بحث حول المهدي (عج)

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحث حول المهدي (عج)

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الدكتور عبدالجبار شرارة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤٣

دً ـ وينتقل السيد الشهيد إلى البحث الروائي وإلى ما رذده وأثاره المشككون والخصوم قديمأ وحديثأ بقوله :

« كيف نؤمن فعلاً بوجود المهدي؟ وهل تكني بضع روايات تنقل في بطون الكتب عن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للاقتناع الكامل بالإمام الثاني عشر على الرغم مما في هذا الافتراض من كرابة وخروج عن المألوف؟ بل كيف يمكن أن ئثبت أن للمهدي وجودأ تأريخيأ حقأ ، وليس مجرد افتراض توفرت ظروف نفسية لتثبيته؟ »

هكذا يطرح السيد ال!ثهيد هذا السؤال بكل تفرعاته الممكنة والمنتزع بعضها مما أثاره ويثيره بعض المتأثرين بمناهج الغرب في دراسة تاريخنا الإسلامي وقضايانا الإسلامية مثل أحمد أمين في دراسته ( المهدي والمهدوية ) ومرا سلك حذا المسلك من الخصوم (١).

ويتصدى السيد الشهيد للإجابة عن هذا السؤال متسلحأ ومتوسلأ بمنطق العقل والدليل العقلي ، وعندما يعرض الدليل الروائي أيضأ في المقام نجده يعرضه مدعومأ بالوثائق والواقع والتجربة التاريخية ، ولنسمعه يقول :

« إن فكرة المهدي بوصفه القائد المنتظر لتغيير العالم إلى الأفضل قد جاءت في أحاديث الرسول الأعظم عمومآ ، وفي روايات أئمة أهل البيت خصوصأ ، وأكدت في نصوص كثيرة بدرجة لا يمكن أن يرقى إليها الشك ، وقد أحصي أربعمائة حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق إخواننا أهل الشئة ، كما أحصي مجموع الأخبار الواردة في الإمام المهدي من طرق الشيعة والشئة فكانت أكز من (ستة آلاف رواية ) ، وهذا ـ كما يقول السيد المثهيد ـ رقم إحصائي كبير لا يتوفر نظيره في كثير

__________________

(١) أثرنا إلى طائفة منهم في الصحيفة ١٦.

٤١

من قضايا الإسلام البدعية التي لا يشك فيها مسلخ عادة » (١).

ج ـ يتخذ السيد الشهيد رضي الله عنه هنا مسلكأ جديداً في الاستدلال على ( الخصوصية المذهبية ) أي مسألة تجسيد الفكرة ( فكرة المهدي ) في إنسان معين هو الإمام الثاني عشر ، مستفيدأ من الروايات والبحث الروائي ، وموظفأ ذللث بصورؤ مبدعل! في إثبات ( المهدي ) ، فيطرح أولأ المبررات التي يراها كافية للاقتناع ويلخصها في دليلين أحدهما أطلق عليه ( الدليل الإسلامي ) والآخر ( العلمي ) فيقول : « فبالدليل الإسلامي نثبت وجود القائد المنتظر ، وبالدليل العلمي نبرهن على أن المهدي ليس مجرد أسطورة وافتراض بل هو حقيقة ثبت وجودها بالتجربة ا لتا ريخية ».

ويشرع بتقديم الدليل الإسلامي فيراه متمثلأ بمئات الروايات الواردة عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام والتي تدلّ على تعيين المهدي وكونه من أهل البيت ، ومن ولد فاطمة ، ومن ذرية الحسين عليه‌السلام وليس من ذرية الحسن عليه‌السلام ، وأنه التاسع من ولد الحسين عليه‌السلام ، وأن الخلفاء اثنا عشر. فإن هذه الروايات تحدد تلك الفكرة العامة وتشخفها في الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

ثم يقول رضوان الله تعالى عليه بشأن تلك الروايات : « وهي روايات بلغت درجة كبيرة من الكثرة والانتشار ـ كما ورد عن طرقنا ـ على الرغم من تحفظ الأئمة عليهم‌السلام واحتياطهم في طرح ذلك على المستوى العام وقاية للخلف الصالح من الاغتيال .. ».

إن الروايات الكثيرة جدأ التي تشكل رقماً إحصائيأ كبيراً ـ أي بلوغها حدّ

__________________

(١) راجع الصحيفة ١٠٣ ـ ١٠٤ من هزا الكتاب.

