موسوعة الإمام الخوئي - ج ١

الشيخ علي الغروي

تتميم : قد أسلفنا (١) أن المعنى المتحصل للتخيير عند تعارض الطرق والأمارات على القول به هو تفويض أمر الحجية إلى المكلف وجعلها تابعة لاختياره ، بحيث يتمكن من جعل ما ليس بحجة حجة بالالتزام بالعمل على طبقه ، فهو تخيير في المسألة الأُصولية أعني الحجية كما تقدم وغير راجع إلى التخيير الواقعي أو الظاهري في الأحكام.

أمّا أنه ليس من التخيير الواقعي في المسألة الفرعية بأن يكون المكلف مخيراً واقعاً بين الإتيان بفعل وتركه أو الإتيان بفعل آخر نظير التخيير في الأماكن الأربعة بين القصر والتمام ، فلأن مفروض الكلام أن الفتويين متعارضتان وقد ذكرنا في محلّه (٢) أن معنى التعارض تنافي مدلولي الدليلين بحسب الجعل ، لعدم إمكان جعلهما معاً فيكون كل منهما مكذباً للآخر. إذن لا يحتمل مطابقة كلتيهما للواقع لاستلزامه الجمع بين الضدّين أو النقيضين بل إحداهما غير مطابقة للواقع قطعاً وثانيتهما يحتمل أن تكون مطابقة للواقع كما يحتمل أن تكون مخالفة له وهذا بخلاف التخيير الواقعي في المثال فإن كلاّ من الفعلين واجب تخييري واقعاً.

وأمّا عدم كونه من التخيير الظاهري فللعلم بأن المكلف مأمور بالعمل بفتوى هذا المجتهد معيناً أو فتوى المجتهد الآخر ولا نحتمل أن يكون مخيراً واقعاً بين العمل بهذا أو بذاك ، ومع انتفاء الشك الّذي هو الموضوع للأحكام الظاهرية لا مجال للتخيير الظاهري بوجه.

وكيف كان فالتخيير في المقام من التخيير في الحجية بالمعنى المتقدم ، والمتعارضان حجتان شأنيتان فإذا اختار المكلف إحداهما فصارت فعلية ، وشككنا في أن الفتوى الثانية هل سقطت عن الحجية الشأنية ليزول بذلك التخيير أو أنها باقية بحالها ، فلنا أن نستصحب بقاءها على الحجية التخييرية إلاّ أنها معارضة باستصحاب الحجية الفعلية للفتوى المأخوذ بها ، بل باستصحاب الحكم الفرعي الّذي أدّت إليه الفتوى المذكورة فالاستصحابان متعارضان كما بيّناه. على أنه قد تقدم أن استصحاب الحجية الشأنية‌

__________________

(١) راجع ص ٩٦.

(٢) مصباح الأُصول ٣ : ٣٥٤.

١٠١

من الاستصحاب التعليقي ولا نقول به (١).

أدلة القول بعدم جواز العدول‌

واستدل للقول بعدم جواز العدول أيضاً بوجوه :

الأوّل : الاستصحاب‌ وتقريبه : أن الفتوى المأخوذ بها قد صارت حجة فعلية في حق المقلّد بأخذها ، أو أن الحكم الّذي أدت إليه الفتوى المأخوذ بها قد تعين عليه وحيث لا ندري أن الأخذ أو الالتزام علّة محدثة ومبقية أو أنه محدثة فحسب ، فنشك في بقاء الفتوى المأخوذ بها على حجيتها الفعلية وسقوطها عنها برجوع المقلّد إلى فتوى المجتهد الآخر ، أو نشك في بقاء الحكم الفرعي على تعينه فنستصحب حجيتها الفعلية أو بقاء الحكم على تعينه ، ومقتضى هذا عدم جواز العدول.

وقد ظهر مما بيّناه آنفاً عدم تمامية هذا الاستصحاب لأنه من الاستصحابات الجارية في الشبهات الحكمية وقد بنينا على عدم جريانها فلاحظ. ونزيده أن استصحاب الحكم الفرعي مضافاً إلى ما يرد عليه من المناقشة المتقدمة غير جارٍ في نفسه ، لأنه يعتبر في الاستصحاب أن يكون المكلف حينما يشك في البقاء متيقناً من المستصحب بحسب الحدوث وهذا غير متحقق في المقام ، لأن المكلف بعد ما عدل عن فتوى المجتهد الأول لا علم له بحجية فتواه في حقه لأن اليقين بالحجية إنما هو ما دام باقياً على تقليده.

الثاني : أن جواز العدول يستلزم العلم بالمخالفة القطعية في بعض المواضع‌ ، وذلك كما إذا أفتى أحد المجتهدين بوجوب القصر على من سافر أربعة فراسخ غير مريد للرجوع ليومه وأفتى الآخر بوجوب التمام فيه ، وقلّد المكلف أحدهما فقصّر في صلواته ثمّ عدل إلى فتوى ثانيهما فأتم فيها ، لأنه يستلزم العلم ببطلان صلواته المقصورة أو صلواته غير المقصورة لعدم مطابقتها للواقع. بل لو وقع ذلك في الصلاتين المترتبتين كما في الظهرين مثلاً على ما مثّل به بعضهم ، لعلمنا ببطلان الثانية علماً تفصيلياً إمّا لبطلان الصلاة الأُولى فالثانية أيضاً باطلة وإمّا لبطلان الثانية في نفسها.

__________________

(١) راجع ص ٩٧.

١٠٢

والجواب عن ذلك : أن هذه المناقشة لا تختص بالمقام بل تأتي بعينها في موارد العدول الواجب أيضاً ، كما إذا فرضنا في المثال أن المجتهد الثاني أعلم من الأول أو أن الأول مات أو جنّ أو أنه عدل عن فتواه بعد ما عمل المكلف على طبقها ، فإن العدول في تلك الموارد واجب ولا إشكال فيه.

والّذي ينبغي أن يقال في حل الشبهة في مطلق العدول : إن المكلف إذا عدل إلى الفتوى المتأخرة فمقتضى القاعدة الأولية أن يعيد أعماله الّتي أتى بها على طبق الفتوى المتقدمة ، لأن بالفتوى الثانية يستكشف عدم كونها مطابقة للواقع من الابتداء. نعم لو قام هناك دليل دلّ على صحة ما أتى به على طبق الحجة السابقة ، أي دلّ على إجزائها عن الواقع كما ذهب إليه بعضهم لم تجب عليه الإعادة لصحتها وصحة الأعمال اللاّحقة المترتبة على صحتها ، وهذا من غير فرق بين أن يكون العدول سبباً للعلم بالمخالفة التفصيلية أو الإجمالية وبين أن لا يكون. وأما لو لم يقم دليل على صحة الأعمال السابقة وإجزائها عن الواقع ، فلا مناص من الإعادة حتى لا يحصل العلم بالمخالفة من غير معذّر. والإجزاء وإن لم يقم دليل عليه على نحو الكلية إلاّ أن حديث لا تعاد على ما قدّمناه في أوائل الكتاب (١) يقتضي عدم وجوب الإعادة فيما إذا كان الخلل الواقع في الصلاة في غير الخمسة المستثناة في الحديث ، لأنه على ما حققناه هناك لا يختص بالناسي كما ذهب إليه شيخنا الأستاذ قدس‌سره بل يعم الجاهل القاصر أيضاً ومن أظهر موارده المقام ، هذا كلّه في وجوب الإعادة وعدمه.

