بحث حول المهدي (عج)

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحث حول المهدي (عج)

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الدكتور عبدالجبار شرارة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤٣

وبهذا تصبح المعجزة حالة استثنائية لهذا الاطّراد في الاقتران أو التتابع دون ان تصطدم بضرورة او تؤدي الى استحالة.

وأما على ضوء الاسس المنطقية للاستقراء (١) فنحن نتفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة ، في أنّ الاستقراء لا يبرهن على علاقة الضرورة بين الظاهرتين ، ولكنّا نرى أنّه يدلّ على وجود تفسير مشترك لاطّراد التقارن او التعاقب بين الظاهرتين باستمرار ، وهذا التفسير المتشرك كما يمكن صياغته على أساس افتراض الضرورة الذاتية ، كذلك يمكن صياغته على أساس افتراض حكمة دعت منظم الكون إلى ربط ظواهر معينة بظواهر أخرى باستمرار ، وهذه الحكمة نفسها تدعو أحياناً إلى الاستثناء فتحدث المعجزة.

__________________

(١) راجع بسط وشرح النظرية في « إلأسس المنطقية للاستقراء» حيث توصل الإمام الشهيد الصدر رضي الله عنه الى اكتشاف مهم وخطير على صعيد نظرية المعرفة بشكل عام.

٨١

( المبحث الثالث )

لماذا كل هذا

الحرص على إطالة عمره؟

٨٢
٨٣

ونتناول الآن السؤال الثاني ، وهو يقول :

لماذا كلّ هذا الحرص من الله سبحانه وتعالى على هذا الإنسان بالذات ، فتُعطّل من أجله القوانين الطبيعية لإطالة عمره؟ ولماذا لا تترك قيادة اليوم الموعود لشخص يتمخض عنه المستقبل ، وتضجه إرهاصات اليوم الموعود فيبرز على السلاحة ويمارس دوره المنتظر.

وبكلمة أخرى : ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة وما المبرّر لها؟

وكثير من الناس يسألون هذا السؤال وهم لا يريدون ان يسمعوا جواباً غيبياً ، فنحن نؤمن بأنّ الأئمة الاثني عشر مجموعة فريدة (١) لا يمكن التعويض عن

__________________

(١) اشارة الى معتقد الإمامية الاثني عشرية المستند إلى أدلة المعقول والمنقول ، وبالأخص إلى حديث الثقلين المتواتر « إنّي تركتم فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي». راجع : صحيح مسلم ٤ : ١٨٧٣ وراجع الصواعق المحرقة لابن حجر : ص ٨٩ ، قال : ثمّ اعلم أنّ لحديث التمسّك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً.

وكذلك إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض..» وإلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إلخلفاء بعدي اثنا عشر كلهم من قريش ». ومفاد ذلك كله تقرير هذا المعنى.

٨٤

أي واحد منهم ، غير أنّ هؤلاء المتسائلين يطالبون بتفسير اجتماعي للموقف ، على ضوء الحقائق المحسوسة لعملية التغيير الكبرى نفسها والمتطلبات المفهومة لليوم الموعود.

وعلى هذا الاساس نقطع النظر مؤقتاً عن الخصائص التي نؤمن بنوفرها في هؤلاء الائمة المعصومين (١) ونطرح السؤال التالي :

إننا بالنسبة إلى عملية التغيير المرتقبة في اليوم الموعود ، بقدر ما تكون مفهومة على ضوء سنن الحياة وتجاربها ، هل يمكن ان نعتبر هذا العمر الطويل لقائدها المدّخر عاملاً من عوامل إنجاحها ، وتمكنه من ممارستها وقيادتها بدرجة أكبر؟

ونجيب عن ذلك بالإيجاب ، وذلك لعدة أسباب منها ما يلي :

إنّ عملية التغيير الكبرى تتطلب وضعاً نفسياً فريداً في القائد الممارس لها ، مشحوناً بالشعور .. بالتفوق والإحساس بضآلة الكيانات الشامخة التي أعُدّ للقضاء عليها ، وتحويلها حضارياً إلى عالم جديد.