٤٢

التواتركا حكى غير واحد من العلماء ـ يرى السيد الشهيد أن الأساس في قبولها ليس مجرد الكزة العددية على الرغم من أنه قد استقز في الأوساط العلمية الروائية اعتبار مثل هذه الكزة ، بل هناك إضافة إلى ذلك مزايا وقرائن تبرهن على صحتها.

فالحديث الشريف عن الأئمة أو الخلفاء أو الأمراء بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنهم اثنا عشر إمامأ أو خليفة أو أميراً على اختلاف مق الحديث في طرت الختلفة ، قد أحصى بعض المؤلفين رواياته فبلغت أكز من مئتين وسبعين رواية مأخوذة من أشهر كتب الحديث عند الشيعة والشئة بما في ذلك البخاري ومسلم والترمذي وأب داود ومسند أحمد ومستدرك الحاكم ، وقد لاحظ الشهيد الصدر رضي الله عنه هنا أن البخاري ( المولود ١٩٤ ، والمتوفى ٢٥٦ هـ ) ، الذي نقل الحديث كان معاصرأللإمام الجواد والإمامين الهادي والعسكري وفي ذلك مغزي كبير؟ لأنه يبرهن على أن الحديث قد شخل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يتحقق مضمونه ، وهذا يعني أن نقل الحديث لم يكن متأثرأ بالواقع الإمامي الاثني عشري أو يكون انعكاسأ له؟ لأن الروايات المزيفة التي ئنسب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي انعكاسات أو تبريرات لواقع متأخر زمنيأ لا تسبق في ظهورها وتسجيلها كتب الحديث ، ولقد جاء الواقع الإمامي الاثنا عشري ابتداة بالإمام علي وانتهاة بالمهدي؟ ليكون التطبيق الوحيد المعقول لذلك الحديث النبوي الشريف.

هذا هو الدليل الإسلامي ، كما اصطلح عليه السيد الشهيد ، أي الدليل الروائي في إثبات المهدي.

أما الدليل الآخر الذي اصطلح عليه بـ ( العلمي ) والذي يسوقه السيد الشهيد لإثبات الوجود التاريخي للمهدي ، وأنه إنسان بعينه ولد وعاش واتصل بقواعده الشعبية وبخاصته ، فإن هذا الدليل يتكون كما يرى السيد الشهيد من التجربة التي

٤٣

عاشتها أفة من الناس فترة امتدت سبعين سنة تقريبأ وهي فترة الغيبة الصغرى. ويعطي السيد الشهيد هنا فكرة عن هذه الغيبة ، ويفلسفها ، مبينأ دور القائد المهدي ، ودورسفرائه الأربعة ، وما صدر عنه من إتوقيعات) أي رسائل وإجابات كلها جرت على أشلوب واحد ، وبخط واحد وسليقة واحدة طيلة نيابة النواب الأربعة الختلفين أسلوباً وسليقة وذوقاً وخطاً وبياناً ، ومثل هذا كاشف بالضرورة عن وجود ( الرجل ) ، لأنه قد ثبت واستقر في الأوساط الأدبية وبما لا يقبل الشك أن الأسلوب هو الرجل ، وكل الدارسين والمتذوقين للأدب يدركون هذه الحقيقة بوضوح.

وبعد هذه القرينة والشواهد القوية على وجود الإمام المهدي كما يؤكدها السيد الشهيد يتجه إلى منطق الاستقراء ونظريه الاحمال لتعزيز ذلك فيقول : « لقد قيل قديمأ : إن حبل الكذب قصير ، ومنطق الحياة يثبت أيضأ أن من المستحيل عمليأ بحساب الاحمالات أن تعيش أكذوبة جمهذا الشكل ، وكل هذه المدة ، وضمن كل تلك العلاقات والأخذ والعطاء ثم تكسب ثقة جميع من حوالا ».

وهكذا يخلص السيد ال!ثهيد إلى القول أخيرأ : « إن ظاهرة الغيبة الصغرى يمكن أن تعتبر بمثابة تجربة علمية لإثبات ما لها من واقع موضوعي ، والتسليم بالإمام القائد ، بولادته وحياته وغيبته وإعلانه العام عن الغيبة الكبرى التي استتر بموجبها عن المسرح ولم يكشف نفسه لأحد » (١) أي حتى يأذن الله تعالى له بالظهور لتأدية دوره ووظيفته التغييرية الكبرى « فيملأ الأرض عدلأ وقسطأ بعدما فلئت ظلمأ وجورا » ، كما بمثر بذلك خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا هو ما عليه اعتقاد الإمامية ، ومقتضى توقيع الإمام الثاني عشر بإعلانه الغيبة الكبرى.