وأما القضاء فحيث إنه بأمر جديد وموضوعه الفوت ، فلا مناص في وجوبه من إحراز الفوت وجداناً أو تعبداً ، فإذا فرضنا أن المجتهد المعدول إليه قد استند فيما أفتى به على خلاف فتوى المجتهد المعدول عنه ، إلى دليل حجة في مدلوله المطابقي والالتزامي ، فلا محالة يثبت به لوازمه ويحرز به الفوت ويجب على المكلف القضاء وأما لو شككنا في ذلك فمقتضى البراءة عدم وجوب القضاء ، فإن استصحاب عدم الإتيان بالواجب في وقته لا يثبت به الفوت.

وقد اتضح بما سردناه أن هذا الدليل إنما يقتضي وجوب الإعادة أو هي مع القضاء‌

__________________

(١) راجع ص ٣٣.

١٠٣

إذا لم يقم دليل على عدمه ولا دلالة له على عدم جواز العدول.

الثالث : أن العدول يستلزم أحد أمرين على سبيل منع الخلو‌ ولا يمكن المساعدة على شي‌ء منهما :

أحدهما : التبعيض في المسألة الكلّية.

وثانيهما : نقض آثار الوقائع السابقة.

وتوضيحه : أن أحد المجتهدين إذا أفتى بوجوب القصر على من سافر أربعة فراسخ غير قاصد للرجوع في يومه وأفتى الآخر بوجوب التمام فيه ، فإذا قلّد المكلف أحدهما فقصّر في صلاته ثمّ عدل إلى الآخر وأتم فيها ، فلا يخلو إما أن نلتزم بصحة كلتا صلاتية فمعنى ذلك أنه قلد أحد المجتهدين في واقعة من تلك المسألة وقلد الآخرين في الوقائع المستقبلة منها ، وهو معنى التبعيض في المسألة الكلّية ولا دليل على صحة التقليد في مثله. وإمّا أن نلتزم ببطلان صلاته الّتي أتى بها أوّلاً لأنه قد عدل إلى المجتهد الآخر في كلي المسألة ، ومعنى ذلك الالتزام بانتقاض آثار الأعمال الصادرة على طبق الفتوى السابقة ، ومعه يجب على المكلف إعادة الصلوات الّتي صلاّها قصراً لعدم مطابقتها للحجة الفعلية.

وفيه : أن مورد التقليد والفتوى إنما هو المسألة الكلّية دون كل جزئي من جزئياتها فلا يلزم من العدول التبعيض في المسألة الكلّية ، وإنما يلزم منه نقض آثار الوقائع المتقدمة وهو أمر لا مناص من الالتزام به لمخالفتها لما هو الحجة الفعلية على المكلف ، اللهُمَّ إلاّ أن يقوم دليل على إجزائها ، وهذا لا يقتضي عدم جواز العدول وليس في الالتزام به أي محذور ، كما هو الحال في موارد العدول الواجب على ما بيّناه في الوجه السابق فلاحظ.

الرابع : ما عن المحقق القمي قدس‌سره من دعوى الإجماع على عدم الجواز‌ (١). ويدفعه : أن الإجماع لو كان محصّلاً لم يكن قابلاً للاستدلال به فضلاً عمّا إذا كان من الإجماعات المنقولة الّتي لا نلتزم باعتبارها ، وذلك للقطع ولا أقل من احتمال أن‌

__________________

(١) القوانين ٢ : أواخر باب الاجتهاد والتقليد.

١٠٤

المجمعين استندوا في ذلك إلى أحد الوجوه المستدل بها في المسألة ، ومعه لا يكون الإجماع تعبدياً يستكشف به قول المعصوم عليه‌السلام.

على أن المسألة من المسائل المستحدثة الّتي لا سبيل فيها إلى استكشاف الاتفاق بل يمكن الجزم بعدم حصوله لذهاب جمع من المحققين إلى الجواز.

الخامس : قاعدة الاشتغال‌ ، وذلك لأن الأمر في المقام يدور بين التعيين والتخيير في الحجية والعقل قد استقل بلزوم الأخذ بما يحتمل تعينه ، وذلك للقطع بأن الفتوى المأخوذ بها حجة معتبرة في حق المكلف وإنما التردد في أنها حجة تعيينية أو تخييرية وذلك للشك في جواز العدول إلى فتوى المجتهد الآخر. إذن حجية فتوى المجتهد الأول مقطوع بها فيؤخذ بها ، وفتوى المجتهد الآخر مشكوكة الحجية والشك في الحجية يساوق القطع بعدمها. والسّر في ذلك أن الواقع منجّز على المكلفين من جهة العلم الإجمالي بالأحكام ، ومعه يستقل العقل بلزوم امتثالها وإتيانها أو إتيان ما جعله الشارع مبرئاً للذمّة تعبداً حتى يحصل به الأمن من العقاب ، فلو اقتصر المكلف حينئذٍ على ما لم يقطع بحجيته لم يكن مأموناً من العقاب لعدم علمه بامتثال الحكم الواقعي أو الإتيان بما هو مسقط له ومبرء لذمته.

ودعوى : أن استصحاب التخيير يثبت أن العمل على طبق الفتوى الثانية أيضاً مؤمّن ومبرء للذمّة ، فتكون معلوم الحجية كالفتوى السابقة كما عن شيخنا الأنصاري وغيره (١).

مندفعة بالمنع عن استصحاب الحجية التخييرية للوجوه المتقدمة ولا نعيد ، هذا كلّه بناء على ما هو الصحيح من أن حجية الحجج والأمارات إنما هي من باب الطريقية.

وأما بناءً على حجيتها من باب السببية والموضوعية فالأمر أيضاً كما ذكرناه ، لأن الفتويين المتعارضتين تدخلان في باب التزاحم حينئذٍ وبما أن الفتوى المأخوذ بها محتملة الأهمية تتقدم على الفتوى الثانية ، ويتعين الأخذ بها لأن الأهمية واحتمالها من‌

__________________

(١) رسالة في الاجتهاد والتقليد : ٨٧.

