موسوعة الإمام الخوئي - ج ١

الشيخ علي الغروي

المعصوم عليه‌السلام لاحتمال أن يكون مستنداً إلى أحد الوجوه الآتية في الاستدلال ، ومعه لا مجال للاعتماد عليه.

منها : مقبولة عمر بن حنظلة حيث ورد فيها : « ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ... » (١) وحسنة أبي خديجة بقوله عليه‌السلام فيها : « ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا ... » (٢).

وفيه : أن الروايتين إنما وردتا في الترافع والقضاء ، وقد مرّ في التكلم على اعتبار الأعلمية أنه لا ملازمة بين بابي القضاء والفتوى حتى يعتبر في كل منهما ما اعتبر في الآخر من الشروط ، على أنهما دلتا على اعتبار كون القاضي من الشيعة نظراً إلى أن غير الشيعة لا يروي عنهم عليهم‌السلام وإنما يروي عن المفتين في مذهبه وعمّن اعتنق به في عقيدته ، أو لو روى عنهم لم يكن يحكم بحكمهم ولا أنه عارف بأحكامهم وقضاياهم عادة ، لا أن ذلك حكم تعبدي صدر عنهم عليهم‌السلام وعلى الجملة أن اعتبار الايمان في الروايتين من جهة أن الموضوع للحكم بالحجية فيهما هو ما إذا حكم الحاكم بحكمهم لأنه الّذي جعله عليه‌السلام حاكماً على الناس ، وغير الاثني عشري إنما يحكمون بأحكام أنفسهم لا بحكمهم عليهم‌السلام فإذا فرضنا في مورد أن المفتي من غير الشيعة إلاّ أنه يحكم بحكمهم لعرفانه بأحكامهم وقضاياهم كما هو مفروض الكلام لم يكن وجه لأن تشمله الروايتان ، هذا.

على أن مقبولة عمر بن حنظلة ضعيفة السند على ما بيّناه في التكلم على اعتبار الأعلمية فلاحظ (٣).

ومنها : روايتا علي بن سويد وأحمد بن حاتم بن ماهويه فقد ورد في أولهما : « كتب إليّ أبو الحسن عليه‌السلام وهو في السجن : ذلا تأخذنّ معالم دينك عن غير شيعتنا فإنك إن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين ... » (٤) وفي ثانيتهما جواباً عمّا كتبه أحمد بن‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٦ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣ / أبواب صفات القاضي ب ١ ح ٥.

(٣) راجع ص ١٤١.

(٤) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٠ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٤٢.

١٨١

حاتم وأخوه إلى أبي الحسن الثالث عليه‌السلام « فاصمدا في دينكما على كل مسنّ في حبنا ، وكل كثير القدم في أمرنا ، فإنهما كافوكما إن شاء الله تعالى » (١) وذلك للنهي في الرواية الأُولى عن الرجوع إلى غير الشيعة ، والأمر في الثانية بالاعتماد على المسنّ في حبهم وكثير القدم في أمرهم عليهم‌السلام.

ويدفعه : أن الروايتين ضعيفتا السند ، فإن في سند أولاهما محمد بن إسماعيل الرازي وعلي بن حبيب المدائني وكلاهما لم يوثق في الرجال ، كما أن في سند الثانية جملة من الضعاف منهم أحمد بن حاتم بن ماهويه.

مضافاً إلى أن الظاهر أن النهي في الرواية الأُولى عن الأخذ من غير الشيعة إنما هو من جهة عدم الوثوق والاطمئنان بهم لأنهم خونة حيث خانوا الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخانوا أماناتهم كما في الرواية ، وأين هذا مما هو محل الكلام ، لأن البحث إنما هو في جواز الرجوع إلى من كان واجداً لجميع الشرائط وتصدى لاستنباط الأحكام عن أدلتها على الترتيب المقرر عندنا ولم يكن فيه أي نقص غير أنه لم يكن شيعياً ومعتقداً بالأئمة عليهم‌السلام.

وأما الرواية الثانية فهي غير معمول بها قطعاً ، للجزم بأن من يرجع إليه في الأحكام الشرعية لا يشترط أن يكون شديد الحب لهم أو يكون ممن له ثبات تام في أمرهم عليهم‌السلام فإن غاية ما هناك أن يعتبر فيه الايمان على الوجه المتعارف بين المؤمنين ، إذن لا بدّ من حملها على بيان أفضل الأفراد على تقدير تماميتها بحسب السند.

ويؤكد ما ذكرناه : أن أخذ معالم الدين كما أنه قد يتحقق بالرجوع إلى فتوى الفقيه كذلك يتحقق بالرجوع إلى رواة الحديث ، ومن الظاهر أن حجية الرواية لا تتوقف على الايمان في رواتها ، لما قررناه في محلّه من حجية خبر الثقة ولو كان غير الاثني عشري من سائر الفرق ، إذن فليكن الأخذ بالرجوع إلى فتوى الفقيه أيضاً كذلك.

على أنّا لو سلّمنا جميع ذلك وبنينا على شرطية الايمان والإسلام في حجية الفتوى‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥١ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٤٥.

١٨٢

والعدالة (١)

______________________________________________________

بحسب الحدوث ، فلا ملازمة بينها وبين اعتبارهما في حجيتها بقاء أيضاً ، بحيث لو أخذ العامّي فتوى المجتهد حال استقامته وإيمانه ثمّ انحرف عن الحق لم يجز له أن يبقى على تقليده لسقوط فتواه عن الاعتبار ، فإنه يحتاج إلى دليل آخر غير ما دلّ على اعتبارهما في الحدوث.

فالمتحصل إلى هنا : أنه لم يدلنا دليل لفظي معتبر على شرطية الايمان في المقلّد ، بل مقتضى إطلاق الأدلة والسيرة العقلائية عدم الاعتبار لأن حجية الفتوى في الأدلة اللفظية غير مقيدة بالايمان ولا بالإسلام كما أن السيرة جارية على الرجوع إلى العالم مطلقاً ، سواء أكان واجداً للايمان والإسلام أم لم يكن وهذا يتراءى من سيرتهم بوضوح لأنهم يراجعون الأطباء والمهندسين أو غيرهم من أهل الخبرة والاطلاع ولو مع العلم بكفرهم.

ومع هذا كلّه لا ينبغي التردد في اعتبار الايمان في المقلّد حدوثاً وبقاءً كما يأتي وجهه عن قريب فانتظره.

