موسوعة الإمام الخوئي - ج ١

الشيخ علي الغروي

فيه ، وإنما الشك في أن خصوصية هذا أو ذاك هل لها مدخلية في متعلق الوجوب أو لا مدخلية لها ، ولا شبهة في أن اعتبار الخصوصية كلفة زائدة وموجب للضيق على المكلف فمقتضى أصالة البراءة أن الخصوصية غير معتبرة في متعلق الوجوب. وعلى الجملة أن دوران الأمر بين التعيين والتخيير من الشك في الإطلاق والتقييد بعينه. إذا عرفت هذا فنقول :

إن الحجية في مفروض الكلام لما كانت بمعنى التنجيز فقط ، ودار أمرها بين التعيينية والتخييرية كان ما أدّت إليه إحدى الفتويين لا على التعيين منجّزاً على المكلف بحيث لو تركهما معاً استحق العقاب عليه ، لأنه ترك للواجب المنجّز على الفرض وأما ما أدّت إليه إحداهما المعينة فلا علم بتنجّزه بحيث لو تركه المكلف يستحق العقاب عليه ولو مع الإتيان بما أدّت إليه فتوى الآخر ، فحيث إن المكلف يعلم بتنجز ما أدّت إليه إحدى الفتويين غير المعينة ويشك في تنجّز ما أدّت إليه إحداهما المعينة وهو تكليف زائد مشكوك فيه ، فمقتضى أصالة البراءة عدم توجه التكليف بالخصوصية الزائدة المشكوك فيها فإن العقاب عليها عقاب بلا بيان. ومعه يتخيّر المكلف بين أن يأخذ بهذا أو بذاك ، ولا يمكنه ترك العمل على طبقهما معاً. وأما ترك العمل بهذا بخصوصه أو ذاك كذلك فهو مرخص فيه حسبما تقتضيه أصالة البراءة عن التقييد. فالأصل في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجية بمعنى المنجّز يقتضي التخيير كما هو الحال في التكاليف الشرعية.

المقام الثاني : ما إذا كان الواقع منجّزاً على المكلف بالعلم الإجمالي الكبير أو العلم الإجمالي المتحقق في بعض الموارد‌ ، ولم يترتب على حجية الحجة سوى التعذير على تقدير الخلاف ، ودار الأمر بين الحجية التعيينية والتخييرية والأصل حينئذٍ يقتضي الأخذ بما يحتمل تعينه ، وذلك لأن الواقع منجّز على المكلف ولا مناص من أن يخرج عن عهدته ، ولا إشكال في أن العمل على طبق ما يحتمل تعينه في الحجية معذّر قطعاً لأنه إما حجة معينة أو أنه أحد فردي الحجة التخييرية. وأما العمل بما يحتمل أن يكون حجة تخييرية فلم يحرز كونه معذّراً ، إذ نحتمل أن لا تكون حجة أصلاً فلا يؤمن من العقاب بالاعتماد عليه ، والعقل قد استقل بلزوم دفع الضرر المحتمل بمعنى‌

١٢١

العقاب وهذا هو الّذي يقال : الشك في الحجية يساوق القطع بعدمها. وحيث إنّا بيّنا في أوائل الكتاب (١) أن الأحكام الواقعية متنجّزة على كل مكلف بالعلم الإجمالي الكبير للعلم بأن في الشريعة أحكاماً إلزامية وجوبية أو تحريمية ، فتكون حجية الحجج الّتي منها فتوى الفقيه معذّرة فحسب ، وقد عرفت أن دوران الأمر بين الحجة التعيينية والتخييرية بهذا المعنى مورد لقاعدة الاشتغال والأصل فيه يقتضي التعيين.

ومن هنا يتّضح أن وجوب تقليد الأعلم على هذا التقدير إنما هو من باب الاحتياط ، لا أنه مستند إلى الأدلّة الاجتهادية فإن مفروضنا أن الأدلة لم يستفد منها وجوب تقليد الأعلم وعدمه وانتهت النوبة إلى الشك ، وإنما أخذنا بفتوى الأعلم لأن العمل على طبقها معذّر على كل حال فهو أخذ احتياطي تحصيلاً للقطع بالفراغ لا أن فتواه حجة واقعية ، هذا.

وربما يقال : الاستصحاب قد يقتضي جواز الرجوع إلى فتوى غير الأعلم فيكون الاستصحاب هو المعذّر على تقدير المخالفة ، وذلك كما في المجتهدين المتساويين في الفضيلة فإن المكلف مخيّر بينهما ، فلو قلّد أحدهما تخييراً ثمّ تجدّدت الأعلمية للآخر فإنه إذا شكّ في جواز تقليد غير الأعلم فمقتضى الاستصحاب هو الجواز وبقاء فتوى غير الأعلم على حجيتها ، وبذلك نلتزم بجواز تقليده مطلقاً لأنه لو ثبت جواز تقليد غير الأعلم وحجية فتواه في موردٍ ثبتت في بقية الموارد لعدم القول بالفصل ، إذ لا يحتمل أن تكون فتوى غير الأعلم حجة في بعض الموارد وغير حجة في بعضها حيث إنها لو كانت قابلة للحجية فهي كذلك في جميع الموارد ، ولو لم تكن كذلك فليست بحجة في الجميع.

والجواب عن ذلك بوجوه :

أما أوّلاً : فلأن استصحاب الحجية لفتوى غير الأعلم أو جواز تقليده من الاستصحابات الجارية في الأحكام ، وقد بيّنا غير مرة أن الشبهات الحكمية والأحكام الكلّية الإلهية ليست مورداً للاستصحاب.

__________________

(١) راجع ص ٦.

١٢٢

وأما ثانياً : فلأن الاستصحاب على تقدير جريانه في الشبهات الحكمية ليست له حالة سابقة في المقام فإن التخيير بين المجتهدين المتساويين لم يثبت بدليل ، بل مقتضى القاعدة في المتعارضين هو التساقط على ما مرّ غير مرة. فالحجية التخييرية غير ثابتة من الابتداء.

وأما ثالثاً : فلأنا لو بنينا على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية وعلى ثبوت التخيير في المجتهدين المتساويين أيضاً ، لم يمكننا استصحاب التخيير بوجه وذلك لأنه من إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر ، وسرّه أن موضوع الحكم بالتخيير إنما هو تساوي المجتهدين في الفضيلة ، ومع تجدد الأعلمية لأحدهما لا موضوع للتخيير لنستصحبه ، لأن التخيير لم يثبت لفتوى المجتهدين في ذاتها وإنما ثبت لفتواهما بما أنهما متساويان ، ومع التبدل وزوال موضوعه لا معنى لاستصحاب التخيير بوجه.

