باب التبدل في الموضوع كتبدل الحاضر مسافراً أو العكس ، إذ المجتهد قبل أن تقوم عنده الأمارة على الإباحة مثلاً كان ممن قامت عنده الحجة على حصول الملكية‌

٣٠

بالمعاطاة ، وهو موضوع لاتصاف الحكم بالملكية بالصلاح ، وليس هذا من انكشاف الخلاف في شي‌ء ، وعلى ذلك لا مناص من الالتزام فيها بالإجزاء.

وأمّا الأحكام التكليفية ، فإن كانت السببية فيها بمعنى أن قيام الأمارة من الأسباب الموجبة لحدوث المصلحة في الفعل الّذي أدّت الأمارة إلى وجوبه مثلاً ، من غير أن تكون موجبة لانسلاخ الواقع عن مصلحته وانصراف المصلحة إلى المؤدي ، بل مع بقاء الواقع على مصلحته تتولّد مصلحة أُخرى فيما دلت الأمارة على وجوبه ، فالالتزام بها بهذا المعنى لا ينافي الطريقية بوجه ، غاية الأمر أن الأمارة تدل على أن مصلحة أُخرى متحققة في شي‌ء آخر أيضاً ، إذن يتحقق فيها انكشاف الخلاف لأن الأمارة المؤدّية إلى وجوب القصر على المكلف في مورد وإن كانت موجبة لحدوث مصلحة فيه حقيقة ، إلاّ أن مصلحة الواقع أعني وجوب التمام باقية بحالها ، فلو قامت الحجة عند المكلف بعد ذلك على وجوب التمام ، انكشف أن المكلف العامل بالأمارة إنما استوفى مصلحة أُخرى غير المصلحة القائمة بالواجب الواقعي ، وحيث إنها باقية بحالها ولم تستوف على الفرض ، فلا بدّ من الإتيان بالواجب الواقعي بعد ذلك إعادةً أو قضاءً ، ومن هنا قلنا إن السببية بهذا المعنى غير منافية للطريقية ولا مستلزمة للقول بالاجزاء.

وأما إذا كانت السببية في الأحكام التكليفية بمعنى كون الأمارة سبباً لسلب المصلحة عن التمام وانصرافها إلى ما أدّت الأمارة إلى وجوبه ، بأن تكون الأمارة القائمة على وجوب القصر في المثال موجبة لسلب المصلحة عن التمام وصرفها إلى القصر ، أو كانت السببية بمعنى كون الأمارة موجبة لحدوث مصلحة في المؤدى بها يتدارك مصلحة الواجب الواقعي الفائتة عن المكلف على الفرض ، فلم يتصوّر فيها انكشاف الخلاف بل لا بدّ من الالتزام فيها بالأجزاء ، فإن قيام الأمارة على الخلاف حينئذٍ من باب التبدل في الموضوع كما عرفته في الأحكام الوضعية ، إذ المصلحة في القصر إنما هي بالإضافة إلى من قامت الحجة عنده على وجوبه ، كما أن الموضوع لتحقق المصلحة في الإتمام إنما هو من قامت الحجة عنده على وجوب التمام ، وقد كان المكلف قبل قيام الأمارة عنده على وجوب التمام مندرجاً في الموضوع الأول ، واندرج‌

٣١

في الثاني بعد قيام الامارة على وجوبه ، هذا بناءً على الصرف.

وأما على التدارك فالأمر أيضاً كذلك لأن المكلف لم يفته شي‌ء من المصلحة على ذلك ، سواء انكشف الخلاف في الوقت أو في خارجه ، هذا كلّه بناءً على السببية في الطرق والأمارات.

وأمّا على القول الآخر وهو كون الحجج والأمارات معتبرة من باب الطريقية كما هو الصحيح حيث إن حجية الطرق والأمارات في الشريعة المقدسة ليست تأسيسية وجعلية ، وإنما هي إمضائية في الجميع بمعنى أن أية أمارة كانت معتبرة عند العقلاء على ما استكشفنا من سيرتهم قد أبقاها الشارع على حجيتها وأمضى اعتبارها ، والعقلاء إنما كانوا يعاملون مع بعض الأشياء معاملة العلم والقطع من حيث كونهما منجّزين على تقدير الإصابة ومعذّرين على تقدير الخطأ وهو معنى الطريقية والكاشفية ، وليس عند العقلاء طريق اعتبروه من باب السببية أي لكونه سبباً لإيجاد مصلحة في المؤدى ليمضيها الشارع كذلك ويبقيها بحالها ، كما أن الشارع لم يعتبر حجية الحجج والأمارات تأسيساً ليتوهم أنها صارت حجة من باب السببية عند الشارع ، إذن ليست من السببية عين ولا أثر في شي‌ء من الطرق ، واعتبارها إنما هو من باب المنجّزية والمعذّرية أي الطريقية فحسب.