وأخيرأ واستكمالاً للبحث ، ربما يثير بعضهم سؤالأ حول المنهج الذي اتبعه

__________________

(١) راجع الصحائف ١٠٤ ـ ١١١ من هذا الكتاب.

٤٤

الإمام الشهيد كما حدّدناه ، وكما هو في واقعه ـ والسؤال هو :

لماذا لم يسلك السيد الشهيد منهج المتقدمين في البحث الروائي ، ويضني عليه من إبداعاته والتفاتاته ما يزيل الشكوك والتقولات التي تثار حول أسانيد الروايات ، وتضعيف بعفهم لما؟

وفي الجواب عن ذلك نسجل الملاحظات الآتية :

أولاً : لقد ذكر السيد الشهيد أن هناك عددأ هائلأ من الروايات بلغت رقماً إحصائيأ لم يتوفر لأية قضية مشاجمهة من قضايا الإسلام ، بل إن بعفهم حكى التواتر فيها ، وعليه فليس بوسع مسلبم إنكار ذلك أو عدم الاعتقاد بموجبه الفهم إلأ لجهة أخرى ، وليس هي إلأ جهة تعفل المسألة ، وقد حظيت باهمامه وبالتركيز عليها.

ثانياً : إن أكز المنكرين المعاصرين إنما أنكروها من زاوية عدم تعفل الفكرة أو تشخيصها ونجسيدها في إنسان ولد قبل قرون ، وما يزال ذا وجوب حي حقيقي. ومن هنا اتخه السيد الشهيد ـ بلحاظ أن القضية في حقيقتها إسلامية وليست مذهبية فحسب ـ إلى (عقلنتها) من جميع جهاتها أو ما يلابسها ، تصوراً وقبولاً وواقعاً.

ثالثاً : إن شأن الإيمان بالمهدي شأن الإيمان بمطلق ما ورد من المغيبات مما ثبت عن طريق الرواية كسؤال منكر ؤنكير في القبر ونحو ذلك مما لم يرد في البخاري ومسلم (١) ، ومع ذلك فإن أحدأ من أبناء الإسلام لا يسعه إنكاره.

رابعاً : إن الاختلاف بين المتعبدين بحجية الخبر الصحيح والإيمان بموجبه ،

__________________

(١) راجع بحث الشيخ عبد المحسن العباد المنشور في مجلة الجامعة الإسلامية الصادرة بالمدينة المنورة / سنة ١٩٦٩ م.

٤٥

وعدم جواز تكذيبه ، إنما كان في مصداق القضية المتجسد في إنسان لا في أصل قضية المهدي ، وهو مما احتاج إلى تقديم المبررات المنطقية والعلمية لقبوله.

خامسأ : إن الذين أنكروا أو شككوا بالروايات الواردة في المهدي ، وحاولوا تضعيفها ليسوا من أهل الفن والعلم بالرواية وبالأسانيد (١) ، ولذلك فليس ما يدعو إلى إتعاب النفس معهم كثيراً ، بل لا بذ من الانجاه إلى تثبيت العقيدة في نفوس المؤمنين وذلك ( بعقلنتها) وتوظيفها لإعلاح شأنهم وشؤونهم. ولقد تعامل السيد ال!ثهيد مع قضية المهدي على أنها تجربة أئة ، وقضية أفة ، وكحقيقة ثابتة تاريخية تعيشحها الأفة شعورأ وأملأ وترقبأ وانتظارأ إيجابيأ فاعلأ ومؤثرأ في حياتها وجهادها المستمر بلا هوادة في مواجهة الظلم والظالمين والطغاة والجبارين ، هذا فضلأ على أن العلماء المتقدمين والمتأخرين قد أشبعوا هذا الموضوع بحثأ وتحقيقأ وناقشوا مناقشات وافية شافية كل الطعون والأقوال والتضعيفات المزعومة ، وقد أشرنا إلى ذلك آنفأ.

سادساً : إن من التهافت ، والخطل في الرأي بالنسبة إلى من يؤمن بموجب الخبر الصحيح ، ويوجب تصديقه لمجرد وروده في البخاري حتى لو كان مصادمأ لبعض الحقائق الطبيعية أو منافيأ للعقل أو للذوق إذ يوجب تأويله حينئذ (٢) ، حيث وردت مجموعة من الأحاديث والروايات مما يتنافى مع العقل والذوق في صحيح البخاري. ثم عندما تصل النوبة إلى مسألة ( المهدي المنتظر ) على تعدد طرقها ، وصحة أسانيدها في السق والمسانيد ، وعلى شرط البخاري ومسلم ، نراه يتوقف أو يتحفظ أو يتردد ، وليس لديه حجة إلأ أن المسألة ـ حسب تصوره

__________________

(١) راجع البحث السابق للشيخ العباد ، ودفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي ١ : ٢٠٥ ـ ٥٢٣.