وأما رابعاً : فلأن استصحاب التخيير مع الغض عن جميع المناقشات المتقدمة معارض باستصحاب وجوب تقليد الأعلم تعييناً في بعض الموارد ، كما إذا فرضنا شخصين أحدهما متمكن من الاستنباط ومجتهد في الأحكام دون الآخر فقلّد العامّي المجتهد منهما لوجوبه عليه تعييناً ثمّ بعد ذلك تجدد للآخر الاجتهاد ، إلاّ أن الأول أعلم منه فإنه إذا شكّ حينئذٍ في جواز الرجوع إلى من تجدد له الاجتهاد أو تعيّن البقاء على تقليد الأول لأعلميته ، كان مقتضى الاستصحاب تعيّن البقاء على فتوى الأعلم لا محالة لأنه الحالة السابقة على الفرض ، فإذا وجب تقليد الأعلم في مورد واحد وجب في جميع الموارد لعدم القول بالفصل ، فالاستصحابان متعارضان ومعه لا يمكن الاعتماد على شي‌ء من الاستصحابين ، ومقتضى قاعدة الاشتغال تعيّن تقليد الأعلم وقتئذٍ.

وأما خامساً : فلأن استصحاب الحجية في بعض الموارد غير صالح لأن تثبت به حجية فتوى غير الأعلم مطلقاً ، والوجه في ذلك أن المثبت لحجية فتوى غير الأعلم في بعض الموارد إنما يمكن أن يثبت به حجيتها مطلقاً وفي جميع الموارد ، فيما إذا كان من الأدلة الاجتهادية كالخبر الواحد مثلاً للملازمة الواقعية بين كونها حجة في بعض‌

١٢٣

الموارد وكونها حجة مطلقاً المستكشفة بعدم القول بالفصل ، فإن الأدلة الاجتهادية كما أنها معتبرة في مداليلها المطابقية كذلك تعتبر في مداليلها الالتزامية على ما بيّناه في محلّه. وأما إذا كان المثبت لحجيتها هو الأصل العملي كالاستصحاب ، فلا يترتب عليه سوى حجية فتوى غير الأعلم في مورد جريانه فحسب ، وذلك لتقوّمه باليقين السابق والشك اللاّحق ، ولا معنى للتمسك به فيما ليس هناك يقين سابق وشك لاحق. اللهُمَّ إلاّ أن نقول بالأصل المثبت فإنه باستصحاب حجية فتوى غير الأعلم في بعض الموارد يثبت حجيتها مطلقاً للملازمة الثابتة بينهما بعدم القول بالفصل.

وقد يفصّل في المقام بين ما إذا كانت الأمارات الشرعية الّتي منها فتوى الفقيه حجة من باب الكاشفية والطريقية ، فيلتزم بالأخذ بما يحتمل تعيّنه عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير كما قررنا تقريبه ، وبين ما إذا قلنا باعتبارها من باب السببية والموضوعية فيقال إن القاعدة تقتضي التخيير وقتئذٍ ، وذلك لأن الحجية الثابتة لفتوى غير الأعلم كالحجية الثابتة لفتوى الأعلم بناء على السببية وإن كانت مشتملة على المصلحة والملاك ، إذ الحجية حسبما يستفاد من الآيات والأخبار مترتبة على فتوى الفقيه وهو ينطبق على كلا المجتهدين ، إلاّ أن الحجية لفتوى غير الأعلم ليست بفعلية بالوجدان ، فإن فتوى الأعلم مانعة عن الحجية الفعلية لغيرها.

وسرّه أن الحجية الفعلية في كلتا الفتويين أمر غير معقول ، ولا نحتمل أن تكون الأعلمية مانعة عن الفعلية في فتوى الأعلم. إذن يتعيّن أن تكون الأعلمية مانعة عن الفعلية في فتوى غير الأعلم ، وعلى الجملة أن حجية فتوى غير الأعلم ليست بفعلية بالوجدان وأما الحجية بالإضافة إلى فتوى الأعلم فيحتمل أن تكون فتوى غير الأعلم مانعة عن فعليتها كما يحتمل فعليتها. إذن تكون فعلية الحجية في فتوى الأعلم مشكوكة ومقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان عدم وجوب اتباعها ، والنتيجة أن الحجية بالإضافة إلى كلتا الفتويين ليست بفعلية وغاية الأمر أن عدم الفعلية في إحداهما بالوجدان وفي الأُخرى بالأصل فلا يجب اتباع هذه ولا تلك. وحيث إن العقل مستقل بعدم جواز ترك العمل على كلتيهما لأن المتعذر إنما هو استيفاء كلتا المصلحتين ، وأما استيفاء إحداهما فهو ميسور للمكلف فلا يرخّص العقل في تركهما‌

١٢٤

معاً لأنه تفويت اختياري بلا سبب ، فلا مناص من اتباع إحدى الفتويين تخييراً.

والكلام في الجواب عن ذلك يقع في جهات :

الاولى : أن السببية هل يمكن الالتزام بها في حجية الطرق والأمارات أو أنها باطلة بأقسامها؟ وقد قرّرنا في محلّه (١) أن السببية بجميع أقسامها حتى السببية المنسوبة إلى بعض العدلية أعني بها الالتزام بالمصلحة في السلوك ، باطلة ولا نطيل الكلام بإعادته.

الثانية : أن القاعدة في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير على القول بالسببية ، هل تقتضي التساقط أو أنها تقتضي التخيير؟ وقد قدّمنا الكلام في ذلك أيضاً في محلّه وقلنا إن القاعدة تقتضي التساقط في المتعارضين حتى على القول بالسببية وحيث إن حجية فتوى الأعلم وغير الأعلم من باب التعارض ، لعدم إمكان جعل الحجية لكلتا الفتويين لاستلزامه الجمع بين الضدين أو النقيضين ، فدليل الحجية في كل منهما ينفي الحجية عن الأُخرى بالالتزام ، فهما متعارضان ولا مناص من الحكم بتساقطهما.

وليس المقام من باب التزاحم وعدم قدرة المكلف على امتثالهما معاً ، بل هما متنافيان بحسب الجعل فإذا سقطت الفتويان عن الحجية لم تبق هناك أية مصلحة حتى يستقل العقل بلزوم استيفاء إحدى المصلحتين ووجوب اتباع إحدى الفتويين تخييراً ومن الظاهر أن الأمر بالاتباع إنما هو فيما ثبتت حجيته من الطرق ولا يمكن التفوّه بأن المصلحة قائمة بذواتها وإن لم تكن حجة شرعاً ، لأنه أي مصلحة في اتباع فتوى من لم يحكم بحجيتها لكفره أو فسقه أو لغيرهما من الجهات.

الثالثة : أنّا لو بنينا على أن المقام من صغريات باب التزاحم ، فهل تقتضي القاعدة التخيير في المتزاحمين أو أنها تقتضي الأخذ بما يحتمل أهميته ، وحيث أن المصلحة القائمة بالعمل على فتوى الأعلم تحتمل أهميتها فيتعيّن الرجوع إليه عند دوران الأمر بين تقليده وتقليد غير الأعلم؟

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٩٥.

