موسوعة الإمام الخوئي - المقدمة

مرتضى الحكمي

موسوعة الإمام الخوئي - المقدمة

المؤلف:

مرتضى الحكمي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
المطبعة: توحيد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

كلمة المؤسّسة‌

ترى مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي من الواجب عليها أن تنهض بإخراج هذه الآثار العلميّة ، في مسلسلات فقهيّة وأُصوليّة وتفسيريّة من أبحاث الإمام الخوئي التي ألقاها على الفضلاء ، من طلاّب الحوزة العلميّة في النجف الأشرف بتنسيق فريد ، ومزايا تليق بهذا المستوى من الآثار العلميّة.

وكان شروعه قدس‌سره بتدريس فروع العروة الوثقى في ٢٧ / ربيع الأوّل من سنة ١٣٧٧ ه‍ ، مبتدئاً بكتاب الاجتهاد والتقليد.

المجموعة الفقهيّة :

تقدِّم المؤسّسة الأبحاث الفقهيّة في مسلسلات وحلقات ومجلّدات مترابطة :

١ ـ ( التّنقيح ) في شرح العروة الوثقى : تقرير تلميذه آية الله الشيخ ميرزا علي الغروي ، في مجلّد واحد يبحث عن ( التقليد ) ، وتسع مجلّدات اخريات في موضوع ( الطّهارة ).

٢ ـ ( المُستند ) وهو تقرير آية الله الشيخ مرتضى البروجردي ، في عشر مجلّدات تبحث عن ( الصّلاة ) ومجلّدان في ( الصّوم ) ، ومجلّدان آخران في ( الزّكاة ) ، ومجلّد واحد في ( الخُمْس ) ، ومجلّد واحد في بحث ( الإجارة ).

٣ ـ ( المُعتمد ) وهو تقرير آية الله السيِّد محمَّد رضا الموسوي الخلخالي ، في أربع مجلّدات ، تبحث في ( الحج ).

١

٤ ـ ( المباني ) وهو تقرير الشهيد السعيد حجّة الإسلام والمسلمين السيِّد محمّد تقي الخوئي ، نجل الامام الخوئي ، في مجلّدين في مبحث ( النِّكاح ) ، ومجلّد واحد في ( المُضاربة ) و ( المُساقاة ).

وتبلغ مجموعة القسم الفقهيّ في هذه الموسوعة الكبرى أربعاً وثلاثين مجلّداً مع الفهارس.

مزايا هذه الموسوعة :

١ ـ بذل الجهد في تقويم المتن والشّرح ، وضبطه وتصحيحه ، مع التحفّظ والتحرّز مهما أمكن على حفظ نصوص هذه الكتب ، وأُسلوبها البياني.

٢ ـ تحديد النصوص ، وجعل العلامات المناسبة لها.

٣ ـ ضبط وإلحاق تعليقات الإمام الخوئي على حاشية العروة الوثقى.

٤ ـ تخريج الآيات والأحاديث ، والأقوال والآراء ، وغيرها ، وإرجاعها إلى المصادر الام.

٥ ـ تعيين ما أُشير إليه في الكتب من صفحات حول : ( ما تقدّم ) و ( ما يأتي ) ، وما أُحيل فيه إلى سائر الأبحاث الفقهيّة والأُصوليّة والرِّجاليّة وغيرها.

٦ ـ تنظيم فهارس عامّة تشمل أهم موضوعات الكتب ومصادرها وآياتها ورواياتها.

وجميع هذه الكتب الفقهيّة في الوقت الحاضر بيد التحقيق والإخراج.

هذا ونسأله تعالى أن يحالفنا التوفيق إلى إنجاز هذا العمل العلمي إحياءً لفقه العترة الطاهرة ، حسبة لله وطلباً لمرضاته ، والله ولي التوفيق.

مؤسّسة

إحياء آثار الإمام الخوئي

١٠ / ذي الحجّة الحرام / ١٤١٧ ه‍ ق.

٢

مقدّمة

موسوعة الإمام الخوئي‌

للعلاّمة السيِّد مرتضى الحكمي‌

٣

المرجعيّة بدايتها ونهايتها. مقوّمات المرجعية ومراحلها. دعم مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام. ركائز الحكم الإسلامي. مفهوم النيابة العامّة. مفهوم الولاية المطلقة. الولاية في القرآن. مناقشات حول الولاية المطلقة. ولاية الفقيه. المرجعيّة العُليا. مُعطيات مرجعيّة الإمام الخوئي العُليا. مسؤوليّات مرجعيّة الإمام الخوئي. بين الحكومة الإسلامية وحاكميّة الإسلام. حياته السياسيّة. خصائصه السلوكيّة والذاتيّة. سياسته الحوزويّة. سياسته الفتوائيّة. واقع الاجتهاد عند الإمام الخوئي. موقف الإمام الخوئي من الاجتهاد السياسي. الاتجاهات التجدّديّة. منهجيّة الإمام الخوئي في إحياء العلوم. إبداعاته في علوم القرآن. النهج التفسيري للإمام الخوئي. موضوع الناسخ والمنسوخ. إعجاز القرآن على مفهوم جديد. نزعة التعايش المذهبيّ في تفسيره. وجهات النظر حول تفسير البيان. تفاعلات حول القراءات والأحرف السبعة. مردودات الباحثين. اشادات المعنيِّين بعلوم القرآن. من إبداعاته في الأُصول. من إبداعاته في الفقه والقواعد الفقهيّة. من إبداعاته في الفلسفة الإسلامية. من إبداعاته في علم الرِّجال. خاتمة المطاف. عوداً على بدء.

٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم‌

الإمام الخوئي

قائداً للدِّين ورائداً للعلم ‌(١)

الواقع : إنّ الإشادة بشخصيّة الإمام الخوئي الكفوءة ، ذات الأبعاد الشاسعة ، المشحونة بالروائع والأحداث ، وملابسات الأُمور يصعب الإلمام بها ، والبتّ فيها.