(٢) راجع : تأويل نحتلف الحديث لابن قتيبة : ص ٢٧٦ ، طبعة القاهرة ١٣٢٦! ، أضواء على الشئة المحمدية / الشيخ محمود أبو رئة ، دراسات في البخاري والكافي / هالثم معروف الحسني.

٤٦

القاصر ـ من معتقدات الشيعة (١) ، مع أنها كما ثبت عقيدة السلف والخلف من جمهور الأمّة على امتداد القرون ، كما نبّه الى ذلك الشيخ منصور علي ناصف في غاية المأمول على التاج الجامع للأصول في الجزء الخامس وفي الصحيفة ثلاثمئة واحدى وستين.

سابعاً : إنّ بحث السيد الشهيد رضي الله عنه هو مقدمة لموسوعة ضخمة تتناول بالبحث الروائي مسألة المهدي ألّفها العلاّمة السيد محمد الصدر ، والسيد الشهيد رضي الله عنه عبّر عن أمله بالمؤلّف وبأنه اوفى المسالة حقّها ومن جميع جوانبها ، ولذا فلا مبرر للبحث الروائي عنده.

__________________

(١) راجع ما نقله الشيخ عبد المحسن العباد في بحثه المذكور سابقاً.

٤٧

عملي في التحقيق

أولاً : اعتمدث في ضبط النمق على عذة طبعات ، وهي وإن كانت متقاربة ، ولا يوجد بينها اختلاف مهم ، إلأ أننا أفدنا من مجموعها في إخراج النصق بصور؟ دقيقة ، والطبعات هي :

١ ـ طبعة مكتبة النجاح طهران ، نشرت سنة ١٩٧٨ م ، وفيها مقذمة قئمة للدكتور حامد حفني داود.

٢ ـ طبعة دار التعارف ـ بيروت / الطبعة الثالثة ١٩٨١ م ، وفيها إشارة إلى أن البحث هو مقذمة كتبها الشهيد الصدر رضي الله عنه لكتاب الحجة السيد الصدر الموسوم بر ( موسوعة الإمام المهدي ) ، والتي أشار إليها الشهيد الصدر في آخر البحث.

٣ ـ طبعة معاونية العلاقات الدولية في منظمة الإعلام الإسلامي / الطبعة الأولى ـ طهران ١٩٨٦ م ، رفيها مقذمة قئمة للعلأمة الشيخ محمد علي التسخيري.

ثانياً : قمتُ بتخريج الآيات القرآنية من المصحف الشريف.

ثالثاً : خرّجت الروايات من مظانها المعتبرة ومن كتب الفريقين المعتمدة.

رابعاً : وثّقت الإحالات والأقوال التي ذى ها الإمام الشهيد بالرجوع إلى مصا د رها.

خامساً : كتبت تعليقات مناسبة في الهامش إيضاحأ للإشارات والتنبيهات التي وردت في البحث.

سادساً : ذكرث بعض النكات المهمة حيثما اقتضى الأمر ذلك في ا الامش.

سابعاً : أضفنا بعض العناوين وحصرناها بين معقوفين ( ).

٤٨

ثامناً : هناك بعض الهوامش للشهيد الصدر علّمنا عليها بعلامة ( الشهيد الصدر ).

ولا يسعني في الختام إلاّ أن أحمد الله تعالى على ما وفقني إليه ، شاكراً لكل من أعانني على إنجاز هذا التحقيق ونشره ، مع خالص الدعاء بالتوفيق لمركز الغدير للدراسات الإسلامية لقيامه بنشر هذا الكتاب.