١٢٥

ذكرنا في محلّه (١) أن المتزاحمين إذا علمنا أهمية أحدهما لم يكن أي مسوّغ لرفع اليد عن الآخر المهم بالكلّية ، بل اللاّزم أن يرفع اليد عن إطلاقه فحسب ، فإن الضرورات تتقدر بقدرها ، والتنافي بينهما يرتفع بتقييد إطلاق المهم بما إذا ترك الإتيان بالأهم فلا مقتضي لرفع اليد عن المهم رأساً ، ومن هنا ذكرنا أن الترتب أمر ممكن وأنه على طبق القاعدة ، إذ لا منافاة بين الأمر بالأهم على نحو الإطلاق وبين الأمر بالمهم على تقدير ترك الأهم ، هذا إذا علمنا أهمية أحدهما معيناً.

وأما إذا كانا متساويين فلا مناص من رفع اليد عن الإطلاق في كليهما وتقييده بما إذا لم يأت بالآخر ، إذ بذلك يرتفع التنافي بينهما وهو الترتب من الجانبين وتكون النتيجة أن المكلف مخيّر بينهما.

وأما إذا احتملنا الأهمية في أحدهما المعيّن دون الآخر فإطلاق ما لا يحتمل أهميته مقيّد لا محالة. وأما إطلاق ما نحتمل أهميته فلا علم لنا بتقييده ، لأنه على تقدير كونه أهم يبقى إطلاقه بحاله كما أنه يقيد إذا كان مساوياً مع الآخر ، فإذا شككنا في ذلك فلا مانع من التمسك بإطلاقه لعدم العلم بورود التقييد عليه ، هذا كلّه في كبرى المسألة.

وأما تطبيقها على محل الكلام فلا شبهة في أن الأهمية غير محرزة في فتوى الأعلم وإلاّ لتعيّن الرجوع إليه ، إذ الكلام فيما إذا لم نعلم بذلك وشككنا في تعيّنه إلاّ أن احتمال الأهمية موجود بالوجدان وهذا بخلاف فتوى غير الأعلم إذ لا يحتمل فيها الأهمية بوجه. إذن لا مانع من التمسك بإطلاق الأدلة المتقدمة القائمة على حجية فتوى الفقيه لعدم العلم بتقييدها بالإضافة إلى فتوى الأعلم ، كما علمنا بتقييدها بالإضافة إلى فتوى غير الأعلم ، ومع وجود الدليل الاجتهادي والإطلاق لا تصل النوبة إلى الأصل العملي حتى يقال : إن احتمال فعلية الأمر باتباع فتوى الأعلم مندفع بالبراءة لقبح العقاب من دون بيان.

مضافاً إلى أن البراءة غير جارية في نفسها ، وذلك لأن العقل كما أنه يستقل بقبح مخالفة التكليف وعصيانه كذلك يستقل بقبح تفويت الملاك ، وقد فرضنا أن اتباع كل‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٣ : ١٢٠.

١٢٦

من الفتويين يشتمل على المصلحة الملزمة ، إلاّ أن المكلف لو عمل بفتوى الأعلم فهو معذور في تركه التصدي لاستيفاء المصلحة القائمة بفتوى غير الأعلم ، وذلك لاستناده إلى العجز ، فإن المصلحة في اتباع فتوى الأعلم إما أنها مساوية للمصلحة في اتباع فتوى غير الأعلم أو أنها راجحة عليها.

وأما لو عكس ذلك واتبع فتوى غير الأعلم ، فلا معذّر له عن عدم اتباعه لفتوى الأعلم لأن المصلحة في كلتا الفتويين وإن كان يحتمل تساويها فلا يكون اتباعه لأحدهما مفوّتاً لشي‌ء ، إلاّ أن من المحتمل أن تكون مصلحة الاتباع لفتوى الأعلم أزيد من المصلحة القائمة باتباع فتوى غيره ، فيكون اختياره لغير الأعلم مفوّتاً للمصلحة الزائدة من غير عجز أو معذّر آخر لدى العقل وهو قبيح ، فحيث إنه يحتمل العقاب في أتباعه لفتوى غير الأعلم فالعقل مستقل بلزوم دفعه ، وحينئذٍ يتعيّن العمل على طبق فتوى الأعلم كما ذكرناه ، فالمقام ليس من موارد التمسك بالبراءة ومن هنا قلنا إن احتمال العجز عن امتثال أي تكليف غير مسوّغ لتركه وسرّه ما ذكرناه من استقلال العقل بلزوم تحصيل الملاكات الملزمة على كل حال ، ومع الشك في القدرة يحتمل العقاب لاحتمال أنه قادر على الامتثال واقعاً وأنه مكلف بالتحصيل ومعه لا بدّ له من أن يتصدى للامتثال ليقطع بتمكنه أو عجزه.

وعلى الجملة لا مجال للبراءة في تلك المقامات لأن فيها احتمال العقاب والعقل مستقل بلزوم دفعه ، فلا يكتفى بالشك في القدرة وعدمها.

فتلخص : أن تقليد الأعلم عند العلم بمخالفته لغير الأعلم في الفتوى هو المتعيّن هذا إذا كانت فتواه موافقة للاحتياط أو كان كل من الفتويين موافقاً للاحتياط من جهة ومخالفاً له من جهة.

وأما إذا كانت فتوى غير الأعلم موافقة للاحتياط دون فتوى الأعلم ، فالعقل وإن كان يرخّص في اتباعها وقتئذٍ ، إلاّ أنه من جهة كونه محصّلاً للعلم بالامتثال لأنه معنى الاحتياط والإتيان بالعمل رجاءً ، لا أنه مستند إلى حجية فتوى غير الأعلم بحيث يجوز إسنادها إلى الله سبحانه ، وذلك لما قد عرفت من تعيّن الرجوع إلى فتوى الأعلم عند العلم بالمخالفة بينه وبين غير الأعلم في الفتوى ، هذا كلّه في الصورة الثانية.

١٢٧

وأما الصورة الثالثة : وهي ما إذا لم تحرز المخالفة بين فتوى الأعلم وفتوى غير الأعلم فهل يجوز الرجوع إلى فتوى غير الأعلم أو يجب تقليد الأعلم حتى في هذه الصورة ، كما في صورة العلم بالمخالفة بينهما؟ الكلام في هذه الصورة يقع من جهتين :

الاولى : فيما يقتضيه الأصل العملي في المسألة.

الثانية : فيما تقتضيه الأدلة الاجتهادية.

أما الجهة الاولى : فلا ينبغي الإشكال في أن الأصل يقتضي تعيّن الرجوع إلى فتوى الأعلم لما مرّ من أن الأحكام الواقعية منجزة على المكلفين بالعلم الإجمالي بوجودها ، والعمل بفتوى المجتهد إنما هو للتعذير عن المخالفة للواقع ، والعمل بفتوى الأعلم معذّر قطعاً ومعذرية العمل بفتوى غير الأعلم مشكوك فيها. ومع دوران الأمر بين التعيين والتخيير الأصل يقتضي التعيين كما مرّ في الصورة الثانية ، إلاّ أن الأصل لا يعارض الدليل فلا مناص من ملاحظة الأدلة الاجتهادية لنرى أنها تدلّنا على جواز الرجوع إلى غير الأعلم أو لا تدل.