٤ ـ العدالة :

(١) اشتراط العدالة كاشتراط البلوغ والإيمان لا يكاد يستفاد من شي‌ء من السيرة والأدلة اللفظية المتقدمتين ، وذلك لأن مقتضى إطلاق الآية والأخبار عدم الفرق في حجية إنذار الفقيه أو قول العالم أو رأي العارف بالأحكام بين عدالته وفسقه ، كما أن السيرة الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم غير مقيدة بما إذا كان العالم عادلاً بوجه.

نعم ، مقتضى السيرة وغيرها من الأدلة القائمة على حجية الخبر الواحد اشتراط الوثاقة في المقلّد وذلك حتى يجوز الاعتماد على إخباره عن رأيه ونظره ، ولا يشترط فيه زائداً على الوثوق شي‌ء.

نعم ، قد يستدل على اعتبار العدالة بالإجماع. وفيه : أنه ليس من الإجماع التعبدي في شي‌ء ، ولا يمكن أن يستكشف به قول الإمام عليه‌السلام لاحتمال استنادهم في ذلك إلى أمر آخر كما ستعرف.

١٨٣

وقد يستدل عليه برواية الاحتجاج المروية عن التفسير المنسوب إلى العسكري عليه‌السلام حيث ورد فيها : « فأما من كان الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه ... » (١).

ويدفعه أوّلاً : أن الرواية ضعيفة السند ، لأن التفسير المنسوب إلى العسكري عليه‌السلام لم يثبت بطريق قابل للاعتماد عليه فإن في طريقه جملة من المجاهيل كمحمّد بن القاسم الأسترآبادي ، ويوسف بن محمد بن زياد ، وعلي بن محمد بن سيار فليلاحظ هذا إذا أُريد بالتفسير المنسوب إلى العسكري عليه‌السلام هو الّذي ذكره الصدوق قدس‌سره بإسناده عن محمد بن القاسم الأسترآبادي ، والظاهر أنه مجلّد واحد كما لا يخفى على من لاحظ التفسير الموجود بأيدينا اليوم. وأما لو أُريد به هو الّذي ذكره محمّد بن علي بن شهرآشوب على ما نقله في المستدرك فالسند إليه صحيح لأنه ذكر الحسن بن الخالد البرقي أخو محمد بن خالد من كتبه تفسير العسكري من إملاء الإمام عليه‌السلام والحسن بن خالد ممن وثقه النجاشي (٢) وللمشايخ إليه طرق صحيحة إلاّ أن الظاهر أنه غير التفسير الّذي ذكره الصدوق بإسناده عن محمد بن القاسم الأسترآبادي ، لأنه نقل أن التفسير الّذي عدّ من كتب البرقي مائة وعشرون مجلداً ، وهذا لم يصل إلينا أبداً وإنما الموجود بأيدينا مجلّد واحد يتطابق لما نقله الصدوق قدس‌سره.

وثانياً : أن الرواية إنما وردت لبيان ما هو الفارق بين عوامنا وعوام اليهود في تقليدهم علمائهم ، نظراً إلى أن عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح وأكل الحرام والرشاء وتغيير الأحكام ، والتفتوا إلى أن من فعل ذلك فهو فاسق لا يجوز أن يصدق على الله ، ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله ، ومع هذا قلّدوا علماءهم واتبعوا آراءهم ، فلذلك ذمهم الله سبحانه بقوله عزّ من قائل ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ ) حيث فسّر في نفس الرواية بقوم من اليهود. ثمّ بيّن عليه‌السلام أن عوامنا أيضاً كذلك إذا عرفوا من علمائهم‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣١ / أبواب صفات القاضي ب ١٠ ح ٢٠.

(٢) رجال النجاشي : ٦١ / ١٣٩.

١٨٤

الفسق الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على الدنيا وحرامها ، فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الّذين ذمهم الله بالتقليد لفسقة علمائهم فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه إلى أن قال وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا كلهم.

وحاصل كلامه عليه‌السلام لو صحت الرواية : أن التقليد إنما يجوز ممن هو مورد الوثوق ومأمون عن الخيانة والكذب والاعتماد على قوله واتباع آرائه غير مذموم عند العقلاء وذلك كما إذا لم يعلموا منه الكذب الصراح وأكل الحرام. وهذا كما ترى لا دلالة له على اعتبار العدالة في المقلّد ، لأن الوثاقة كافية في صحة الاعتماد على قوله فإن بالوثوق يكون الرجوع إليه صحيحاً عند العقلاء ، وعلى الجملة أن الرواية لا دلالة لها على اعتبار العدالة في المقلّد.

على أنّا لو سلمنا دلالة الرواية على اعتبار العدالة في المفتي بحسب الحدوث فلا دلالة لها على اعتبارها فيه بقاءً ، كما إذا قلّده حال عدالته ثمّ طرأ عليه الفسق والانحراف ، هذا.

إلاّ أن مقتضى دقيق النظر اعتبار العقل والإيمان والعدالة في المقلّد بحسب الحدوث والبقاء ، والوجه في ذلك أن المرتكز في أذهان المتشرعة الواصل ذلك إليهم يداً بيد عدم رضى الشارع بزعامة من لا عقل له أو لا ايمان أو لا عدالة له ، بل لا يرضى بزعامة كل من له منقصة مسقطة له عن المكانة والوقار ، لأن المرجعية في التقليد من أعظم المناصب الإلهية بعد الولاية ، وكيف يرضى الشارع الحكيم أن يتصدى لمثلها من لا قيمة له لدى العقلاء والشيعة المراجعين إليه ، وهل يحتمل أن يرجعهم إلى رجل يرقص في المقاهي والأسواق أو يضرب بالطنبور في المجامع والمعاهد ويرتكب ما يرتكبه من الأفعال المنكرة والقبائح ، أو من لا يتديّن بدين الأئمة الكرام ويذهب إلى مذاهب باطلة عند الشيعة المراجعين إليه. فإن المستفاد من مذاق الشرع الأنور عدم رضى الشارع بامامة من هو كذلك في الجماعة ، حيث اشترط في إمام الجماعة العدالة فما ظنّك بالزعامة العظمى الّتي هي من أعظم المناصب بعد الولاية.

إذن احتمال جواز الرجوع إلى غير العاقل أو غير العادل مقطوع العدم ، فالعقل والإيمان ، والعدالة معتبرة في المقلّد حدوثاً ، كما أنها معتبرة فيه بحسب البقاء لعين ما‌

١٨٥

والرجولية (١).

______________________________________________________

قدّمناه في اعتبارها حدوثاً.