١٠٥

[١٢] مسألة ١٢ : يجب تقليد الأعلم مع الإمكان على الأحوط (*) (١).

______________________________________________________

المرجحات في باب التزاحم. وبعبارة اخرى المكلف في الحكمين المتزاحمين لما لم يتمكن من امتثالها معاً ، لم يمكن التحفظ على إطلاق خطابيهما إلاّ أنه لا موجب لسقوطهما على نحو الإطلاق ، لأنه متمكن من أحدهما ، إذن لا مناص من تقييد إطلاق كل منهما بعدم الإتيان بالآخر ونتيجته التخيير بينهما في مقام الامتثال ، وإذا فرضنا أن أحدهما أهم أو محتمل الأهمية لزم التحفظ على إطلاق الخطاب فيه وتقييد الإطلاق في الآخر المهم بصورة عدم الإتيان بالأهم أو محتمل الأهمية.

وهذا الوجه متين وعليه لا مسوّغ للعدول في مفروض الكلام بناءً على التخيير في الدليلين المتعارضين ، اللهُمَّ إلاّ أن يكون المجتهد الثاني اعلم لأن المكلف إن علم بالمخالفة بينهما وجب عليه العدول وإن لم يعلم بها جاز له البقاء على تقليد الأوّل كما جاز له العدول إلى المجتهد الأعلم كما مرّ.

وأما بناءً على ما هو الصحيح من التساقط عند التعارض فالفتويان تتساقطان ويجب على المكلف الاحتياط إن أمكن وإلاّ تخيّر بين العمل بهذا أو بذاك ، لتنزل العقل إلى الامتثال الاحتمالي عند العجز عن الامتثال الجزمي كلما تقدم ، وهذا تخيير في مقام الامتثال وليس من التخيير في المسألة الأُصولية لمكان حجية إحداهما شرعاً.

وجوب تقليد الأعلم

(١) هذا هو المعروف بين أصحابنا قدس‌سرهم وعن ظاهر السيد في ذريعته انه من المسلّمات عند الشيعة. بل عن المحقق الثاني دعوى الإجماع عليه ، ونسب إلى جمع ممّن تأخر عن الشهيد الثاني قدس‌سره عدم الوجوب وجواز الرجوع إلى غير الأعلم ، وتفصيل الكلام في ذلك يقع في موردين :

أحدهما : فيما يستقل به عقل العامي في نفسه أي من غير تقليد في المسألة وأن وظيفته هل هي الرجوع إلى تقليد الأعلم أو التخيير بينه وبين تقليد غير الأعلم؟

__________________

(*) بل وجوبه مع العلم بالمخالفة ولو إجمالاً فيما تعم به البلوى ، هو الأظهر.

١٠٦

وثانيهما : فيما تقتضيه وظيفة المجتهد حسبما يستظهره من الأدلة الاجتهادية وأنه هل يمكنه الإفتاء بجواز الرجوع إلى غير الأعلم أو ليس له سوى الحكم بوجوب تقليد الأعلم؟

أمّا المورد الأوّل : فلا ينبغي التوقف في أن العامّي يستقل عقله بلزوم الرجوع إلى الأعلم عند العلم بالمخالفة بينه وبين غير الأعلم في الفتوى ، وذلك لدوران الأمر بين أن تكون فتوى كل من الأعلم وغيره حجة تخييرية ، وبين أن تكون فتوى الأعلم حجة تعيينية للعلم بجواز تقليد الأعلم على كل حال سواء استند في أصل مشروعيته إلى الارتكاز وبناء العقلاء أم استند إلى دليل الانسداد ، ففتوى الأعلم إما أنها في عرض فتوى غير الأعلم فالمكلف يتخير في الرجوع إلى هذا وذاك أو أنها متقدمة على غيرها ، وحيث إن فتواه متيقنة الحجية وفتوى غير الأعلم مشكوكة الاعتبار فيستقل عقل العامّي بوجوب تقليد الأعلم وعدم جواز الرجوع إلى غيره للشك في حجية فتواه وهو يساوق القطع بعدمها ، فإن غير ما علم حجيته يقترن دائماً باحتمال العقاب ، والعقل يستقل بلزوم دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب.

إذن النتيجة وجوب تقليد الأعلم حسبما يدركه عقل العامّي واجتهاده ، وقد قدّمنا أن مسألة جواز التقليد ليست تقليدية.

وأمّا المورد الثاني : فتفصيل الكلام فيه أن للمسألة صوراً ثلاثاً :

الاولى : ما إذا علمت موافقة الأعلم وغير الأعلم في الفتوى بجميع خصوصياتها.

الثانية : ما إذا علمت مخالفتهما في الفتوى كما إذا أفتى الأعلم بوجوب شي‌ء وأفتى غير الأعلم بحرمته أو بإباحته.

الثالثة : ما إذا شككنا في ذلك ولم يعلم موافقتهما أو مخالفتهما.

أما الصورة الأُولى : أعني صورة العلم بالموافقة فهي وإن كانت من الندرة بمكان إلاّ أنها لو اتفقت في مورد لم يجب فيها تقليد الأعلم بوجه ، وذلك لأن الحجية على ما تقدم من أدلتها إنما ثبتت لطبيعي فتوى العالم أو الفقيه على نحو صرف الوجود والعامّي إذا عمل بفتياهما فقد عمل على طبق فتوى الفقيه ، وهذا يكفي في الامتثال ، إذ لم يقم دليل على وجوب تعيين المجتهد المقلد له وتمييزه ، فإن حال المقام حال ما إذا قام‌

١٠٧

خبران على وجوب شي‌ء فإن المجتهد إذن أفتى بالوجوب مستنداً إلى الجامع بين الخبرين فقد استند إلى الحجة وعمل على طبقها من دون أن يجب عليه تعيين ما عمل به وأنه أيهما.

وأما الصورة الثانية : أعني ما إذا علمت المخالفة بينهما ولو على سبيل الإجمال ، كما إذا علم بمخالفتهما في المسائل الّتي هي محل الابتلاء ، وكان فتوى غير الأعلم على خلاف الاحتياط ، أو كان كل منهما موافقاً للاحتياط من جهة ومخالفاً له من جهة فقد قدّمنا أن المعروف بين أصحابنا وجوب تقليد الأعلم ، وعن شيخنا الأنصاري قدس‌سره أنه لم ينقل فيه خلاف عن معروف (١). بل ادعى بعضهم عليه الإجماع. وذهب جماعة ومنهم صاحب الفصول إلى جواز الرجوع إلى غير الأعلم (٢).

