موسوعة الإمام الخوئي - ج ١

الشيخ علي الغروي

وأما المقام الثاني : فحاصل الكلام فيه أن التكلم على أعمال الجاهل المقصّر من عباداته ومعاملاته وأنها تقع صحيحة أو فاسدة ، إنما يخص أفعاله الّتي يترتب على صحتها أو فسادها أثر عملي بالإضافة إلى زماني الحال أو الاستقبال ، كما إذا أتى بالعبادة جاهلاً بحكمها في أول وقتها والتفت إلى حكمها في أثنائه أو في خارجه ، فإنه إذا قلنا ببطلانها ترتب عليه الحكم بوجوب إعادتها أو قضائها كما يترتب على القول بصحتها عدم وجوب الإعادة أو القضاء. وكما إذا عامل معاملة معاطاتية غير عالم بحكمها ، ثمّ فسخ البائع المعاملة فإنا لو قلنا بفساد المعاملة ، وجب على كل من البائع والمشتري ردّ ما أخذه إلى مالكه ومع تلفه يرد عليه بدله ، ولو قلنا بجواز المعاملة لأجل أن المعاطاة مفيدة للملكية الجائزة القابلة للانفساخ بفسخها وجب على كل منهما ردّ ما أخذه إلى بائعه ، وإن قلنا إن المعاملة لازمة وأن المعاطاة مفيدة للملك اللاّزم لم يجب على المشتري ولا على البائع ردّ العين أو عوضها بوجه. وكذلك الحال في المعاملات بالمعنى الأعم ، كما إذا غسل المتنجّس بالبول مرّة واحدة في الكثير ، ثم التفت وتردد في اعتبار التعدد فيه لأنّا لو قلنا باعتبار التعدد حتى في الغسل بالماء الكثير ، وجب غسل المتنجّس مرّة ثانية في مفروض الكلام كما يجب غسل ما لاقاه المتنجس مع الرطوبة قبل الغسلة الثانية ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بكفاية المرّة في الماء الكثير. وكذا إذا ذبح ذبيحة بغير الحديد بالاختيار ، ثمّ التفت إلى شرطية الحديد وهي باقية بحالها لأنّا لو قلنا بكونها ميتة حرم أكلها وبطلت الصلاة في أجزائها كما أنه لو لم نقل بكونها كذلك حلّ أكلها وجازت الصلاة في أجزائها.

وأما أفعاله الّتي لا يترتب أثر عملي على صحتها وفسادها بالإضافة إلى زماني الحال أو الاستقبال فهي خارجة عن محل الكلام ، لأنه لا أثر للبحث عن صحتها وعدمها ، وهذا كما إذا شرب العصير العنبي بعد غليانه وقبل تثليثه ثمّ التفت وتردد في جوازه وحرمته ، فإنه لا أثر للحكم بحرمته وحليته ، لوضوح أنه لو كان محرّماً فقد مضى ويعاقب على فعله ذلك لحرمته ، وإن كان حلالاً فلا يعاقب بشي‌ء فلا أثر لهما بالإضافة إلى زماني الحال أو الاستقبال.

إذا عرفت ذلك فنقول : إن الماتن ذهب إلى بطلان عمل الجاهل المقصّر الملتفت‌

١٦١

وإن كان مطابقاً للواقع ، والظاهر أنه استند في ذلك إلى أن المقصّر الملتفت لا يتمشى منه قصد التقرب في عباداته ، وذلك بقرينة قوله عند الحكم بصحة عمل الجاهل القاصر أو المقصّر الغافل : وحصل منه قصد القربة.

والصحيح أن عمل الجاهل المقصّر كالقاصر محكوم بالصحة ملتفتاً كان أم لم يكن إذا كان مطابقاً للواقع ، وذلك أما في التوصليات فلأجل أن الأُمور التوصلية لا يعتبر فيها غير الإتيان بها مطابقة للواقع ، والمفروض أن المقصّر أو غيره أتى بما أتى به مطابقاً للواقع.

وأما في العبادات فلأن العبادة كالواجب التوصلي وإنما تفترقان في أن العبادة زائداً على لزوم إتيانها بذاتها يعتبر إضافتها إلى المولى جلّ شأنه نحو إضافة ، وهذا أمر ممكن الصدور من الجاهل ، أما غير الملتفت فظاهر وأما الملتفت فلأنه إذا أتى بها برجاء أنها مما أمر به الله سبحانه تحققت به الإضافة نحوه ، فإذا كانت مطابقة للواقع كما هو مفروض الكلام وقعت صحيحة لا محالة.

نعم ، الّذي لا يتمكن منه الجاهل الملتفت إنما هو الجزم بأن ما يأتي به مأمور به من الله لتردده وعدم علمه بذلك بحيث لو أتى به جازماً بأنه مأمور به في الشريعة المقدسة فقد شرّع. إلاّ أنّا قد أسبقنا (١) عند التكلم على مشروعية الاحتياط أن الجزم بالنية غير معتبر في صحة العبادات وأن الإتيان بها برجاء أن لا يكون تاركاً للعبادة على تقدير وجوبها في الواقع يكفي في صحتها وسقوط أمرها وامتثاله إذا كانت مطابقة للواقع ، وهذا يبتني على مسألة جواز الامتثال الإجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي وتحصيل العلم بالمأمور به ، وقد أسمعناك جوازه فراجع.

إذن لا موجب للحكم ببطلان عمل الجاهل المقصّر الملتفت إذا انكشفت مطابقته للواقع.

نعم ، ذكر شيخنا الأنصاري قدس‌سره أن ظاهر كلام السيد الرضي قدس‌سره في مسألة الجاهل بوجوب القصر وظاهر تقرير أخيه السيد المرتضى ( قدّس‌

__________________

(١) راجع ص ٥١.

١٦٢

سرّه ) : ثبوت الإجماع على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها (١) ، إلاّ أنه غير صالح للاستدلال به وذلك لأنه من الإجماع المنقول الّذي لا نقول باعتباره ، فالإجماع غير متحقق في نفسه ، وعلى تقدير تحققه لم يحرز أنه إجماع تعبدي كاشف عن قول المعصوم عليه‌السلام لاحتمال استناد المجمعين إلى عدم تمشي قصد القربة من الجاهل الملتفت أو إلى اعتبار الجزم بالنية في العبادات أو غير ذلك من الوجوه.

نعم ، لا ينبغي التأمل في أن عمل الجاهل محكوم بالبطلان في مرحلة الظاهر لدى العقل ما لم ينكشف مطابقته للواقع ، لأن العقل لا يكتفي بما أتى به الجاهل مع التردد في صحته ومطابقته للواقع ، لأن العلم بالاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية إلاّ أنه حكم عقلي في مرحلة الظاهر ويرتفع إذا انكشفت مطابقة ما أتى به الجاهل للواقع.