ولعلّ ما ذكرناه من الارتكاز المتشرعي هو المراد مما وقع في كلام شيخنا الأنصاري قدس‌سره من الإجماع على اعتبار الايمان والعقل والعدالة في المقلّد (١) إذ لا نحتمل قيام إجماع تعبدي بينهم على اشتراط تلك الأُمور.

٥ ـ الرجولية :

(١) استدلوا على عدم جواز الرجوع إلى المرأة في التقليد بحسنة (٢) أبي خديجة سالم‌

__________________

(١) رسالة في الاجتهاد والتقليد : ٥٧.

(٢) إن أبا خديجة سالم بن مكرم الجمال ممن وثقه النجاشي [ رجال النجاشي : ١٨٨ / ٥٠١ ] وضعّفه الشيخ [ الفهرست : ٧٩ / ٣٢٧ ] ولكنه وثقه في موضع آخر ، على ما نقله العلاّمة قدس‌سره وقد وقع في أسانيد كامل الزيارات أيضاً. وتضعيف الشيخ قدس‌سره ، غير مضر بوثاقته ، لأن تضعيفه هذا إن كان مقارناً لتوثيقه زماناً كما لو فرضنا أنه وثقه وضعّفه في وقت واحد ، فلا يمكن أن يشمل دليل الحجية شيئاً من تضعيفه وتوثيقه لتعارضهما ، ودليل الاعتبار لا يشمل المتعارضين. إذن يبقى توثيق النجاشي وابن قولويه في كامل الزيارات سليماً عن المعارض. وإذا فرضنا أن تضعيفه كان صادراً قبل توثيقه أيضاً لم يكن مورداً للاعتبار ، لأن توثيقه بعد التضعيف عدول عن تضعيفه السابق لا محالة لعدم احتمال أن الرجل عند الشيخ قدس‌سره ثقة وضعيف ، لوضوح أن الثابت عنده أحدهما فالتوثيق المتأخر منه عدول عن تضعيفه. كما أن تضعيفه لو كان صادراً بعد توثيقه لكان ذلك عدولاً عن توثيقه السابق ومعارضاً لتوثيق النجاشي وغيره ، وحيث لم يعلم تاريخهما وأن المتأخر أيهما اندرج ذلك في الشبهات المصداقية للتضعيف ، لعدم ثبوت تضعيف الشيخ وعدوله عن توثيقه ، كما لم يثبت عدوله عن تضعيفه فلا يعتمد معه على شي‌ء من قولي الشيخ فيرجع إلى توثيق النجاشي وغيره من دون معارض في البين.

ثمّ إن في طريق الصدوق إلى أحمد بن عائذ الراوي عن أبي خديجة ، حسن بن على الوشاء وهو ممن وقع في أسانيد كامل الزيارات ومقتضى ما بنى عليه سيدنا الأُستاذ ( أدام الله اظلاله ) من أن الرجال الواقعين في أسانيده موثقون بتوثيق ابن قولويه هو الحكم بصحة الرواية وتوصيفها بها وإنما عبّرنا عنها بالحسنة نظراً إلى عدم توثيق حسن بن علي الوشاء في كتب الرجال وإنما ذكروا أنه خيّر ومن وجوه هذه الطائفة فلا تذهل.

١٨٦

ابن مكرم الجمال قال : قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام « إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم ... » (١) لدلالتها على اعتبار الرجولية في باب القضاء ، ومن المعلوم أن منصب الإفتاء لو لم يكن بأرقى من القضاء ، فلا أقل من أنهما متساويان ، إذ القضاء أيضاً حكم وإن كان شخصياً وبين اثنين أو جماعة رفعاً للتخاصم ، والفتوى حكم كلّي يبتلي به عامة المسلمين فإذا كانت الرجولية معتبرة في باب القضاء كانت معتبرة في باب الإفتاء بالأولوية.

ويرد على هذا الوجه : أن أخذ عنوان الرجل في موضوع الحكم بالرجوع إنما هو من جهة التقابل بأهل الجور وحكامهم حيث منع عليه‌السلام عن التحاكم إليهم والغالب المتعارف في القضاء هو الرجولية ، ولا نستعهد قضاؤه النساء ولو في مورد واحد ، فأخذ عنوان الرجولية من باب الغلبة لا من جهة التعبد وحصر القضاوة بالرجال ، فلا دلالة للحسنة على أن الرجولية معتبرة في باب القضاء فضلاً عن الدلالة عليها في الإفتاء ، لو سلمنا أن القضاء والفتوى من باب واحد. على أنه لم يقم أي دليل على التلازم بينهما ليعتبر في كل منها ما اعتبر في الآخر بوجه.

وأيضاً استدلوا عليه بمقبولة عمر بن حنظلة المتقدمة (٢) حيث ورد فيها : « ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ».

وقد ظهر الجواب عنها بما بيّناه في الحسنة المتقدمة ، مضافاً إلى أنها ضعيفة السند كما مرّ ، على أن قوله عليه‌السلام « من كان » مطلق ولا اختصاص له بالرجال. إذن لم يقم دليل على أن الرجولية معتبرة في المقلّد ، بل مقتضى الإطلاقات والسيرة العقلائية عدم الفرق بين الإناث والرجال ، هذا.

والصحيح أن المقلّد يعتبر فيه الرجولية ، ولا يسوغ تقليد المرأة بوجه ، وذلك لأنّا قد استفدنا من مذاق الشارع أن الوظيفة المرغوبة من النساء إنما هي التحجب والتستر ، وتصدي الأمور البيتية ، دون التدخل فيما ينافي تلك الأُمور ، ومن الظاهر أن التصدي للإفتاء بحسب العادة جعل للنفس في معرض الرجوع والسؤال لأنهما‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣ / أبواب صفات القاضي ب ١ ح ٥.

(٢) في ص ١٤١.

١٨٧

والحرية ـ على قول ـ (١)

______________________________________________________

مقتضى الرئاسة للمسلمين ، ولا يرضى الشارع بجعل المرأة نفسها معرضاً لذلك أبداً كيف ولم يرض بامامتها للرجال في صلاة الجماعة فما ظنك بكونها قائمة بأمورهم ومديرة لشؤون المجتمع ومتصدية للزعامة الكبرى للمسلمين.

وبهذا الأمر المرتكز القطعي في أذهان المتشرعة يقيد الإطلاق ، ويردع عن السيرة العقلائية الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم مطلقاً رجلاً كان أو امرأة.