أما الجهة الثانية : فيقع الكلام فيها أولاً فيما يستدل به على عدم جواز الرجوع إلى فتوى غير الأعلم عند الشك في مخالفتها لفتوى الأعلم وتعيّن الرجوع إلى تقليد الأعلم ، وثانياً فيما استدل به على جواز تقليده.

وقد استدلّوا على عدم الجواز في هذه الصورة بما استدلوا به على عدم جوازه في صورة العلم بالمخالفة بينهما في الفتوى ، من أن الأدلة غير شاملة لفتوى غير الأعلم وكذا الإجماع ، والأقربية ، ومقبولة عمر بن حنظلة ، وعهد أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى مالك الأشتر وغيرها.

ويرد على الجميع : أن شيئاً من ذلك لم تتم دلالته على وجوب تقليد الأعلم عند العلم بالمخالفة بينه وبين غير الأعلم ، فضلاً عن أن تدل على تعينه عند عدم العلم بالمخالفة بينهما. ونزيده : أن الاستدلال بعدم شمول الأدلة لفتوى غير الأعلم ، والأقربية والمقبولة لو تمّ فإنما يختص بصورة العلم بالمخالفة ، وأما مع الشك في المخالفة واحتمال موافقتهما فلا تعارض لئلاّ تشملها الأدلة كما لا معنى للأقربية وقتئذٍ ، وكذا المقبولة موردها فرض العلم بالمخالفة ، فالاستدلال بها على تعيّن الرجوع إلى الأعلم في صورة‌

١٢٨

عدم العلم بالمخالفة مما لا وجه له ، هذا.

وأما ما استدل به على جواز الرجوع إلى فتوى غير الأعلم ، إذا لم يعلم المخالفة بينه وبين الأعلم فهو أُمور :

الأوّل : إطلاقات الأدلة القائمة على حجية فتوى الفقيه من الآية والأخبار‌ المتقدمتين وقد خرجنا عنها في صورة العلم بالمخالفة وبقيت صورة العلم بالموافقة بينهما وكذا صورة الشك في المخالفة مشمولة لإطلاقها ، حيث دلت على جواز تقليد الفقيه من غير تقييده بما إذا كان أعلم.

وقد يناقش في الاستدلال بالمطلقات بأن صورة العلم بالمخالفة قد خرجت عنها كما عرفت ، ومع الشك في الموافقة والمخالفة لا مجال للتمسك بإطلاقها ، لأنه من التمسك بالعموم والإطلاق في الشبهات المصداقية وذلك لاحتمال مخالفتهما في الفتوى واقعاً.

وأُجيب عن ذلك بأن التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية وإن لم يجز إذا كان المخصص لفظياً ، إلاّ أنه في المخصصات اللبية مما لا مانع عن التمسك به ، والأمر في المقام كذلك فإن صورة العلم بالمخالفة إنما خرجت عن المطلقات من جهة أن شمول أدلة الحجية للمتعارضين يستلزم الجمع بين الضدين أو النقيضين ، ومع كون المخصص لبياً لا مانع من التمسك بالعموم.

ويرد على هذا الجواب : ما قررناه في محلّه (١) من أنه لا فرق في عدم جواز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية بين أن يكون المخصص لفظياً أو لبياً ، فإن التقييد والتخصيص يعنونان العام بعنوان ما لا محالة ، لاستحالة الإهمال في مقام الثبوت كاستحالة الإطلاق بعد العلم بالتقييد ، إذن يتعيّن أن يكون المطلق أو العام مقيداً بغير عنوان المخصص ، ولم يحرز أن العنوان المقيد صادق على المورد المشكوك فيه ، ومع عدم إحرازه لا مجال للتمسك بالإطلاق أو العموم.

والصحيح في الجواب أن يقال : إن المناقشة غير واردة في نفسها وذلك لأن الشبهة وإن كانت مصداقية كما مرّ إلاّ أن هناك أصلاً موضوعياً يحرز به أن المورد المشتبه من‌

__________________

(١) محاظرات في أُصول الفقه ٥ : ١٩٦.

١٢٩

الأفراد الباقية تحت العموم ، وذلك لأن إحراز فردية الفرد قد يكون وجدانياً وقد يكون بالتعبّد ، ومن هنا قلنا في محله إن المرأة المشكوكة قرشيتها ببركة أصالة عدم القرشية داخلة تحت الأدلة الدالة على أن المرأة تحيض إلى خمسين ، وفي المقام أيضاً نقول : إن المخالفة بين المجتهدين أمر حادث مسبوق بالعدم ، ومع الشك في تحققها يبنى على عدمها بمقتضى استصحاب العدم الأزلي ، لأن الأصل عدم تحقق المخالفة بينهما فببركة هذا الأصل يمكننا إحراز أن المشتبه من الأفراد الباقية تحت العموم. بل إحراز ذلك بالاستصحاب النعتي أيضاً ممكن في المقام لأن المجتهدين كانا في زمان ولم يكونا مخالفين في الفتوى ولو من جهة عدم بلوغهما مرتبة الاجتهاد ، ومقتضى الأصل أنهما الآن كما كانا سابقاً.

وربما يورد على هذا الاستدلال بأن التمسك بالمطلقات يشترط فيها الفحص عن المقيد والمعارض والجامع مطلق ما ينافي إطلاق الدليل ولا يجوز التمسك بها من دون فحص ، وحيث إن فتوى الأعلم يحتمل أن تكون مخالفة لفتوى غير الأعلم فلا مناص من أن يفحص ليظهر أنهما متخالفتان حتى لا تشملهما المطلقات أو أنهما متوافقتان فعلى الأوّل لا يجوز الرجوع إلى غير الأعلم وعلى الثاني يجوز.

ويدفعه : أن التمسك بالإطلاق وإن كان يعتبر فيه الفحص عن مقيداته ومعارضاته بل عن مطلق ما ينافي الدليل بحكومة ونحوها ، إلاّ أنه خاص بالشبهات الحكمية ، فلا يسوغ التمسك بعموم الدليل قبل الفحص عن مخصصة ، ولا يعتبر ذلك في الشبهات الموضوعية بوجه ، مثلاً إذا قامت بينة على ملكية دار لزيد لم يعتبر في حجيتها الفحص عمّا يعارضها من البينات ولو مع العلم بوجود عدول يحتمل شهادتهم بأن الدار ليست لزيد. ومقامنا هذا من هذا القبيل ، لأنه من الشبهات الموضوعية لأن مفروض الكلام العلم بعدم اعتبار فتوى غير الأعلم في فرض المخالفة وإنما نشك في أنهما متخالفان أو متوافقان فالشبهة موضوعية.