والمتلخص : أن عمل الجاهل القاصر والمقصّر الملتفت وغير الملتفت في الحكم سواء.

ثمّ إن انكشاف المطابقة للواقع قد يكون وجدانياً وهذا من القلّة بمكان ، لأنه لا يتفق للعامّي العلم الوجداني بمطابقة عمله للواقع إلاّ في الضروريات والقطعيات والمسائل الواضحة وهي قليلة في الغاية. وقد يكون بالتعبد وهو الأكثر ، وذلك لأنه إذا لم يكن للعامّي علم وجداني بالمطابقة فلا مناص من أن يستكشف مطابقة عمله للواقع بالرجوع إلى فتوى المجتهد فإن بالمطابقة أو المخالفة معها يستكشف تعبداً مطابقة عمله للواقع أو مخالفته له ، وهذا هو الّذي يتمكن منه المقلّد غالباً. وعليه فإن كان المجتهد الّذي كان يجب عليه أن يقلّده في زمان العمل والمجتهد الّذي يجب عليه تقليده في زمان الرجوع شخصاً واحداً فهو ، وأما إذا تعددا وكان المجتهد الّذي يجب الرجوع إليه في ظرف العمل غير المجتهد الواجب تقليده في زمان الرجوع ، فإن كان عمله موافقاً لكلتا الفتويين فلا كلام في صحته ، كما أنه إذا كان مخالفاً لكلتيهما لم تكن شبهة في فساده ووجوب إعادته. وإنما الكلام فيما إذا كان مطابقاً لفتوى أحدهما ومخالفاً لفتوى الآخر ، فهل اللاّزم تطبيق عمل الجاهل لفتوى المجتهد الّذي كان يجب‌

__________________

(١) رسالة في الاجتهاد والتقليد : ٤٩.

١٦٣

تقليده في ظرف العمل أو أن اللاّزم تطبيقه لفتوى المجتهد الّذي يجب تقليده في زمان الرجوع أو المدار على مطابقته لكلتا الفتويين ومع فرض المخالفة لإحداهما يحكم ببطلانه؟

الصحيح أن المدار في ذلك على مطابقة العمل لفتوى المجتهد الواجب تقليده في زمان الرجوع ، ولا عبرة بفتوى المجتهد الّذي كان يجب عليه تقليده في زمان العمل ، وسرّه ما قدّمناه في مباحث الاجزاء وغيرها من هذا الكتاب (١) وفي بحث الأُصول (٢) من أن الأحكام الواقعية لا تتغير عمّا هي عليه بفتوى المجتهد أو بقيام الأمارة على خلافها ، اللهُمَّ إلاّ على القول بالسببية ولا نقول بها ، وحيث إن الإعادة وعدمها فعل من أفعال المكلف وهو لا يدري حكمها عند الالتفات إلى عمله السابق الصادر عن الجهل ، فلا مناص له من أن يرجع في حكمها إلى من يجب تقليده في زمان الابتلاء بالشك في وجوب الإعادة ، وهو المجتهد الّذي يجب تقليده في زمان الرجوع وذلك لإطلاق أدلة التقليد ، فإنه إذا أفتى بصحة ما أتى به المكلف جاهلاً بحكمه ، فمعناه أن إعادته الّتي يشك المكلف في وجوبها بالفعل غير واجبة في حقه ، كما أنه إذا أفتى بفساده كان معناه وجوب الإعادة عليه. وأما فتوى المجتهد الّذي كان يجب عليه تقليده في ظرف العمل فلا يترتب على فتواه بصحة ذلك العمل أو فساده أثر بالإضافة إلى المكلف عند الشك في وجوب إعادته ، لأنها قد سقطت عن الحجية بموت المجتهد أو بنسيانه أو بغيرهما من أسباب السقوط ، والفتوى غير المتصفة بالحجية لا يترتب عليها أثر بوجه.

إذن فالمتعيّن الرجوع إلى من يجب عليه تقليده في ظرف الرجوع ، لشكه في وجوب إعادة الفعل الّذي أتى به سابقاً وهو مما يجب أن يسأل حكمه عن الفقيه الّذي تتصف فتواه بالحجية في حقه لدى السؤال وهو المجتهد الفعلي لا السابق الّذي سقطت فتواه عن الحجية على الفرض ، وقد مرّ أن فتواه بالصحة تلازم الحكم بعدم وجوب‌

__________________

(١) راجع ص ٤٠.

(٢) مصباح الأُصول ٢ : ٩٦.

١٦٤

الإعادة كما أن فتواه بالفساد ملازمة للحكم بوجوبها ، وتوضيح ذلك :

أن المجتهد الّذي تجب المراجعة إليه في ظرف الرجوع وإن لم تكن فتواه متصفة بالحجية من الابتداء وإنما حدثت حجيتها بعد ذلك ، إما لأنه لم يكن لها موضوع سابقاً لعدم كونه مجتهداً في ظرف العمل ، وإما لعدم كونه واجداً لبعض الشروط كالأعلمية أو العدالة ونحوهما ، إلاّ أن ما تتضمنه تلك الفتوى بعد ما اتصفت بالحجية حكم كلّي إلهي لا يختص بوقت دون وقت ، بل يعمّ الأزمنة المتقدمة والمتأخرة ، مثلاً إذا أفتى بوجوب التيمم على المتيمم بدلاً عن غسل الجنابة إذا أحدث بالأصغر ولم يجوّز الوضوء في حقه ، شملت فتواه هذه الأزمنة السابقة واللاّحقة لأن مضمونها حكم عام قد استكشفه المجتهد من أدلته ولا اختصاص له بعصر دون عصر. فإن مقتضى تلك الفتوى أن حكم الله المجعول في حق المتيمم بدلاً عن غسل الجنابة إذن أحدث بالأصغر هو التيمم دون الوضوء ، ولازمه بطلان الصلوات الّتي أتى بها المكلف سابقاً مع التوضؤ بعد التيمم بدلاً عن غسل الجنابة ، فبالفتوى المتأخرة الحادثة حجيتها يستكشف بطلان الأعمال السابقة في ظرف الصدور. والحكم ببطلانها وإن لم يترتب أثر عليه بالإضافة إلى الأزمنة المتقدمة ، إلاّ أن له أثراً بالإضافة إلى زمان الحال والأزمنة الآتية ، لأن لازمه وجوب الإعادة أو القضاء.