فبقدر ما يعمر قلب القائد المغيّر من شعور بتفاهة الحضارة التي يصارعها ، وإحساس واضح بأنها مجرد نقطة على الخط الطويل لحضارة الإنسان ، يصبح أكثر

__________________

(١) تحدّث النبي الأكرم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيراً عن خصائصهم وأدوارهم ، ووظيفتهم ومهماتهم ، وأنهم حملة الشريعة ، وسفن النجاة ، وأمان الأمّة ، وعصمتها من الضلال ، كما اليه الإشارة في حديث الثقلين ، وحديث لن يفترقا وكلاهما يؤكدان عصمتهم ، إذ لا يعقل أنهم عصمة اُمّة من الضلال ، وأنهم لن يفترقا عن القرآن المعصوم ، وهم غير معصومين!!

راجع في هذا المطلب : الأصول العامة للفقه المقارن / العلامة محمد تقي الحكيم / مبحث حجية السنّة : ص ١٦٩ وما بعدها.

٨٥

قدرة من الناحية النفسية (١) على مواجهتها والصمود في وجهها ومواصلة العمل ضدها حتى النصر.

ومن الواضح أنّ الحجم المطلوب من هذا الشعور النفسي يتناسب مع حجم التغيير نفسه ، وما يراد القضاء عليه من حضارة وكيان ، فكلما كانت المواجهة لكيان أكبر ولحضارة أرسخ وأشمخ تطلّبت زخماً أكبر من هذا الشعور النفسي المفعم.

ولما كانت رسالة اليوم الموعود تغيير عالم مليء بالظلم وبالجور ، تغييراً شاملاً بكل قيمه الحضارية وكياناته المتنوعة ، فمن الطبيعي ان تفتش هذه الرسالة عن شخص أكبر في شعوره النفسي من ذلك العالم كله ، عن شخص ليس من مواليد ذلك العالم الذين نشأوا في ظل تلك الحضارة التي يراد تقويضها واستبدال حضارة العدل والحق بها ؛ لأنّ من ينشأ في ظل حضارة راسخة ، تعمر الدنيا بسلطانها وقيمها وفكارها ، يعيش في نفسه الشعور بالهيبة تجاهها ؛ لأنّه ولد وهي قائمة ونشأ صغيراً وهي جبارة ، وفتح عينيه على الدنيا فلم يجد سوى أوجهها المختلفة.

وخلافاً لذلك ، شخص يتوغل في التاريخ عاش الدنيا قبل أن ترى تلك الحضارة النور ، ورأى الحضارات الكبير سادت العالم الواحدة تلو الأخرى ثمّ تداعت وانهارت (٢) ، رأى ذلك بعينيه ولم يقرأه في كتاب تاريخ ..

__________________

(١) أن يكون القائد التاريخي مهيّئاً نفسياً ومعدّاً إعداداً مناسباً لأداء المهمة ، أمرٌ مفروغ منه ، ولو رجعنا الى القرآن الكريم لوجدناه يتحدث عن هذه المسألة في تاريخ الأنبياء بصورة واضحة جداً ، وبخاصة فيما يتعلق بالنبي نوح عليه‌السلام ، وهو أمر يلفت الانتباه والنظر ، وربما يكون للتشابه والاتفاق في الدور والمهمة التي أوكلت لهما ، كما نبّه الشهيد الصدر رضي الله عنه إليه.

راجع : مع الأنبياء / عفيف عبد الفتاح طبارة.

(٢) ويمكن ان وتقرّب هذا المعنى بما عشناه وشاهدناه من صعود الاتحاد السوفيتي وترقية حتى صار

٨٦

ثمّ رأى الحضارة التي يقدّر لها أن تكوّن الفصل الأخير من قصة الإنسان قبل اليوم الموعود ، رآها وهي بذور صغيرة لا تكاد تتبين ..

ثمّ شاهدها وقد اتخذت مواقعها في أحشاء المجتمع البشري تتربص الفرصة لكي تنمو وتظهر ..

ثمّ عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتصاب بالنكسة تارة ويحالفها التوفيق تارة أخرى ..