أدلّة عدم وجوب تقليد الأعلم‌

واستدل عليه بوجوه : عمدتها التمسك بإطلاق الأدلة الواردة في جواز الرجوع إلى الفقيه وحجية رأيه وفتواه ، فإن قوله عزّ من قائل ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) (٣) والأخبار الآمرة بالرجوع إلى يونس بن عبد الرّحمن أو زكريا بن آدم وأمثالهما ، وكذا سائر الأدلة الدالة على جواز تقليد الفقيه ، لم يتقيد بما إذا كان العالم أو الفقيه أعلم من غيره. بل مقتضى إطلاقها جواز الرجوع إلى كل من الأعلم وغيره إذا صدق عليه عنوان العالم أو الفقيه أو غيرهما من العناوين الواردة في الروايات علمت مخالفتهما أو موافقتهما في الفتوى أم لم تعلم ، هذا.

بل ربّما يقال : إن الغالب بين أصحابهم عليهم‌السلام الّذين أرجعوا الناس إلى السؤال عنهم في الأخبار المتقدمة ، هو المخالفة في الفتوى لندرة التوافق بين جمع كثير ومع غلبة الخلاف لم يقيّدوا عليهم‌السلام الرجوع إليهم بما إذا لم تكن فتوى من أرجع إليه مخالفة لفتوى غيره من الفقهاء ، مع العلم العادي باختلافهم أيضاً في‌

__________________

(١) رسالة في الاجتهاد والتقليد : ٧١.

(٢) الفصول الغروية : ٤٢٣.

(٣) التوبة ٩ : ١٢٢.

١٠٨

الفضيلة ، لعدم احتمال تساوي الجميع في العلمية والفقاهة ، وهذه قرينة قطعية على أن الأدلة المتقدمة مطلقة ، وأن فتوى غير الأعلم كفتوى الأعلم في الحجية والاعتبار وإن كانت بينهما مخالفة.

وفيه : أن الغلبة المذكورة لا يمكن أن تكون قرينة على المدعى ، والوجه فيه أن المخالفة في الفتوى وإن كانت كثيرة ، بل هي الغالب كما ذكر وكذلك اختلافهم في الفضيلة والعلم ، إلاّ أن العلم بالمخالفة أمر قد يكون وقد لا يكون ولم يفرض في شي‌ء من الأخبار الآمرة بالرجوع إلى الرواة المعيّنين علم السائل بالخلاف ، وكلامنا في الصورة الثانية إنما هو في فرض العلم بالمخالفة بين الأعلم وغيره ، فالأخبار المذكورة لو دلت فإنما تدل على المدعى بالإطلاق لا أنها واردة في مورد العلم بالمخالفة لتكون كالنص في الدلالة على حجية فتوى غير الأعلم في محل الكلام ، فليس في البين إلاّ الإطلاق.

ويرد على التمسك بالإطلاق : انا ذكرنا غير مرّة في البحث عن حجية الخبر والتعادل والترجيح (١) وغيرهما ، أن إطلاق أدلّة الحجية لا يشمل المتعارضين ولا مجال فيهما للتمسك بالإطلاق ، بلا فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية كما إذا ورد خبران دلّ أحدهما على وجوب شي‌ء والآخر على حرمته أو قامت بينة على طهارة شي‌ء والأُخرى على نجاسته ، فإنه لا يشمل أدلة اعتبار الخبر أو البينة أو غيرهما من الحجج والأمارات شيئاً منهما ، وسرّه أن شمولها لكلا المتعارضين يستلزم الجمع بين الضدين أو النقيضين ، وشمولها لأحدهما المعيّن دون الآخر بلا مرجح ولأحدهما المخيّر أعني أحدهما لا بعينه لا دليل عليه ، لأن مفاد أدلة الاعتبار إنما هو الحجية التعيينية لا حجية هذا أو ذاك. إذن مقتضى القاعدة هو التساقط في كل دليلين متعارضين ، اللهُمَّ إلاّ أن يقوم دليل على ترجيح أحدهما أو على التخيير كالأخبار العلاجية وهو مختص بالخبرين المتعارضين ، ولا دليل عليه في سائر الدليلين المتعارضين ، والمقام من هذا القبيل فاطلاقات أدلة التقليد غير شاملة لفتوى الأعلم وغيره مع المعارضة ، بل لا بدّ من الحكم بتساقطهما كما في غير المقام ، هذا.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٣٦٦.

١٠٩

وقد يقال كما تعرّضنا له في محلّه (١) أن القاعدة تقتضي التخيير بين المتعارضين وذلك لأن الأمر يدور بين رفع اليد عن أصل الدليلين وبين رفع اليد عن إطلاقيهما مع التحفظ على أصلهما ومتى دار الأمر بينهما يتعين الثاني لا محالة ، لأنه لا موجب لرفع اليد عن الدليلين بالكلية. فإذا ورد خبران دلّ أحدهما على وجوب القصر في مورد مثلاً ودلّ الآخر على وجوب التمام فيه ، لم يمكننا العمل بهما معاً للعلم الخارجي بعدم وجوب صلاة واحدة في يوم واحد مرتين ، فيدور الأمر لا محالة بين رفع اليد عن أصل الدليلين والحكم بتساقطهما وبين التحفظ على أصليهما ورفع اليد عن إطلاقيهما المقتضي للتعيين وقد مرّ أن الثاني هو المتعين حينئذٍ فإن الأوّل بلا موجب ، ونتيجة الأخذ بالوجوب في كليهما ورفع اليد عن إطلاقه هو الحكم بوجوب كل منهما مخيراً. بل الأمر كذلك حتى في الدليل الواحد بالإضافة إلى أفراد موضوعه ، كما إذا ورد أكرم العلماء وعلمنا خارجاً أن زيداً وصديقه مثلاً لا يشملهما حكم واحد أبداً ، فدار الأمر بين الحكم بعدم وجوب إكرامهما للتساقط وبين التحفظ على الوجوب في كليهما ورفع اليد عن إطلاقهما في التعيين ، فإنه يتعيّن حينئذٍ الأخير وهو يقتضي الحكم بوجوب كل منهما تخييراً. ومعه لا مقتضي في المقام لرفع اليد عن حجية فتوى الأعلم وغيره أعني الحكم بتساقطهما ، بل لا بدّ من الأخذ بالحجية في كلتا الفتويين ورفع اليد عن إطلاقهما المقتضي للتعيين ، وهذا ينتج حجية كل منهما على وجه التخيير.