وملخص الكلام أن وجوب إعادة الأعمال السابقة وعدمه من المسائل الّتي يجب الرجوع فيها إلى الفقيه الّذي تتصف فتاواه بالحجية وليس ذلك إلاّ المجتهد الفعلي لسقوط فتوى المجتهد السابق في ظرف العمل عن الحجية بالموت أو نحوه ، لوضوح أنه لو لم تسقط فتاواه عن الحجية لم يجز له تقليد المجتهد الحاضر ، وقد فرضنا أن فتوى المجتهد الفعلي بطلان الصلاة مع الوضوء في تلك المسألة ، ومضمونها أن ذلك هو حكم الله الواقعي العام غير المختص بوقت دون وقت.

نعم ، لا مناص من الالتزام بعدم وجوب الإعادة أو القضاء في الموارد الّتي قام الدليل فيها على عدم الوجوب ، وذلك كما إذا أخلّ في الصلاة بغير الأركان من أجزائها أو شرائطها بأن صلّى بلا سورة أو أتى بالتسبيحات الأربع مرة واحدة وكانت فتوى المجتهد الفعلي وجوب السورة أو وجوب التسبيحات ثلاث مرات ، وذلك لحديث‌

١٦٥

لا تعاد لدلالته على عدم وجوب الإعادة إلاّ من الخمسة المذكورة في الحديث وليست منها السورة أو التثليث في التسبيحات الأربع ، بل لا تجب إعادة الصلاة في أمثال المقام وإن كان عمله مخالفاً لكلتا الفتويين ، كما إذا أفتى كل من المجتهد السابق واللاّحق بوجوب السورة أو التثليث في التسبيحات الأربع. إذن ، الإخلال بغير الخمسة الواردة في الحديث غير موجب لبطلان الصلاة ولا لإعادتها إلاّ فيما دلّ الدليل على وجوب الإعادة فيه كما إذا كبّر جالساً وكانت وظيفته الصلاة قائماً ، أو كبّر قائماً وكانت وظيفته الصّلاة جالساً وذلك للنص (١) هذا بالإضافة إلى الجاهل القاصر.

وأما المقصّر فإن كان ملتفتاً حال العمل ومتردداً في وجوب السورة مثلاً في الصلاة ، فلا يشمله حديث لا تعاد لاختصاصه بما إذا حدث الشك في صحة العمل بعد الإتيان به بحيث لولا انكشاف الخلاف بعد ذلك لم تجب إعادته أو قضاؤه ، وليس الأمر كذلك في الجاهل المقصّر الملتفت حال العمل لأنه شاك في صحة عمله من حينه وقبل أن يأتي به ، ومقتضى أن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية أعني قاعدة الاشتغال ، وجوب الإعادة في أمثال المقام انكشف له الخلاف أم لم ينكشف كما أنه لو لم يأت به حتى خرج وقته وجب عليه القضاء لعدم إتيانه بما هو المأمور به الظاهري في حقه بقاعدة الاشتغال ، فقد فاتت عنه الصلاة ووجب عليه قضاؤها ظاهراً.

وأما المقصّر غير الملتفت فقد ادعوا الإجماع على بطلان عمله وانّه كالعالم والمتعمد في ترك الواجب ومعه لا يفرق بين قسمي الجاهل المقصّر أعني الملتفت وغير الملتفت في بطلان عملهما وعدم كونهما مشمولين للحديث ، هذا إذا تمّ الإجماع كما ادعي.

وأما لو لم يتم أو قلنا إن القدر المتيقن منه أن المقصّر كالمتعمد من حيث استحقاقه العقاب وتنجز التكليف عليه لا من حيث صحة العمل وبطلانه ، فلا مانع من شمول الحديث للمقصر غير الملتفت في نفسه وبه يحكم بصحة عمله وإن كان مخالفاً لفتوى كلا المجتهدين.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ : ٥٠٣ / أبواب القيام ب ١٣ ح ١.

١٦٦

وأما الجاهل القاصر أو المقصر الّذي كان غافلاً حين العمل وحصل منه قصد القربة ، فإن كان مطابقاً لفتوى المجتهد الّذي قلّده بعد ذلك كان صحيحاً (*) والأحوط مع ذلك مطابقته لفتوى المجتهد الّذي كان يجب عليه تقليده حين العمل (١).

[١٧] مسألة ١٧ : المراد من الأعلم من يكون أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة وأكثر اطلاعاً لنظائرها وللأخبار وأجود فهماً للأخبار ، والحاصل أن يكون أجود استنباطاً والمرجع في تعيينه أهل الخبرة والاستنباط (٢).

______________________________________________________

(١) فقد اتضح تفصيل ذلك مما سردناه في التعليقة المتقدمة فلاحظ.

ما يراد من الأعلم :

(٢) ليس المراد بالأعلمية في المقام أن يكون المجتهد أشد اقتداراً في القواعد والكبريات أعني المبادئ الّتي بها تستنتج الأحكام ، كما إذا كان المجتهد في المطالب الأُصولية أقوى من غيره ، ولا أن المراد بها أكثرية الإحاطة بالفروع والتضلع في الكلمات والأقوال ، كما إذا تمكن من الجواب عن أية مسألة ترد عليه ولو من الفروع الّتي لا يبتلى بها إلاّ نادراً ، أو لا يتحقق في الخارج أصلاً مع التطلع على أقوالها وموارد التعرض للمسألة في كلماتهم ، بل المراد بالأعلمية كون المجتهد أشد مهارة عن غيره في تطبيق الكبريات على صغرياتها ، وأقوى استنباطاً وأمتن استنتاجاً للأحكام عن مبادئها وأدلتها ، وهو يتوقف على علمه بالقواعد والكبريات وحسن سليقته في تطبيقها على صغرياتها ، ولا يكفي أحدهما ما لم ينضم إليه الآخر.

والوجه في هذا التفسير : أن حال الأعلم في علم الفقه حال الأعلم في بقية الحِرف والعلوم ، فكما أن الأعلم في الطب والهندسة والتجارة وغيرها هو الّذي يكون أعرف من غيره بتطبيق الكبريات على صغرياتها ، وأقوى استنباطاً لها عن قواعدها وهو‌

__________________

(*) العبرة في الصحة بمطابقة العمل للواقع ، والطريق إليها هو فتوى من يجب الرجوع إليه فعلاً.

١٦٧

موقوف على المعرفة بالكبريات وحسن السليقة في تطبيقها على مصاديقها ، ولا يكفي في الأعلمية مجرد كون الطبيب أقوى في الكبريات أو أكثر اطلاعاً على الأمثال والفروع. بل لا بدّ مضافاً إلى إحاطته بأقسام المرض وطرق معالجتها وأدويتها أن يكون أعرف بتطبيق كبرياتها على مصاديقها ، فكذلك الحال في المقام. فلا اعتبار فيما نحن فيه بأكثرية الإحاطة بالفروع والأقوال والكلمات لأنها غير راجعة إلى الأعرفية في التطبيق ، لوضوح أنها ليست إلاّ حفظ الفتاوى والفروع وأجنبية عن الاستنباط بالكلّية ، كما أن شدة الاقتدار العلمي بالكبريات غير راجعة إلى الأعرفية في الاستنباط ، فإن ربّ شخص له اليد الطولى في الأُصول ، إلاّ أنه ضعيف في التطبيق والاستنباط ، هذا.