والوجه في عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية هو أن ما يقتضي لزوم الفحص في الشبهات الحكمية عن المنافيات أحد أمرين على سبيل منع الخلو :

أحدهما : أن ديدن الأئمة عليهم‌السلام جرى على التدرج في بيان الأحكام‌

١٣٠

الشرعية وما اعتبر فيها من القيود والشروط ، ولم يبيّنوها بقيودها وخصوصياتها في مجلس واحد مراعاة للتقية ومحافظة على أنفسهم وتابعيهم عن القتل أو غيره من الأذى أو لغير ذلك من المصالح ، ومن هنا ترى أن العام يصدر من إمام والمخصص من إمام آخر ، أو أن حكماً يصدر من أحدهم عليهم‌السلام فيصدر منه نفسه أو من إمام آخر خلافه ، ومع العلم بحال المتكلم وديدنه لا تجري في كلامه أصالة عدم القرينة قبل الفحص ، أو أنها لو جرت وانعقد لكلامه ظهور في نفسه لم تجر فيه أصالة حجية الظهور الّتي هي أصل عقلائي لاختصاصها بما إذا لم تجر عادة المتكلم على التدرج في بيان مراداته ومقاصده ، ومع عدم جريانها لا يعتمد على ظواهر كلامه لعدم حجيتها حينئذٍ.

ثانيهما : العلم الإجمالي بأن العمومات والمطلقات الواردتين في الكتاب والسنّة قد ورد عليهما مقيدات ومخصصات كثيرة ، حتى ادعي أن الكتاب لا يوجد فيه عام لم يرد عليه تخصيص ، فلأجل ذلك وجب الفحص عن المنافيات حتى يخرج المورد عن الطرفية للعلم الإجمالي بالتخصيص والتقييد.

وهذان الوجهان كما ترى لا يأتي شي‌ء منهما في المقام : أما مسألة جريان عادة المتكلم على عدم بيان القيود والخصوصيات الدخيلة في حكمه في مجلس واحد فلأجل أنه لا موضوع لها في المقام ، حيث إن فتوى أحد المجتهدين ليست مبينة ومقيدة أو حاكمة على فتوى المجتهد الآخر بل فتوى كل منهما تصدر عن اجتهاده ونظره ولا ربط لإحداهما إلى الأُخرى بوجه.

وأما العلم الإجمالي بالتقييد ، فلأنه ليس هناك أي علم إجمالي بالمخالفة في الفتوى بين المجتهدين لاحتمال موافقتهما بل قد يقطع بها كما في أكثر العوام لاعتقادهم أن الشريعة واحدة فلا اختلاف في أحكامها وفتاوى المجتهدين ، أو لو فرضنا أن الخواص قد علموا بينهما بالمخالفة ولو على سبيل الإجمال وفي بعض الموارد ، فليس لهم علم بالمخالفة في المسائل الّتي هي مورد الابتلاء ، والمراد بالمخالفة ما قدّمناه وهو أن يكون فتواهما متنافيتين مع كون فتوى غير الأعلم مخالفة للاحتياط وهي مما لا علم به ولو إجمالاً ومع عدم جريان شي‌ء من الوجهين في المقام لا مقتضي لوجوب الفحص‌

١٣١

ويجب الفحص عنه (١).

______________________________________________________

بوجه ، فلا مانع من التمسك بالإطلاق من غير فحص عمّا يخالفه.

الثاني : أن الأئمة عليهم‌السلام قد أرجعوا عوام الشيعة إلى أصحابهم‌ كزكريا بن آدم ، ويونس بن عبد الرحمن وأضرابهما وهم على تقدير كونهم متساوين في الفضيلة فلا أقل من أن بينهم الإمام عليه‌السلام الّذي لا يحتمل فيه الخطأ ، فإذا جاز تقليد غير الأعلم مع وجود من لا يحتمل فيه الخطأ والاشتباه عند عدم العلم بالمخالفة بينهما جاز تقليد غير الأعلم مع وجود الأعلم المحتمل فيه الخطأ والاشتباه ، لأنه لا سبيل له إلاّ إلى الأحكام الظاهرية المحتملة المخالفة للواقع بطريق أولى.

الثالث : السيرة العقلائية‌ الجارية على الرجوع إلى غير الأعلم في جميع الحِرف والصنائع عند عدم العلم بمخالفته لمن هو أعلم منه ، لعدم التزامهم بالرجوع إلى الأعلم مطلقاً حتى يبقى غير الأعلم عاطلاً. وهذا أمر نشاهده في مراجعاتهم إلى الأطباء والمهندسين وغيرهم من أرباب العلوم والفنون ، وحيث لم يردع عنها في الشريعة المقدسة ، فنستكشف أنها ممضاة عند الشارع. نعم ، عند العلم بالمخالفة لا بدّ من الرجوع إلى الأعلم كما مرّ ، هذا كلّه في وجوب تقليد الأعلم.

والمتحصل : أنه لا دليل على وجوب تقليده في هذه الصورة وإن كان ظاهر عبارة الماتن وجوب تقليد الأعلم مطلقاً ولو في صورة عدم العلم بالمخالفة.

وجوب الفحص عن الأعلم‌

(١) المكلف إذا ميّز الأعلم من المجتهدين فلا كلام ، وأما إذا لم يشخّصه بعينه ، فإن أراد أن يحتاط في عمله بالجمع بين الفتويين لم يجب عليه الفحص عن أعلمهما ، لعدم وجوب تعيّن المجتهد المقلّد حينئذٍ. وأما إذا لم يرد العمل بالاحتياط وجب عليه الفحص عنه لوجوب تقليد الأعلم على الفرض ، فإذا عمل بفتوى أحدهما من غير فحص عن أعلميته لم يقطع بفراغ ذمته ، لاحتمال أن يكون الأعلم غيره ومعه يحتمل العقاب لعدم إحراز أن ما عمل على طبقه معذّر واقعاً. إذن وجوب الفحص عن‌

١٣٢

الأعلم وجوب إرشادي إلى عدم وقوع المكلف في معرض احتمال المخالفة والعقاب.

ثمّ إنه إذا فحص عن الأعلم وظفر به فهو ، وأما إذا لم يميّز الأعلم من المجتهدين المتعددين فإن كان متمكناً من الاحتياط وجب ، لما تقدم من أن الأحكام الواقعية متنجزة على المكلفين بالعلم الإجمالي بوجود أحكام إلزامية في الشريعة المقدسة ولا طريق إلى امتثالها سوى العمل على طبق فتوى الأعلم ، والمفروض أنه مردد بينهما أو بينهم ، وبما أنه متمكن من الاحتياط يتعيّن عليه الاحتياط تحصيلاً للعلم بالموافقة لاستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب على ما هو الحال في موارد العلم الإجمالي بأجمعها. ولا أثر في هذه الصورة للظن بالأعلمية أو احتمالها في أحدهما أو أحدهم وذلك لما تقدم من أن أدلة الاعتبار قاصرة الشمول للمتعارضين ، ومعه لا دليل على حجية شي‌ء من الفتويين ليكون الظن بها أو احتمالها موجباً للأخذ به. بل اللاّزم وقتئذٍ هو الاحتياط حتى يقطع بفراغ ذمته عمّا اشتغلت به من الأحكام الإلزامية المعلومة بالإجمال.

