نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-43-4
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٢٦

ووصف الاختصاص الوضعي بهما من باب الوصف بحال متعلقه لا بحال نفسه ، وقيديّة شيء لشيء وصيرورته مكثرا له لا تكون جزافا.

ومن يلتزم باتحاد المعنى ذاتا في الاسم والحرف لا مناص له عن الالتزام بامتياز كل منهما بما هو من شئونهما بأن يقال : إن الحرف ـ مثلا ـ موضوع للمعنى الذي يتعلق به اللحاظ الآلي والارادة التبعية ، فهو إشارة إلى ذات المعنى الخاص وإن كانت الخصوصية غير مقومة ، إلا أن المعنى في غير هذه الحال لا اختصاص وضعي له. وهذا المقدار كاف في الامتياز وعدم صحة استعمال كل منهما في مورد الآخر ، إلا أن المعنى ـ حينئذ ـ بالاضافة إلى الملحوظ حال الوضع ، كالحصة بالاضافة إلى الكلي ، فيكون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا ، فان الطبيعي له اعتباران :

أحدهما : ملاحظته موجودا بأنحاء وجوداته الذهنية بنحو الاشارة إلى الموجود بالعرض ، لا إلى نفس الوجودات الموجودة بالذات ؛ بناء على أصالة الوجود.

ثانيهما : ملاحظته بنفسه من غير ملاحظته موجودا بالعرض ، وفي هذا النظر يكون كليّا يشترك فيه الحصص ، ويكون في هذا النظر واحدا بوحدة عمومية ، وليس ـ مع قطع النظر عن هذا النظر ـ جهة جامعة ذاتية بين الموجودات الذهنية ؛ حتى يكون هو الموضوع له ؛ حتى يكون الوضع عامّا والموضوع له عامّا أيضا ، مع التحفظ على ما يوجب امتيازه عن الموجودات الذهنية بالاستقلال ، فانه لا يكون إلا بالإشارة إلى الموجودات بالعرض التي لا جامع لها إلا نفس المعنى الذي كان النظر مقصورا على نفسه ، فتدبر جيّدا.

٢٤ ـ قوله [ قدس سره ] : ( ثم لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والإنشاء ... الخ ) (١).

أما إن الإخبار والإنشاء من شئون الاستعمال ، وما كان كذلك لا يعقل

__________________

(١) الكفاية : ١٢ / ١٦.

٦١

دخله في المستعمل فيه ، فواضح جدّا.

وأما وحدة المستعمل فيه ـ في الجمل الخبرية والانشائية ـ ففيه تفصيل :

أما الجمل المتحدة لفظا وهيئة ـ نحو ( بعت ) الاخباري والانشائي ـ فالمستعمل فيه نفس نسبة إيجاد المضمون إلى المتكلم. وهذه النسبة الايجادية الواقعة بين المضمون ـ أعني المادة ـ والمتكلم قد يقصد الحكاية عنها ، وقد لا يقصد الحكاية عنها ، بل يقصد ثبوتها على نحو سيأتي الكلام فيه إن شاء الله (١).

وأما مثل صيغة ( افعل ) ، واشباهها ـ مما لا اشتراك له لفظا وهيئة مع جملة خبرية ـ فالمستعمل فيه في كل من الخبر والانشاء ، غير المستعمل فيه الآخر ، وذلك لأن صيغة ( اضرب ) ـ مثلا ـ مفادها بعث المخاطب نحو الضرب ، لكن لا بما هو بعث ملحوظ بذاته ، بل بما هو نسبة بين المتكلم والمخاطب والمادة ، فكما أن الشخص إذا حرك غيره خارجا ـ نحو القيام أو القعود ـ تحريكا خارجيا ، لا يكون الملحوظ ـ في حال تحريكه ـ إلا المادة من المخاطب ، ونفس تحريكه غير ملحوظ ولا مقصود بالذات ، فكذلك صيغة ( افعل ) موضوعة بإزاء هذا البعث الغير الملحوظ استقلالا ، ولذا مثل هذه النسبة لا خارج لها يطابقها أو لا يطابقها ، بل حالها حال التحريك الخارجي الذي هو فعل من الأفعال ، وكونه نسبة بين الاطراف بملاحظة عدم لحاظ نفسه ، كما أسمعناك سابقا من أن بعض المعاني الاسمية ربما يكون كالآلة لتعرّف حال غيره ، فيكون كالمعنى الحرفي.