بل الأمر كما ذكرناه وإن فرضنا أن الأعلم بحسب الهيئة أعني هيئة أفعل يشمل الأقوائية في القواعد والكبريات أو الأكثرية من حيث الإحاطة بالفروع والكلمات وذلك لأن الحكم بوجوب تقليد الأعلم لم يرد في شي‌ء من الأدلة اللفظية ليلاحظ أن الأعلم هل هو ظاهر لدى العرف فيما يشمل الأعلمية من حيث القواعد والكبريات أو الإحاطة بالفروع والأقوال أو غير ظاهر في ذلك ، وإنما الحكم بوجوب تقليده مستند إلى بناء العقلاء أو العقل من باب قاعدة الاشتغال على ما قدّمنا تفصيله ، ولا شبهة في أن الأعلم الّذي يجب تقليده لدى العقلاء أو العقل إنما هو بالمعنى الّذي ذكرناه أعني الأعرف بتطبيق الكبريات على مصاديقها ، لأن الطبيب الأعلم عندهم من يكون أعرف بتطبيق الكبريات الطبية على صغرياتها كما مرّ.

وبما ذكرناه يظهر أن كثرة العلم بالمسائل والفروع بحيث يكون معلومه بحسب العدد أكثر من غيره ، غير راجعة إلى الأعلمية فإنها أمر خارج عن الأعرفية في التطبيق. مضافاً إلى أن العالمية والأعلمية إنما تلاحظان بالإضافة إلى شي‌ء واحد فيقال : زيد عالم بمسألة كذا وعمرو أعلم بها منه. وأما إذا كان هناك شيئان يعلمهما أحد المجتهدين ولم يعلم الآخر إلاّ بأحدهما فلا يصح أن يقال : إن الأول أعلم من الآخر بل هما متساويان في العلم بأحدهما ، وفي الآخر أحدهما عالم والآخر لا علم له به أصلاً لا أن الأول أعلم.

١٦٨

[١٨] مسألة ١٨ : الأحوط عدم تقليد المفضول حتى (*) في المسألة الّتي توافق فتواه فتوى الأفضل (١).

______________________________________________________

وأما الأشدية في المراتب العلمية بأن يقال : إن من انكشف له حكم المسألة انكشافاً جزمياً فهو مقدّم على من انكشف له حكمها انكشافاً ظنيا مثلاً ، أو إن من انكشف له حكمها من أدلتها ظنا يتقدم على من لم يحصل له الظن بحكمها من أدلتها أو الأقوائية بحسب المبنى ، كما إذا كان أحد المجتهدين قوياً في مبانيه العلمية بحيث لا يشك فيها بتشكيك المشككين ، ولا يرفع اليد عنها بالمناقشة في أدلتها بخلاف الآخر ، فلا يمكن حمل الأعلم على شي‌ء منهما ، وذلك لأنهما غير راجعين إلى الأعرفية في التطبيق. على أن الاجتهاد إنما يدور مدار قيام الحجة على الحكم وعدمه سواء انكشف بها الحكم الشرعي جزمياً أو ظنيا أم لم ينكشف ، وسواء أمكن التشكيك في مباني المجتهد أم لم يمكن ، فلا توقف للاجتهاد على شدة الانكشاف وضعفه ، ولا على قوة المباني وعدمها فلاحظ.

(١) ذكرنا في المسألة الثانية عشرة أن الأعلم إنما يجب تقليده فيما إذا علمت المخالفة بينه وبين غير الأعلم في الفتوى ، وأما مع العلم بالموافقة بينهما أو احتمالها فلا يجب تقليد الأعلم بوجه ، لأن الحجية إنما ثبتت لطبيعي فتوى العالم أو الفقيه على نحو صرف الوجود ، فإذا عمل المقلّد بفتياهما فقد عمل على طبق الحجة أعني فتوى الفقيه ، ولم يقم دليل على وجوب تعيين المجتهد المقلّد وتمييزه حينئذٍ وهو نظير ما إذا ورد روايتان ودلتا على وجوب شي‌ء معيّن وأفتى المجتهد بوجوبه استناداً إلى الجامع بين الروايتين ، فإنه حينئذٍ قد عمل على طبق الحجة الشرعية ، ولا يجب عليه أن يعيّن ما عمل به منهما ، فما يظهر من الماتن من لزوم تعيين المجتهد المقلّد في مفروض الكلام مما لا مستند له ، وتوضيح ذلك :

أن المجتهدين المتعددين إذا اتفقوا في الاجتهاد لم يقم أي دليل على أن العامّي يجب أن يستند إلى فتاواهم في مقام العمل ، تساووا في الفضيلة أم اختلفوا وقد تكلمنا على‌

__________________

(*) لا بأس بتركه في هذا الفرض.

١٦٩

ذلك في محلّه (١) فلا نعيد ، إلاّ أنّا لو قلنا بوجوب الاستناد فهل الواجب أن يستند إلى خصوص فتوى أحدهم المعيّن ، أو يكفي الاستناد إلى الجامع أو المجموع؟

الصحيح أن الاستناد إلى فتوى أي واحد من المجتهدين المتفقين في الاجتهاد يجزي في مقام الامتثال ، وذلك لشمول أدلة الحجية لفتوى كل واحد منهم في محل الكلام وسرّه أن الحجية نظير غيرها من الأحكام الوضعية أو التكليفية قد جعلت لطبيعي الدليل وهو قابل الصدق على الواحد والكثير. إذن فموضوع الحجية في المقام إنما هو طبيعي فتوى العالم أو الفقيه وهو قابل الانطباق على فتوى كل من المجتهدين وبهذا تتصف كل واحدة من الفتاوى المتفقة بالمنجّزية والمعذّرية ، ويسوغ للمكلف أن يستند إلى فتوى هذا بخصوصها وإلى فتوى ذاك كذلك.