وأما إذا لم يتمكن من الاحتياط إمّا لأن أحدهما أفتى بوجوب شي‌ء والآخر بحرمته أو أنه أفتى بوجوب القصر والآخر بوجوب التمام ، إلاّ أن الوقت لم يسع للجمع بين الصلاتين فيتخيّر بينهما ، للعلم بوجوب تقليد الأعلم وهو مردد بين شخصين أو أشخاص من غير ترجيح لبعضهم على بعض ، وفي هذه الصورة إذا ظن بالأعلمية أو احتملها في أحدهما أو أحدهم تعيّن الأخذ بفتوى من ظن أو احتمل أعلميته.

ولا يقاس هذه الصورة بالصورة المتقدمة أعني ما إذا تمكن من الاحتياط ، لأن التعارض هناك قد أوجب تساقط الفتويين عن الحجية فلم يجعل شي‌ء منهما حجة على المكلف حتى يميز بالظن أو الاحتمال ، وهذا بخلاف المقام لأنه لا مناص للمكلف من أن يتبع إحدى الفتويين ، إذ لا يكلف بالاحتياط لفرض أنه متعذر في حقه ، ولا ترتفع عنه الأحكام المتنجزة لتمكنه من العمل بإحداهما. إذن لا بدّ له من اتباع إحدى الفتويين ، وحيث إنه يحتمل الأعلمية أو يظنها في أحدهما أو أحدهم فيدور أمره بين أن يكون كل من الفتويين حجة تخييرية في حقه ، وبين أن تكون فتوى من يظن‌

١٣٣

أعلميته أو يحتملها حجة تعيينية ، وقد عرفت أن العقل مستقل بلزوم الأخذ بما يحتمل تعينه للعلم بأنه معذّر على كل حال ولا علم بمعذّرية الآخر ، هذا كلّه فيما إذا علم المكلف باختلافهما أو اختلافهم في الفتوى علماً تفصيلياً أو إجمالياً مع العلم باختلافهما في الفضيلة.

وأما لو علم بالاختلاف ، ولم يعلم اختلافهما في الفضيلة فلا بدّ أيضاً من الفحص لعين ما مرّ في الصورة المتقدمة. وإذا لم يميّز الأعلم إما لعدم تمكنه من الفحص أو لأنه فحص ولم يظفر به فإن كان متمكناً من الاحتياط وجب كما عرفت ، وإلاّ تخير. اللهُمَّ إلاّ أن يظن بالأعلمية أو احتملها في أحدهما المعيّن أو أحدهم ، لأن المتعيّن حينئذٍ هو الأخذ بفتوى من ظن أو احتمل أعلميته لما مرّ ولا نعيده.

ولا يصح في هذه الصورة التمسك باستصحاب عدم أعلمية أحدهما عن الآخر نظراً إلى القطع بعدمها قبل أن يصل مرتبة الاجتهاد ، فإذا شككنا في انقلابه واتصافه بالأعلمية بعد الاجتهاد استصحبنا عدمها وبه نثبت التخيير حتى مع الظن بالأعلمية أو احتمالها في أحدهما.

وذلك لأن معنى هذا الاستصحاب أن من ظن أو احتمل أعلميته لم يحصّل قوة زائدة على قوة الآخر ، وهذا كما ترى معارض باستصحاب عدم تحصيل الآخر قوة تساوي قوة من ظنت أو احتملت أعلميته. على أنه لا يثبت به التساوي ، ومعه لا يمكن الحكم بالتخيير بينهما لأن موضوعه التساوي الغير المحرز في المقام.

وأما لو علم باختلافهما في الفضيلة على نحو الإجمال ولم يعلم اختلافهما في الفتوى ، أو لم يعلم اختلافهما أصلاً لا في الفضيلة ولا في الفتوى فلا يجب الفحص فيهما عن الأعلم لعدم وجوب تقليده. بل يتخيّر المكلف بينهما ، فإن مقتضى إطلاق الأدلة حجية فتوى كل من الأعلم وغير الأعلم. ودعوى أن ذلك من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية قد قدّمنا الجواب عنها عند التكلم على وجوب تقليد الأعلم فراجع.

١٣٤

[١٣] مسألة ١٣ : إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة يتخيّر بينهما (*) (١) التخيير عند تساوي المجتهدين‌

______________________________________________________

التخيير عند تساوي المجتهدين‌

(١) إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة أو احتملنا الأعلمية في كل منهما فالكلام قد يقع في صورة عدم العلم بالمخالفة بينهما فيما هو محل الابتلاء ، وأُخرى في صورة العلم بمخالفتهما.

أما الصورة الأُولى : كما هي الغالبة في العوام ، فلا ينبغي التأمل في أن المكلف يجوز له أن يقلّد هذا أو ذاك وأنه يتخيّر بينهما لأن غير الأعلم إذا جاز تقليده عند عدم العلم بالمخالفة بينه وبين الأعلم ، جاز أن يقلّد كلا من المجتهدين المتساويين في تلك الصورة بطريق أولى ، ولا مانع من أن تشمل إطلاقات أدلة الحجية فتوى كل من المجتهدين المتساويين ونتيجته أن المكلف له أن يقلّد هذا أو ذاك.

ومعنى الحجية على ما حققناه في محلّه (١) هو جعل ما ليس بعلم علماً تعبداً أعني جعل الطريقية إلى الواقع ، وأثرها تنجيز الواقع على تقدير المصادفة والتعذير عنه على تقدير الخطأ ، وحيث إن التخيير في المقام مستند إلى العلم الإجمالي وعلى تقدير انحلاله فهو مستند إلى الاحتمال ، فالواقع متنجز على المكلف من غير ناحية فتوى المجتهدين ومعه يكون أثر الحجية هنا هو المعذّرية عن مخالفة الواقع على تقدير مخالفة الفتوى للواقع. إذن لا مانع من اتصاف كل من فتوى المجتهدين المتساويين بالحجية بمعنى المعذرية لإطلاق أدلتها ، ونتيجته أن المكلف مخير بينهما وله أن يرجع إلى هذا أو ذاك. بل الأمر كذلك حتى إذا كان أحدهما أعلم ، إذ لا علم بالمخالفة بينهما ومجرّد احتمال المخالفة غير مانع عن الحجية فإن الأصل عدمها.

ثمّ إن معنى جواز الرجوع إلى هذا أو إلى ذاك أن المكلف مخير في الأخذ وأن له أن‌

__________________

(*) مع عدم العلم بالمخالفة ، وإلاّ فيأخذ بأحوط القولين ولو فيما كان أحدهما أورع.

(١) مصباح الأُصول ٢ : ١٠٤.

١٣٥

يأخذ بهذا أو بذاك ، لا أن الحجية تخييرية. بل الحجية بمعنى الطريقية إلى الواقع والمعذّرية عنه على تقدير الخلاف ثابتة لكلتا الفتويين ، فهما حجتان تعيينيتان في نفسيهما وإن كان تنجز الحكم والمنع عن جريان البراءة مستنداً إلى أمر آخر كالعلم الإجمالي أو الاحتمال قبل الفحص ، هذا كلّه عند عدم العلم بالمخالفة بينهما.