٦ ـ الحرية :

(١) لا يمكننا المساعدة على هذا الاشتراط سواء استندنا في مسألة جواز التقليد إلى السيرة العقلائية أم إلى الأدلة اللفظية ، أما إذا استندنا إلى السيرة فلأجل أن العقلاء يراجعون فيما يجهلونه إلى العالم به ، ولا يفرّقون في ذلك بين العبيد والأحرار ، وهذا أمر غير قابل للتردد فيه ، لأنه المشاهد من سيرتهم بوضوح.

وأما إذا اعتمدنا على الأدلة اللفظية فلأن قوله عزّ من قائل ( فَلَوْ لا نَفَرَ ... ) (١) يدلنا على وجوب التحذر عند إنذار الفقيه ولم يقيد ذلك بما إذا كان المنذر حراً. وكذا الحال في غيرها من الأدلة اللفظية ، ومقتضى إطلاقها عدم اعتبار الحرية في المقلّد.

ولا يأتي في المقام ما أشرنا إليه في شرطية العدالة ويأتي تفصيله عند التكلم على طهارة المولد (٢) من أن المرتكز في أذهان المتشرعة أن من كان به منقصة دينية أو دنيوية مسقطة له عن الوقار والأنظار لا يجوز أن يتصدى للمرجعية والإفتاء ، لأنه من أعظم المناصب الإلهية بعد الولاية ، ولا يرضى الشارع أن يتصداها من له منقصة كما مرّ ، وذلك لأن العبودية ليست منقصة بوجه ، فإن العبد قد يكون أرقى مرتبة من غيره ، بل قد يكون ولياً من أولياء الله سبحانه كما كان بعض العبيد كذلك. وقد يبلغ العبد مرتبة النبوة كلقمان. فإذا لم تكن العبودية منافية لشي‌ء من مرتبتي الولاية‌

__________________

(١) التوبة ٩ : ١٢٢.

(٢) في ص ١٩٦.

١٨٨

وكونه مجتهداً مطلقاً فلا يجوز تقليد المتجزي (١)

______________________________________________________

والنبوة ، فهل تكون منافية لمنصب الإفتاء الّذي هو دونهما كما لا يخفى.

٧ ـ الاجتهاد المطلق :

(١) قد قدمنا الكلام في ذلك عند التكلم على الاجتهاد (١) وذكرنا أن المتجزي ليس له أن يرجع إلى الغير في أعمال نفسه ، لأنه عالم فيما استنبطه ورجوعه إلى غيره من رجوع العالم إلى العالم ، لا من رجوع الجاهل إليه ، ولا مسوّغ للتقليد في مثله وكيف يمكن دعوى جواز رجوعه إلى من يرى خطأه واشتباهه ، لأن مرجعه إلى أنه مع علمه ببطلان صلاته مثلاً يجب أن يبني على صحتها لرجوعه إلى فتوى من يراها صحيحة ، وهذا مما لا يمكن الالتزام به ، هذا بحسب السيرة.

وأما الأدلة اللفظية فقد أسبقنا هناك أن أدلة جواز التقليد واتباع فتوى الغير مختصة بمن لم يتمكن من تحصيل الحجة على الحكم الشرعي ، فما ظنك بالمتجزي الّذي قد حصّلها بالفعل في مورد أو موردين أو أكثر.

وأما جواز الرجوع إليه فقد منع عنه الماتن بقوله : وكونه مجتهداً مطلقاً فلا يجوز تقليد المتجزي. وما أفاده قدس‌سره بناء على الاستدلال على وجوب التقليد بدليل الانسداد هو الصحيح ، وذلك لأن بطلان غير التقليد من الطرق وانسدادها على العامّي المقلّد يقتضي وجوب رجوعه إلى عالم ما ، إذ النتيجة جزئية ، والمقدار المتيقن منها هو الرجوع إلى المجتهد المطلق دون المتجزي كما أفاده.

كما أن الحال كذلك فيما لو استدللنا على وجوبه بالأدلة اللفظية من الكتاب والسنّة لأن قوله عزّ من قال ( فَلَوْ لا نَفَرَ ... ) (٢) دلّ على أن الحذر إنما يجب عند إنذار المنذر الفقيه ، ولا دلالة لها بوجه على وجوبه عند إنذار كل منذر وإن لم يصدق أنه فقيه. كما أن الأخبار الآمرة بالرجوع إلى أشخاص معينين دلتنا على الرجوع إلى يونس بن عبد الرحمن وأمثاله من أكابر الفقهاء والرواة ، ولم تدلنا على جواز الرجوع إلى من‌

__________________

(١) راجع ص ٢١.

(٢) التوبة ٩ : ١٢٢.

١٨٩

عرف مسألة أو مسألتين ، ولم يكن من إضراب هؤلاء الأكابر من الرواة.

نعم ، مقتضى السيرة العقلائية عدم الفرق في رجوع الجاهل إلى العالم بين أن يكون مجتهداً مطلقاً أو متجزئاً ، لوضوح أن جاهلهم بشي‌ء يرجع إلى العالم به وإن لم يكن له معرفة بغيره من الأُمور ، فتراهم يراجعون الطبيب الأخصّائي بالعيون مثلاً وإن لم يكن له خبرة بغيرها من الجهات ، وكذلك من له معرفة ببعض المسائل دون بعض وإن كان قليلاً. بل قد يقدمون نظر المجتهد المتجزّي على قول المجتهد المطلق عند المعارضة ، كما إذا كان المتجزي أعلم من المجتهد المطلق لممارسته ودقته في العلوم العقلية وكونه أقوى استنباطاً منه فيما يرجع إلى تلك المباحث من المسائل كوجوب مقدمة الواجب وبحثي الضد والترتب وغيرها ، وإن لم يكن له قوة بتلك المثابة في المسائل الراجعة إلى مباحث الألفاظ كغيرها.

وعلى الجملة لا فرق بحسب السيرة العقلائية بين المجتهد المطلق والمتجزي بوجه ومقتضى ذلك جواز تقليده فيما استنبطه من الأحكام وإن كانت قليلة غير مصححة لإطلاق الفقيه عليه ، وهذا لعلّه مما لا كلام فيه.

وإنما الكلام في أن السيرة هل ردع عنها في الشريعة المقدسة أو لا رادع عنها بوجه. وما يمكن أن يكون رادعاً عنها إنما هو الكتاب والسنة ، لوضوح أن غيرهما مما يمكن الاستدلال به على جواز التقليد غير صالح للرادعية أبداً.