كما أن له أن يستند إلى الطبيعي الملغى عنه الخصوصيات والمشخصات والكثرات والمميزات لأنه الموضوع للحجية ، كما هو الحال في بقية الحجج المتفقة في المضمون وبهذا يظهر أن الاستناد إلى مجموع الفتاوى غير صحيح ، لأن المجموع بما هو مجموع أعني اعتبار ضم كل واحدة منها إلى الأُخرى في مقام الاستناد ينافي حجية كل من الفتاوى في نفسها ، لما ذكرناه من أن كل واحدة من الفتاوى حجة على استقلالها فلا معنى لانضمام بعضها إلى بعضها الآخر في مقام الاستناد ، وبعبارة اخرى أن كل واحدة منها معذّرة ومنجّزة لا أنها جزؤهما. وأما الاستناد إلى المجموع لا بما هو كذلك ، بل بمعنى الجميع بأن يستند إلى هذا في نفسه وإلى ذاك كذلك وهو المعبّر عنه بالعموم الاستغراقي ، فلا يرد عليه المحذور المتقدم لعدم كون الاستناد إلى الفتوى الثانية منافياً لحجية الاولى باستقلالها إلاّ أنه لغو لا أثر له ، فإنه بعد حجية كل واحدة من الفتاوى في نفسها وجواز الاستناد إليها باستقلالها لا حاجة إلى الاستناد إلى الأُخرى بوجه.

ودعوى أن ذلك يستلزم توارد العلل المتعددة على معلول واحد. مندفعة بأن الداعي على الإتيان بالعمل أو تركه إنما هو ثبوت التكليف به أو بتركه ، فالامتثال مستند إلى التكليف الواحد وإن قامت عليه حجج متعددة.

__________________

(١) راجع ص ١٠٧.

١٧٠

[١٩] مسألة ١٩ : لا يجوز تقليد غير المجتهد وإن كان من أهل العلم (١) ، كما أنه يجب على غير المجتهد التقليد وإن كان من أهل العلم (٢).

[٢٠] مسألة ٢٠ : يعرف اجتهاد المجتهد بالعلم الوجداني كما إذا كان المقلّد من أهل الخبرة وعلم باجتهاد شخص (٣) وكذا يعرف بشهادة عدلين (*) من أهل الخبرة (٤).

______________________________________________________

(١) لأن الأدلة المتقدمة المسوّغة للتقليد غير شاملة للتقليد من غير المجتهد لاختصاصها بالعالم أو الفقيه أو غيرهما من العناوين الواردة في لسان الدليل غير الصادقة على غير المجتهد.

(٢) على ما فصلنا الكلام فيه في أول الكتاب وقلنا إن كل مكلف لا بدّ أن يكون في أعماله أو تروكه مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً ، كما أن المجتهد ليس له أن يقلّد الغير ، إذ لا تشمله الأدلة المسوّغة للتقليد. وأما الواجد لملكة الاجتهاد إذا لم يتصد للاستنباط أصلاً أو أنه استنبط جملة قليلة من الأحكام فقد بيّنا في التكلّم على أقسام الاجتهاد أن الصحيح عدم مشروعية التقليد في حقه ، كما أنه لا يجوز التقليد منه إذا لم يتصد للاستنباط أصلاً فليراجع (١).

طرق معرفة الاجتهاد

(٣) لأنه حجة بذاته ، كما يثبت بالاطمئنان لأنه علم عادي وهو حجة عقلائية ولم يردع عنها في الشريعة المقدسة.

(٤) قد استدلّ على حجية البينة بوجوه :

منها : دعوى الإجماع على اعتبارها في الشريعة المقدسة. وفيه : أن هذا الإجماع على تقدير ثبوته ليس من الإجماعات التعبدية ، لاحتمال استناده إلى أحد الوجوه‌

__________________

(*) لا يبعد ثبوته بشهادة عدل واحد ، بل بشهادة ثقة أيضاً مع فقد المعارض ، وكذا الأعلمية والعدالة.

(١) راجع ص ١٦.

١٧١

المذكورة في المقام فلا يستكشف به قول المعصوم عليه‌السلام بوجه.

ومنها : أن الشارع قد جعل البينة حجة في موارد الترافع والخصومات وقدّمها على غير الإقرار من معارضاتها ، وإذا ثبتت حجية شي‌ء في موارد القضاء مع ما فيها من المعارضات ، ثبتت حجيته في سائر الموارد مما ليس لها معارض فيه بطريق أولى.

ويرد عليه : أن الدعوى والخصومة مما لا مناص من حلّه بشي‌ء ، لأن بقاء الترافع بحاله ينجر إلى اختلال النظام فما به ترتفع المخاصمات لا يلزم أن يكون حجة حتى في غير المرافعات ، ومن هنا أن اليمين تفصل بها الخصومة شرعاً ولا تعتبر في غير المرافعات فالأولوية لا تبتني على أساس صحيح.

ومنها : موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « كل شي‌ء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك وهي أُختك أو رضيعتك والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة » (١). لدلالتها على أن اليد في مثل الثوب والمملوك وأصالة عدم تحقق النسب أو الرضاع في المرأة ، حجة معتبرة لا بدّ من العمل على طبقها إلاّ أن يعلم أو تقوم البينة على الخلاف. إذن يستفاد منها أن البينة حجة شرعية في إثبات الموضوعات المذكورة في الموثقة ، وبما أن كلمة « الأشياء » من الجمع المحلى باللاّم وهو من أداة العموم ، ولا سيما مع التأكيد بكلمة « كلها » فنتعدى عنها إلى بقية الموضوعات الّتي يترتب لها أحكام ومنها الاجتهاد والأعلمية.

وحيث إن مورد الموثقة هو الموضوعات الخارجية لا يصغي إلى دعوى أن الموثقة إنما دلت على اعتبار البينة في الأحكام فلا يثبت بها حجيتها في الموضوعات ، فالموثقة تدلنا على حجية البينة في الموضوعات مطلقاً. ويؤيدها رواية عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الجبن قال : « كل شي‌ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه ميتة » (٢).

وحيث إن سندها غير قابل للاعتماد عليه جعلناها مؤيدة للموثقة ، هذا.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

(٢) وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٨ / أبواب الأطعمة المباحة ب ٦١ ح ٢.

١٧٢

وقد تعرضنا للاستدلال بهذه الموثقة في كتاب الطهارة عند التكلم على طرق ثبوت النجاسة (١) وذكرنا أن الرواية وإن عبّر عنها في كلام شيخنا الأنصاري قدس‌سره بالموثقة ، إلاّ أنّا راجعنا حالها فوجدناها ضعيفة حيث لم يوثق مسعدة في الرجال ، بل قد ضعّفه المجلسي (٢) والعلاّمة (٣) وغيرهما. نعم ، ذكروا في مدحه أن رواياته غير مضطربة المتن وأن مضامينها موجودة في سائر الموثقات ولكن شيئاً من ذلك لا يدل على وثاقة الرجل فهو ضعيف على كل حال.