فإن أوفى المتحدِّث عن تاريخ حياته العامّة ، فإنّه يقصر عن الإيفاء بمكانته العلمية ، وإن استطاع أن يلم بقدر من ذلك ، فإنّه يذهل أمام بطولاته الجهادية والسياسية ، ومجمل مواهبه ، وميزاته ، وعبقريّاته.

والحق : أنّ حياة الإمام الخوئي كلّها مزايا علميّة ، وجهاديّة ، وسلوكيّة تفرّد بها ، كما تفرّد بما اوتي من إبداعات علميّة ، كشفت عمّا وهبه الله من قوّة الابتكار ، وعمق التفكير ، وتوقّد الذهن ، ودقّة النظر ، تلك العوامل التي كوّنت منه الشخصيّة الملهمة ، وجمعت فيه عناصر النبوغ في العلوم العقليّة والنقليّة ، على مستوى القمّة من العلم والإبداع.

كان يتحلّى بالجهد في رفع مستوى العلم والاجتهاد ، تذوب زعامته في الجهاد العلمي والسياسي والاجتماعي ، ودعم الصحوة الإسلاميّة بالرِّيادة والقيادة.

تنزع شخصيّته إلى الوحدة الإسلاميّة ، والتعايش المذهبيّ في توحيد ثقافة المسلمين ، وعقيدتهم بالثوابت من الإسلام ، حاول في كلّ ذلك بلورة العقائد الإسلامية المأثورة حتّى أصبح موئلاً للمسلمين.

__________________

(١) وُلِدَ عام ١٣١٧ ه‍ ، وتوفِّي عام ١٤١٣ ه‍.

٥

المرجعيّة بدايتها ونهايتها :

بدأت المرجعيّة في الإسلام بالرجوع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، فيما شرّعه الله في هذه الآيات ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... ) (١) ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ ... ) (٢) لخلافتهم عن الرسول ، وبما أودعهم من علم وقضاء وحكم ، ثمّ إلى النوّاب الأربعة في النيابة الخاصّة في الغيبة الصغرى ، ثمّ إلى الأمثل من الفقهاء الذين حقّت أهليّتهم للنيابة العامّة في عصر الغيبة الكبرى.

وبذلك يحقّ لنا أن نقول : بدأ الدِّين بالوحي والبلاغ ، وانتهى إلى الفتوى والتقليد ، وبتعبير آخر بدأ بالتمسّك بالرسالة الإلهيّة ، وخُتِمَ بالأخذ من الرسالة العمليّة للفقهاء.

مقوّمات المرجعية ومراحلها :

١ ـ المرجعيّة الدينيّة : وتستلزم القدرة على الاجتهاد والإفتاء ، وتيسير الأحكام للمكلّفين.

٢ ـ المرجعيّة العلميّة : وتتطلّب التأهّل لإدارة الحوزة العلمية ، ورفع مستواها ، ومحاولة تطوير العلوم الإسلامية ، وتحويرها ، بما يُلقى عليها من دروس اجتهاديّة حرّة مستجدّة ، في مباني الفقه والأُصول ، والتفسير ، والرِّجال وهي من معدّات الاجتهاد وبما يعدّ لها من أبحاث ، ومجتهدين.

٣ ـ المرجعيّة العامّة : وتتحقّق بالتأهّل لتلك المقوّمات العلميّة والدينيّة ، لتكون قاعدة صلدة ، قادرة على أداء مسؤوليّاتها ، في تقوية الدين والإيمان ، والثّبات عليه.

٤ ـ المرجعيّة العُليا : وتستقر على ركائز القيادة العامّة ، التي تميِّزها الأعلميّة ، والاقتدار الفائق على حفظ رقعة الإسلام ، وتحصّن المسلمين ، في مختلف الأحداث العالميّة التي تهدِّدهم وتهدفهم ، وتحاول الإطاحة بهم ، وتعمل على نهب ثرواتهم ، وسحق‌

__________________

(١) النساء : ٦٥.

(٢) النساء : ٨٣.

٦

مقدّساتهم ، والتّلاعب بمقدّراتهم ، كما تمكِّنهم من الوقوف صفّاً واحداً ، ويداً واحدة على أعدائهم ، بالتماسك ، والنفر ، والجهاد ، والوقوف وراء هذه المرجعيّة العليا التي تميّزت بأفضل ما تميّزت به المرجعيّات الأُخرى ، وأن تعدّ لهم ما استطاعوا من قوّة ، وفي مقدّماتها وحدة الكلمة ووحدة القيادة ، والتمسّك بكلمة التوحيد.

وعلى ذلك تدرّج الإمام الخوئي من مرحلة إلى أُخرى ، حتّى حاز المرجعيّة العُليا ، بجَدارة ، وتفوّق ، وحتّى قاد الثورة على الظلم والطّغيان.

وهكذا تدرّج الإمام الخوئي ، في نبوغه طالباً للعلم ، ثمّ استاذاً للعلوم ، ثمّ محقِّقاً يعدّ المجتهدين ، ثمّ زعيماً يقود المسلمين في العالم الإسلامي.

فكان السيد الخوئي في مرجعيّته العالميّة شديد الاحتياط في الدين ، وشديد الحذر والتحفّظ في السياسة ، وحديد النظر فيما يجري من أُمور ، لا يقدم على شي‌ء يستغلّه الحكّام في مجرى السياسة وحركاتها.

وبقي طيلة حياته ؛ مدافعاً عن الإسلام والمسلمين ، مُسانداً للحوزات العلميّة من أن تمتد إليها يد الاستعمار وأذنابه بالتحرّف.