فهل مقتضى القاعدة في موارد تبدل الرأي أو العدول من مجتهد إلى مجتهد آخر متخالفين في الفتوى أو غير ذلك من الموارد الّتي يجمعها انكشاف الخلاف في الأحكام الظاهرية ، هو الاجزاء إلاّ فيما دل الدليل على عدمه ، أو أن القاعدة تقتضي وجوب الإعادة أو القضاء وعدم الإجزاء في الأحكام الظاهرية إلاّ أن يدل عليه دليل؟

فنقول قبل الشروع في تحقيق المسألة : إن كلامنا في أن العمل على طبق الاجتهاد السابق أو فتوى المجتهد الأوّل مجزئ عن الواقع عند انكشاف الخلاف ، إنما هو في الموارد الّتي لو علمنا فيها بمخالفة العمل المأتي به على طبق الحجة السابقة مع الواقع لوجبت إعادته أو قضاؤه. وأمّا الموارد الّتي لا يجب فيها الإعادة ولا القضاء حتى مع العلم بالمخالفة فهي خارجة عن محل الكلام. وذلك كما إذا صلّى من دون سورة معتقداً أن فتوى مجتهده ذلك ، ثمّ علم أن فتواه وجوب السورة في الصلاة ، فإنه لا تجب عليه‌

٣٢

إعادة صلاته أو قضاؤها لحديث لا تعاد (١) حتّى فيما إذا كان عمله على خلاف فتوى كل من المجتهد السابق والمجتهد الّذي يجب أن يقلّده بالفعل ، كما إذا أفتى كلاهما بوجوب السورة مثلاً.

وعلى الجملة أن محل النزاع هو ما إذا كان النقص الواقع في العمل مستلزماً للبطلان كما إذا كان في الأركان ، وأمّا موارد فقدان العمل لجزء أو شرط غير ركني لا يبطل العمل بتركه إذا كان مستنداً إلى الحجة ، فهي أجنبية عن محلّ الخلاف. نعم خروج تلك الموارد إنما هو على مسلكنا من أن حديث لا تعاد لا يختص الناسي فحسب ، بل يعمّ الجاهل القاصر إذا كان عمله مستنداً إلى حجة شرعية مخالفة للواقع. وأمّا بناءً على عدم شموله الجاهل كما ذهب إليه شيخنا الأستاذ قدس‌سره وأصرّ على اختصاص الحديث بالناسي فحسب (٢) فهي أيضاً مندرجة في محل الكلام‌

__________________

(١) وهو صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « لا تعاد الصّلاة إلاّ من خمسة : الطهور والوقت ، والقبلة ، والركوع ، والسجود » وسائل الشيعة ١ : ٣٧١ / أبواب الوضوء ب ٢ ح ٨.

(٢) وذكر في وجه ذلك ما حاصله : أن مورد النفي والإثبات في الصحيحة إنما هو الإعادة كما ترى فهي إنما تدل على نفي وجوب الإعادة عمّن هو مأمور بالإعادة امتناناً وهو الناسي لا غيره ، لعدم إمكان تكليفه بالواقع نفسه ، فناسي السورة مثلاً لا يكلف بإتيانها ولا يمكن أن يوجّه عليه الأمر بقراءتها لفرض نسيانها وإنما يكلّف بالإعادة فيقال له : أعد صلاتك أو لا تعدها. ففي هذه الموارد ينفى وجوب الإعادة عن الناسي في الصلاة للحديث. وأما الجاهل القاصر فهو قد أخل بما أخل به وتركه معتمداً لاجتهاده أو فتوى مقلده ، ومن الواضح أن تارك السورة متعمداً لجهله بوجوبها إنما يكلّف بإتيان الواقع نفسه ، لا أنه يكلف بإعادته فيقال له : اقرأ السورة ، لما هو الصحيح المقرر عندنا من أن الأحكام الواقعية مشتركة بين العالمين والجاهلين ولا يقال له أعد صلاتك. ومع كونه مكلفاً بالإتيان بنفس الواجب والواقع لا يكلف بالإعادة لينفي عنه وجوبها. إذن يختص الحديث بالناسي فحسب ، ولا يمكن التمسك به في الجاهل القاصر [ كتاب الصلاة ٣ : ٥ ] هذا.