وأما في الجملة الخبرية المتضمنة لمضمون البعث والتحريك ـ كقولك : ( أبعثك نحو الضرب ، أو أحرّكك نحوه ) إذا اريد الإخبار ـ فمن الواضح أن مضمون الهيئة ليس نفس البعث حتى يقال : إنّ البعث معنى واحد ، والتفاوت

__________________

(١) وذلك في التعليقة ١٥٠ عند قوله : ( قلت : الفرق أنّ المتكلّم ... ).

٦٢

باللحاظ الغير المقوم للمستعمل فيه ، بل مضمون الهيئة ـ كما هو واضح ـ نسبة البعث إلى المتكلم نسبة صدورية ، وكم فرق بين نسبة البعث والبعث الواقع نسبة ، فتدبره ، فإنه دقيق ، وبه حقيق.

٢٥ ـ قوله [ قدس سره ] : ( حيث إن أسماء الإشارة وضعت ليشار بها ... الخ ) (١).

كما هو ظاهر كلام بعض النحويين ، وقال ابن مالك :

( بذا لمفرد مذكّر أشر

..... ) (٢).

وعليه فالتشخّص الناشئ من قبل الإشارة التي هي نحو استعمال اللفظ في معناه ، لا يعقل أن يكون موجبا لتشخّص المستعمل فيه.

إلاّ أن التحقيق : أن وجود اللفظ دائما وجود بالذات لطبيعة الكيف المسموع ، ووجود بالعرض للمعنى المستعمل فيه ، فقولك : ( هذا ) إن كان وجودا لفظيا لنفس المفرد المذكر ، فاستعماله فيه إيجاد المفرد المذكر خارجا بوجوده الجعلي اللفظي ، فمن أين الإشارة حينئذ؟

وإن كان وجودا لفظيا للمفرد المشار إليه بنفس اللفظ ، فمن الواضح أن اللفظ لا يعقل أن يصير بالاستعمال ـ الذي هو نحو من الايجاد ـ وجودا للمشار إليه بنفس اللفظ.

وان كان وجودا لفظيا لآلة الإشارة ، فهو وجود بالعرض لآلة الإشارة ، لا للمعنى المشار إليه ، وليست الإشارة كاللحاظ والقصد المقوم للاستعمال ، بل لو اعتبرت لاعتبرت جعلا وبالمواضعة ، فيجري فيها ما ذكرناه من الشقوق

__________________

(١) الكفاية : ١٢ / ٢١.

(٢) وعجزه : ( بذي وذه تي تا على الانثى اقتصر ) من ألفيّة ابن مالك في « اسم الإشارة ».

٦٣

المتقدمة.

بل التحقيق : أن أسماء الإشارة والضمائر موضوعة لنفس المعنى عند تعلّق الإشارة به خارجا أو ذهنا بنحو من الأنحاء ، فقولك : ( هذا ) لا يصدق على زيد ـ مثلا ـ إلا إذا صار مشارا إليه باليد أو بالعين ـ مثلا ـ فالفرق بين مفهوم لفظ المشار إليه ولفظ ( هذا ) هو الفرق بين العنوان والحقيقة ، نظير الفرق بين لفظ ( الربط ) و ( النسبة ) ، ولفظ ( من ) و ( في ) وغيرهما. وحينئذ فعموم الموضوع له لا وجه له ، بل الوضع ـ حينئذ ـ عام والموضوع له خاص ، كما عرفت في الحروف.

٢٦ ـ قوله [ قدس سره ] : ( بيان ذلك أنّه إن اعتبر دلالته ... الخ ) (١).

بيانه : أن في مثل الكلام المزبور : إما أن يفرض الدلالة على شيء والحكاية عنه ، فيلزم المحذور الأوّل ؛ إذ لا مدلول وراء نفسه ، ولا محكيّ غير شخصه ، ووصفا الدالّ والمدلول من الأوصاف المتقابلة ، واتصاف الواحد بوصفين متقابلين محال.