دعم مدرسة أهل البيت :

ومن الثابت أنّ لأهل البيت عليهم‌السلام مدرسة وطريقة ، وليست مذهباً كسائر المذاهب التي نجمت عن اجتهاد المجتهدين ، وما يُسمّى بمذهب أهل البيت عليهم‌السلام تجوّزاً ليس إلاّ واقع الإسلام ، واصلة الذي بنى عليه الرسول رسالته التشريعيّة والاعتقاديّة.

فإنّ أهل البيت عليهم‌السلام ليسوا إلاّ حملة الرسالة وحُماتها ، لا يختلفون في أقوالهم وأفعالهم عمّا جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذلك اقتضت عصمتهم وإمامتهم بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانوا أحد الثّقلين المتماثلين الّذين يجب التمسّك بهما.

والواقع : انّهم ليسوا برواة كغيرهم بل هم يفرغون عن سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تلك التي ضاعت بين السّنن ، والمذاهب فأكّدوا عليها من غير رأي أو اجتهاد.

وكان الإمام الخوئي يسعى جاهداً في أداء ما مضى عليه أهل البيت عليهم‌السلام. وكان‌

٧

يتعامل مع هذه المسئولية على مستوى ما يتطلّبه عصره ، من فهم وتحليل ، وإبداع في العلوم الإسلامية ، وقيام بالنيابة العامّة ، كما أحيى بفقاهته فقه آل محمّد في عصره.

ويصرِّح في عقيدته الولائية لأهل البيت عليهم‌السلام عن عليّ وفاطمة وابنتهما عليهم‌السلام بقوله :

١ ـ عليّ بن أبي طالب : ( انّه بمنزلة نفس الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وخليفته المنصوص عليه ، في حديث الغدير ، وغيره ).

٢ ـ فاطمة الزهراء : ( وهي معصومة بضرورة مذهبنا ، ولو لا عليّ لما وجد لها كفؤ ، لأنّها سيِّدة نساء العالمين ، على ما نطقت به الروايات ).

٣ ـ زينب : ( انّها شريكة أخيها الحسين عليه‌السلام في الذبّ عن الإسلام ، والجهاد في سبيل الله ، لا تخضع عند الجبابرة ... تقول حقّا وصِدقاً ) (١).

وانبرى الإمام الخوئي للإشادة بشيخ الأزهر الشريف على فتواه الشهيرة في جواز التعبّد بالمذهب الخامس الإماميّ ، فقهاً وعقيدةً ، دعماً للوحدة بين المسلمين ، ولمدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، ولحقِّهم المُضاع.

ركائز الحكم الإسلامي :

وعلى ضوء انّ الدين الإسلامي دين خالد ، كان ينبغي أن يؤزر بحجّة خالدة هما القرآن والعترة عليهم‌السلام ، ويعزّز بحكم إسلامي يرتكز على الإمامة والنيابة العامّة.

ومن هذا المنطلق : يحقّ لنا أن نعرف : إنّ النيابة العامّة هي التي صدرت عن الإمام الغائب ، وهي الّتي أعطت الولاية العامّة للنوّاب ، وهي التي أوجدت المرجعيّة القائمة.

ولهذا حقّ لنا أن نبحث عن أُمور ثلاثة على الترتيب :

١ ـ النيابة العامّة ٢ ـ الولاية المطلقة ٣ ـ المرجعيّة العُليا.

__________________

(١) معجم رجال الحديث وطبقات الرّواة ، بتقديم الكاتب ، انظر تراجم رقم ٧٨٥٠ و ١٥٦٦١ و ١٥٦٢٥.

٨

الأوّل مفهوم النيابة العامّة :

ولا بدّ لنا من الخوض في تفصيل ذلك ، من أن نطرح قبل كل شي‌ء موضوع النيابة العامّة التي نشأت عنها الولاية والمرجعيّة ، واحدة تلو الأُخرى.

وعند انتهاء أمد النيابة الخاصّة بالنوّاب الأربع في الغيبة الصغرى ، وغياب الإمام المهدي الغيبة الكبرى لحكمة من الله ، ومصلحة للمسلمين‌ ما دامت دولة الدنيا للفاسقين (١) ‌حيث‌ لا يجد المؤمن ملجأً يلتجئ إليه من الظّلم ، فيبعث الله رجلاً من عترتي فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما مُلئت ظلماً وجوراً (٢).

فلم يقطع الإمام الغائب عن الأُمّة هدايته وإمامته في مختلف العصور ، ولم يتركهم بلا راعٍ يرعاهم ، ودون حجّة تأخذ بأيديهم ، وهو الإمام الّذي‌ يستضيئون بنوره ، وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشّمس ، وإن تجلاّها السّحاب (٣). وقد أناب عنه رواة أحاديثهم بهذه التصريحات :

١ ـ وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم (٤) ‌، ممّن يليق بهم أن يكونوا حجّة على الناس.

وفي هذا النص دلالات واضحة لا يمكن الخروج عليها بحال من الأحوال :

أ ـ إنّ هذه النيابة العامّة التي جعلت النوّاب حجّة على الناس ، إنّما أعطوها من دون أصالة ، أو استقلال.

ب ـ وقد خصّوا بها بوصفهم رواة أحاديثهم ، ليرجعوا إليها في تصريف الأمور ، وتدبير الحوادث ، ممّن يستطيعون أن يصلوا إلى أحكام الله بالاجتهاد والفتوى.

ج ـ لم تكن هذه النيابة التي أعطتهم الولاية على الناس مطلقة حدّ الإطلاق الذي يغنيهم عن أن يكون الإمام الغائب حجّة عليهم ، وأن لا يحرزوا رضاه ، وهو‌

__________________

(١) بحار الأنوار ١ / ٢٤٦.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٤ / ٤٦٥.

(٣) تفسير البرهان ١ / ٣٨١.

(٤) وسائل الشيعة ج ١٨ باب ١١ من صفات القاضي ح ٩ ، وإكمال الدين ٢ / ١٦٢.

٩

غائب عنهم.