وما أفاده قدس‌سره لا يمكننا المساعدة عليه وذلك لأن كون الجاهل مكلفاً بنفس الواقع وإن كان صحيحاً كما أُفيد ، إلاّ أن ذلك إنما هو فيما أمكن التدارك في حقه ، لا فيما لم يتمكن من تداركه ، مثلاً إذا ترك السورة في صلاته لعدم وجوبها عنده فدخل في الركوع وقامت الحجة وقتئذٍ على وجوب السورة في الصلاة ، لم يكلف بإتيان الواقع نفسه لعدم تمكنه من التدارك ، لأنه قد دخل الركن ومضى محلّ السورة ، بل لا بدّ من إيجاب الإعادة عليه فيقال له : أعد أو لا تعد ولا

٣٣

فيتكلّم في أن العمل على طبق الحجة السابقة هل يجزي عن الواقع؟ لأن الترك حينئذٍ لا يستند إلى النسيان حتى يجري فيه الحديث.

كما أنّ محل الكلام إنما هو فيما إذا كان بطلان العمل مستنداً إلى استكشاف المجتهد أو استنباط المجتهد الثاني من الأدلة بطلان الأعمال الصادرة على طبق الحجة السابقة بأن يفتي ببطلانها ، لا ما إذا كان مستنداً إلى الاحتياط وأصالة الاشتغال إذ الحكم ببطلان الأعمال المتقدمة لو استند إلى الاحتياط وقاعدة الاشتغال ، لم يكن عدم وجوب القضاء في خارج الوقت مورداً للكلام والإشكال وذلك لأنه بأمر جديد وموضوعه الفوت ، ومع إتيان العمل في الوقت على طبق الحجة الشرعية لا يمكن إحراز الفوت بوجه لاحتمال أن يكون ما أتى به مطابقاً للواقع ، ومع عدم إحرازه يرجع إلى أصالة البراءة عن وجوب القضاء فهذه الصورة أيضاً ينبغي أن تكون خارجة عن محل النزاع.

فتلخص : أن مورد الكلام هو ما إذا كان العمل المأتي به على طبق الحجة السابقة فاقداً لجزء أو شرط ركني يبطل العمل بالإخلال به وكان بطلانه مستنداً إلى الإفتاء به لا إلى أصالة الاشتغال والاحتياط ، فهل مقتضى القاعدة حينئذٍ هو الحكم ببطلان الأعمال الصادرة على طبق الحجة السابقة وعدم كونها مجزئة عن المأمور به الواقعي أو أن الأمر بالعكس؟

__________________

يكلف بقراءة السورة بوجه. وعلى هذا لا مانع من شمول الحديث للجاهل كالناسي لأنه أيضاً مكلف بالإعادة لدى العقل ، والشارع قد ألغى وجوبها عنه للامتنان.

والمتحصّل أنه لو أخل بشي‌ء من أجزاء الصلاة أو شرائطها استناداً إلى حجة معتبرة عنده ، ثمّ عدل عن اجتهاده وبنى على اعتبار ما تركه في الصلاة ، لم تجب إعادتها. فالحديث يشمل الجاهل القاصر أيضاً إلاّ في موارد دل النص على وجوبها ، كما إذا كبّر قائماً وكانت وظيفته الجلوس أو العكس ، لما في موثقة عمار « قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل وجبت عليه صلاة من قعود فنسي حتى قام وافتتح الصلاة وهو قائم ثمّ ذكر؟ قال : يقعد ويفتتح الصلاة وهو قاعد. [ ولا يعتد بافتتاحه الصلاة وهو قائم ] وكذلك إن وجبت عليه الصلاة من قيام فنسي حتى افتتح الصلاة وهو قاعد ، فعليه أن يقطع صلاته ويقوم فيفتتح الصلاة وهو قائم ولا يقتدى [ ولا يعتد ] بافتتاحه وهو قاعد ». وسائل الشيعة ٥ : ٥٠٣ / أبواب القيام ب ١٣ ح ١.