ويرده : أن موارد التعارض بين الدليلين الّتي منها المقام لا يمكن قياسها بما إذا كان لكل من الدليلين نصاً وظاهراً وأمكن الجمع بينهما بحمل الظاهر من كل منهما على نص الآخر فإن القياس مع الفارق ، إذ في تلك الموارد لا مقتضي لرفع اليد عن كلا الوجوبين ، بل يؤخذ بنص كل من الدليلين في الوجوب ويطرح ظاهرهما في التعيين وتكون النتيجة هو الوجوب التخييري كما مرّ. وأما في أمثال المقام الّتي ليس للدليلين فيها نص وظاهر بل دلالتهما بالظهور والإطلاق ، فلا مناص من الحكم بتساقطهما فإن الحجية في المتعارضين إذا كانت بالإطلاق أعني إطلاق أدلة الحجية لشمولها لهذا وذاك وهذه الفتيا وتلك ، فحيث إن لكل منهما إطلاقاً من جهة أُخرى أيضاً وهي حجية كل‌

__________________

(١) نفس المصدر.

١١٠

منهما أُخذ بالآخر أم لم يؤخذ به ، ولا يمكن الأخذ بإطلاقهما من كلتا الجهتين لاستلزامه الجمع بين الضدين أو النقيضين ، كان رفع المعارضة بينهما منحصراً برفع اليد عن إطلاق أحدهما أو كليهما وهذا يتصوّر بوجوه :

أحدها : أن يرفع اليد عن إطلاق الأدلة الدالة على الحجية في أحدهما دون الآخر ، بأن نلتزم بحجية أحد المتعارضين دون الآخر رأساً.

وثانيها : أن يتحفظ بإطلاق الأدلة الدالة على الحجية في كلا المتعارضين فيلتزم بحجية فتوى غير الأعلم مطلقاً سواء أُخذ بفتوى الأعلم أم لم يؤخذ بها ، وبحجية فتوى الأعلم مقيدة بما إذا لم يؤخذ بفتوى غير الأعلم بأن تكون حجية إحداهما مطلقة وحجية الأُخرى مقيدة.

ثالثها : عكس الصورة الثانية بأن تكون حجية فتوى الأعلم مطلقة أُخذ بفتوى غير الأعلم أم لم يؤخذ بها ، وحجية فتوى غير الأعلم مقيدة بما إذا لم يؤخذ بفتوى الأعلم.

رابعها : أن يتحفظ على إطلاق الأدلة في كليهما فيلتزم بحجية كل منهما مقيدة بما إذا لم يؤخذ بالآخر.

وحيث إن شيئاً من ذلك لا مرجح له ، فلا يمكننا التمسك بالإطلاق في شي‌ء من المتعارضين لا في أصل الحجية ولا في إطلاقها وتقييدها ، وهو معنى التساقط كما قدّمناه.

الوجه الثاني : أن وجوب تقليد الأعلم عسر على المكلفين‌ وذلك للحرج في تشخيص مفهوم الأعلم وفي تمييز مصاديقه وفي وجوب تعلم آرائه وفتاواه ، وهذا لأنه لو وجب تقليد الأعلم وجب على كل مكلف أن يتعلم فتاواه ويحصّل آراءه من مظانها ، وهذا فيه حرج على أهل البلاد فضلاً عن سكنة القرى والبوادي ، فالاقتصار على تقليد الأعلم فيه حرج عظيم وهو مرفوع في الشريعة المقدّسة.

والجواب عنه : أن شيئاً من تلك المراحل لا يستلزم الحرج ، أما تشخيص مفهوم الأعلم فلما يأتي من أن المراد به هو من كان أقوى استنباطاً للأحكام وأمتن استنتاجاً لها من أدلتها ، وهذا يتوقف على معرفته بالقواعد والكبريات وعلى حسن سليقته في‌

١١١

تطبيقها على صغرياتها ، ولا يكفي أحدهما ما لم ينضم إليه الآخر ، فالأعلم في الأحكام الشرعية كالأعلم في بقية الصنائع والعلوم كالهندسة والطب وغيرهما ، فكما أنه لا حرج في تشخيص مفهوم الأعلم في تلك الموارد فإن الأعلم فيها هو من علم بقواعدها وكبرياتها وكان له حسن سليقة في تطبيقها على مواردها وصغرياتها ، ولا يكفي فيه مجرد القوة على الكبريات أو الإحاطة بالفروع بل يتوقف على أن يكون الطبيب مثلاً مع ما له من الإحاطة بجميع أقسام المرض وأدويتها وطرق معالجتها متمكناً من تطبيق تلك القواعد على مواردها ، فكذلك الحال في علم الفقه كما بيّناه.

إذن لا حرج في تشخيص مفهوم الأعلم بوجه. وأما تمييز مصاديقه وأفراده فهو أيضاً ممّا لا حرج فيه ، وذلك فإن الأعلمية نظير غيرها من الأُمور تثبت بالعلم الوجداني وبالشياع المفيد له وبالبينة ، وهذا لا يمسّه أي حرج.

وأما تعلم فتاواه فلأنه يتيسّر بأخذ رسالته ، ونشرها من السهولة بمكان وبالأخص في زماننا هذا وما يقاربه ، وهذا لا نرى فيه حرجاً بوجه. على أنا لا نلتزم بوجوب الرجوع إلى الأعلم مطلقاً بل في صورة العلم بالمخالفة بينه وبين غير الأعلم في الفتوى الّتي هي محل الكلام ، والعلم بالمخالفة إنما يتحقق فيما إذا علم فتوى كليهما ، وهذا كما ترى ليست فيه شائبة أي حرج.

الوجه الثالث : سيرة المتشرعة‌ ، حيث جرت على رجوعهم فيما يبتلون به من المسائل إلى أي شخص عالم بحكمها من غير أن يفحصوا عن الأعلم بتلك المسألة فلو كان تقليد الأعلم واجباً عندهم لزم عليهم الفحص عن وجوده.

وفيه : أنه إن أُريد بذلك صورة عدم العلم بالمخالفة بين فتوى الأعلم وفتوى غير الأعلم ، فلا يبعد دعوى قيام السيرة فيها على عدم الفحص عن الأعلم. وأما لو أُريد بذلك صورة العلم بالمخالفة بينهما كما هي محل الكلام ، فلا مجال فيها لدعوى السيرة بوجه. بل هي دعوى ظاهرة الفساد فإن الأمر بالعكس والسيرة جارية على الرجوع إلى الأعلم عند العلم بالمخالفة كما هو المشاهد في غير الأحكام ، مثلاً إذا عين الطبيب دواءً وخالفه في ذاك من هو أعلم منه ، لم يعتمدوا على معالجته هذه بوجه وإنما يتبعون رأي الأعلم فلاحظ.

١١٢

الوجه الرابع : أن الأئمة عليهم‌السلام قد أرجعوا جماعة من العوام إلى أشخاص معينين من أصحابهم‌ كيونس بن عبد الرحمن ، ومحمد بن مسلم وغيرهما مع أنهم عليهم‌السلام موجودون بين الناس ، فإذا كانت فتاوى هؤلاء حجة معتبرة مع وجود نفس الامام عليه‌السلام كانت فتاواهم حجة عند وجود الأعلم بطريق أولى ، فإن الأعلم لا يزيد عن نفس الإمام عليه‌السلام.