أما الكتاب فقوله عزّ من قائل ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (١) وإن كان صالحاً للرادعية وذلك لأن ظاهر الأمر بالسؤال أن السؤال عن أهل الذكر واجب تعييني ، وأن الواجب على غير العالم أن يسأل أهل الذكر متعيناً ، لا أنه واجب مخير بأن يكون غير العالم مأموراً بالسؤال من أهل الذكر أو غيرهم مخيراً بينهما ، ومن الواضح أن أهل الذكر غير صادق على من علم مسألة أو مسألتين. إذن الآية المباركة قد أوجبت الرجوع إلى المجتهد المطلق متعيناً ، وهذا ينافي جواز الرجوع إلى المتجزي لأن مرجعه إلى التخيير بينهما وقد فرضنا أن الآية دلت على تعين الرجوع إلى المجتهد‌

__________________

(١) الأنبياء ٢١ : ٧.

١٩٠

المطلق. إلاّ أنّا قد أسبقنا في محلّه (١) أن الآية المباركة لا دلالة لها على وجوب التقليد وأن السؤال مقدمة للعمل بقول أهل الذكر تعبداً ، وبيّنا أن ظاهرها أن السؤال مقدمة لحصول العلم ومعنى الآية : فاسألوا لكي تعلموا. فإن سياقها يقتضي أن يكون المراد من أهل الذكر علماء اليهود ، وأن الله سبحانه قد أمر الجهلاء بالسؤال عنهم لكونهم عالمين بكتبهم. ومن هنا ورد في آية أُخرى ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ ) (٢) أي إذا لم يكن لكم علم بالبراهين والكتب فاسألوا علماء اليهود. ولا يحتمل أن يكون السؤال عنهم لأجل التعبد بقولهم ، إذ لا حجية لأقوالهم فيتعين أن يكون من باب المقدمة لحصول العلم. نعم ، ورد تفسير أهل الذكر بالأئمة عليهم‌السلام إلاّ أنه كما بيّناه سابقاً لا ينافي تفسيره بعلماء اليهود ، لأنهم عليهم‌السلام أيضاً من مصاديق أهل الذكر فراجع ، هذا.

على أن الآية المباركة إنما وردت إلزاماً لأهل الكتاب بالرجوع إلى علمائهم فيما يرجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن البيّن أنه لا معنى للتعبد في أمر النبوة وغيرها مما يرجع إلى الأُصول ، فإن المطلوب فيها هو الإذعان والاعتقاد ولا يكفي فيها التعبّد بوجه.

وأما آية النفر فدلالتها على وجوب التقليد وإن كانت ظاهرة كما مرّ ، إلاّ أنها ليست بظاهرة في الحصر لتدل على أن وجوب الحذر يترتب على إنذار الفقيه ، ولا يترتب على إنذار العالم الّذي لا يصدق عليه الفقيه ومعه لا تكون الآية المباركة صالحة للرادعية.

وأما الروايات فهي أيضاً كذلك ، حتى إذا فرضنا أن الرواة المذكورين فيها من أجلاء الفقهاء وكبرائهم ، إلاّ أنها غير ظاهرة في الانحصار لتدل على عدم جواز الرجوع إلى غيرهم من العلماء.

نعم ، هناك روايتان ظاهرتان في الانحصار.

__________________

(١) راجع ص ٦٨.

(٢) النحل ١٦ : ٤٣ ٤٤.

١٩١

إحداهما : رواية الاحتجاج المروية عن العسكري عليه‌السلام « وأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه ... » لأن ظاهرها حصر المقلّد في الفقهاء المتصفين بالأوصاف الواردة في الحديث فلا يجوز تقليد غير الفقيه.

إلاّ أنها كما قدّمنا (١) ضعيفة سنداً. على أن دلالتها على الحصر أيضاً مورد المناقشة لأن الرواية ليست بصدد بيان أن المقلّد يعتبر أن يكون فقيهاً ، وإنما هي بصدد بيان الفارق بين علماء اليهود وعلمائنا وعوامهم وعوامنا ، حيث قيل له عليه‌السلام إذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعونه من علمائهم فكيف ذمهم الله سبحانه بتقليدهم والقبول من علمائهم بقوله عزّ من قائل ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ ) وهل عوام اليهود إلاّ كعوامنا يقلّدون علمائهم ... فقال عليه‌السلام بين عوامنا وعوام اليهود فرق من جهة وتسوية من جهة ، وبيّن أن الفرق بينهما في أن عوام اليهود قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح ... والتفتوا أن من فعل ذلك فهو فاسق لا يجوز تقليده ، ومع هذا اتبعوا آراءهم فلذلك ذمهم الله سبحانه وبيّن أن عوامنا أيضاً كذلك إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر ، فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الّذين ذمهم الله بتقليدهم لفسقة علمائهم وأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ... فللعوام أن يقلّدوه. فالرواية بصدد بيان الفارق بين الفاسق والعادل ، وليست بصدد بيان أن الفقاهة معتبرة في المقلّد.

وثانيتهما : مقبولة عمر بن حنظلة المتقدِّمة (٢) حيث ورد فيها : « ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً » حيث دلت على أن القاضي يعتبر أن يكون عارفاً بأحكامهم وناظراً في حلالهم وحرامهم ، ومن الظاهر أن من عرف مسألة أو مسألتين لا يصدق عليه العارف بأحكامهم لأن ظاهره العموم والرواية ظاهرة في حصر القضاوة بمن عرف أحكامهم وبما أن منصب القضاء منصب الفتوى بعينه فلا مناص من أن يعتبر فيه ما اعتبر في باب القضاء ، والنتيجة عدم جواز المراجعة إلى المجتهد المتجزي لعدم كونه‌

__________________

(١) راجع ص ١٨٤.

(٢) راجع ص ١١٥.

١٩٢

عارفاً بأحكامهم.

ويرد على الاستدلال بالمقبولة أُمور :

الأوّل : أن الرواية ضعيفة السند لعدم توثيق عمر بن حنظلة. وما ورد في توثيقه أيضاً ضعيف فلاحظ.

الثاني : أن الاستدلال بها يتوقف على العلم بأن الأُمور المعتبرة في باب القضاء معتبرة في باب الفتوى أيضاً لاتحادهما ، ولا علم لنا بذلك لأن القضاوة ترتبط بأبواب كثيرة من الفقه ، فيمكن أن يعتبر في المتصدي لها العلم بجملة وافية من أحكامهم وأين هذا من محل الكلام ، لوضوح أن العلم بمسألة لا يتوقف على العلم بسائر المسائل الفقهية.