٣٤

الصحيح هو الأول ، لأن الصحة إنما تنتزع عن مطابقة العمل للمأمور به فإذا فرضنا عدم مطابقتهما حكم ببطلانه ، والحكم بأن غير الواقع مجزئ عن الواقع يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه.

وقد يقال : إن الاجزاء هو المطابق للقاعدة ويستدل عليه بوجوه :

منها : أن انكشاف الخلاف إذا كان بقيام حجة معتبرة على الخلاف ، لا علم بكون الاجتهاد السابق على خلاف الواقع كما هو الحال فيما إذا كان الانكشاف بالعلم الوجداني بالخلاف ، بل الاجتهاد السابق كاللاّحق ، فكما يحتمل أن يكون الاجتهاد الثاني مطابقاً للواقع كذلك يحتمل أن يكون الاجتهاد الأول كذلك فهما متساويان ، وإن كان يجب عليه وعلى مقلديه أن يطبقوا أعمالهم على الاجتهاد اللاّحق دون السابق. وهذا لأجل أن الاجتهاد اللاّحق لا يكشف عن عدم حجية الاجتهاد السابق في ظرفه ، لأن انكشاف الخلاف في الحجية أمر غير معقول كما يأتي بيانه ، بل بمعنى أن السابق يسقط عن الحجية في ظرف الاجتهاد الثاني مع بقائه على حجيته في ظرفه وعليه فالتبدل في الحجية من التبدل في الموضوع ومعه لا وجه لبطلان الأعمال المتقدمة المطابقة مع الاجتهاد السابق لفرض أنه متصف بالحجية في ظرف الاجتهاد اللاّحق.

وتوضيحه : أن الأحكام الظاهرية وإن كانت كالأحكام الواقعية بحسب الجعل والإنشاء ، فتجعل الحجية على الحجج والأمارات كما تجعل الحرمة مثلاً على موضوعاتها على نهج القضايا الحقيقية ، فلا يفرق الحال بينهما في تلك المرحلة إلاّ أن الأحكام الظاهرية تغاير الأحكام الواقعية في شي‌ء وهو أنه لا يترتب على الأحكام الظاهرية في مرحلة جعلها وإنشائها أثر بوجه ، بل إنشاؤها كعدمه لأن النتيجة المطلوبة من جعلها إنما هي المنجّزية والمعذّرية وهاتان إنما تترتبان على الحجية الفعلية ولا تتصف الحجية بها أي بالفعلية إلاّ بعد وصولها إلى المكلف صغرىً وكبرى بحيث لو وصلته الكبرى دون الصغرى أو العكس لم يكد يترتب على الحجية شي‌ء من التنجيز والتعذير ، مثلاً إذا علم المجتهد أن البينة حجة في الشريعة المقدسة ، ولم يعلم قيامها على نجاسة موضوع خارجي ، أو علم بأنها قامت على نجاسته إلاّ أنه لم‌

٣٥

تصل إليه حجية البينة ، لم تكن نجاسة الموضوع الخارجي متنجزة في حقه ، وإنما هو أمر مشكوك الطهارة والنجاسة فيحكم بطهارته حقيقة.

وعلى الجملة أن التنجيز والتعذير يترتبان على الحجية الواصلة لا على مجرد الحجية الإنشائية. ومن هنا ذكرنا في بعض أبحاثنا أن الأُصول العملية والأحكام الظاهرية مما لا يتحقق له شبهة مصداقية ، حيث إن موضوعها الشك وهو أمر وجداني ، إمّا أن يوجد وإما أن لا يوجد في الخارج. وبعبارة اخرى أن الحجية إن وصلت إلى المكلف بكبراها وصغراها فلا موضوع للأصل العملي ، وإن لم تصله بإحدى مقدمتيها فموضوع الأصل العملي وهو الشك موجود حقيقةً ، مثلاً إن البينة في المثال إن كانت وصلت حجيتها إلى المكلف بكلتا المقدمتين فلا يبقى للاستصحاب مجال ، إذ لا شك في نجاسة الموضوع الخارجي حينئذٍ ، وإذا لم تصل جرى فيه الاستصحاب للشك في طهارته ونجاسته.