والجواب عنه : أن الاستدلال بذلك إنما يتم فيما إذا قلنا بوجوب تقليد الأعلم مطلقاً ، وأما لو خصصنا وجوبه بصورة العلم بالمخالفة بين الأعلم وغيره كما هو الصحيح على ما يأتي بيانه فلا وقع لهذا الاستدلال بوجه ، إذ الإمام عليه‌السلام إنما أرجع إليهم السائل لعدم العلم بمخالفتهم معه عليه‌السلام فيما يفتون به ، ولا يحتمل أن يرجعه إليهم مع العلم بمخالفتهم مع الإمام عليه‌السلام فالاستدلال بالأولوية ساقط.

هذا تمام الكلام في الوجوه المستدل بها على حجية فتوى غير الأعلم وقد عرفت ضعفها ، ولا بدّ بعد ذلك من التكلم فيما استدل به على وجوب تقليد الأعلم ، فإن تمّ فهو وإلاّ فلا مناص من المراجعة إلى ما يقتضيه الأصل العملي في المسألة.

أدلة وجوب تقليد الأعلم‌

وقد استدل على وجوب تقليد الأعلم بوجوه :

الأوّل : أن مشروعية التقليد في الأحكام الشرعية إنما أثبتناها بالكتاب والسنة أو بدليل الانسداد أو السيرة‌ كما مرّ ، وقد أشرنا أن المطلقات الواردة في الكتاب والأخبار غير شاملة للمتعارضين ، فإذا سقطت فتوى غير الأعلم عن الحجية بالمعارضة يتعيّن الرجوع إلى الأعلم وذلك للعلم بعدم وجوب الاحتياط. وأما دليل الانسداد فلا يمكن أن يستنتج منه جواز تقليد غير الأعلم فإن النتيجة ليست كلّية ، وإنما يستنتج منه حجية فتوى عالم ما ، فإن العقل بعد المقدمات قد استقل أن الشارع نصب طريقاً للعامّي لا محالة ، وليس ذلك هو الاحتياط لأنه غير ميسور في حقه ، ولا أنه الظن لأنه لا ظن للمقلد أو لا أثر له ، فيتعيّن أن يكون الطريق فتوى عالم ما ، والقدر المتيقن‌

١١٣

فتوى الأعلم فيحتاج حجية فتوى غير الأعلم إلى دليل.

وأما السيرة العقلائية فهي غير جارية على الرجوع إلى غير الأعلم ، بل قد جرت على الرجوع إلى الأعلم عند العلم بالمخالفة كما هو المشاهد في غير الأحكام من الحِرف والعلوم ، وحيث إن تلك السيرة لم يردع عنها في الشريعة المقدسة فنستكشف بذلك أنها ممضاة عند الشارع.

ويستثنى من ذلك ما إذا كانت فتوى الأعلم على خلاف الاحتياط وكانت فتوى غير الأعلم موافقة له ، كما إذا أفتى الأعلم بالإباحة في مورد وأفتى غير الأعلم بالوجوب ، فإن العقلاء في مثل ذلك وإن كانوا يرجعون إلى غير الأعلم أحياناً إلاّ أنه لا لأن فتواه حجة عندهم ، بل لأنه عمل بالاحتياط فيأتون به برجاء درك الواقع. إذن لا يمكن إسناد ما أفتى به غير الأعلم إلى الله ، والإتيان به بقصد الأمر والوجوب. وهذا الوجه هو الّذي نعتمد عليه في الحكم بوجوب تقليد الأعلم في محل الكلام.

الثاني : ما عن المحقق الثاني قدس‌سره من دعوى الإجماع على عدم جواز الرجوع إلى غير الأعلم.

ويدفعه : أن ذلك من الإجماعات المنقولة وقد بيّنا في محلّه أن الإجماعات المنقولة لا اعتبار بها. على أن المسألة لا يحتمل أن تكون إجماعية كيف وقد ذهب جمع إلى جواز تقليد المفضول كما مرّ. بل لو سلّمنا أن المسألة اتفاقية أيضاً لا يمكننا الاعتماد عليه لاحتمال استنادهم في ذلك إلى بعض الوجوه المستدل بها ومعه لا يكون الإجماع تعبدياً يستكشف به رأي المعصوم عليه‌السلام.

الثالث : الروايات :

منها : مقبولة عمر بن حنظلة الّتي رواها المشايخ الثلاثة قدس‌سرهم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما ، إلى أن قال : فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم فقال : الحكم‌

١١٤

ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث » (١) حيث دلت على وجوب تقديم الأفقه على غيره.

ويرد على الاستدلال بهذه الرواية وجوه :

الأوّل : أن الرواية ضعيفة السند بعمر بن حنظلة ، إذ لم يرد في حقه توثيق ولا مدح ، وإن سميت روايته هذه بالمقبولة وكأنها مما تلقّته الأصحاب بالقبول وإن لم يثبت هذا أيضاً. نعم ، ورد في المواقيت عن يزيد بن خليفة أنه قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت فقال أبو عبد الله عليه‌السلام إذاً لا يكذب علينا » (٢) فلو كانت هذه الرواية معتبرة لدلتنا على أن الرجل موثق غايته كيف وموثّقه الإمام عليه‌السلام إلاّ أن تلك الرواية أيضاً ضعيفة فإن يزيد هذا كعمر لم تثبت وثاقته.

الثاني : أن الرواية أجنبية عن المقام لأن ترجيحه عليه‌السلام بالأفقهية وغيرها من الصفات الواردة في الرواية إنما هو في الحكمين ، ومن الظاهر أن المرافعات والخصومات لا مناص من فصلها ولا معنى فيهما للحكم بالتخيير لاستلزامه بقاء الترافع بحاله ، ومعه كيف يصح التعدي عن فصل الخصومات الّذي لا مناص عنه في موارد الترافع إلى أمثال المقام الّتي لا مانع فيها من الحكم بالتخيير ، فالرواية كما لا يتعدى عن موردها إلى الروايتين المتعارضتين ، كذلك لا يمكن التعدي عنه إلى الفتويين المتعارضتين لجواز كون المكلف مخيراً في الموردين.

ويؤكّد ما ذكرناه أن الإمام عليه‌السلام قد رجّح أحدهما بالأورعية والأصدقية أيضاً ، وهذا كما ترى لا يجري في المقام للقطع بأن الأصدقية أو الأورعية لا تكون مرجّحة في الروايتين أو الفتويين المتعارضتين ، إذ لا أثر للأصدقية في حجية الفتوى بوجه. نعم ، ذهب بعضهم إلى تقديم الأورع في المجتهدين المتساويين في الفضيلة ويأتي عليه الكلام في محله إن شاء الله (٣).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ١٣٣ / أبواب المواقيت ب ٥ ح ٦.