وإما أن لا يفرض الدلالة والحكاية ـ بل كان حال موضوع القضية حال سائر الأفعال الخارجية والإنشاءات الفعلية ـ فيلزم المحذور الثاني ؛ إذ المفروض عدم الموضوع لحقيقة القضية الواقعية قبالا للقضية اللفظية ، وإنما هناك بحسب الاعتبار محمول ونسبة ، مع أنّ قيام النسبة بطرف واحد محال ، فهذان محذوران على فرضين وتقديرين.

٢٧ ـ قوله [ قدس سره ] : ( يمكن أن يقال : يكفي (٢) تعدّد الدالّ والمدلول اعتبارا ... الخ ) (٣).

__________________

(١) الكفاية : ١٤ / ١٣.

(٢) في الكفاية ـ تحقيق مؤسستنا ـ إنه يكفي ..

(٣) الكفاية : ١٤ / ١٨.

٦٤

حاصله : أن الصدور والمراديّة حيثيتان واقعيتان موجودتان في الكلام المفروض ، فلم يلزم اتصاف الواحد بما هو واحد بوصفين متقابلين.

بل التحقيق أن المفهومين المتضايفين ليسا متقابلين مطلقا ، بل التقابل في قسم خاص من التضايف ، وهو ما إذا كان بين المتضايفين تعاند وتناف في الوجود ، كالعلية والمعلولية مما قضى البرهان بامتناع اجتماعهما في وجود واحد ، لا في مثل العالمية والمعلومية ، والمحبّية والمحبوبية ؛ فإنهما يجتمعان في الواحد غير ذي الجهات كما لا يخفى. والحاكي والمحكي ـ والدال والمدلول ـ كاد (١) أن يكون (٢) من قبيل القسم الثاني ؛ حيث لا برهان على امتناع حكاية الشيء عن نفسه.

هذا ، ويمكن الخدشة في الجواب المزبور عن المحذور المذكور : بأن إرادة شخص نفسه هنا ـ على حد الارادة المتعلقة بسائر الأفعال الخارجية ـ لا دخل لها بالإرادة المدلول عليها بالدلالة الكلامية ، ودلالته (٣) على كون نفسه مرادا على حدّ دلالة سائر الأفعال الخارجية على القصد والارادة.

وبالجملة : إرادة شخص نفسه في قوة عدم إرادة إرادة شيء به ، فلم يبق إلا كونه أمرا اختياريا ، يتوقف صدوره على إرادته. فتدبر جيّدا.

__________________

(١) قال عليه السلام « يا من دلّ على ذاته بذاته » ، وقال عليه السلام : « أنت دللتني عليك ». [ منه قدس سره ].

العبارة الاولى من دعاء الصباح لأمير المؤمنين عليه السلام المنقول عن مصباح السيد ابن الباقي (رحمه الله) ، البحار ( ٩١ : ٢٤٣ ) ، والمذكور في مجموعة الشهيد (رحمه الله) ( مخطوط ) : (٣٠). والعبارة الثانية من دعاء أبي حمزة الثمالي من أدعية أسحار شهر رمضان المبارك للإمام زين العابدين عليه السلام وتتمته : « بك عرفتك ، وأنت دللتني عليك ، ودعوتني إليك ، ولو لا أنت لم أدر ما أنت ». مصباح المتهجّد ـ للشيخ الطوسي (رحمه الله) ـ ص : ٥٢٥.

(٢) كذا في الأصل ، والصحيح : .. كادا أن يكونا ...

(٣) فهي دلالة عقلية كسائر أنحاء دلالة المعلول على علته ، لا دلالة جعلية كلامية كما هو محل الكلام. [ منه قدس سره ].