وإذا عرفت أن الحجية متقومة بالوصول ولا أثر لغير الواصلة ، ظهر أنه لا موجب لاستكشاف عدم حجية الاجتهاد السابق عند تبدل الرأي والاجتهاد ، بل الاجتهاد الأوّل متصف بالحجية في ظرفه ولا يمكن رفع اليد عنه إلاّ بعد وصول الحجة الثانية فإن بوصولها تسقط الحجة السابقة عن الاعتبار مع بقائها على وصف الحجية في ظرفها ، لا أن الثانية تكشف عن عدم حجية السابقة في ظرفها. وكذلك الحال فيما إذا ظفرنا بما يدلنا على خلاف الاستصحاب الجاري في المثال ، لأنه لا يكشف عن عدم حجية الاستصحاب في ظرفه فإنه متصف بها في وقته ، وإنما يسقط عنها بالظفر بما دلّ على الخلاف. ومن هنا قلنا إن انكشاف الخلاف في الحجية أمر غير معقول والتبدل في الحجية دائماً من التبدل في الموضوع وعلى ذلك لا موجب لإعادة الأعمال الصادرة على طبق الاجتهاد الأوّل أو قضائها ، لكونها صادرة على طبق الحجة الفعلية في زمانها ، هذا.

ولا يخفى أن هذه الدعوى وإن كانت صحيحة في نفسها ، لأن الحجية متقومة بالوصول ، وهذا لا بمعنى استحالة إنشائها فإن إمكان إنشاء الحجية كإنشاء غيرها من الأحكام الشرعية على نهج القضايا الحقيقية بمكان من الوضوح ، بل بمعنى أن الأثر المرغوب منها وهو التنجيز والتعذير لا يترتب عليها إلاّ بعد وصولها وفعليتها ولا‌

٣٦

معنى لانكشاف الخلاف في الحجية وإنما التبدل تبدل في الموضوع كما عرفت.

إلاّ أن الإجزاء في محل الكلام لا يكاد يترتب على الدعوى المذكورة بوجه ، وذلك لأن قيام الحجة الثانية وإن كان لا يستكشف به عن عدم حجية الاجتهاد الأول مثلاً في ظرفه ، إلاّ أن مقتضاها ثبوت مدلولها في الشريعة المقدسة من الابتداء لعدم اختصاصه بعصر دون عصر. إذن العمل المأتي به على طبق الحجة السابقة باطل ، لأنه مقتضى الحجة الثانية ومعه لا بدّ من إعادته أو قضائه.

واحتمال المخالفة مع الواقع وإن كان تشترك فيه الحجتان إلاّ أن هذا الاحتمال يلغى في الحجة الثانية حسب أدلّة اعتبارها ، ولا يلغى في الأُولى لسقوطها عن الاعتبار ، ومجرد احتمال المخالفة يكفي في الحكم بالإعادة أو القضاء لأنه لا مؤمّن معه من العقاب وحيث إن العقل مستقل بلزوم تحصيل المؤمّن فلا مناص من الحكم بوجوب الإعادة على طبق الحجة الثانية ، لأن بها يندفع احتمال الضرر بمعنى العقاب ، هذا كلّه في الإعادة.

وأمّا القضاء فهو أيضاً كذلك ، لأن مقتضى الحجة الثانية أن ما أتى به المكلف على طبق الحجة السابقة غير مطابق للواقع ، فلا بدّ من الحكم ببطلانه ومعه يصدق فوت الفريضة وهو يقتضي وجوب القضاء ، وعلى ذلك لا بدّ من الحكم بعدم الاجزاء في موارد التبدل في الرأي أو موت المجتهد والرجوع إلى مجتهد آخر ، بلا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات بالمعنى الأخص أو المعاملات بالمعنى الأعم ، ولا بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية.

ومنها : ما استدل به بعض مشايخنا المحققين قدس‌سرهم حيث ذهب إلى الاجزاء وعدم انتقاض الآثار السابقة في أمثال المقام ، واستدل على ذلك في كل من الأحكام التكليفية والوضعية بوجه ، وحاصل ما ذكره في رسالة الاجتهاد والتقليد (١) وفي تعليقته على المكاسب في مسألة ما إذا اختلف المتعاقدان اجتهاداً أو تقليداً في شروط الصيغة :

__________________

(١) رسالة في الاجتهاد والتقليد ( الأصفهاني ) : ١٨٨.