ثمّ واكبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر بالتدريج على مقدّرات عالم بكامله ، فإنّ شخصاً من هذا القبيل عاش كلّ هذه المراحل بفطنة وانتباه كاملين ينظر إلى هذا العملاق ـ الذي يريد أن يصارعه ـ من زاوية ذلك الامتداد التاريخي الطويل الذي عاشه بحسّه لا في بطون كتب التاريخ فحسب ، ينظر إليه لا بوصفه قدراً محتوماً ، ولا كما كان ينظر (جان جاك روسو) (١) إلى الملكيّة في فرنسا ، فقد جاء عنه انّه كان يرعبه مجرد أن يتصور فرنسا بدون ملك ، على الرغم من كونه من الدعاة الكبار فكرياً وفلسفياً الى تطوير الوضع السياسي القائم وقتئذٍ ؛ لأنّ (روسو) هذا نشأ في ظل الملكيّة ، وتنفس هواءها طيلة حياته ، وأما هذا الشخص المتوغل في التاريخ ، فله هيبة التاريخ ، وقوة التاريخ ، والشعور المفعم بأنّ ما حوله من كيان وحضارة وليد يوم من أيام التاريخ ، تهيأت له الأسباب فُوُجِد ، وستتهيأ

__________________

القطب الثاني في العالم ، وتقاسم هو وأمريكا النفوذ الحضاري والهيمنة السياسية ، وركبا معاً أجواء الفضاء ، ثمّ شهدنا انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك أوصاله بمثل تلك السرعة القياسية في الانهيار ، فكم كان لذلك من أثر؟ وكم كان فيه من عبرة؟ وكم فيه من دلالة عميقة؟

(١) جان جاك روسو (١٧١٢ ـ ١٧٧٨ م) كاتب وفيلسوف فرنسي اعتبره بعض النقاد الوجه الأبعد نفوذاً في الادب الفرنسي الحديث والفلسفة الحديثة ، وقد مهدت كتاباته ومقالاته للثورة الفرنسية ، وأشهر مؤلفاته العقد الاجتماعي. راجع : موسوعة المورد / منير البعلبكي ٨ : ١٦٩.

٨٧

الأسباب فيزول ، فلا يبقى منه شيء كما لم يكن يوجد منه شيء بالأمس القريب أو البعيد ، وانّ الأعمار التاريخية للحضارات والكيانات مهما طالت فهي ليست إلاّ أياماً قصيرة في عمر التاريخ الطويل.

هل قرأت سورة الكهف؟

وهل قرأت عن أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم الله هدى (١)؟ وواجهوا كياناً وثنياً حاكماً ، لا يرحم ولا يتردد في خنق أي بذرة من بذور التوحيد والارتفاع عن وحدة الشرك ، فضاقت نفوسهم ودبّ إليها اليأس وسدّت منافذ الأمل أمام أعينهم ، ولجأوا إلى الكهف يطلبون من الله حائلاً لمشكلتهم بعد أن أعيتهم الحلول ، وكبر في نفوسهم أنّ يظل الباطل يحكم ويظلم ويقهر الحق ويصفّى كلّ من يخفف قلبه للحق.

هل تعلم ماذا صنع الله تعالى بهم؟

إنه أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين (٢) في ذلك الكهف ، ثمّ بعثهم من نومهم ودفع بهم إلى مسرح الحياة ، بعد أن كان ذلك الكيان الذي بهرهم بقوتهم وظلمه قد تداعى وسقط ، واصبح تاريخاً لا يُرعب احداً ولا يُحرّك ساكناً كل ذلك لكي يشهد هؤلاء الفتية مصرع ذلك الباطل الذي كبر عليهم امتداده وقوته واستمراره ويرو انتهاء امره باعينهم ويتصاغر الباطل في نفوسهم.

ولئن تحققت لأصحاب الكهف هذه الرؤية الواضحة في كل ما تحمّل من زخم وشموخ نفسيّين من خلال ذلك الحدث الفريد الذي مددّ حياتهم ثلاثمائة سنة ، فإن

__________________

(١) اشارة الى الآية القرآنية المباركة : ( إِنَّهُم فِتيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِم وَزِدنَهُمْ هُدًى ... ) الكهف : ١٣ ، وراجع تفسيرها في الكاشف / الزمخشري ٢ : ٧٠٦ ، نشر دار الكتاب العربي ـ بيروت.