وأما الصورة الثانية : أعني ما إذا علمنا بالمخالفة بينهما فالمعروف فيها بين الأصحاب قدس‌سرهم هو التخيير‌ وما يمكن أن يستدل به على ذلك وجوه :

الأوّل : إطلاقات الأدلة القائمة على حجية فتوى الفقيه‌ فإنها كما تشمل فتوى هذا المجتهد كذلك تشمل فتوى المجتهد الآخر والنتيجة هو التخيير بينهما.

وفساد هذا الوجه مستغن عن البيان ، لما مرّ غير مرة من أن إطلاق أدلة الاعتبار لا يمكن أن يشمل المتعارضين ، لأن شمولها لأحدهما من غير مرجح وشمولها لهما معاً يستلزم الجمع بين الضدين أو النقيضين.

الثاني : السيرة العقلائية‌ بدعوى أنها جرت على التخيير في أمثال المقام ومن هنا لم يسمع توقفهم في العمل برأي واحد من أهل الخبرة والاطلاع إذا خالفه منهم آخر. بل السيرة المتشرعية أيضاً جارية على ذلك لأنهم يعتمدون على فتوى أحد المجتهدين المتساويين ولا يتوقفون في ذلك بوجه.

ويدفعه : أنه إن أُريد بالسيرة جريان سيرة العقلاء على التخيير عند العلم بالمخالفة بين المجتهدين المتساويين في الفضيلة فهي دعوى باطلة ، فإنها خلاف ما هو المشاهد منهم خارجاً لأنهم لا يعتمدون على قول مثل الطبيب عند العلم بمخالفته لقول طبيب آخر عند المعالجة بل يحتاطون في أمثالها إن أمكنهم الاحتياط. وإن أُريد بالسيرة سيرة المتشرعة فهي على تقدير ثبوتها ولم تثبت لم يحرز كونها متصلة بزمان المعصومين عليهم‌السلام إذ من أخبرنا أن مجتهدين كانا في الفضيلة على حد سواء وعملت المتشرعة على فتوى كليهما مخيراً ، ولم يردع الأئمة عليهم‌السلام عن فعلهم ذلك لنستكشف بذلك أن السيرة ممضاة من قبلهم وهي الّتي وصلت إلينا يداً بيد ، بل من الجائز أن تكون السيرة على تقدير كونها كذلك ناشئة من فتوى المفتين من أصحابنا بالتخيير.

١٣٦

الثالث : دعوى الإجماع على التخيير في المسألة.

وفيه : أنه إجماع منقول بالخبر الواحد ، ولا يمكننا الاعتماد عليه ، على أن الاتفاق غير مسلّم في المسألة ، لأنها من المسائل المستحدثة ولم يتعرض لها الفقهاء في كلماتهم فكيف يمكن معه دعوى الإجماع على التخيير بين المجتهدين المتساويين. بل لو فرضنا العلم باتفاقهم أيضاً لم يمكننا الاعتماد عليه ، إذ لا يحتمل أن يكون اتفاقهم هذا إجماعاً تعبدياً يستكشف به قول المعصوم عليه‌السلام وإنما هو أمر مستند إلى أحد الوجوه المذكورة في المسألة. فالمتحصّل إلى هنا أن التخيير بين المجتهدين المتساويين لم يقم عليه دليل. بل الحجية التخييرية أمر غير معقول في مقام الثبوت.

الحجية التخييرية غير معقولة‌

لأنها بمعنى جعل الحجية على هذا وذاك يستلزم الجمع بين الضدين أو النقيضين لأن مرجعه إلى أن الشارع قد اعتبر المكلف عالماً بالحرمة وعالماً بعدمها ، أو عالماً بحرمة شي‌ء وعالماً بوجوبه ، ومن هنا قلنا إن إطلاق أدلة الحجية غير شاملة لكلتا الفتويين لاستلزام حجيتهما معاً الجمع بين الضدين أو النقيضين.

وأما الحجية التخييرية بمعنى جعل الحجية على الجامع بين الفتويين ، أعني عنوان أحدهما الّذي هو عنوان انتزاعي ، فهي أيضاً غير متصورة في المقام لأن التكليف بل الصفات الحقيقية كلها كالشوق والعلم وإن كان أمراً قابل التعلق للعناوين الانتزاعية كعنوان أحدهما الجامع بين فردين ، لأن الشوق يمكن أن يتعلق بأحد فعلين أو شيئين آخرين ، وكذلك العلم الإجمالي لأنه يتعلّق بأحدهما. بل قد التزمنا بذلك في الواجبات التخييرية ، وقلنا إن التكليف فيها إنما تعلّق بعنوان أحدهما وأن الفعل المأتي به في الخارج فرد للواجب لا أنه الواجب بنفسه ، إلاّ أن ذلك في الحجية أمر غير معقول ، لأنه لا معنى لاعتبار المكلف عالماً بالحرمة أو عالماً بعدمها ، واعتباره عالماً بوجوب شي‌ء أو عالماً بحرمته ، لأنه معنى جعل الحجية على أحدهما.

على أنّا ذكرنا في محلّه أن كلا من المتعارضين ينفي معارضه بالالتزام. إذن يكون معنى الإفتاء بحرمة شي‌ء أنه ليس بواجب كما أن معنى الإفتاء بوجوبه أنه ليس بحرام فالفتويان المتعارضتان بين نفي وإثبات ، وجعل الحجية على الجامع بين النفي والإثبات‌

١٣٧

أمر غير ممكن ، فالحجية التخييرية بهذا المعنى أيضاً غير معقولة.

مضافاً إلى أنّا لو سلمنا أنها أمر ممكن بحسب الثبوت ، فلا ينبغي التردد في عدم إمكانها بحسب الإثبات ، فإن الأدلة لا تساعدها بوجه والوجه فيه : أن أدلة الحجية إنما تدل على حجية فتوى كل فقيه متعينةً ومعناها أن إنذار هذا المنذر وفتوى ذلك الفقيه حجة معينة ولا دلالة لها بوجه على أن الحجة فتوى هذا أو فتوى ذاك على نحو التخيير.

وأما جعل الحجية على كل منهما مشروطاً بعدم الأخذ بالآخر ليكون كل منهما حجة تعيينية مشروطة بعدم الأخذ بالآخر ، فهو أيضاً كسابقه والوجه فيه : أن التكليف بكل واحد من الضدين مشروطاً بعدم الأخذ بالآخر أي تركه ، وإن كان أمراً ممكناً في نفسه فإنه الترتب من الجانبين وقد بيّنا في محلّه أن الترتب من الجانب الواحد إذا أثبتنا إمكانه فهو من الجانبين أيضاً ممكن فيكون كل من الضدين واجباً مشروطاً بترك الآخر ، ولا يلزمه طلب الجمع بين الضدين على ما حققناه في موضعه.