٣٧

أن الأحكام الوضعية الأعم مما في موارد المعاملات بالمعنى الأعم والمعاملات بالمعنى الأخص إنما تتعلق بحسب الغالب على الأجسام والموضوعات الخارجية كما مرّ ، ومن الظاهر أن الجسم الخارجي لا معنى لقيام المصلحة به حتى يكون الأحكام الوضعية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، فلا مناص من أن تكون تابعة للمصالح في جعلها واعتبارها ، فإذا أدت الحجة إلى أن المعاطاة مملّكة أو أن الصيغة الفارسية كافية في العقود ، فقد وجدت المصلحة في جعل الملكية في المعاطاة أو الزوجية في العقد غير العربي وهكذا ، فإذا قامت الحجة الثانية على أن المعاطاة مفيدة للإباحة أو أن العربية معتبرة في الصيغة ، لم يستكشف بذلك أن الملكية في المعاطاة أو الزوجية في العقد الفارسي غير متطابقين للواقع ، وذلك لأن الأحكام الوضعية لا واقع لها سوى أنفسها والمفروض أنها تتحقق بقيام الحجة الأُولى ، فلا يستكشف بسببها أن جعل الملكية في المعاطاة مثلاً لم يكن على وفق المصلحة إذ لو لم تكن هناك مصلحة تدعو إلى جعلها واعتبارها لم يمكن للشارع أن يعتبرها بوجه.

نعم ، يستكشف بالحجة الثانية أن المصلحة من لدن قيامها إنما هي في جعل الإباحة في المعاطاة لا في جعل الملكية ، أو أنها في جعل الزوجية في العقد العربي لا الفارسي ، فقيام الحجة الثانية على الخلاف إنما هو من باب التبدل في الموضوع وليس من باب انكشاف الخلاف في السابقة باللاّحقة ، ومع كون الثانية موجبة للتبدل في الموضوع لا مناص من الالتزام بالإجزاء في الأحكام الوضعية.

اللهُمَّ إلاّ أن نقول : إن الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية وغير مجعولة في نفسها ، كما عليه شيخنا الأنصاري قدس‌سره فإن حال الوضعية حينئذٍ حال التكليفية فيتصوّر فيها انكشاف الخلاف كما كان يتصوّر في التكليفية ، إلاّ أنه مما لا يسعنا الالتزام به لما ذكرناه في محلّه.

وأمّا الأحكام التكليفية ، فهي وإن كانت تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ويتصوّر فيها كشف الخلاف ، إلاّ أن الحجة الثانية إنما يتّصف بالحجية بعد انسلاخ الحجية عن السابقة بموت المجتهد أو بغيره من الأسباب ، فالحجة الثانية لم تكن بحجة في ظرف الحجة السابقة ، وإنما حجيتها تحدث بعد سلب الحجية عن سابقتها وإذا كان‌

٣٨

الأمر كذلك ، استحال أن يكون الحجة المتأخرة والحادثة موجبة لانقلاب الأعمال المتقدمة عليها بزمان ، وهي الأفعال الصادرة على طبق الحجة السابقة حتى بناءً على الطريقية.

نعم ، هي إنما تكون مؤثرة بالإضافة إلى الأفعال الّتي يصدرها المكلف بعد اتصاف الثانية بالاعتبار ، لأنها لو لم تكن مطابقة معها بطلت ، أمّا الأعمال الصادرة قبل اتصافها بالحجية فلا يعقل أن تكون مؤثرة فيها بوجه ، لأن حجيتها حادثة وليست منها عين ولا أثر في ظرف صدور الأعمال المتقدمة كما مرّ ، بل قد يكون الموضوع للحجة المتأخرة ، وهو المجتهد المفتي ببطلان الأعمال المتقدمة غير متولد في تلك الأزمنة أو لو كان لم يكن مجتهداً أو كان ولم يكن بأعلم ، ومعه كيف تكون فتواه المتأخرة وجوداً وحجيةً موجبة لقلب الأعمال السابقة عليها بزمان لتجب إعادتها أو قضاؤها ، لأن الإعادة أو القضاء وإن كانا من الأُمور المتأخرة عن الحجة الثانية إلاّ أنهما من لوازم بطلان الأعمال المتقدمة ، ولا يعقل أن يكون الملاك المؤثر في بطلانها أي الأعمال السابقة مخالفتها للحجة المتأخرة ، إذ قد عرفت عدم إمكان تأثير المتأخر في المتقدم ، بل الملاك مخالفتها للحجة السابقة والمفروض عدمها. وعليه لا مناص من الالتزام في الأحكام التكليفية أيضاً بالاجزاء.