والحمد لله أولاً وآخراً

الدكتور

عبدالجبار شرارة

قم المقدسة ١٤١٦ هـ

٤٩

بسم الله الرحمن الرحيم

( ونريد أن نمنّ على الّذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين )

القصص : ٥

٥٠
٥١

( مقدّمة المؤلف )

٥٢
٥٣

ليس المهدي تجسيدأ لعقيدة إسلامية ذات طابع ديني فحسب ، بل هو عنوان لطموح ائحهت إليه البشرية بمختلف أديانهها ومذاهبها ، وصياغة لإلهام فطري (١) ، أدرك الناس من خلاله ـ على الرغم من تنوع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب ـ أن للإنسانية يومأ موعودأ على الأرض ، تحقّق فيه رسالات السماء بمغزاها الكبير ، وهدفها النهائي ، وتجد فيه المسيرة المكدودة للإنسان على مز التاريخ استقرارها وطمأنينتها ، بعد عنا طويل. بل لم يقتصر الشعور بهذا اليوم الغيي والمستقبل المنتظر على المؤمنين دينيأ بالغيب ، بل امتذ إلى غيرهم أيضأ وانعكس حتى على أشذ الإيديولوجيات والاتجاهات العقائدية رفضأ للغيب والغيبيات ، كالمادية الجدلية التي فشرت التاريخ على أساس التناقضات ، وآمنت بيوم موعود (٢) ، تصفّى

__________________

(١) إشارة إلى أن هذا ارتكاز في ضمير الإنسانية ، واعتقاد سائد عند أغلب شعوب الأرض ، إذ هناك شعور قويّ يخالجُ وجدان الإنسان بظهور المنقذ عندما تتعقد الأمور ، وتتعاظم المحنة ، وتدلهم الخطوب ، ويطبق الظلم ، وهو ما تبثئر به الأديان ، ومجكيه تاريخ الحضارات الإنسانية. راجع : سيرة الأئمة الاثني عثر / هاشم معروف الحسني ٢ : ٥١٦ فما نقله عن الكتب والمصادر ، ومنها : نظرية الإمامة عند الشيعة / الدكتور أحمد محمود صبحي.

(٢) إشارة إلى معتقد الماركسيين وأمانيهم باليوم الموعود حيث ستسود الشيوعية ـ كما يعتقدون ـ آخر الأمر ويتوقف الصراع المرير استنادأ إلى نظريتهم الشهيرة في المادية التاريخية. راجع : فلسفتنا / الشهيد الصدرح! : ص ٢٦ في عرض النظرية ومناقن!تها.

٥٤

فيه كل تلك التناقضات ويسود فيه الوئام والسلام. وهكذا نجد أن التجربة النفسية لهذا الشعور التي مارستها الإنسانيه على مر الزمن ، من أوسع التجارب النفسية وأكثرها عمومأ بين أفراد الإنسان.

وحينما يدعم الدين هذا الشعور النفسي العام ، ويؤكد أن الأرض في نهاية المطاف ستمتلى قسطأ وعدلأ بعد أن ئيئت ظلما وجوراً (١) ، يعطي لذلك الشعور قيمته الموضوعية ويحوله إلى إيمان حاسم بمستقبل المسيرة الإنسانية ، وهذا الإيمان ليس مجرد مصدر للسلوة والعزاء فحسب ، بل مصدر عطاء وقوة. فهو مصدر عطاء؟ لأن الإيمان بالمهدي إيمان برفض الظلم والجور حتى وهو يسود الدنيا كلها ، وهو مصدر قوة ودفع لا تنضب (٢) ؛ لأنه بصيص نور يقاوم اليأس في نفس الإنسان ، ويحافظ على الأمل إلمشتعل في صدره مهما ادالفت الخطوب وتعملق الظلم؟ لأن اليوم الموعود يثبت أن بإمكان العدل أن يواجه عالمأ مليئأ بالظلم والجور فيزعزع ما فيه من أركان الظلم ، ويقيم بناءه من جديد (٣) ، وأن الظلم مهما نجبز وامتذ في أرجاء العالم وسيطر على مقذراته ، فهو حالة غير طبيعية ، ولا بذ أن يخهزم (٤). وتلك ا الزيمة الكبرى المحتومة للظلم وهو في قة مجده ، تضع الأمل كبيرأ

__________________

(١) إشارة إلى الحديث الثريف المتواتر : « لو لم يبق من الدهر إلا يومٌ لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جورا ». راجع : صحيح سنن المصطنى لأب داود ٢ : ٢٠٧ ، وراجع : التاج الجامع للأصول للشيخ منصور علي ناصف ٥ : ٣٤٣.

(٢) هذا ردٌّ على من يزعم بأن العقيدة ني الإمام المهدي تورث الخمول والسلبية ، وهو أبلغ رد مستفاد من الحديث الشريف نفسه.

(٣) إشارة إلى دولة الإمام عليه‌السلام التي أشار إليها الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، راجع : التاج الجامع للأصول ٥ : ٣٤٣.