د ـ إنّ هذه الولاية لم تنتزع من المعصوم الولاية المطلقة التي تستدعي انتقال العصمة ، والعلم بالغيب ، والإعجاز ، والخصائص الأُخرى الخارقة التي خوّلته الولاية المطلقة على حدّها. غير أنّه لا يمنع ذلك من انتقال هذه الولاية بحكم النيابة العامّة على مستوى الزّعامة الكبرى ، وعلى حدّ مسؤوليّة الحكم وسعتها ، ومختلف شؤونها (١) وأحوالها. وهذه الولاية ، وإن كانت من الموضوعات ، وليست من الأحكام ، إلاّ أنّه لا يمكن أن يكون هؤلاء الرّواة نقلة إلى غيرهم ، وقد ارجع إليهم بالذّات النّظر في الحوادث كلّها. ولذلك كان المقصود بهم المجتهدون من أصحاب الحكم والفتوى ، كما أنّ المقصود من الفقيه هو الأفقه في الدِّين والأبصر بمقدرات الأُمّة ومستلزماتها ، ليصحّ الرجوع إليه دون غيره ، ولأنه يشمله رجوع الجاهل إلى العالِم ، باعتباره أوصل ممّن يجهل مبلغ علمه وفقاهته.

٢ ـ مجاري الأُمور والأحكام على أيدي العلماء بالله ، الامناء على حلاله وحرامه (٢) ‌، وقد أعطى الفقهاء مسؤوليّة الحكم ، بما فيه التصدِّي للفتوى ، والأُمور العامّة التي تنتاب حياة المسلمين وبقاءهم.

٣ ـ فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مُخالفاً على هواه ، مُطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن يُقلِّدوه (٣) ‌هذا المنصب الخطير.

ولا يعنينا سند ذلك (٤) ، لأنّ العقل يحكم بضرورة هذه المزايا والشروط ، لمن يريد أن يحكم الناس بالنيابة وغيبة الإمام الغائب تقتضي أن يكون له نوّاب عامّون كما كان له نوّاب خاصّون. والدليل على وجود النوّاب الأربعة هو الدليل على وجود نوّاب آخرين بالنيابة العامّة ، يُنتخبون بالوصف ، لا بالاسم. فإذا لم يحرز رضاه بالحاكم القائم ، أو إذنه له ، فلا دليل على نيابته أبداً.

__________________

(١) الحاكمية في الإسلام ، لآية الله السيد محمّد مهدي الخلخالي / ١٩٢.

(٢) مستدرك الوسائل ٣ / ١٨٨ باب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ١٦ ، وتحف العقول / ٢٣٨.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ / ٩٤ ح ٢٠.

(٤) راجع الحاكميّة في الإسلام ، ملحق رقم ٣.

١٠

الثاني ـ مفهوم الولاية المطلقة :

وهل هناك اتجاه لبعض الفقهاء أن يساوي بين ولاية المعصوم نبيّاً كان أو إماماً وولاية الفقيه ، المبسوط اليد على المسلمين ، من دون أي تفاوت أو فرق بينهما ، على أنّ منها ما تكون على مستوى النبوّة والإمامة ، ومنها ما تكون على مستوى النيابة العامّة عن المعصوم عليه‌السلام.

ومهما تكن هذه الولاية الممنوحة لهم ، فإنّ إحداهما حجّة على الأُخرى. إذ لا يمكن تصعيد النبوّة إلى مقام الربوبيّة في الولاية ، ولا تصعيد الإمامة إلى منزله النبوّة فيها ، كما لا يمكن تصعيد الفقاهة إلى أيّة منزلة ولائيّة من هذه المنازل ، حتّى ولو كانت مجاري الأُمور على أيدي العلماء ، وحقٌّ للعوام أن يقلِّدوهم هذا المنصب الإلهي. فالولاية التي تقوِّمها العصمة ، والعلم بالغيب ، والقدرة على الإعجاز لا تكون كالولاية التي تقوِّمها العدالة ، وتبرِّرها النِّيابة العامّة هي نفسها التي أُعطيت للنبوّة والإمامة ، لمكانة الشروط التي لا يمكن أن تؤتى أحداً ، والشروط التي يمكن أن تتأتّى لكل أحد. وهذه المزايا التي أُعطيت للنبوّة أو الإمامة كانت تأهّلاً لهم لهذه الولاية التي اختصّوا بها.

وما ينتقل من الولاية عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإمام عليه‌السلام ؛ عامله المشترك هو الإمامة التي تتواجد في النبيّ والإمام معاً. وأمّا ما ينتقل إلى الفقيه فلم تكن هذه الإمامة قاسمها المشترك بينهما ؛ بل هو النيابة العامّة ، وزعامة المسلمين ، في مجاري الأُمور ، وتصاريف الأحداث.

وقد جعل الله في النبوّة والإمامة الولاية التكوينيّة ، دعماً لها ، ودليلاً على صدقها وتثبيتها. وأمّا الفقيه فليس له أيّة ولاية تكوينيّة ، أو تشريعيّة ، بل له ولاية الفتوى والحكم والزّعامة على قدر نيابته في قيادة الأُمّة وريادتها.

الولاية في القرآن :

وقد فصّلت في هذه الآية ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١) الولاية بوضوح‌ :

__________________

(١) النساء : ٥٩.

١١

١ ـ ولاية الله ( هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلّهِ الْحَقِّ ) (١) وهي ولاية الإطاعة ، التي تشمل العبوديّة المختصّة بالله.

٢ ـ ولاية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (٢) ولاية تمتدّ إلى الإعراض والنّفوس والأموال.

٣ ـ ولاية الإمام عليه‌السلام ( وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٣) والتلازم بين هذه الولاية والإطاعة ، واشتراكهما بين النبيّ والأئمة للمشاكلة في الولاية ، والمسانخة بين النبيّ وبين خلفائه في العلم ، والقدرة على الإعجاز بإذن الله ؛ وذلك تصديقاً للنبوّة ، وتثبيتاً للإمامة ، وشرط العصمة ، باعتبارها القائمة على الرسالة على واقعها ، والمحافظة لها.