الثالث : أنها معارضة في نفس موردها بحسنة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال المتقدمة (١) قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : « إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه » لدلالتها على أن العلم ببعض أحكامهم وقضاياهم كاف من باب القضاء ، وهذا متحقق في المتجزي كالمجتهد المطلق. وهي معارضة للمقبولة.

وقد يقال كما قيل إن الظاهر من كلمة « من » وإن كان هو التبعيض بل لا يصح أن تكون بيانية في الرواية ، لأن المتعين حينئذٍ أن يقال : أشياء من قضايانا ، للزوم التطابق بين المبين والبيان إلاّ أن مدخولها وهو قضايانا بمعنى أحكامهم وعلومهم بما أنه أمر كثير بل أُمور غير متناهية بالإضافة إلى البشر ، فلا مناص من أن يكون الشي‌ء من تلك الأُمور أيضاً كثيراً في نفسه ، وإن كان قليلاً بالإضافة إلى أحكامهم ومن هنا لا يصح أن يقال : القطرة شي‌ء من البحر أو أن من ملك فلساً واحداً ، أن عنده شيئاً من المال.

والمعروف عن صاحب الجواهر قدس‌سره أنه قيل له عند احتضاره وانكشاف الغطاء عنه ـ : عنده شي‌ء من علم جعفر عليه‌السلام مع أنه ( قدّس‌

__________________

(١) راجع ص ١٨٦.

١٩٣

سرّه ) من أكابر الفقهاء وأعلامهم. إذن الحسنة والمقبولة متطابقتان في الدلالة على أن القاضي لا بدّ أن يكون عارفاً بجملة معتد بها من الأحكام ، وهذا غير متحقق في المجتهد المتجزي الّذي استنبط مسألة أو مسألتين ونحوهما.

ويرد عليه : أن الشي‌ء من الأمر الكثير وإن كان ظاهراً فيما هو كثير في نفسه إلاّ أن الوارد في الرواية على طريق الكليني (١) والصدوق (٢) قدس‌سرهما « من قضائنا » وعلى طريق الشيخ في التهذيب (٣) « من قضايانا » فمن المحتمل أن يكون الصحيح المطابق للواقع نسختي الكافي والفقيه أعني « من قضائنا » ومعه لا دلالة للرواية على إرادة معرفة الكثير من أحكامهم ، فإن القضاء بمعنى الحكم في مقام الترافع وأحكامهم الواصلة إلينا في الترافع والخصومات ، ليست بكثيرة في نفسها ليقال إن الشي‌ء من الكثير أيضاً كثير في نفسه بل هي أحكام قليلة. إذن تدلنا الرواية على أن معرفة حكم أو حكمين في موارد الترافع أيضاً تكفي في صحة القضاء ، لأنه أيضاً شي‌ء من أحكامهم.

على أن الرواية على طريق الشيخ ضعيفة لوقوع معلى بن محمد في سندها وهو ضعيف ، وكذا على طريق الكليني قدس‌سره. نعم ، هي على طريق الصدوق حسنة لأنه رواها بإسناده عن أحمد بن عائذ عن أبي خديجة. وفي طريقه إلى ابن عائذ الحسن بن علي الوشاء وهو ممدوح ، وقد عرفت أنها مشتملة على « قضائنا » فلم يثبت اشتمال الرواية على « قضايانا » في نفسه. ولا شبهة في أن « شيئاً من قضائنا » يصدق على القليل أيضاً كما تقدم ، هذا كلّه مع قطع النظر عن وقوع معلى بن محمد والحسن بن علي الوشاء في أسانيد كامل الزيارات وإلاّ فهما موثقان بتوثيق ابن قولويه ، فطريق الشيخ والكليني أيضاً صحيح كما أن الرواية صحيحة لا أنها حسنة كما مرّ. فالحسنة معارضة للمقبولة ، وهي غير معتبرة في موردها فضلاً عن أن تدل على عدم جواز الرجوع إلى المتجزي في الاجتهاد.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٢ / باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ح ٤.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٢ / أبواب القضايا والأحكام ب ١ ح ١.

(٣) تهذيب الأحكام ٦ : ٢١٩ / ٥١٦.

١٩٤

والحياة فلا يجوز تقليد الميت ابتداءً. نعم يجوز البقاء (*) كما مرّ (١) وأن يكون أعلم‌

______________________________________________________

إذن السيرة العقلائية ثابتة ولم يرد ردع عنها في الشريعة المقدسة ، فإن تمّ هناك إجماع على عدم جواز الرجوع إلى المتجزي فهو ، وإلاّ فلا مانع من تقليده فيما استنبطه من الأحكام وإن كان قليلاً غايته ، هذا.

على أنّا لو سلمنا دلالة الكتاب والسنة على عدم جواز الرجوع إلى من لم يتصف بالفقاهة أيضاً لم يمكننا الحكم بعدم جواز تقليد المتجزي مطلقاً ، وذلك لأن النسبة بين المجتهد المطلق وعنوان الفقيه ، وكذا بينه وبين المتجزي عموم من وجه ، فإن عنوان الفقيه إنما يصدق باستنباط جملة معتداً بها من الأحكام ، ومعه قد يجوز التقليد من المجتهد المتجزي ، كما أنه قد لا يجوز التقليد من المجتهد المطلق ، فإن المجتهد إذا استنبط جملة معتداً بها من الأحكام ، ولم يتمكن من الاستنباط في غيرها لقصور باعه وملكته فهو متجزّ لا محالة ، إذ ليست له ملكة استنباط الأحكام على إطلاقها إلاّ أنه ممن يجوز تقليده لصدق عنوان الفقيه عليه ، لما فرضناه من أنه استنبط جملة معتداً بها من الأحكام وهي موجبة لصدق الفقيه عليه ، ومقتضى الكتاب والسنة جواز تقليد الفقيه كما مرّ. وإذا فرضنا أن المجتهد متمكن من استنباط الأحكام على إطلاقها من دون أن تختص قدرته بباب دون باب إلاّ أنه لم يتصد للاستنباط ولا في مورد واحد فلا شبهة في أنه مجتهد مطلق لقدرته عليه في جميع الأبواب والموارد ، ومع ذلك لا مسوّغ للرجوع إليه ، إذ لا يطلق عليه الفقيه لعدم كونه عالماً بالأحكام الشرعية بالفعل.

وعلى الجملة إذا كان المدار في جواز التقليد وعدمه هو صدق عنوان الفقيه فهو قد يصدق على المتجزي ، وقد لا يصدق على المجتهد المطلق ، ومعه لا مسوّغ للحكم بعدم جواز الرجوع إلى المتجزي مطلقاً.