(٣) راجع ص ١٤٠.

١١٥

والمتحصل : أن الأفقهية وبقية الأوصاف الواردة في الرواية من مرجحات الحكمين فهي راجعة إلى القضاء وأجنبية عن باب الفتوى بالكلّية.

الثالث : أن الأعلمية المبحوث عنها في المقام إنما هي الأعلمية المطلقة لبداهة أن الأعلمية النسبية والإضافية غير كافية في تعيّن الرجوع إليه ، فإن كون شخص أعلم من غيره مع وجود من هو أعلم من كليهما لا يترتب عليه أي أثر في المقام ، والأفقهية الّتي ذكرت مرجحة في الرواية إنما هي الأفقهية الإضافية لقوله عليه‌السلام الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما ، ومعناه أن كون أحد الحاكمين أفقه من غيره مرجح في باب القضاء ، إذ لا يعتبر في الحاكم الأعلمية المطلقة ، وأين هذا من الأعلمية فيما نحن فيه ، فالأعلمية المرجّحة في باب القضاء وتعارض الحاكمين غير الأعلمية المعتبرة في المقام.

ومنها : ما عن علي عليه‌السلام في عهده إلى مالك الأشتر : « اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك » (١).

وهذا على فرض العمل به في مورده ، أجنبي عن اعتبار الأعلمية في محل الكلام لأنه إنما دلّ على اعتبار الأفضلية الإضافية في باب القضاء وأن القاضي يعتبر أن يكون أفضل بالإضافة إلى رعية الوالي المعيّن له ، ولا يعتبر فيه الأفضلية المطلقة. وهذا أيضاً يختص بباب القضاء ولا يأتي في باب الإفتاء ، لأن المعتبر فيه هو الأعلمية المطلقة على ما اتضح مما بيّناه في الجواب عن الاستدلال بالمقبولة المتقدمة.

ومنها : ما رواه في البحار عن كتاب الاختصاص قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من تعلّم علماً ليماري به السفهاء أو ليباهي به العلماء أو يصرف به الناس إلى نفسه يقول : أنا رئيسكم فليتبوأ مقعده من النار ، إن الرئاسة لا تصلح إلاّ لأهلها فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة » (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة ٤٣٤.

(٢) البحار ٢ : ١١٠.

١١٦

وهذه الرواية لو لم نناقش في دلالتها بأنها راجعة إلى دعوى الخلافة فإنها الرئاسة الّتي لا تصلح إلاّ لأهلها ، وإلاّ فالرئاسة المجردة عن دعوى الخلافة والإمامة لا يشترط فيها الأعلمية بوجه ، فهي من الأحاديث النبوية الواصلة إلينا مرسلة والمراسيل غير صالحة للاعتماد عليها أبداً.

ومنها : ما رواه أيضاً في البحار عن الجواد عليه‌السلام أنه قال مخاطباً عمه : « يا عمّ إنه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك : لم تفتي عبادي بما لم تعلم وفي الأُمة من هو أعلم منك » (١).

وهذه الرواية وإن كانت تدل على اعتبار الأعلمية المطلقة في المفتي إلاّ أنها ضعيفة سنداً لإرسالها. إذن لا يمكن الاستدلال بها بوجه ، فالاستدلال بالأخبار أيضاً ساقط.

الرابع : أن فتوى الفقيه إنما اعتبرت للطريقية إلى الأحكام الواقعية ، وحيث إن فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع من فتوى غير الأعلم لسعة إحاطته واطلاعه على ما لا يطلع به غيره من المزايا والخصوصيات ، فلا مناص من الأخذ بها دون فتوى غير الأعلم.

بل ذكر بعض مشايخنا المحققين : أن نسبة العالم إلى الأعلم نسبة الجاهل إلى العالم إذ المراد بالأعلمية ليس هو قوة العلم وشدته نظير بعض العوارض النفسية والخارجية ، فيقال : زيد أبيض من عمرو أو أنه أشجع أو أسخى من فلان ويريدون به شدة بياضه وقوة شجاعته بالإضافة إلى عمرو ، وهذا بخلاف المقام وذلك لأن علم الأعلم وغير الأعلم بالنسبة إلى الوظائف الظاهرية على حد سواء وليس ذلك أقوى في أحدهما من الآخر. نعم ، يتصوّر هذا في المعارف فيقال : إن معرفة زيد بالله أو يوم المعاد أشد وأقوى من معرفة عمرو مثلاً لوصول أحدهما مرتبة عين اليقين والآخر مرتبة علم اليقين ، وأما الأحكام الشرعية فلا يتصوّر فيها ذلك لأن علم كل منهما على حدّ سواء ، وليس العلم في أحدهما أشد وأقوى منه في الآخر بحيث لا يزول بتشكيك المشكك لقوة مبنى عرفانه.

__________________

(١) البحار ٥٠ : ١٠٠.

١١٧

بل المراد بالأعلمية أن يكون أحد المجتهدين أقوى وأدق نظراً في تحصيل الحكم عن مداركه وأمتن استنباطاً لها عن مبادئ تحصيله بأن يكون أعرف بالقواعد والكبريات وكيفية تطبيقها على صغرياتها لحسن سليقته. إذن فالأعلم مطلع على جملة من المزايا والخصوصيات الدخيلة في عرفانه لكيفية تطبيق الكبريات على صغرياتها وفي حسن سليقته بخلاف غير الأعلم ، فنسبة الأعلم إلى غير الأعلم كنسبة العالم إلى الجاهل ، ولا مسوّغ لتقليد الجاهل بوجه (١).

ويرد على ذلك : أن المراد بالأقربية إن كان هو الأقربية الطبعية والاقتضائية بمعنى أن الأعلم من شأنه أن تكون فتواه أقرب إلى الواقع من فتوى غيره ، فالصغرى صحيحة والأمر كما ادعى إلاّ أنه لا كبرى تنطبق على تلك الصغرى ، حيث إن الأقربية الطبعية لم تجعل ملاكاً للتقليد ولا لوجوبه.

وإن أُريد بالأقربية ، الأقربية الفعلية بأن تكون الفتيا الصادرة عن الأعلم أقرب إلى الواقع بالفعل بالإضافة إلى فتوى غير الأعلم ، فالصغرى غير مسلمة ولا مثبت لدعوى الأقربية ، إذ لا يمكن أن يقال : إن فتيا الأعلم أقرب إلى الواقع مطلقاً ، كيف وقد يكون فتوى غير الأعلم موافقة للمشهور ولفتيا الأساطين والمحققين كشيخنا الأنصاري وصاحب الجواهر وغيرهما ممن هو أعلم من الحي بمراتب ، ومع كون فتوى الأعلم على خلاف المشهور كيف تكون أقرب إلى الواقع من فتوى غير الأعلم.