(٢) إشارة إلى الآية : ( وَلَبِثُوا فِي كَهفِهِم ثَلَـثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازدَادُوا تِسعاً ... ) الكهف : ٢٥.

٨٨

الشيء نفسه يتحقق للقائد المنتظر من خلال عمره المديد الذي يتيح له أن يشهد العملاق وهو قزم والشجرة الباسقة وهي بذرة ، والإعصار وهو مجرد نسمة (١).

اضف الى ذلك ان التجربة التي تتيحها مواكبة تلك الحضارة المتعاقبة ، والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوارتها لها أثر كبير في الإعداد الفكري وتعمير الخبرة القيادية في اليوم الموعود ؛ لأنها تضع الشخص المدّخر امام ممارسات كثيرة للآخرين بكل ما فيها من نقاط الضعف والقوة ، ومن ألوان الخطأ والصواب ، وتعطي لهذا الشخص قدرة اكبر على تقييم الظواهر الاجتماعية بالوعي الكامل على أسبابها ، وكل ملابساتها التاريخية.

ثمّ إنّ عملية التغيير المدّخرة للقائد المنتظر تقوم عى أساس رسالة معينة هي رسالة الاسلام ، ومن الطبيعي ان تتطلّب العملية في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الاسلام الاولى ، قد بنيت شخصيته بناءً كاملاً بصورة مستقلة ومنفصلة عن مؤثرات الحضارة التي يقدر اليوم الموعود أن يحاربها.

وخلافاً لذلك ، الشخص الذي يولد وينشأ في كنف هذه الحضارة وتتفتح افكاره ومشاعره في إطارها ، فإنّه لا يتخلص غالباً من رواسب تلك الحضارة ومرتكزاتها ، وإن قاد حملة تغييرية ضدّها.

فلكي يضمن عدم تأثر القائد المدّخر بالحضارة التي اُعدّ لإستبدالها ، لابدّ أن تكون شخصية قد بنيت بناءاً كاملاً حضارية سابقة هي أقرب ما

__________________

(١) وكلّ ذلك له مدخلية في تربية وإعداده الاعداد الخاص ، بما في ذلك من امتلاكه النظرة الشمولية العميقة ، فضلاً عن شهوده بنفسه ضآلة أولئك المتعملقين الذين يملؤون الدنيا ضجيجاً وصخباً ، ويسترهبون الناس ، وهذا الشهود يؤهله أكثر فأكثر لأداء مهمته الكونية في التغيير ، أي ملئه للأرض عدلاً بعد ما ملئت ظلماً ، هذه بغمض النظر الى مؤهلاته الذاتية ، والعناية الربانية الخاصة.

٨٩

تكون في الروح العامة ومن ناحية المبدأ إلى الحالة الحضارية التي يتجه اليوم الموعود الى تحقيقها بقيادته (١).

__________________

(١) ولا ينبغي ان يُشكل أحد بإنّ النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عالمية رسالته ومهمته التغييرة الكبرى إلا أنه عاش في كنف الحضارة الجاهلية ، ولم يتأثر بها ، وكذا الانبياء السابقون ، فما هو الوجه في هذا الرأي؟

فجوابه :

أ ـ إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخضع فعلاً إلى حالة عزالة تامة عن الحضارة الجاهلية ، وأنه كما ورد في السيرة النبويّة قد حُبّبَ إليه الخلاء ، وكان يذهب إلى غار حراء يتحنث فيه وكذا الأنبياء كانوا يتنزّهون عما عليه مجتمعهم ، وكانوا يعتزلون ، واليه الاشارة في قوله تعالى : ( فلُمّا اعتَزَلَهُم ومَا يَعبُدُون مِن دون الله وَهَبنا لَهُ إسْحَاقَ ) مريم : ٤٩.