(٤) إشارة إلى الوعد الإلهي في قوله تعالى : (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين ) القصص : ٥ وأيضاً إشارة إلى قوله تعالى : (ليظهره على

٥٥

أمام كل فرد مظلوم ، وكل أفة مظلومة ، في القدرة على تغيير الميزان وإعادة البناء.

وإذا كانت فكرة المهدي أقدم من الإسلام وأوسع منه ، فإن معالمها التفصيلية التي حددها الإسلام جاءت أكز إشباعأ لكل الطموحات التي انشذت إلى هذه الفكرة منذ فجر التاريخ الديني ، وأغنى عطاث وأقوى إثارة لأحاسيس المظلومين والمعذبين على مز التاريخ. وذلك لأن الإسلام حؤل الفكرة من غيب إلى واقع ، ومن مستقبل إلى حاضر ، ومن التطفع إلى منقذ تخمخض عنه الدنيا في المستقبل البعيد المجهول إلى الإيمان بوجود المنقذ فعلاً ، وتطفعه مع المتطفعين إلى اليوم الموعود ، واكمال كل الظروف التي تسمح له بممارسة دوره العظجم. فلم يعد المهدي فكرة ننتظر ولادتهها ، ونبوءة نتطفع إلى مصداقها ، بل واقعأ قائمأ ننتظر فاعليته ، وإنسانأ معئنأ يعيش بيننا بلحمه ودمه ، نراه ويرانا ، ويعيش مع آمالنا وآلامنا ، ويشاركنا أحزاننا وأفراحنا ، ويثمهد كل ما تزخر به الساحة على وجه الأرض من عذاب المعذبين وبؤس البائسين وظلم الظالمين ، ويكتوي بكل ذلك من قريب أو بعيد ، وينتظر بلهفة اللحظة التي يتاح له فيها أن يمذ يده إلى كل مظلوم ، وكل محروم (١) ، وكل بائس ، ويقطع دابر الظالمين.

وقد فذر الذا القائد المنتظر أن لا يعلن عن نفسه ، ولا يكشف للآخرين

__________________

الدّين كلّه ولو كره المشركون ) التوبة : ٣٣. راجع في تفسير الآيتين الإشارة إلى المهدي عليه‌السلام ينابيع المودة / القندوزي الحنفي : ص ٤٥٠.

(١) إشارة إلى بشارة الرسول الأعظم نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديث الشريف : لا إن في أفتي المهدي ، يخرج يعيش خمساً أو سبعأ أو تسعأ ( الشك من الراوي ) قال : قلنا : وما ذاك؟ قال : سنين ، قال : فيجيء إليه الرجل فيقول يا مهدي أعطني أعطني قال : فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله ، رواه الترمذي. راجع : التاج الجامع للأصول / الشيخ منصور علي ناصف ٥ : ٣٤٣ وفيه أكز من إشارة إلى كون الإمام المهدي موجود حي يعيش في وسط الأفة ، وأن خروجه وعيشه ، سبع سنين يعني ظهوره وقيام دولته المباركة التي فيها الخلاص والعدل.

٥٦

حياته على الرغم من أنه يعيش معهم انتظارأ لفحظة الموعودة.

ومن الواضح أن الفكرة جمهذه المعالم الإسلامية ، تقرّب الهوّة الغيبية بين المظلومين كل المظلومين والمنقذ المنتظر ، وتجعل الجسر بينهم وبينه في شعورهم النفسي قصيرأ مهما طال الانتظار.

ونحن حيما يراد منا أن نؤمن بفكرة المهدي ، بوصفها تعبيرأ عن إنسان حيّ محدد يعيش فعلاً كما نعيش ، ويترقب كما نترقب ، يراد الإمجاء إلينا بأن فكرة الرفض المطلق لكل ظلم وجور التي يمثلها المهدي ، تجشدت فعلاً في القائد الرافض المنتظر ، الذي سيظهر وليس في عنقه بيعة لظالم كما في الحديث (١) ، وأن الإيمان به إيمان جمهذا الرفض الحي القائم فعلاً ومواكبة له.

وقد ورد في الأحاديث الحث المتواعل على انتظار الفرج ، ومطالبة المؤمنين بالمهدي أن يكونوا بانتظاره. وفي ذلك تحقيق لتلك الرابطة الروحية ، والصلة الوجدانية بينهم وبين القائد الرافض ، وكل ما يرمز إليه من قيم ، وهي رابطة وصلة ليس بالإمكان إمجادها ما لم يكن المهدي قد تجشد فعلاً في إنسان حيّ معاصر (٢).