والأمر وإن كان كما ذكرناه إلاّ أن التحقيق أن الرواية موثقة ، وذلك لأن مسعدة بن صدقة من الرواة الواقعة في طريق كامل الزيارات وقد بنى أخيراً سيدنا الأُستاذ ( أدام الله إظلاله ) على وثاقة رجاله وذلك لتصريح ابن قولويه في ديباجته بأنه روى في ذلك الكتاب الأخبار غير المتصفة بالشذوذ والّتي رواها الثقات من أصحابنا. ولا يضرّه ما حكى عن المجلسي والعلاّمة وغيرهما من تضعيف الرجل ، وذلك لأن العلاّمة والمجلسي وغيرهما من المتأخرين المضعفين على جلالتهم وتدقيقاتهم لا يعتني بتضعيفاتهم ولا بتوثيقاتهم المبتنيتين على اجتهاداتهم ، ولا يحتمل أن يكون توثيق العلاّمة أو تضعيفه من باب الشهادة والاخبار فضلاً عن المجلسي أو غيره لبعد عصرهم عن الرواة. نعم ، لو علمنا أن توثيقه أو تضعيفه مستند إلى الحس والاخبار أو احتملنا ذلك في حقهم ، لم يكن توثيقاته أو تضعيفاته قاصرة عن توثيق أو تضعيف مثل الشيخ والنجاشي وغيرهما من المتقدمين ، فالرواية لا إشكال فيها من تلك الجهة.

نعم ، يمكن المناقشة في الاستدلال بها من جهة الدلالة وذلك لأن « البينة » لم تثبت لها حقيقة شرعية ولا متشرعية ، وإنما استعملت في الكتاب والأخبار بمعناها اللغوي وهو ما به البيان والظهور على ما فصلناه في كتاب الطهارة فلاحظ (٤) ومعه لا يمكن أن يستدل على حجية البينة المصطلح عليها ، بالموثقة لعدم كونها مستعملة فيها بمعنى شهادة العدلين.

__________________

(١) في المسألة [١٢٩]

(٢) رجال المجلسي : ٣٢٠ / ١٨٦٠.

(٣) الخلاصة ( العلاّمة ) : ٢٦٠.

(٤) في المسألة [١٢٩].

١٧٣

فالصحيح أن يستدل على حجية البينة بالمعنى المصطلح عليه بما بيّناه في البحث عن طرق ثبوت النجاسة وحاصله : أنّا علمنا من الخارج أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعتمد على إخبار العدلين في موارد الترافع من غير شك واعتماده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليها يدلنا على أن شهادة العدلين أيضاً من مصاديق الحجة وما به البيان ، فإنه لولا كونها كذلك لم يجز له أن يعتمد عليها أبداً ، فبهذا نستكشف أنها حجة مطلقاً من دون أن يختص اعتبارها بموارد الخصومة والقضاء لأن اعتماد الشارع عليها يدلّنا على أن خبر العدلين حجة معتبرة في مرتبة سابقة على القضاء لا أنه اتصف بالحجية بنفس القضاء ، هذا.

ثمّ إن الاجتهاد والأعلمية كما أنهما يثبتان بالبينة كذلك يثبتان بالخبر الواحد وذلك لما بيّناه في محلّه من أن خبر العدل الواحد كما أنه حجة معتبرة في الأحكام الشرعية كذلك يعتمد عليه في الموضوعات الخارجية وهذا للسيرة الجارية على الاعتماد عليه عند العقلاء مطلقاً ولم يردع عنها في الشريعة المقدسة. بل لا تتوقف حجيته على عدالة المخبر لكفاية الوثاقة في حجية الخبر وإن استشكل الماتن في حجية الخبر الواحد في الموضوعات في جملة من الموارد.

وقد يتخيّل أن الموثقة المتقدمة (١) كافية في الردع عن العمل بالخبر الواحد في الموضوعات الخارجية حيث ورد في ذيلها : « والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة » نظراً إلى أنه دلّ على حصر المثبت بالاستبانة وقيام البينة ، فلو كان الخبر الواحد أيضاً حجة مثبتة للموضوعات الخارجية كالبينة لبيّنه عليه‌السلام ويدفعه ، أوّلاً : أن الموثقة ليست بصدد الحصر أبداً وذلك لوضوح أن الأشياء كما أنها تثبت بالاستبانة والبينة كذلك تثبت بالاستصحاب والإقرار وحكم الحاكم وغيرها ، فلو كانت بصدد حصر المثبت فيهما لاستلزم ذلك تخصيص الأكثر المستهجن.

وثانياً : أن البينة في الموثقة كما قدّمناه بمعنى الحجية وما به البيان وهذا هو الّذي دلّت الموثقة على حجيته في قبال العلم الوجداني والاستبانة ، وأما تطبيق ذلك على‌

__________________

(١) راجع ص ١٧٢.

١٧٤

إذا لم تكن معارضة بشهادة آخرين من أهل الخبرة ينفيان عنه الاجتهاد (١) وكذا يعرف بالشياع المفيد للعلم ، وكذا الأعلمية تعرف بالعلم أو البينة غير المعارضة ، أو الشياع المفيد للعلم.

______________________________________________________

مصاديقه وأن ما به البيان أي شي‌ء فالموثقة غير ناظرة إلى بيانه ، فلا مناص من أن يحرز مصاديقه من الخارج فإذا أقمنا الدليل على اعتبار الخبر في الموضوعات الخارجية استكشفنا بذلك أنه أيضاً مصداق لكبرى الحجية وما به البيان ، كما استكشفنا حجية البينة المصطلح عليها من الخارج على التقريب المتقدم فلاحظ.

وثالثاً : لو سلمنا أن البينة في الموثقة بمعناها المصطلح عليه ، فعدم ذكر الخبر الواحد في قبال العلم والبينة إنما هو من جهة خصوصية في موردها وهي أن الحلّية في مفروضها كانت مستندة إلى قاعدة اليد في مسألة الثوب ، ومن الواضح أن الخبر الواحد غير معتبر مع اليد فكأنه عليه‌السلام كان بصدد بيان ما يعتبر في جميع الموارد على وجه الإطلاق. وعلى الجملة أن الموثقة غير رادعة عن السيرة العقلائية وتمام الكلام في ذلك موكول إلى محلّه.

ودعوى أن الاجتهاد ليس من الأُمور الحسية ، وأن القوة والملكة إنما يستكشفان بالحدس والاختبار ، والشهادة والاخبار إنما تقبلان في المحسوسات ولا اعتبار بهما في الحدسيات أبداً.

مندفعة بأن الاجتهاد كالعدالة وغيرها من الأُمور الّتي تقبل فيها الشهادة والاخبار ، والوجه فيه مع أن الملكة غير قابلة للحسّ ، أن تلك الأُمور من الأُمور الحدسية القريبة من الحس ، لأنها مما يقل فيه الخطأ وتكون مقدماته موجبة للحدس غالباً ، والاخبار عن مثلها كالاخبار عن الأُمور المحسوسة في الاعتبار عند العقلاء.