٤ ـ ولاية الفقيه : فبإذن من الإمام الغائب الذي نصبهم نوّاباً عنه ، ليكونوا حجّة على الناس ، ويكون حجّة عليهم ، وولاية الأفقه هو القدر المتيقّن من الفقهاء كما مرّ.

وهكذا تتّسع الولاية المطلقة من غير حدود لله ، وفي حد النبوّة والإمامة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام ، وفي حد النيابة العامّة للفقيه الذي قد يُخطئ في فقاهته ويُصيب ، وهو معذور في ذلك. أمّا النبيّ والإمام فهما النص الإلهي الذي لا ريب فيه. وبسط يد الفقيه لا يجعله في مصاف الأنبياء والأئمّة في الحكم والتشريع. والولاية المطلقة لا يمكن انتقالها بإطلاقها إلى النيابة الخاصّة ، فضلاً عن النيابة العامّة ، إلاّ على قدر الزّعامة ، وبسط اليد والقدرة.

ويفصِّل الإمام الصادق عليه‌السلام الفارق بين مدارج هذه الولاية ، واختصاصاتها في هذه الرواية‌ إنّ الله تبارك وتعالى أدّب نبيّه ، فانتهى إلى ما أراد ، قال : وإنّك لعلى خلقٍ عظيم ، ففوّض إليه دينه ، فقال : ما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (٤). ومعنى ذلك أنّ هذه الولاية لا تنتقل بعينها إلى غيره ؛ لأنّه يفقد هذا الخُلق العظيم في الدِّين.

__________________

(١) الكهف : ٤٤.

(٢) الأحزاب : ٦.

(٣) النساء : ٥٩.

(٤) البحار ١٧ / ٥ ٦.

١٢

وكان يرى الإمام الخوئي : ولاية الله مطلقة بإطلاق ذاته ، وولاية الرّسول متّسعة باتِّساع نبوّته وخاتميّتها ، وولاية الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام قائمة على مستوى إمامتهم ، وولاية الفقيه محدّدة بحدود فقاهته ومسؤوليّته في الزّعامة. إلاّ أنّه يفقد أُموراً فتقيّد بأمثال هذه الفوارق :

١ ـ البداءة بالجهاد مختص بالإمام الأصل (١).

٢ ـ ليس للفقيه ولاية على الفقهاء الآخرين (٢).

٣ ـ لا يعفو عن الحدود التي لله من هو دون الإمام عليه‌السلام (٣).

٤ ـ للنبيّ والإمام الولاية التكوينيّة (٤).

٥ ـ وحقّ التصرّف في بعض الأحكام الإلهيّة على أساس : ( ولاية التفويض ) كما مرّ.

٦ ـ إطلاق ولاية التصرّف في الأموال والنفوس للنبيّ والإمام دون غيرهم (٥) ، ونفي هذه الولاية للفقيه الجامع للشرائط (٦).

٧ ـ لم يُعط الفقيه الولاية التكوينية ، فإنّها مختصّة بالنبيّ تصديقاً للنبوّة ، وبالإمام المعصوم تثبيتاً للإمامة.

٨ ـ وليس للفقيه ولاية التشريع ، بل له ولاية الحكم والفتوى ، وهي أقلّ درجة من ولاية التفويض.

مناقشات حول الولاية المطلقة :

يذهب عامّة الفقهاء إلى أنّ ولاية النبيّ والأئمة ولاية مطلقة ، تشمل التصرف في النفوس والأموال. إلاّ أنّ بعضهم يشترط في ذلك مصلحة المسلمين (٧).

__________________

(١) تحرير الوسيلة ، للإمام الخميني ١ / ٤٦٣ مسألة ٢.

(٢) ولاية الفقيه ، للإمام الخميني / ٦٦.

(٣) مباني تكملة المنهاج ، للإمام الخوئي / ١٧٧ و ٢٤٤.

(٤) الحاكميّة في الإسلام / ٦١ ، نقلاً عن أُصول الكافي ١ / ٢٦٥.

(٥) المكاسب المحرّمة ، للشيخ الأعظم الأنصاري / ١٥٣.

(٦) كتاب البيع ، للإمام الخميني ٢ / ٤٨٩.

(٧) الحاكمية في الإسلام ، موضوع ولاية التصرّف في النفوس والأموال ، نقلاً عن المحقِّق الإيرواني في حاشية المكاسب / ١٥٥.

١٣

والواقع : انّ مقتضى النبوّة والإمامة : أن يتصرّف النبيّ والإمام في النفوس والأموال بكلّ ما هو من مصلحة المسلمين. على أنّ ولاية الله المطلقة عدا ولاية العبوديّة هي التي انتقلت إليهم ، فلا يمكن تحديدها ، أو تقييد إطلاقها بشي‌ء من التضييق.

ومن الغفلة عن مقام النبوّة والإمامة أن نتصرّف في ولايتهم ، بمصلحة نقدِّرها نحن بعقولنا وإن أمكن من جهة أُخرى ، إناطة ذلك بما هو الضروريّ من التصرّف. ومن المصلحة أن تكون ولايتهم نافذة على الأُمّة ، من دون تصرّف منّا في إطلاقها وسعتها.

ويفرِّق العلاّمة بحر العلوم بين ولاية التصرّف بمعنى نفوذ تصرّف النبيّ والإمام في نفوس الرعيّة وأموالهم ، فله ذلك ، وبين أن تكون له أنحاء التصرف فيهم ، حسبما تتعلّق به إرادته ، لعدم نهوض الأدلّة عليه (١). وذلك بمعنى الفرق بين فعليّة النفوذ وشأنيّته ، ولعلّه يشير بذلك إلى اقتضاء التصرّف وضرورته كما قلنا وحينئذٍ يلزمه إطاعته.