ب ـ إنّ النبي المرسل يوحى اليه ، ويسدّد مباشرة من السماء ، ويبلّغ بالأعمال والخطوات التي يتخذها خطوةً خطوةً ، والإمام عليه‌السلام لا يوحى اليه ـ كما هو عقيدة الامامية ـ ولا يبلّغ بالأمور مباشرةً من السماء ، نعم يكون مسدّداً وتحت العناية الربانية ، ولذلك فهو يحتاج إلى اعداد خاص. ففي نفس الوقت الذي يكون فيه قريباً ومتصلاً بالحضارة الإسلامية ، مستمداً من آبائه عليهم‌السلام الأصالة والمعرفة والعلم ، يكون مطلّلعاً على التجارب البشرية والحضارات في صعودها وعوامل تكوّنها وقوتها ، وكذلك إخفاقاتها وعوامل ضعفها وانهيارها ، فيستمد الخبرة والقدرة والإحاطة بالأمور جميعاً ، هذا مع اعتقادنا بقدرات الامام العلمية الذاتية التي وهبها الله تعالى له ، وبكونه مسدداً من السماء كما سيتوضح في المبحث الرابع.

٩٠
٩١

( المبحث الرابع )

كيف اكتمل

إعداد القائد المنتظر؟

٩٢
٩٣

ونأتي الآن على السؤال الثالث القائل : كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر مع أنه لم يعاصر أباه الإمام العسكري إلاّ خمس سنوات تقريباً؟ وهي فترة الطفولة التي لا تكفي لإنضاج شخصية القائد ، فما هي الظروف التي تكامل من خلالها؟

والجواب : إنّ المهدي عليه‌السلام خَلَفَ أباه في إمامة المسلمين ، وهذا يعني أنه كان إماماً بكلّ ما في الإمامة من محتوىً فكري وروحي في وقت مبكر جداً من حياته الشريفة.

والإمامة المبكرة ظاهرة سَبقه إليها عددٌ من آبائه عليهم‌السلام ، فالإمام محمد بن علي الجواد عليه‌السلام تولّى الإمامة وهو في الثامنة من عمره (١) ، والإمام علي بن محمد الهادي تولّى الإمامة وهو في التاسعة (٢) من عمره ، والإمام أبو محمد الحسن العسكري (٣) والد القائد المنتظر تولّى الامامة وهو في الثانية والعشرين من عمره ،

__________________

(١) : الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي المكي ( ت ٨٥٥ هـ ). وراجع : الإرشاد / الشيخ المفيد : ص ٣١٦ وما بعدها.

(٢) و (٣) : التتمة في تواريخ الأئمة / السيد تاج الدين العاملي من أعلام القرن الحادي عشر الهجري ، نشر مؤسسة البعثة ـ قم. وراجع : الصواعق المحرقة لابن حجر : ص ١٢٣ ـ ١٢٤ ، وإذ ذكر طرفاً من سيرة الإمام وكراماته.

٩٤

ويلاحظ أنّ ظاهرة الإمامة المبكرة بلغت ذروتها في الإمام المهدي والإمام الجواد ، ونحن نسميها ظاهرة لأنها كانت بالنسبة إلى عدد من آباء المهدي عليه‌السلام تشكل مدلولاً حسيّاً علمياً عاشه المسلمون ، ووعوه في تجربتهم مع الامام بشكل وآخر ، ولا يمكن ان نطالب بإثباتٍ لظاهرة من الظواهر أوضح وأقوى من تجربة أمّة (١).

ونوضح ذلك ضمن النقاط التالية :

أ ـ لم تكن إمامة الإمام من أهل البيت مركزاً من مراكز السلطان والنفوذ التي تنتقل بالوراثة من الأب إلى الابن ، ويدعمها النظام الحاكم كإمامة الخلفاء الفاطميين ، وخلافة الخلفاء العباسيين ، وانما كانت تكتسب ولاء قواعدها الشعبية الواسعة عن طريق التغلغل الروحي ، والإقناع الفكري لتلك القواعد بجدارة هذه الإمامة لزعامة الإسلام ، وقيادته على أسس روحية وفكرية.

ب ـ إنّ هذه القواعد الشعبية بنيت منذ صدر الاسلام ، وازدهرت واتسعت على عهد الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام ، وأصبحت المدرسة التي رعاها هذان الإمامان في داخل هذه القواعد تشكل تياراً فكرياً واسعاً في العالم الاسلامي ، يضم المئات من الفقهاء والمتكلمين والمفسرين والعلماء في مختلف ضروب المعرفة الإسلامية والبشرية المعروفة وقتئذٍ ، حتى قال الحسن بن علي الوشا : إني دخلت مسجد الكوفة فرأيت فيه تسعمائة شيخ (٢) كلهم يقولون حدثنا جعفر بن محمد.