٨ ـ الحياة

(١) كما تقدم في المسألة التاسعة ، فلاحظ.

__________________

(*) بل يجب في بعض الصور كما تقدم [ في المسألة ٩ ].

١٩٥

فلا يجوز على الأحوط (*) تقليد المفضول مع التمكن من الأفضل (١) ، وأن لا يكون متولداً من الزنا (٢) وأن لا يكون

______________________________________________________

٩ ـ الأعلمية :

(١) على ما أسلفنا تفصيله في المسألة الثانية عشرة فليراجع.

١٠ ـ أن لا يكون متولداً من الزنا :

(٢) وهذا لا للإجماع المدعى في المقام ، لأنه على تقدير ثبوته ليس من الإجماع التعبدي ، ولا لدوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجية ، لأن المتولد من الزنا كغيره مشمول للأدلة اللفظية ، ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بينهما كما لا يخفى.

وكذلك الحال بالنسبة إلى السيرة العقلائية ، لعدم اشتراطهم طهارة المولد في من يرجع إليه الجاهل.

بل لأن كون المجتهد متولداً من الزنا منقصة ، وقد تقدم أن الشارع لا يرضى بزعامة من له منقصة بوجه ، كيف ولم يرض بامامة مثله للجماعة فما ظنك بتصدّيه للزعامة الكبرى للمسلمين ، لأن منصب الفتوى من أعظم المناصب الإلهية بعد الولاية وإن لم يكن المتولد من الزنا مقصّراً في ذاته ، كما إذا كان عادلاً بل في غاية التقى والورع ، إلاّ أن نقصه من تلك الناحية موجب لحرمانه عن التصدي للزعامة العظمى كما عرفت.

وبذلك يتضح الفرق بين أمثال هذه الشروط مما يعد منقصة وشيناً ، وبين الموت الّذي قلنا بعدم كونه موجباً لسقوط فتوى الميت عن الحجية في بعض الصور ، وذلك لأن الموت لا يعدّ نقصاً بوجه ، لأنه كمال وترق للنفس وانتقال من النشأة الزائلة إلى النشأة الآخرة ، ولذا اتصف به الأنبياء والأوصياء. ومن هنا قلنا بجواز تقليد الميت إذا أخذ منه الفتوى حال حياته ثمّ طرأه الموت.

__________________

(*) بل على الأظهر مع العلم بالمخالفة كما مرّ.

١٩٦

مقبلاً (*) على الدنيا وطالباً لها مكبّاً عليها مجدّاً في تحصيلها ففي الخبر : من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه (١).

______________________________________________________

١١ ـ أن لا يكون مقبلاً على الدنيا‌

(١) الظاهر أنه قدس‌سره يريد بذلك اعتبار أمر آخر زائداً على شرطية العدالة لأن اشتراط تلك الأُمور لو كان راجعاً إلى شرطية العدالة لم يكن وجه لتكرارها وكان ذكرها مستدركاً لا محالة ، وقد استند في ذلك على رواية الاحتجاج المتقدِّمة (١).

ويدفعه : ما تقدم من أن الرواية ضعيفة السند ، مضافاً إلى أنها قاصرة الدلالة على المدعى فإنه لا مساغ للأخذ بظاهرها وإطلاقها ، حيث إن لازمه عدم جواز الرجوع إلى من ارتكب أمراً مباحاً شرعياً لهواه ، إذ لا يصدق معه أنه مخالف لهواه لأنه لم يخالف هواه في المباح ، وعليه لا بدّ في المقلّد من اعتبار كونه مخالفاً لهواه حتى في المباحات ومَن المتصف بذلك غير المعصومين عليهم‌السلام فإنه أمر لا يحتمل أن يتصف به غيرهم ، أو لو وجد فهو في غاية الشذوذ ، ومن ذلك ما قد ينسب إلى بعض العلماء من أنه لم يرتكب مباحاً طيلة حياته ، وإنما كان يأتي به مقدمة لأمر واجب أو مستحب ، إلاّ أنه ملحق بالمعدوم لندرته. وعلى الجملة إن أُريد بالرواية ظاهرها وإطلاقها لم يوجد لها مصداق كما مرّ. وإن أُريد بها المخالفة للهوى فيما نهى عنه الشارع دون المباحات فهو عبارة أُخرى عن العدالة وليس أمراً زائداً عليها ، وقد ورد « أن ورع الناس من يتورع عن محارم الله » (٢) ومع التأمل في الرواية يظهر أن المتعيّن هو‌

__________________

(*) على نحو يضر بعدالته.

(١) راجع ص ١٨٤.

(٢) فضل بن عياض عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : من الورع من الناس؟ قال : الّذي يتورع عن محارم الله ... وفي مرفوعة أبي شعيب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : أورع الناس من وقف عند الشبهة ... المرويتان في وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٢ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٢٩ ، ٣٠.

١٩٧

الأخير فلا يشترط في المقلّد زائداً على العدالة شي‌ء آخر.

نعم ، لا بدّ أن تكون العدالة في المرجع واقعية ، ويلزم أن يكون مستقيماً في جادة الشرع مع المحافظة التامة والمراقبة عليه مراقبة شديدة ، لأنه مخطرة عظيمة ومزلّة الأقدام ومن الله سبحانه الاعتصام.

تنبيهات‌

التنبيه الأول : أن الشرائط المعتبرة في المرجع للتقليد من الاجتهاد والأعلمية والإيمان وغيرها هل تعتبر في حجية فتاواه حدوثاً فحسب ولا تعتبر فيها بحسب البقاء فلو تبدلت بعد تحققها إلى ما يضادها أو يناقضها لم يكن مانع من البقاء على تقليده كما هو الحال في شرطية الحياة لأنها إنما تعتبر في المجتهد حدوثاً ، ومن هنا لو مات جاز ، بل وجب البقاء على تقليده في بعض الصور ، أو أنها معتبرة حدوثاً وبقاءً بحيث لو تبدل علمه بالجهل أو عدالته بالفسق وهكذا ، لم يجز البقاء على تقليده؟

والوجه في هذا التردد أنّا نحتمل أن تكون الفتوى كالرواية ، فكما أن الراوي إذا كان عادلاً أو مورداً للوثوق حين روايته كفى ذلك في حجية رواياته ولا يضرها صيرورته فاسقاً أو مرتداً بعد ذلك ، نحتمل أن تكون حجية الفتوى أيضاً كذلك. وقد سبق أن تكلمنا على ذلك في بعض الشروط ولم نتكلم عليه في بعضها الآخر. وتفصيل الكلام في هذه المسألة يقع في جهات :

الاولى : فيما يقتضيه الأصل العملي في المسألة ، وأنه هل يقتضي اعتبار الشروط المذكورة بحسب الحدوث والبقاء أو يقتضي اعتبارها حدوثاً فقط؟

الثانية : فيما تقتضيه الأدلة الاجتهادية في نفسها.