ثمّ إن هذا البيان الّذي حررناه في تقريب الإجزاء في الأحكام التكليفية ، يأتي في الأحكام الوضعية بعينه ، إلاّ أنها تمتاز عن التكليفية بالوجه السابق الّذي قرّبناه بما لا مزيد عليه لأنه لا يأتي في التكليفية وهو ظاهر. هذه خلاصة ما أفاده قدس‌سره في الموضعين بتوضيح منّا في تقريبه (١).

والجواب عن ذلك ، أمّا في الأحكام الوضعية فلأنها وإن كانت تابعة للمصالح في جعلها ، ولا واقع لها إلاّ أنفسها كما حققه قدس‌سره ولا يتصوّر فيها انكشاف الخلاف بعد تحققها ، إلاّ أن الكلام في أنها هل تحققت من الابتداء أم لم تتحقق ، وأن المعاطاة الصادرة في الزمان المتقدم هل أفادت الملكية أم لا ، حيث إن المكلف بعد سقوط الحجة السابقة عن الحجية واتصاف الثانية بها وهي الّتي تدل على أن‌

__________________

(١) حاشية المكاسب ( الأصفهاني ) : ٧٤.

٣٩

المعاطاة مفيدة للإباحة يشك في أن الملكية هل حصلت بالمعاطاة الصادرة منه أم لم تحصل. والحجة الثانية تكشف عن أن الملكية لم تحصل من الابتداء لأنها تخبر عن أن الملكية بسبب المعاطاة غير مجعولة في الشريعة المقدسة لعدم الفرق في مدلولها بين الزمان السابق واللاّحق. وعليه فحال الأحكام الوضعية حال الأحكام التكليفية بعينها ولا تختص الأحكام الوضعية بوجه.

وأمّا الأحكام التكليفية فلأن المكلف بعد ما سقطت الحجة السابقة عن حجيتها واتصفت الثانية بالاعتبار ، يشك في وجوب إعادة الأعمال الّتي أتى بها على طبق الحجة السابقة أو قضائها ، إذ لا علم له بمطابقتها للواقع ، وحيث إن الإعادة أو القضاء في ظرف الحجة المتأخرة عمل من أعمال المكلف ، وهو لا يدري حكمه فلا مناص من أن يحرز ذلك بإحراز أن إعماله السابقة كانت مطابقة للواقع أم لم تكن ، وحيث لم يحرز مطابقتهما إحرازاً وجدانياً فلا بدّ من أن يحرزها بالحجة التعبدية ، وليست الحجة عليه هي السابقة لسقوطها عن الاعتبار ، وليس له أن يعتمد عليها بعد قيام الحجة الثانية ، فيتعيّن أن تكون هي الحجة المتأخرة لاعتبارها في حقه ، وبما أنها تدل على بطلانها وعدم كونها مطابقة مع الواقع فتجب إعادتها أو قضاؤها.

وأمّا ما أفاده من أن الحجة المتأخرة لا يعقل أن تكون مؤثرة في الأعمال المتقدمة عليها فيرد عليه :

أوّلاً : النقض بما إذا فرضنا رجلين فاسقين تابا واتصفا بالعدالة فشهدا على ملكية شي‌ء لشخص منذ أسبوع ، أو بنجاسته من أوّل الشهر الماضي ، أو بزوجية امرأة من السنة الماضية ، فهل ترد شهادتهما نظراً إلى أن الشهادة المتصفة بالحجية المتأخرة عن تلك الأُمور لا يعقل أن تؤثر في الأُمور السابقة عليها. وكذا إذا صلّى فشك في أنه ركع أم لم يركع فبنى على أنه قد ركع بقاعدة التجاوز أو بصحة صلاته بقاعدة الفراغ ، وبعد هذا شهد العادلان اللّذان كانا فاسقين حال الصلاة وقد تابا بعد ذلك ، بأنه قد نقص ركوعاً أو ركعة ، أفلا يحكم ببطلان الصلاة نظراً إلى أن حجية الشهادة متأخرة عن الصلاة فلا تؤثر في الأمر المتقدم عليها.

وثانياً الحل وحاصله : أن المراد بأن الحجة المتأخرة لا يمكن أن تؤثر في الأعمال‌

٤٠