ولاية الفقيه :

أمّا عن الولاية المطلقة للفقيه الجامع للشرائط ، فيجيب الإمام الخوئي على ذلك بقوله : ( في ثبوت الولاية المطلقة للفقيه الجامع للشرائط خلاف ، ومعظم فقهاء الإماميّة يقولون بعدم ثبوتها. وإنّما تثبت في الأُمور الحسبيّة فقط ) (٢).

وهو وإن لم يرجِّح أحد القولين في هذا المقام ، إلاّ أنّه يوجب إقامة الحدود ( حفظاً للنظام ) ، والحدود لا يمكن أن يقيمها إلاّ الحاكم المبسوط اليد. ولا يتأتّى ذلك بيسر إلاّ بعد إقامة حكم إسلامي يقوى على ذلك. ولهذا نعرف مدى رأيه في اتّساع الأُمور الحسبيّة ، وولاية الفقيه.

ففي كتاب القضاء يصرِّح : ( القضاء واجب كفائيّ ، وذلك لتوقّف حفظ النظام المادي والمعنوي عليه ) (٣).

__________________

(١) بلغة الفقيه ٣ / ٢١٧.

(٢) مسائل وردود ١ / ٥ ، فتاوى الإمام الخوئي وآراؤه.

(٣) مباني تكملة المنهاج ١ / ٤٠.

١٤

وفي مكان آخر يصرِّح أيضاً : ( يجوز للحاكم الجامع للشرائط إقامة الحدود ... إنّ إقامة الحدود إنّما شرّعت للمصلحة العامّة ، دفعاً للفساد ، وانتشار الفجور والطّغيان بين الناس. وهذا ينافي اختصاصه بزمان دون زمان. وليس لحضور الإمام دخل في ذلك قطعاً. فالحكمة المقتضية لتشريع الحدود تقتضي بإقامتها في زمان الغيبة ، كما تقتضي بها زمان الحضور ... ) (١).

وعلى هذا الاتساع في ولاية الأُمور الحسبيّة تفرّد الإمام الخوئي بالقول في عصرنا الحاضر بوجوب الجهاد الابتدائي في عصر الغيبة : ( ... إنّ الظاهر عدم سقوط وجوب الجهاد في عصر الغيبة ، وثبوته في كافّة الأعصار لدى توفّر شروطه ... إنّا لو قلنا بمشروعيّة أصل الجهاد في عصر الغيبة فهل يعتبر فيها إذن الفقيه الجامع للشرائط أو لا؟ يظهر من صاحب الجواهر قدس‌سره ، اعتباره بدعوى عموم ولايته بمثل ذلك زمن الغيبة. وهذا كلام غير بعيد ... فإنّه يتصدّى لتنفيذ هذا الأمر من باب الحسبة ، على أساس أنّ تصدِّي غيره يوجب الهرج والمرج ، ويؤدِّي إلى عدم تنفيذه بشكل مطلوب كامل ) (٢).

وفي أهميّة حفظ النظام ، وحتى في توقّفه على لزوم تعاطي حرفة الطبابة ، يُفتي : ( فإنّها وإن كانت واجبة بالعرض باعتبار توقّف النظام عليها ، كسائر أنواع الحرف والصناعات الدخيلة في حفظ النظام ... ) (٣) ، يجوز أخذ الأُجرة على الطّبابة ، وإن كانت من الواجبات الكفائيّة ، ضماناً لحقوق الفرد والمجتمع ، وذلك لاستتباب النظام.

ثمّ على أساس شمول هذه الولاية الحسبيّة أيضاً جميع الأُمور العامّة للمسلمين ، السياسيّة منها ، والاجتماعيّة ، والدينيّة والجهاديّة والقضائيّة : قام الإمام الخوئي فيما قام به من إصدار أحكام سياسيّة ، عُرِفَ بها.

وولاية الحسبة كما عرّفها تلميذه ومقرِّره في التعليق على أبحاثه في الاجتهاد والتقليد‌

__________________

(١) مباني تكملة المنهاج ١ / ٢٢٤ مسألة ١٧٧.

(٢) منهاج الصالحين ، للإمام الخوئي ، ج ١ ، قسم العبادات ، ٣٦٥ ٣٦٦.

(٣) مستند العروة الوثقى ، كتاب الإجارة ، باب أخذ الأُجرة على الطبابة ، من تقريرات الأبحاث الفقهيّة للإمام الخوئي. رجعتُ إليها ( سلسلة مفاهيم إسلامية ) برقم (٥٠) في كرّاسة ( الملامح الأساسيّة لنظريّة السوق التجارية في الإسلام ) / ٦.

١٥

( هي بمعنى القربة المقصود منها التقرّب إلى الله تعالى ، وموردها هي : كلّ معروف علم إرادة وجوده في الخارج شرعاً من غير موجد معيّن ) (١).

الثالث المرجعيّة العُليا :

والحق : أنّ المرجعيّة العُليا تلك التي تمثِّل النيابة العامّة وإن لم تكن كالحكومة الإسلاميّة في بسط يدها ، إلاّ أنّها استطاعت طوال التاريخ أن تسعى لحاكميّة الإسلام في أعماق المجتمع الإسلامي.

وكانت هذه المرجعيّة منذ عصر الغيبة الكبرى تنوب عن الإمامة ، بالنيابة العامّة. فكان الكيان الديني الذي خلّفه الإمام الغائب ، فأصدر توقيعه الشريف فيها : ( وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّة عليكم ، وأنا حجّة الله عليكم ) (٢).