هذا ثمّ لو تنزلنا عن ذلك وبنينا على أن فتوى الأعلم أقرب من فتوى غيره ، إلاّ أنّا نطالب الدليل على أن الأقربية مرجحة ، ولم يقم أي دليل على أن الملاك في التقليد ووجوبه هو الأقربية إلى الواقع ، إذ العناوين المأخوذة في لسان الأدلة كعنوان العالم والفقيه وغيرهما صادقة على كل من الأعلم وغير الأعلم وهما في ذلك سواء لا يختلفان وهذا يكفي في الحكم بجواز تقليدهما.

وعلى الجملة أن الأقربية كما أنها ليست مرجحة في الروايتين المتعارضتين ومن هنا قد تعارض الصحيحة مع الموثقة ، ولا في البينتين المتنافيتين لوضوح أن إحداهما‌

__________________

(١) رسالة في الاجتهاد والتقليد ( الأصفهاني ) : ٥٤.

١١٨

لا تتقدّم على الأُخرى بمجرّد كونها أقرب إلى الواقع كما إذا كانت أوثق من الأُخرى مع أن حجية الطرق والأمارات من باب الطريقية إلى الواقع ، فكذلك الحال في الفتويين المتعارضتين كما عرفت.

وأما ما أفاده شيخنا المحقق قدس‌سره من أن نسبة العالم إلى الأعلم نسبة الجاهل إلى العالم ، فهو وإن كان صحيحاً على ما أوضحناه آنفاً إلاّ أنه بالإضافة إلى المزايا والخصوصيات الدخيلة في حسن السليقة والاستدلال ، وأما بالإضافة إلى الاستنباط أصله وردّ الأصل إلى الفرع فهما على حدّ سواء ، كيف وكلاهما مجتهد ومن ثمّة لا يسوغ له الرجوع إلى الأعلم بل قد يخطئه ، وجاز تقليده على تقدير فقد الأعلم. والمتحصل : أن العالم والأعلم بالإضافة إلى العناوين الواردة في أدلة التقليد ، متساويان ولا موجب لتقديم أحدهما على الآخر.

فالصحيح في الحكم بوجوب تقليد الأعلم ، هو السيرة العقلائية الّتي استكشفنا إمضاءَها من عدم الردع عنها في الشريعة المقدسة.

الشك في حجية فتوى غير الأعلم‌

إذا أثبتنا حجية فتوى غير الأعلم عند العلم بالمخالفة بينه وبين الأعلم في الفتوى أو أثبتنا عدم حجيتها فلا كلام ، وأما لو شككنا في حجيتها وعدمها فهل الأصل يقتضي التخيير بينهما أو أنه يقتضي الأخذ بما يحتمل تعينه وهو فتوى الأعلم؟ وهذا بعد الفراغ عن أن العامّي غير مكلف بالاحتياط لعدم قدرته عليه أو لاستلزامه سدّ باب التقليد بالكلّية ، فالكلام إنما هو بعد العلم بعدم وجوب الاحتياط على العامّي.

فقد يقال : إن الأصل عند دوران الأمر بين الحجية التعيينية والتخييرية يقتضي التخيير ، فإن حاله حال دوران الأمر بينهما في الأحكام فكما أن الأمر لو دار بين كون صلاة الجمعة مثلاً واجبة تعيينية وبين أن تكون واجبة تخييرية بأن يكون المكلف مخيراً بين صلاتي الجمعة والظهر ، دفعنا احتمال التعين في الجمعة بالبراءة إذ الإلزام بالجامع معلوم والشك في اعتبار الخصوصية الزائدة عليه أعني خصوصية الجمعة وحيث إنه تقييد وكلفة زائدة فيدفع وجوبها بالبراءة ، فكذلك الحال في المقام فإن‌

١١٩

أصل الحجية الجامعة بين التعيينية والتخييرية معلوم وخصوصية إحداهما مشكوك فيها والبراءة تقتضي عدمها. إذن النتيجة أن الحجية تخييرية وللمكلف أن يرجع إلى فتوى الأعلم أو يرجع إلى فتوى غير الأعلم.

والصحيح أن الأصل عند دوران الأمر بين الحجية التعيينية والحجية التخييرية يقتضي الأخذ بما يحتمل تعينه ، ولا وجه لقياسه بما لو دار الأمر بين التعيين والتخيير في الأحكام لأنه مع الفارق ، وتوضيح ذلك : أن الحجية قد يراد بها تنجز الواقع فحسب كما إذا لم يكن الواقع منجّزاً على المكلف لو لا الحجة الواصلة إليه ، فإن المورد لولا تلك الحجة مورد لأصالة الإباحة أو الطهارة أو غيرهما ، ولم يتنجز الواقع على المكلف إلاّ بما قامت عنده من الحجة فلم يترتب عليها سوى تنجز الواقع فحسب.

وقد يراد بها التعذير فقط كما إذا كان الواقع منجّزاً على المكلف مع قطع النظر عن قيام الحجة عنده ، إما بالعلم الإجمالي الكبير لأنه يعلم أن في الشريعة المقدسة أحكاماً إلزامية يجب الخروج عن عهدتها ، وإما بالعلم الإجمالي الصغير المتحقق في بعض الموارد كالعلم الإجمالي بوجوب صلاة الجمعة أو الظهر يوم الجمعة ، فإن الواقع منجّز عليه قبل الحجة الواصلة إليه ، فلا يراد منها إلاّ التعذير على تقدير الخلاف.

فهناك مقامان للكلام :

المقام الأوّل : ما إذا كان الواقع غير منجز على المكلف‌ ، لأن المورد تجري فيه الأُصول النافية للتكليف ، وإنما يتنجز بالحجة الواصلة إليه وقد دار الأمر فيه بين الحجية التعيينية والتخييرية ، والتحقيق أن الأصل يقتضي التخيير حينئذٍ وذلك لأن حال المقام حال الدوران بين التعيين والتخيير في الأحكام ، وقد ذكرنا في محلّه أنه مورد للتخيير وذلك للعلم بالإلزام بالجامع بين الشيئين أو الأشياء والشك في مدخلية الخصوصية في الواجب وعدمها ، وهو على ما ذكرناه في محلّه من الشك في الإطلاق والاشتراط ومعه تجري البراءة عن التقييد لأنه كلفة زائدة وضيق ، وحيث إن التقييد بالخصوصية مشكوك فيه للمكلف فيدفع بالبراءة ، فإن العقاب على المجهول حينئذٍ عقاب بلا بيان. وفي المقام التكليف بالجامع بينهما أعني أحدهما لا بعينه معلوم لا شك‌

١٢٠