الثالثة : فيما تقتضيه الأدلة بلحاظ القرينة الخارجية.

أما الجهة الأُولى : فقد يقال : إن مقتضى استصحاب الحجية الثابتة لفتوى المجتهد بحسب الحدوث ، جواز البقاء على تقليده بعد تبدل الشرائط المذكورة إلى ما يضادها أو يناقضها ، للقطع بحجيتها حال استجماعه الشرائط ، فإذا ارتفعت وزالت وشككنا في بقائها على حجيتها وعدمه استصحبنا بقاءها على حجيتها.

١٩٨

وفيه : أن هذا الاستصحاب وإن كان جارياً في نفسه لتمامية أركانه ، لما تقدم من أنّا نحتمل أن تكون الشرائط المذكورة مما يكفي حدوثه في اتصاف الفتوى بالحجية بقاءً كما هو الحال في شرطية الحياة ، فلنا في المقام يقين بالحجية سابقاً ونشك فيها بحسب البقاء فلا مانع من استصحابها بعد زوال الشرائط وارتفاعها وهذا يقتضي عدم اعتبار الشرائط بقاءً. إلاّ أنّا لا نلتزم بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، ومعه لا مناص من الحكم باعتبار الشرائط بحسب الحدوث والبقاء وذلك للشك في حجية الفتوى بعد زوال الشرائط ، والشك في الحجية يساوق القطع بعدمها ، إذ مع الشك فيها يقطع بعدم كون الفتوى معذّرة ولا منجّزة لتقوم الحجية بالوصول ، ومع عدم وصولها نقطع بعدمها.

أما الجهة الثانية : فالإنصاف أن الأدلة الاجتهادية المستدل بها على حجية فتوى الفقيه غير قاصرة الشمول لصورة زوال الشرائط وارتفاعها ، وذلك لإطلاقها كما تقدم في شرطية الحياة. فإن مقتضى إطلاق قوله عزّ من قائل ( فَلَوْ لا نَفَرَ ... ) أن إنذار الفقيه بعد استجماعه الشرائط يتصف بالحجية سواء أكان باقياً على تلك الشرائط بعد الإنذار أم لم يكن ، وكذا غيره من الأدلة اللفظية فلاحظ.

وأما السيرة العقلائية فهي أيضاً كذلك ، لأنها جرت على رجوع الجاهل إلى العالم سواء في ذلك أن يكون العالم باقياً على علمه وخبرويته بعد الرجوع أم لم يكن ، مثلاً إذا راجعوا الطبيب وأخذوا منه العلاج والدواء وقد جن بعد ذلك لم يترددوا في جواز العمل على طبق معالجته ، ومعه لا بدّ من الحكم بأن الشرائط إنما تعتبر حدوثاً ولا تعتبر بحسب البقاء.

نعم ، ادعى شيخنا الأنصاري قدس‌سره الإجماع على أن الشرائط المذكورة كما أنها معتبرة بحسب الحدوث كذلك تعتبر في حجية الفتوى بقاءً (١).

وفيه : أنه إجماع منقول لا ينبغي الاعتماد عليه ، ولا سيما مع ذهاب جمع إلى عدم اعتبارها بحسب البقاء ، لوضوح أن مع مخالفة الجماعة لا يبقى أيّ مجال لدعوى‌

__________________

(١) رسالة في الاجتهاد والتقليد : ٦٨.

١٩٩

الإجماع على الشرطية بقاءً.

أما الجهة الثالثة : فالّذي ينبغي أن يقال : إن الشرائط المذكورة معتبرة في المقلّد حدوثاً وبقاءً ، وذلك لأنه مقتضى ما ارتكز في أذهان المتشرعة حسبما استكشفته من مذاق الشارع من عدم رضائه أن يكون المتصدي للزعامة الكبرى للمسلمين مَن به منقصة دينية أو دنيوية يعاب بها عليه وتسقطه عن أنظار العقلاء المراجعين إليه فلا يحتمل أن يرضى بكونه جاهلاً أو منحرفاً عن الشريعة الّتي يدعو الناس إلى سلوكها فضلاً عن أن يكون راضياً بكونه مجنوناً أو كافراً أو غير ذلك من الأوصاف الرذيلة. فلا وجه لمقايسة هذه الشرائط لشرطية الحياة ، لأن ضدها أعني الموت ليس بمنقصة دينية ولا دنيوية ، وإنما هو كمال للنفس وتجرد من هذه النشأة وانتقال إلى نشأة اخرى أرقى من تلك النشأة بكثير ، ومن هنا اتصف به الأنبياء والأوصياء. وأين هذا من انقلاب العالم جاهلاً أو صيرورة العادل فاسقاً أو مرتداً ، لأن ذلك منقصة غير لائقة بالزعامة الدينية الكبرى كما مرّ.

إذن فالأدلة الدالة على اعتبار تلك الشرائط حدوثاً هي الأدلة بنفسها على اعتبارها بقاءً.

التنبيه الثاني : أن المجتهد قد يستنبط الأحكام الشرعية عن المدارك المتعارفة المتداولة بين المجتهدين أعني الكتاب والسنّة ويدخل فيها الإجماع لرجوعه إليها إذ لا يعتمد عليه إلاّ إذا استكشفنا به رأي المعصوم عليه‌السلام وكذلك العقل أيضاً في بعض الموارد ، ولا إشكال حينئذٍ في جواز تقليده إذا استجمع بقية الشروط. وقد يتصدّى لتحصيلها بالطرق غير المتعارفة كالعلوم الغريبة من الجفر والرمل أو الاستخارة والقرعة وغيرها مما لم يقم دليل على حجيته في الشريعة المقدسة ، ولا ينبغي التأمل في عدم جواز تقليده ، وذلك أما بحسب الأدلة اللفظية فلأنه لا يصدق عليه الفقيه ، ولا يقال إنه فقيه في الدين ، أو ناظر في حلالهم وحرامهم وعارف بأحكامهم.

كما أن العقلاء ليست لهم سيره في الرجوع إلى مثله ، وهذا لعلّه مما لا إشكال فيه. وإنما الكلام فيما إذا استنبطها بطريق ثالث غير الطرق المتعارفة والغريبة ، كما إذا بنى‌

٢٠٠