__________________

(١) راجع : الإرشاد / الشيخ المفيد : ص ٣١٩ وما بعدها.

الصواعق المحرقة : ص ١٢٣ ـ ١٢٤.

فقد أوردا قصة المحاورة التي دارت بين الإمام الجواد عليه‌السلام وبين يحيى بن أكثم زمن المأمون ، وكيف استطاع الإمام عليه‌السلام أن يثبت أعلميته وقدرته على إفحام الخصم وهو في تلك السن المبكرة.

(٢) راجع : المجالس السنية / السيد الأمين العاملي ٥ : ٢٠٩ ، وهذه قضية مهشورة تناقلها الخاص

٩٥

جـ ـ إنّ الشروط التي كانت هذه المدرسة وما تمثله من قواعد شعبية في المجتمع الإسلامي ، تؤمن بها وتتقيد بموجبها في تعيين الإمام والتعرف على كفاءته للإمامة ، شروط شديدة ؛ لأنها تؤمن بأنّ الإمام لا يكون إماماً إلاّ اذا كان أعلم علماء عصره (١).

د ـ إنّ المدرسة وقواعدها الشعبية كانت تقدم تضحيات كبيرة في سبيل الصمود على عقيدتها في الإمامة ؛ لأنها كانت في نظر الخلافة المعاصرة لها تشكل خطا عدائياً ، ولو من الناحية الفكرية على الأقل ، الأمر الذي أدّى إلى قيام السلطات وقتئذٍ وباستمرار تقريباً حملات من التصفية والتعذيب ، فقتل من قتل ، وسجن من سجن ، ومات في ظلمات المعتقلات المئات. وهذا يعني أنّ الاعتقاد بإمامة أئمة أهل البيت كان يكلّفهم غالياً (٢) ، ولم يكن له من الإغراءات سوى ما يحسّ به المعتق أو يفترضه من التقرب إلى الله تعالى والزلفى عنده.

هـ ـ إنّ الأئمة الذين دانت هذه القواعد لهم بالإمامة لم يكونوا معزولين عنها ،

__________________

والعام. وراجع : صحاح الأخباري / محمد سراج الدين الرفاعي : ص ٤٤ ، نقلاً عن الامام الصادق والمذاهب الاربعة / أسد حيدر ١ : ٥٦. وقال ابن حجر في الصواعق المحرقة ص ١٢٠ : «جعفر الصادق ، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته في جميع البلدان ، وروي عنه الأئمة الأكابر كيحيى بن سعيد وابن جريح ومالك والسفيانين وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السختياني ... ».

(١) كون الإمام أعلم أهل زمانه أمرٌ متسالم عليه عند الإمامية. راجع : الباب الحادي عشر / العلامة الحلي ، هذا وقد عرّضوا لأكثر من اختبار صلوات اله وسلامه عليهم لإثبات هذا المدّعى ، ونحجوا فيه.

راجع : الصواعق المحرقة لابن حجر : ص ١٢٣ ، فقد نقل تفصيلاً في هذه المسألة عن مسائل يحيى بن أكثم للإمام الجواد عليه‌السلام.

(٢) إنّ الاعتقاد بإمامة الائمة كلّف أتباعهم غالياً ، وهذا ثابت تاريخياً ، وليس الى إنكاره من سبيل ، والشاهد يدل على الغائب أيضاً. راجع : مقاتل الطالبين لأبي الفرج الأصفهاني.