وممّا يبعث على التفسير والتحليل أكثر فأكثر هو الإشعار بـ ( الحوادث الواقعة التي لا بدّ وأن تكون الحوادث السياسيّة والاجتماعيّة ، وهي من أهم ما ينتاب حياة المسلمين في كلّ عصر ، وإلاّ فإنّ أحكام العبادات مثلاً لا يعنيها هذا النص ، كما أنّ الاشعار بقوله : ( فارجعوا فيها ) إليهم هو الذي ولّد لهم أرضيّة هذه المرجعيّة ، فأطلق عليهم بعد ذلك مراجع الدِّين ، تسمية خاصّة بهم.

فالمرجعيّة المتأصِّلة كانت ولا تزال هي الحافِظَة للإسلام وكيان المسلمين ، تُدافع عن حقوقهم ، وترعى مصالحهم ، وتدير الحوزات العلميّة ، ومراكز التعليم والثفاقة ، وتُعدّ الفقهاء ، والنوّاب المأذونين ، ومراجع التقليد ، وقادة المسلمين الذين يقفون دون انهيارهم في الفكر والعقيدة ، ويدعمهم باستقلال الرأي أمام المذاهب والتيّارات ، وحيال السلطات الجائرة ، والحكومات الظّالمة ، يحكم فيهم بشرائع الله وسننه ، وهي التي تقيم لهم الحكومة الإسلامية العتيدة.

وأمر التقليد في هذه المرجعية ، كان العامل الجذري في هذه الحاكميّة ، إذ لم تُقبل أفعال‌

__________________

(١) فقه الشيعة ( الاجتهاد والتقليد ) ، تقرير آية الله الخلخالي لأبحاث أُستاذه الإمام الخوئي.

(٢) وسائل الشيعة ج ١٨ باب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ٩.

١٦

المكلّفين إلاّ بالتقليد ، والرّجوع إلى الفقيه الجامع للشرائط ، وهو معنى حاكميّة الإسلام على المسلمين ، كما هو السبيل الأقوم إلى وحدة المسلمين تحت راية واحدة ، وشدّهم إلى الإسلام.

وهذه المرجعيّة منذ الغيبة الكبرى هي التي أُذِنَ لها أن تخلف الإمام الغائب ، وتُباشر حاكميّة الإسلام ، وتُفقِّه المسلمين ، وتوعِّيهم بالدِّين.

وقد عهد إلى المسلمين أن يستظلّوا بها ، انقياداً للنيابة العامّة ، في إطار المرجعيّة العُليا ، التي وضع خطوطها وخيوطها الإمام الغائب عليه‌السلام ، فهي وإن لم تكن لتقيم الحكومة الإسلامية في أكثر أدوارها ، إلاّ أنّها كانت تُعنى بحاكميّة الإسلام ، وإعلاء كلمة المسلمين.

والواقع : إنّ هذه المرجعيّة العُليا : هي التي أقامها الإمام الغائب لشيعته خلفاً له على المسلمين.

مُعطيات مرجعيّة الإمام الخوئي العُليا :

وعند ما انتهت إلى الإمام الخوئي هذه المرجعيّة العُليا بكل معضلاتها وثقلها في جيل مُثقل بالضغوط والإعصار والملابسات ، أخذ يتابع في خطواته سيرة الأئمّة المجاهدين ، وسياستهم في مختلف أدوار حياتهم وإمامتهم في إدارة هذه المرجعيّة ، والنهوض بها ، لهدف حاكميّة الإسلام ذاتها.

فكان من الأئمّة من يُجاهد في سبيل الله بالسيف ، وكان منهم من يُصالح أعداء الإسلام ومناوئيه حقناً للدِّماء ، وصلاحاً للمسلمين ، وكان منهم من يشهر سلاح العلم والعقيدة ، وكان آخرهم من جعل النيابة العامّة سبيلاً إلى إمامته حتّى ميعاد ظهوره وقيامه.

وكان الإمام الخوئي وهو عالم بزمانه ـ (١) يقيِّم هذه الأدوار التي عاشها ، وقام بمسؤوليّاته فيها ، قد تبنّى كل ذلك ، من دعم للجهاد ، ونهوض بالعلم ، واستجابة لحاجات المسلمين العقيديّة ، والثقافيّة ، والسياسيّة ، والاجتماعيّة. كلّ ذلك في اطار هذه‌

__________________

(١) تحف العقول ، للحرّاني / ٢٦١.

١٧

المرجعيّة ، تلك التي اتّسعت أرجاء العالم ، الذي يعيش فيه المسلمون ، تحت وطأه مختلف الأنظمة والسّلطات الجائرة.

وظلّ الإمام الخوئي المرجع الأعلى للمسلمين ، يحتل صدارة المرجعيّة علماً وعملاً وجهاداً ، وسيظلّ ما تركه من آثار لا تمحوها الأيّام ، مناراً على قمّة الحوزات العلميّة الخالدة. وقد ألحق بها كثيراً من الجهد الاجتماعي والثقافي ، يتّسع لمشاريع إنسانيّة ترعى مصالح المسلمين في أنحاء العالم.

وكانت تتّسع مرجعيّة الإمام الخوئي ما اتّسع الإسلام من شموليّة وتعميم لكل الشؤون ، في كل ما يرجع إلى نصرة الإسلام ، في عامّة الميادين ، ويتمثّل في :

١ ـ الجهاد العلمي : فيما خلّف من آثار علميّة ، أعدّ بها العلماء والمجتهدين ، ومراجع الدِّين ، وفيما خلّف من ابتكارات في الرأي والمبنى ، وإبداعات في العلوم الإسلامية وتطويرها.

٢ ـ الجهاد السياسي : في دعم الحركات الإسلاميّة ، التي لاذت بالمرجعيّة ، وانطلقت منها لصالح الإسلام والمسلمين.