وهكذا نلاحظ أن هذا التجسيد أعطى الفكرة زخهاً جديداً ، وجعل منها

__________________

(١) ورد عنه عليه‌السلام أنه سيظهر وليس في عنقه بيعة لظالم ، راجع : الاحتجاج / الطبرسي ٢ : ٥٤٥.

(٢) إشارة إلى أن ( المهدي ) ليس مجرد خفم أو فكرة ئداعب أفكار المظلومين وتناغي ضعورهم ، بل هو حقيقة حيّة مجشدة متشخصة في ذات إنسان بعينه ، ومن هنا تكون الفكرة مُلامسة لوجدانهم ، يعيشون بها ، ويعيشون لها ، ويسهمون في التحضير والتهيئة للالتحام في المعركة الفاصلة التي سيقودها القائد المنتظر ، ولو كانت مجرد خلم أو فكرة ، فليس من المتوقع أن تكون مثل تلك الصلة الوجدانية والنعورية. ومن هنا تتأتى أهمّية الانتظار ، وتبين فلسفته وغاياته ، وهو في جملته يتّسق مع حالة الترقب والإرهاص التي تسبق ظهور المنقذين من الأنبياء والمصلحين.

٥٧

مصدر عطاء وقوة بدرجة أكبر ، إضافة إلى ما يجده أي إنسان رافض من سلوة وعزاء وتخفيف لما يقاسيه من آلام الظلم والحرمان ، حين يحسّ أن إمامه وقائده يشاركه هذه الآلام ويتحسّس بها فعلاً بحكم كونه إنسانأ معاصرأ ، يعيش معه وليس مجرد فكرة مستقبلية.

ولكن التجسيد المذكور أدى في نفس الوقت إلى مواقف سلبية تجاه فكرة المهدي نفسها (١) لدى عدد من الناس ، الذين صعب عليهم أن يتصوروا ذلك ويفتر ضوه.

فهم يتساءلون!

إذا كان المهدي يعبّر عن إنسان حيّ ، عاصركل هذه الأجيال المتعاقبة منذ أكثر من عشرة قرون ، وسيظل يعاصر امتداداتها إلى أن يظهر على الساحة ، فكيف تأتى لهذا الانسان ان أن يعيش هذا العمر الطويل ، وينجو من قوانين الطبيعة التي تفرض على كل إنسان أن يمز بمرحلة الشيخوخة والهرم ، في وقت سابق على ذلك جدأ ، وتؤدي به تلك المرحلة طبيعيأ إلى الموت؟ أو ليس ذلك مستحيلاً من الناحية الواقعية؟ (٢)

__________________

(١) اختلفت الآراء وتباينت المواقف من مسألة المهدي المنتظر ، تبعاً لاختلاف المواقف من مسألة الغيب الديني والنصوص الدينية المشهورة والمتواترة ، على أن هناك إطباقأ بين علماء المسلمين والمحققين من أهل الحديث من السنة والشيعة على صحة العقيدة بالمهدي ، وعدم جواز التشكيك بها حتى جاء في المأثور : « مَنْ أنْكَرَ المَهْدي فَقد كَفَر ... » وقد استوفى هذه المسألة بحثاً الشيخ عبدالمحسن عباد في محاضرته التي نثرتهأ مجلة الجامعة الإسلامية / العدد الثالث / ١٩٦٩ م. وراجع : غاية المأمول شرح التاج الجامع للأصول للشيخ منصور علي ناصف ٥ : ٣٤٣.

(٢) هذا تساؤل فريق من الناس ، والواقع أنه يمكن تسجيل الملاحظة السريعة الآتية ، وإن كان سيأتي جوابه تفصيلأ :

٥٨

ويتساءلون أيضاً!

لماذا كل هذا الحرص من الله ـ سبحانه وتعالى ـ على هذا الإنسان بالذات؟ فتعطّل من أجله القوانين الطبيعية (١) ، وئفعل المستحيل لإطالة عمره والاحتفاظ به لليوم الموعود ، فهل عقمت البشرية عن إنتاج القادة الأكفاء؟ ولماذا لا يترك اليوم الموعود لقائد يولد (٢) مع فجر ذلك اليوم ، وينمو كما ينمو الناس ، ويمارس دوره بالتدريج حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلما وجوراً؟

ويتساءلون أيضاً!

إذا كان المهدي اسما لشخص محدّد هو ابن الإمام الحادي عشر (٣) من أئمة

__________________

أ ـ إنه ليس مستحيلأبالمعنى المنطتي ، بل هوفي دائرة الإمكان.