٩٦

ولا متقوقعين في بروج عالية الشأن السلاطين مع شعوبهم ،ولم يكونوا يحتجبون عنهم إلاّ أن تحجبهم السلطة الحاكمة بسجن او نفي ، وهذا ما نعرفه من خلال العدد الكبير من الرواة والمحدثين عن كلّ واحد من الائمة الاحد عشر ، ومن خلال ما نقل من المكاتبات التي كانت تحصل بين الإمام ومعاصريه ، وما كان الإمام يقوم به من أسفار من ناحية ، وما كان يبثّه من وكلاء في مختلف انحاء العالم الاسلامي من ناحية اخرى ، وما كان قد اعتاده الشيعة من تفقّد أئمتهم وزيارتهم في المدينة المنورة عندما يؤمون الديار المقدّسة من كلّ مكان لأداء فريضة الحج (١) ، كلّ ذلك يفرض تفاعلاً مستمراً بدرجة واضحة بين الامام وقواعده الممتدة في أرجاء العالم الإسلامي بمختلف طبقاتها من العلماء وغيرهم.

و ـ إنّ الخلافة المعاصرة للأئمّة عليهم‌السلام كانت تنظر إليهم وإلى زعامتهم الروحية والإمامية بوصفها مصدر خطر كبير على كيانها ومقدّراتها ، وعلى هذا الأساس بذلت كلّ جهودها في سبيل تفتيت هذه الزعامة ، وتحملت في سبيل ذلك كثيراً من السلبيات ، وظهرت أحياناً بمظاهر القسوة والطغيان حينما اضطرها تأمين مواقعها إلى ذلك ، وكانت حملات الاعتقال والمطاردة مستمرة للأئمة (٢) أنفسهم على الرغم مما يخلّفه ذلك من شعور بالألم أو الاشمئزاز عند المسلمين وللناس الموالين على اختلاف درجاتهم.

__________________

(١) وقد أوصى الأئمة بذلك أتباعهم كما هو لسان الروايات الكثيرة.

راجع : أصول الكافي ١ : ٣٢٢ / كتاب الحجة ـ باب ٢ « إنّ الواجب على الناس بعدما يقضون مناسكهم أن يأتوا الإمام فيسألونه عن معالم دينهم ، ويعلمونه ولا يتهم ومودتهم له ».

(٢) راجع في تاريخ الائمة عليهم‌السلام ، وتعرّضهم للأضطهاد والمطاردة والسجن والقتل أحياناً :

أ ـ الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي.

ب ـ مقاتل الطالبين لابي الفرج الأصفهاني.

جـ ـ الإرشاد للشيخ المفيد.

٩٧

إذا أخذنا هذه النقاط الست بعين الاعتبار ، وهي حقائق تاريخية لا تقبل الشك ، أمكن ان نخرج بنتيجة وهي : انّ ظاهرة الامامة المبكرة كانت ظاهرة واقعية ولم تكن وهماً من الأوهام ؛ لأنّ الإمام الذي يبرز على المسرح وهو صغير فيعلن عن نفسه إماماً روحياً وفكرياً للمسلمين ، ويدين له بالولاء والإمامة كلّ ذلك التيار الواسع ، لابدّ أن يكون على قدر واضح وملحوظ بل وكبير من العلم والمعرفة وسعة الأفق والتمكن من الفقه والتفسير والعقائد ؛ لأنه لو لم يكن كذلك لما أمكن ان تقتنع تلك القواعد الشعبية بإمامته ، مع ما تقدم من أنّ الأئمة كانوا في مواقع تتيح لقواعدهم التفاعل معهم وللأضواء المختلفة أن تسلّط على حياتهم وموازين شخصيتهم. فهل ترى أنّ صبياً يدعو إلى إمامة نفسه وينصب منها علماً للإسلام وهو على مرأىً ومسمع من جماهير قواعده الشعبية ، فتؤمن به وتبذل في سبيل ذلك الغالي من أمنها وحياتها بدون ان تكلّف نفسها اكتشاف حاله ، وبدون ان تهزّها ظاهرة هذه الإمامة المبكرة لاستطلاع حقيقة الموقف وتقييم هذا الصبي الإمام؟ (١) وَهَب أنّ الناس لم يتحركوا لاستطلاع المواقف ، فهل يمكن أن تمرّ المسألة أياماً وشهوراً بل أعواماً دون ان تتكشف الحقيقة على الرغم من التفاعل الطبيعي المستمر بين الصبي الإمام وسائر الناس؟ وهل من المعقول ان يكون صبياً في فكره وعلمه حقاً ثمّ لا يبدو ذلك من خلال هذا التفاعل الطويل؟