(١) لأن أدلة الاعتبار غير شاملة للمتعارضين ، فإن شمولها لهما معاً يستلزم الجمع بين الضدين أو النقيضين ، وشمولها لأحدهما دون الآخر بلا مرجح ، وهذا معنى ما يقال : إذا تعارضا تساقطا ، فلا يتصف شي‌ء منهما بالحجية والاعتبار.

١٧٥

[٢١] مسألة ٢١ : إذا كان مجتهدان لا يمكن تحصيل العلم بأعلمية أحدهما ولا البينة ، فإن حصل الظن بأعلمية أحدهما تعين تقليده (*) بل لو كان في أحدهما احتمال الأعلمية يقدم كما إذا علم أنهما إما متساويان أو هذا المعين أعلم ، ولا يحتمل أعلمية الآخر فالأحوط تقديم من يحتمل أعلميته (١).

______________________________________________________

(١) ذكرنا عند التكلم على مسألة وجوب الفحص عن الأعلم ، أنه إذا لم يشخّص الأعلم من المجتهدين ، ولم يتمكن من تحصيل العلم بأعلمية أحدهما مع العلم بمخالفتهما في الفتوى فإن تمكن من الاحتياط وجب ، لما مرّ غير مرة من أن الأحكام الواقعية قد تنجّزت على المكلفين بالعلم الإجمالي بوجود أحكام إلزامية في الشريعة المقدسة ، ولا طريق للعامّي إلى امتثالها سوى العمل على طبق فتوى الأعلم وهو مردد بين شخصين ، ومعه لا مناص من الاحتياط تحصيلاً للعلم بالموافقة لاستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب كما هو الحال في بقية موارد العلم الإجمالي. ولا أثر للظن بالأعلمية أو احتمالها في أحدهما حينئذٍ ، لأن أدلة الحجية غير شاملة للمتعارضين ومعه لم يجعل شي‌ء من الفتويين المتعارضتين حجة على المكلف ليجب الأخذ بما ظن أو احتمل حجيته ، بل الوظيفة وقتئذٍ هو الاحتياط حتى يقطع بخروجه عن عهدة ما علم به من التكاليف الإلزامية.

وأما إذا لم يتمكن من الاحتياط إما لعدم سعة الوقت للجمع بين الفتويين ، وإما لأن أحدهما أفتى بوجوب شي‌ء والآخر بحرمته ، فلا محالة يتخيّر بينهما للعلم بوجوب تقليد الأعلم وهو مردد بين شخصين ولا مرجح لأحدهما على الآخر وفي هذه الصورة إذا ظنّ بأعلمية أحدهما أو احتملها وجب الأخذ به. ولا يقاس هذه الصورة بالصورة المتقدمة ، فإن في تلك الصورة أوجب التعارض سقوط فتوى كلا المجتهدين عن الحجية فلم يجعل شي‌ء منهما حجة على المكلف ليتميز بالظن أو الاحتمال ، وأما في‌

__________________

(*) الظاهر أنه مع عدم العلم بالمخالفة يتخيّر في تقليد أيهما شاء ، ومع العلم بها ولو إجمالاً يأخذ بأحوط القولين ، ولا اعتبار بالظن بالأعلمية فضلاً عن احتمالها ، هذا فيما إذا أمكن الأخذ بأحوطهما ، وإلاّ وجب تقليد من يظن أعلميته أو يختص باحتمال الأعلمية على الأظهر.

١٧٦

[٢٢] مسألة ٢٢ : يشترط في المجتهد أُمور : البلوغ (١).

______________________________________________________

هذه الصورة فبما أنه غير متمكن من الاحتياط لم يجب عليه إلاّ العمل بفتوى أحدهما لعدم تكليفه بالاحتياط لتعذره ولا ترتفع عنه الأحكام لتنجزها عليه بالعلم الإجمالي ، فلا مناص إلاّ من اتباع إحدى الفتويين ، فإذا احتمل أو ظن بأعلمية أحدهما دار أمر المكلف بين التعيين والتخيير ، وقد تقدم أن العقل يستقل بلزوم الأخذ بما يحتمل تعينه ، للعلم بأنه معذّر على كل حال ومعذّرية الآخر غير محرزة.

وبما سردناه اتضح أن الظن بالأعلمية أو احتمالها إنما يكون معيّناً لتقليد من ظن بأعلميته أو احتمل إذا لم يتمكن من الاحتياط دون ما إذا كان متمكناً منه ، فما أفاده الماتن في المقام لا يمكن المساعدة على إطلاقه. كما أن ما أفاده في المسألة الثامنة والثلاثين من أن المكلف في تلك المسألة إذا لم يتمكن من الاحتياط تخير بينهما وإذا أمكنه فالأحوط هو الاحتياط ، لا يمكن المساعدة على إطلاقه أيضاً لما عرفته من أن المكلف إنما يتخيّر بينهما عند عدم التمكن من الاحتياط ، إذا لم يظن أو لم يحتمل أعلمية أحدهما ، وإلاّ فالمتعيّن تقليد المظنون أو المحتمل أعلميته ، هذا كلّه مع العلم بالمخالفة بينهما في الفتوى.

وأما إذا لم يعلم المخالفة بينهما ، فقد مرّ أنه لا يجب تقليد معلوم الأعلمية وقتئذٍ فضلاً عن المظنون أو المحتمل أعلميته.

شرائط المرجعية للتقليد

قد اشترطوا في من يرجع إليه في التقليد أُموراً :

١ ـ البلوغ :

(١) لم يقم أي دليل على أن المفتي يعتبر فيه البلوغ ، بل مقتضى السيرة العقلائية الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم عدمه لعدم اختصاصها بما إذا كان العالم بالغاً بوجه ، فإذا كان غير البالغ صبياً ماهراً في الطبابة لراجعه العقلاء في معالجاتهم من غير شك ، كما أن الإطلاقات يقتضي الجواز لصدق العالم والفقيه وأهل الذكر ونحوها‌

١٧٧

على غير البالغ كصدقها على البالغين.

واستبعاد أن يكون المقلّد للمسلمين صبياً مراهقاً إذا كان واجداً لسائر الشرائط مما لا وقع له ، كيف ومن الأنبياء والأوصياء ( عليهم أفضل السّلام ) من بلغ مرتبة النبوة أو الإمامة وهو صبي ، فإذا لم تكن الصباوة منافية للنبوة والإمامة فلا تكون منافية للمرجعية أبداً.

ولم نستفد من مذاق الشارع أن تصدي غير البالغ للإفتاء والمرجعية أمر مرغوب عنه في الشريعة المقدسة.