ب ـ إنه ليس مستحيلاً عادة؟ لوقوع نظاثر ذلك فعلاًً كما نصّ القرآن الكريم في مسألة نوح عليه‌السلام في قوله تعالى : ( فلَبثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً) العنكبوت : ١٤.

(١) إن تعطيل القوانين الطبيعية قد حدث مرارأ بالنسبة إلى معاجز الأنبياء عليهم‌السلام ، وهذا أمز ضروري من الدين لا مجال لنكرانه فإذا أخبر بذلك من وجبت تصديقه جاز بلا خلاف.

(٢) هذا إشارة إلى عقيدة طوائف من إخواننا أهل السنّة. راجع : التاج الجامع للأصول ٥ : ٣٦٠ ا الامثى.

(٣) هذا التساؤل أثير من قبل ويثار اليوم ، بأساليب مختلفة ، وكلها تستند إلى موهومات وافتراضات لا تقوم على أساسٍ من العلم ، بل هي مجرد تشكيكات ، ومحاولات بائسة للفرار من أصل القضية ولوازمها الضرورية ، فهي لا تعدو أن تكون أشبه بتشكيكات الماديين عندما جوبهوا بأدلة العقل والمنطق والعلم فما يتعلق بالله تعالى ، فلجأوا إلى تساؤلات ساذجة تحكي عدم إيمانهم بما قامت عليه الأدلة الوفيرة ، نظير قولهم : لو كان موجوداً فلماذا لا نراه؟ ولماذا لايفعل كذا وكيت؟

وهكذا شأن هؤلاء ، فعندما جوبهوا بالأدلة المنطقية والروايات المتواترة في مسألة المهدي المنتظر مما أطبق عليه الخاص والعام وبما لايسع المرء إنكاره ، لجأوا إلى التشكيك في أنه لم يعرف

٥٩

أهل البيت عليهم‌السلام الذي ولد سنة (٢٥٦ هـ ) (١) وتوفي أبوه سنة (٢٦٠ هـ ) ، فهذا يعني أنه كان طفلاً صغيراً عند موت أبيه ، لا يتجاوز خمس سنوات وهي سن لا تكفي للمرور بمرحلة إعداد فكري وديني كامل على يد أبيه ، فكيف وبأي طريقة يكتمل إعداد هذا الشخص(٢) لممارسة دوره الكبير ، دينياً وفكرياً وعلمياً؟

ويتساءلون أيضاً!

إذا كان القائد جاهزاً ، فلماذا كلّ هذا الانتظار الطويل مئات السنين؟

أوَليس في ما شهده العالم من المحن والكوارث الاجتماعية ما يبرّر

__________________

(١) لقد أثبت الشيخ المفيد في الإرشاد : ص ٣٤٦ ، والشيخ السعران في اليواقيت والجواهر ج ٢ / المبحث ٦٥ ، ولادة محمد بن الحسن العسكري في عام ٢٥٥ هـ ، وهما من أجلة المحققين لدى الفريقين ، وهذا ما يدحض التشكيكات التي يثيرها بعض أدعياء العلم ، فضلأ على ما يقتضيه الحديث المتواتر : لأ الأئمة اثنا دثر كلهم من قريش؟ ، فهو لايستقيم إلأ بما تقرر لدى الإمامية ، وبما التزموا به من إمامة اثني عشر إمامأ كلهم من العترة الطاهرة ، أوالم الإمام علي ابن أب طالب عليه‌السلام ، وآخرهم المهدي. وهؤلاء هم المنصوص عليهم ، ويدعم ذلك ويشهد له حديث الثقلين المتواتر ، وحديث من مات لايعرف إمام زمانه ، فهما لايستقيمان إلا على عقيدة الإمامية الاثني عشرية. راجع مناقشة وافية في : الأصول العامة للفقه المقارن / العلامة محمد تقي الحكيم / بحث حجية السنّة : ص ١٤٥ وما بعدها.

(٢) إن الذي تعهّد وتكفل بإعداد النبي عيسى عليه‌السلام ، ووهب النبي يحبى الحكم والحكة وهو صبيّ ، كما صرّح القرآن ، يمكن أن يتعهّد ويتكفل بمن أعدّه لتطهير الأرض من الظلم والجور في آخر الزمان ، كما هو نمق الخبر المتواتر في المهدي الزي هو من عترة فاطمة وذرية الحسين عليه‌السلام. راجع : التاج الجامع للأصول ٥ : ٣٤١ ـ ٣٤٣.

٦٠