وإذا افترضنا أنّ القواعد الشعبية لإمامة أهل البيت لم يتح لها ان تكتشف واقع الامر ، فلماذا سكتت الخلافة القائمة ولم تعمل لكشف الحقيقة اذا كانت في صالحها؟ وما كان ايسر ذلك على السلطة القائة لو كان الإمام الصبي صبياً في فكره وثقافته كما هو المعهود في الصبيان ، وما كان أنجحه من اسلوب أن تقدم هذا الصبي إلى شيعته وغير شيعته على حقيقته ، وتبرهن على عدم فكاءته للإمامة

__________________

(١) إشارة الى الامام المهدي عليه‌السلام ، ومن قبل إلى الإمام الجواد مثلاً.

٩٨

والزعامة الروحية والفكرية. فلئن كان من الصعب الإقناع بعدم كفاءة شخص في الأربعين أو الخمسين قد أحاط بقدرٍ كبير من ثقافة عصره لتسلّم الإمامة ، فليس هناك صعوبة في الإقناع بعدم كفاءة صبي أعتيادي مهما كان ذكياً وفطناً للإمام بمعناها الذي يعرفه الشيعة الاماميون (١) ، وكان هذا أسهل وأيسر من الطرق المعقدة وأساليب القمع والمجازفة التي انتهجتها السلطات وقتئذٍ.

إنّ التفسير الوحيد لسكوت الخلافة المعاصرة عن اللعب بهذه الورقة (٢) ، هو أنها أدركت أنّ الإمامة المبكرة ظاهرة حقيقية وليست شيئاً مصطنعاً.

والحقيقة أنها أدركت ذلك بالفعل بعد أن حاولت ان تلعب بتلك الورقة فلم تستطع ، والتأريخ يحدثنا عن محاولات من هذا القبيل وفشلها (٣) ، بينما لم يحدثنا إطلاقاً عن موقف تزعزعت فيه ظاهرة الإمامة المبكرة أو واجه فيه الصبّي الإمام إحراجاً يفوق قدرته أو يزعزع ثقة الناس فيه.

وهذا معنى ما قلناه من أنّ الإمامة المبكرة ظاهرة واقعية في حياة أهل البيت وليست مجرد افتراض ، كما أنّ هذه الظاهرة الواقعية لها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء الذي امتد عِبرَ الرسالات والزعامات الربانية.

ويكفي مثالاً لظاهرة الإمامة المبكرة في التراث الرباني لأهل البيت عليهم‌السلام

__________________

(١) أي على انه يجب ان يكون افضل الناس ، وأعلم الناس كما هو معتقد الإمامة الاثني عشرية.

راجع : حق اليقين في معرفة أصول الدين للسيد عبد الله شبر ( ت / ١٢٤٢ هـ ) ١ : ١٤١ ، المقصد الثالث.

(٢) يقصد تقديم الإمام الصبي للأختبار أمام الملأ لإظهار حقيقة الأمر.

(٣) قد فعل المأمون ذلك ، وانكشف لدى الخاص من العلماء مدى ما يمتلكه الإمام الجواد عليه‌السلام من الفقه والعلم. راجع : الصواعق المحرقة لابن حجر : ص ١٢٣.

٩٩

يحيى عليه‌السلام إذ قال الله سبحانه وتعالى : ( يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوّةِ وَآتَينَاهُ الحُكمَ صَبِيّاً ) سورة مريم : ١٢.

ومتى ثبت أنّ الإمامة المبكرة ظاهرة واقعية ومتواجدة فعلاً في حياة أهل البيت لم يعد هناك اعتراض فيما يخصّ إمامة المهدي عليه‌السلام لأبيه وهو صغير (١).

__________________

(١) وقد شاهد خاصة الشيعة الإمام المهدي واتصلوا به ، واخذوا عنه ، كما حصل عن طريق السفراء الاربعة. راجع : تبصرة الولي فيمن رأى القائم المهدي / البحراني ، الإرشاد / الشيخ المفيد : ص ٣٤٥ ، وراجع تفصيلاً وافياً في دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي ١ : ٥٣٥ وما بعدها.

١٠٠