وأما ما ورد من أن « عمد الصبي وخطأه واحد » (١) وأنه « رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم » (٢) فهما أجنبيان عن محل الكلام ، إذ المراد من أن عمد الصبي خطأ على ما ورد في ذيل الرواية الأُخرى (٣) بهذا المضمون : « أن ديته في القتل خطأ على عاقلته » وليس معناه أن كل ما صدر عن الصبي فهو بحكم الخطأ في الشريعة المقدسة ، بحيث لو تكلّم الصبي في أثناء صلاته متعمداً لم تبطل صلاته بناء على شرعية عبادته لأنه بحكم الخطأ. إذن الرواية أجنبية عن جواز التقليد من الصبي.

كما أن الرواية الثانية كذلك ، لأن كون الصبي مرفوعاً عنه القلم ، أي عدم كونه مؤاخذاً بأفعاله وتروكه ، لا يقتضي عدم جواز تقليده والحكم ببطلان أقواله وعدم اعتبار فتاواه ، على ما تعرضنا للروايتين في التكلم على شرائط المتعاقدين (٤) وذكرنا أن كون عمد الصبي خطأ وكونه مرفوعاً عنه القلم لا يقتضيان بطلان أقواله وأفعاله حتى يحكم ببطلان ما أوجده من العقود والإيقاعات.

إذن لم يثبت عندنا ما يمنع عن السيرة العقلائية بوجه ، فإن كان عدم جواز التقليد من الصبي مورداً للتسالم والإجماع القطعي فهو ، وإلاّ فلا مانع من الرجوع إليه في التقليد إذا كان واجداً لبقية الشرائط المعتبرة في المقلّد ، وحيث لا سبيل لنا إلى إحراز‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٩ : ٤٠٠ / أبواب العاقلة ب ١١ ح ٢.

(٢) مضمونها في وسائل الشيعة ١ : ٤٥ / أبواب مقدمة العبادات ب ٤ ح ١١.

(٣) وسائل الشيعة ٢٩ : ٤٠٠ / أبواب العاقلة ب ١١ ح ٣.

(٤) مصباح الفقاهة ٣ : ٣٩٣.

١٧٨

والعقل (١)

______________________________________________________

التسالم على عدم الجواز فلا مانع من تقليد غير البالغ بوجه.

بقي هناك أمران :

أحدهما : أن محل الكلام في المقام أن البلوغ هل يعتبر في زمن العمل بفتوى المجتهد أو لا يعتبر ، وأما إذا كان المجتهد بالغاً في زمان العمل بفتواه إلاّ أنه إنما تصدى للاستنباط قبل البلوغ فلا شبهة في جواز الرجوع إليه وهو خارج عن مورد النزاع بالكلّية.

وثانيهما : أنّا لو قلنا باشتراط البلوغ في المقلّد ، وأخذ العامّي الفتوى منه قبل بلوغه ثمّ بلغ فمات ، فله أن يبقى على تقليده فيما أخذه أو تعلمه وذلك لما قدّمناه في التكلم على مسألة جواز البقاء أن عنوان البقاء على تقليد الميت غير وارد في شي‌ء من الأدلة حتى يتوقف جوازه على ملاحظة معنى التقليد وتفسيره. بل يكفي في جوازه أخذ الفتوى وتعلمها حال الحياة. وذلك لأن المقلّد يصدق عليه الفقيه أو غيره من العناوين الواردة في لسان الدليل ، ومقتضى السيرة والإطلاقات حجية فتاواه وجواز الرجوع إليه في الأحكام ، وغاية الأمر أنّا اعتبرنا فيه البلوغ أيضاً وقيّدنا حجية فتاواه بالبلوغ ، والمفروض أنه قد بلغ قبل أن يعمل العامّي بفتواه ، وبما أن الأخذ والتعلم قد تحققا حال حياة المجتهد فلا يكون تقليده من تقليد الميت الابتدائي.

٢ ـ العقل :

(١) وعن شيخنا الأنصاري قدس‌سره ما ظاهره أن اعتبار العقل في المجتهد المقلّد أمر لا خلاف فيه وأنه مورد للاتفاق (١).

ويدلُّ على اعتباره جميع الأدلة المتقدمة المستدل بها على حجية فتوى الفقيه من الآيات والأخبار والسيرة العقلائية ، وذلك لوضوح أن الموضوع في الأدلة اللفظية هو‌

__________________

(١) رسالة في الاجتهاد والتقليد : ٥٧.

١٧٩

والإيمان (١)

______________________________________________________

الفقيه والعالم والعارف ونحوها ، ولا ينبغي الارتياب في عدم صدق شي‌ء منها على غير العاقل ، فإنه لا ميزان لفهمه ولا لشي‌ء من أعماله وأقواله.

وكذلك السيرة العقلائية لأنها جرت على رجوع الجاهل إلى عالم مثلهم في العقل والدراية ، ولم نتحقق جريان سيرتهم على رجوع الجاهل إلى من يفعل ما يفعله ويتكلم بما يتكلم به من غير دراية ولا ميزان ويهرول في العقود والأسواق ويضرب هذا ويهتك ذاك ، ويأكل ما تمكن من أكله.

إذن لا شبهة في أن المقلّد يعتبر فيه العقل بحسب الحدوث. وإنما الكلام في اشتراط العقل فيه بحسب البقاء وأنه هل يشترط في حجية فتاواه بقاؤه على العقل والدراية بحيث لو أخذ العامّي منه الفتوى حال درايته وعقله إلاّ أنه جنّ بعد ذلك ، أو أنه كان مجنوناً أدوارياً قد يعقل وقد يجنّ وأخذ منه الفتوى حال إفاقته لم يجز له البقاء على تقليده والعمل بفتياه ، أو أن العقل غير معتبر في حجية الفتوى بحسب البقاء وللمكلف العمل بفتواه وإن طرأ عليه الجنون بعد الأخذ منه؟

لا مجال لاستفادة اعتبار العقل بقاءً من الأدلة اللفظية والسيرة العقلائية ، بل مقتضى الإطلاقات عدم اشتراطه بقاءً ، والسيرة أيضاً غير مخالفة لذلك نظير ما مرّ من عدم اشتراط الحياة في حجية الفتوى بحسب البقاء ، ومعه يحتاج اعتبار العقل في المقلّد بحسب البقاء إلى دليل. ويأتي تمام الكلام في ذلك عند التكلم على شرطية الاجتهاد والإيمان وغيرهما من الشرائط المتقدمة والآتية بحسب البقاء فانتظره.

٣ ـ الإيمان :

(١) استدلوا على اعتباره بأُمور :

منها : دعوى إجماع السلف والخلف على شرطية الايمان في المقلّد.

ويدفعه : أن الإجماع المدعى ليس من الإجماعات التعبدية حتى يستكشف به قول‌

١٨٠