٣ ـ الدّعم الثقافي : في إيجاد المؤسّسات الثقافية ، والتعليميّة ، ومكتبات عامّة ، ومدارس مرحليّة ، ودور للنّشر ، ومراكز للعبادة في مختلف عواصم العالم. وفي المحتوى الثقافي أيضاً ، أن أناط إلى أحد تلاميذه : أن يضع رسائل مشبعة في الأُصول الاعتقاديّة : من المبدأ والمعاد ، والنبوّة ، والإمامة ، والعدل الإلهي ، وحياة المهدي المنتظر ، بأسلوب عصري يلائم ثقافة الشباب المتطلِّع في البلاد الإسلامية. فتناولها الشباب الجامعي قبل غيرهم ، بكل إعجاب وتقدير (١).

٤ ـ الدّعم الاجتماعي : في إيجاد مبرّات خيريّة ، ومراكز صحيّة ، وإمدادات اجتماعيّة ، ومجتمعات سكنيّة انتشرت في عواصم العالَم (٢).

__________________

(١) كتبها العلاّمة الشيخ محمّد حسن آل ياسين ، نجل آية الله العظمى شيخ الفقهاء الشيخ محمّد رضا آل ياسين ، ووضع مقدّمتها الكاتب.

(٢) وأهم هذه المؤسّسات : مؤسّسة الإمام الخوئي المركزيّة في لندن ، بنظارة نجليه الفاضلين الأستاذ السيِّد عبد الصاحب والعلاّمة السيِّد عبد المجيد الخوئي.

١٨

٥ ـ الدّعم الاقتصادي : في تدويل الأموال والوجوه الشرعيّة من الطّبقات المُتْرفة والمُرفّهة إلى الطّبقات المُعدمة والمُعسرة. والعمل على أن يكون بيت المال ثروة عامّة تجري في عروق المجتمع ، وتدور في قلب الحوزات العلميّة ، لتكون غنيّة عن سطوة السلطان ، بعيدة عن نفوذه.

مسؤوليّات مرجعيّة الإمام الخوئي :

وكان الإمام الخوئي : زعيماً حكيماً ، حديد النظر ، عالماً بزمانه ، يترسّم خطى الأئمّة الهداة عليهم‌السلام واحداً بعد آخر ، فيما يشبه زمانه بزمانهم ، يتصرّف في الأُمور وفق تصرّفهم حراسةً على حياة المسلمين العقليّة والثقافيّة والعقيديّة.

كما كان يرى : أنّ الحوزة العلميّة حصناً للإسلام ، ومنطلقاً للصمود ، باعتبارها وديعة الإمام الغائب ، على امتداد الغيبة الكبرى.

كان يرى أنّ المرجعيّة هي المسئولة عن المسلمين ، وهي ترعى واقعيّتين :

١ ـ واقعيّة مكنونة ( وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ ) (١) والله هو الحافظ لها ( إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (٢) وقد أوعد أنّه يحفظه بحراسته وصيانته.

٢ ـ واقعيّة اعتقاديّة : وهي التي ينبغي للناس أن يحافظوا هم عليها ( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (٣).

فإنّ ما يداهم الناس من إخطار على الدِّين فهي على ما عند الناس من دين وإيمان وعقيدة. وأمّا ما هو الحجّة عليهم ، فلا تناله الأخطار ( لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) (٤) ، وإنّما يأتي الباطل من كلّ حدب وصوب على ما عند الناس من دين وإيمان.

__________________

(١) الأنفال : ٣٩.

(٢) الحجر : ٩.

(٣) الرّعد : ١١.

(٤) فصِّلت : ٤٢.

١٩

وقد أدرك الإمام الخوئي هذه الأخطار فأقدم على دعم الدِّين على صعيدين :

١ ـ صعيد الكتاب والسنّة بما أحيى من علوم القرآن ، وبما بنى على الكتاب والسنّة من أحكام.

٢ ـ وعلى صعيد الدعوة إلى الإسلام ، ونصرة الدِّين وإعزازه ، ونصرة المسلمين وحمايتهم.

بين الحكومة الإسلاميّة وحاكميّة الإسلام :

كانت ولا تزال هذه المرجعيّة العُليا تستهدف حاكميّة الإسلام في أوساط المسلمين. ومن هذا المنطلق : يظهر أنّ هناك فرقاً بين الحكومة الإسلاميّة ، كدولة ذات سيادة واستقلال ، وبين حاكميّة الإسلام ، كعقيدة ومبدأ يعتنقه المسلمون ، ويتعبّدون به.

وعلى أساس هذا الفارق ، فأيّتهما تكون : الهدف والغاية وأيّتهما تكون الوسيلة والطريق :

١ ـ البُنية الشكليّة : وهي التي تتقوّم بالسلطات التنفيذيّة ، والأنظمة الإداريّة ، والطّاقات البشريّة ، المجنّدة لها.

٢ ـ البُنية التحتيّة : وتتقوّم بالرسالة الإسلاميّة ، المتمثِّلة في التشريعات الإلهيّة ، والأحكام الدينيّة ، والمفاهيم الاعتقاديّة.

وفي الحقيقة : إنّ البنية الأُولى : هي الوسيلة والطريق ، والبنية الثانية هي الهدف والغاية.

وكلّما كانت الوسيلة أتقن وأقوم كان الوصول إلى الهدف أقرب إلى المستوي المنشود. ثمّ إنّه قد لا تتوقّف حاكميّة الإسلام ونفوذه الواقعي على إقامة حكومة إسلاميّة ذات بنية شكليّة ، عند ما تتعذّر إقامتها ، شأن جميع الأديان السماويّة ، التي فقدت شكليّة الحكم في عمل الأنبياء ، خلافاً للدين الإسلامي ، الذي كُتِبَ له الخلود ، فاقتضى ذلك إقامة خلافة إلهيّة تحكم المسلمين ، كما تحكمهم الرسالة الإسلامية نفسها.

ومن المسلّم : أنّ محتوى الرسالة الإسلامية يبتني على ثلاثة أُمور :

١ ـ العقائد الأُصول ، وما نشأ عنها من الفلسفة الإسلاميّة ( علم الكلام ) وهي تبتني‌

٢٠