كما لا يتوجه عليه أن لازمه الالتزام باستحقاق عقابين عند تركهما معاً لتحقق الشرط في وجوبهما. وهو من العقاب على ما لا يكون بالاختيار لعدم تمكن المكلف من الجمع بين الفعلين ، وذلك لما بيّناه هناك من أن العقابين ليسا مستندين إلى ترك الجمع بين الفعلين فلا يقال له لماذا لم تجمع بينهما حتى يرد أنه غير مقدور للمكلف ، بل مستند إلى الجمع في الترك فيقال له لماذا تركت هذا عند ترك ذاك وبالعكس ، ولا شبهة في أن كلا من ترك الآخر وفعله عند ترك الأول مقدور ، إلاّ أن ذلك في الحجية أيضاً غير معقول وذلك لأن لازمه أن يتصف كل منهما بالحجية الفعلية إذا ترك المكلف الأخذ بهما معاً لحصول شرط الحجية في كليهما وهو عدم الأخذ بالآخر. وقد مرّ أن جعل الحجية على كل من الفتويين أمر غير معقول إذ لا معنى لاعتبار المكلف عالماً بالحرمة وعالماً بالوجوب. فالحجية التخييرية بهذا المعنى أيضاً غير معقولة.

معنى آخر للحجية التخييرية‌

بقي الكلام في الحجية التخييرية بمعنى آخر وهو جعل الحجية على كل من الفتويين مثلاً مشروطاً بالأخذ بها لا مشروطاً بعدم الأخذ بالآخر كما في سابقه وهذا‌

١٣٨

المعنى من الحجية التخييرية أمر معقول بحسب الثبوت والحجية في كل منهما تعيينية حينئذٍ مقيدة بالأخذ بها من دون أن يترتب عليها المحذور المتقدم ، لأنه إذا لم يأخذ بهذا ولا بذاك لم يتصف شي‌ء منهما بالحجية لأنها مشروطة بالأخذ كما عرفت ، إلاّ أنه لا دليل عليه في مرحلة الإثبات لوضوح أن ما دلّ على حجية فتوى الفقيه غير مقيد بالأخذ بها ، ومقتضى إطلاقها عدم الفرق في حجيتها بين الأخذ بها وعدمه. ومعه يكون شمول أدلة الحجية لإحداهما عند الأخذ بها معارضاً بشمولها للأُخرى حال عدم الأخذ بها ، وقد مرّ أن الأدلة غير شاملة للمتعارضين. نعم ، لو قام هناك دليل على الحجية مقيدة بالأخذ بها كما إذا كانت الأخبار الدالة على التوسعة عند التعارض وأن المكلف له أن يأخذ بأيهما شاء من باب التسليم ، معتبرة سنداً وعممنا الحكم لغير الروايتين من المتعارضين لم يكن مانع ثبوتي عن الالتزام بالحجية التخيرية بهذا المعنى ، إلاّ أنها لم يقم عليها دليل كما عرفت.

بقي الكلام فيما ربّما يظهر من كلام بعضهم من الإجماع على أن العامّي ليس له العمل بالاحتياط ، بل دائماً يجب أن يستند في أعماله إلى فتوى من يجوز تقليده من المجتهدين. وهو أيضاً لا يمكن الاستدلال به على التخيير في محل الكلام وذلك لأنه من الإجماع المنقول بالخبر الواحد وهو مما لا اعتبار به. على أن الإجماع المدعى لا يقتضي الالتزام بالتخيير ولو مع الجزم بانعقاده لأن عدم العمل بالاحتياط كما أنه يجتمع مع الحجية التخييرية كذلك يجتمع مع الالتزام بسقوط الفتويين عن الحجية واختيار العمل على إحداهما من جهة تنزل العقل إلى الامتثال الاحتمالي عند عجز المكلف من الامتثال جزماً ، ولعلّ الشارع قد اكتفى بالعمل على طبق إحداهما المحتملة المطابقة للواقع.

والمتحصل إلى هنا : أن الحجية التخييرية لا يمكن تتميمها بدليل. إذن يجب على العامّي الاحتياط للعلم بتنجز الأحكام الواقعية في حقه. ووجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي على طبق القاعدة ، هذا إن تمكن من الاحتياط.

وأما لو لم يتمكن من العمل بالاحتياط إمّا لأن أحدهما أفتى بوجوب القصر مثلاً والآخر بوجوب التمام والوقت لا يسعهما ، وإما لأن أحدهما أفتى بوجوب شي‌ء والآخر بحرمته ، وإما للإجماع على عدم جواز الاحتياط فلا مناص من الحكم‌

١٣٩

إلاّ إذا كان أحدهما أورع فيختار الأورع (١).

______________________________________________________

بوجوب العمل على طبق إحدى الفتويين مخيراً ، وهو من التخيير العقلي في مقام الامتثال لتنزل العقل إلى الامتثال الاحتمالي عند العجز عن الامتثال الجزمي.

الأورعية ليست مرجحة

(١) قد أسلفنا أن المجتهدين إذا كان أحدهما أعلم من الآخر ولم يعلم المخالفة بينهما في الفتوى جاز الرجوع إلى كل منهما ، لأنه لا مانع من شمول أدلة الحجية لهما حينئذٍ وكذا إذا علمنا بموافقتهما في الفتوى إلاّ أن تعيين المجتهد المقلّد عند العلم بتوافقهما لا يترتب عليه أي أثر ، لعدم دلالة الدليل على لزوم الاستناد إلى أحدهما المعيّن وقتئذٍ.

ولا شبهة في أن الأورعية ليست مرجحة في هاتين الصورتين سواء أُريد منها الأورعية في مقام العمل بأن يكون أحدهما مجتنباً عن المشتبهات دون الآخر ، أم أُريد بها الأورعية في الاستنباط إما بمعنى أن فحص أحدهما عن الدليل في استنباطاته أكثر من المقدار المعتبر في الفحص عنه ، وإما بمعنى عدم إفتاء أحدهما في المسائل الخلافية واحتياطه فيها دون الآخر. وذلك لأنه بعد حجية كلتا الفتويين وشمول الأدلة لفتوى الأورع وغير الأورع لاشتمالهما على شرائط الحجية ، لا يفرق بينهما بوجه وذلك لأن الدليل على حجية الفتوى إذا كان قيام السيرة على رجوع الجاهل إلى العالم ، فمن المعلوم أن العقلاء لا يقدّمون أحداً من أهل الخبرة على الآخر بمجرد كونه أورع لاشتمال كل منهما على ما هو الملاك المعتبر في رجوع الجاهل إلى العالم عندهم ، وهذه السيرة لم يردع عنها في الشريعة المقدسة. وإن كان الدليل هو الأدلة اللفظية من الآيات والروايات ، فلا كلام في أنها مطلقة ولا موجب لتقييدها بالأورعية أبداً. إذن لا أثر للأورعية في الصورتين.

وأما ما ربما يتوهّم من أن مقبولة عمر بن حنظلة دلّت على لزوم الترجيح بالأورعية لقوله عليه‌السلام : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ... » فمندفع :

١٤٠