٦٥

ويمكن تصحيح ما في المتن بتقريب دقيق : وهو أن متعلّق الإرادة والشوق ـ كما سيجيء إن شاء الله في محلّه ـ ليس هو الموجود الخارجي ؛ لأن الشوق المطلق لا يوجد في النفس ، بل يوجد متقوما بمتعلقه ، ولا يعقل أن يكون الخارج عن افق النفس مقوما لما في النفس ، وليس هو الموجود الذهني أيضا لتباين صفتي العلم والشوق ، وكل فعلية تأبى عن فعلية اخرى ، بل المتعلق والمقوم لصفة الشوق نفس الماهية ـ كما في صفة العلم ـ فالماهية موجودة في النفس بثبوت شوقي ، كما توجد في الخارج بثبوت خارجي. وعليه فللمتكلم أن يقصد إحضار المعنى بماله من الثبوت في موطن الشوق بتوسطه بما له من الثبوت في موطن الخارج. فالماهية الشخصية دالة بثبوتها الخارجي على نفسها الثابتة بالثبوت الشوقي.

نعم لا بد من إرادة اخرى مقومة للاستعمال ، وجعل اللفظ بوجوده الخارجي فانيا في اللفظ بوجوده الشوقي ، وإلا فالإرادة المتقوّمة بنفس الماهية الشخصية ـ كما ذكرنا ـ مقوّمة لاختياريتها ، ولا تكون دلالة الصادر عليها دلالة كلامية ، بل دلالة عقلية ، ونفس هذه الارادة لا يعقل أن تكون مصححة لفناء اللفظ في نفسه ؛ للزوم الدور على المشهور ، والخلف على التحقيق.

ولا ينافي ما ذكرنا إرادة شخص نفسه ؛ لأنّ المراد بالذات والصادر ماهية شخصية من غير جهة الإرادة ، في قبال ما إذا اريد إفناء اللفظ في طبيعة. (١) المطلقة أو المقيدة.

كما أنّ فرض إرادة اخرى ـ مصححة للدلالة الكلامية ـ لا ينافي فرض إرادة شخصه وعدم إراءة غيره به ، فإنّ المرئيّ ـ حينئذ ـ نفس الماهية الشخصية ، غاية الأمر : ثبوتها في موطن دالّ على ثبوتها في موطن آخر ، ولا ينافي ترتب الحكم

__________________

(١) لعلها : الطبيعة ... ( .. الطبيعة المطلقة .. ) ، ولعل مراده : طبيعة الماهية المطلقة.

٦٦

على الثابتة بثبوت شوقي ؛ لأن الماهية واحدة ، فصح أن يحكم عليها بأنها لفظ أو ثلاثي أو غير ذلك.

٢٨ ـ قوله [ قدس سره ] : ( مع أنّ تركب (١) القضية من جزءين ... الخ ) (٢).

بيانه : أن الموضوع في القضية الحقيقية : قد يحتاج في وجوده إلى الواسطة بتنزيل شيء آخر منزلة وجوده ، كاللفظ بالنسبة إلى المعنى ، فإنّ موضوعيته للقضية بلحاظ كونه وجودا لما هو الموضوع.

وقد لا يحتاج في وجوده إلى الواسطة ؛ لإمكان إيجاده على ما هو عليه في الخارج وترتيب الحكم عليه ـ كما فيما نحن فيه ـ حيث إن المحمول سنخ حكم يترتب على نفس الموضوع الذي اريد به شخص نفسه ، فالقضية الحقيقية ـ حينئذ ـ ذات أجزاء ثلاثة ، ودليل صحة هذا الإطلاق حسنه عند الذوق السليم والطبع المستقيم.

قلت : ملاك الحمل ومصححه وإن كان قيام مبدأ المحمول بالموضوع ـ وهو ثابت هنا ـ إلا أنّ ملاك كون القضية قضية كلامية حملية ، كون أجزائها ـ المعقولة المستكشفة بالكواشف ـ ثلاثة.

ومن الواضح ـ كما قدمناه آنفا ـ أن إرادة شخص نفسه في قوة عدم إراءة شيء به ، فيكون حاله حال سائر الأفعال الخارجية ، غاية الأمر أن سنخ هذا الفعل من مقولة الكيف المسموع ، فإن صحّ الحمل على الضرب الخارجي ـ بقولك : ( ضرب ) ـ صحّ الحمل على اللفظ المراد به شخص نفسه ، وإلاّ فلا ؛ لعدم الفارق أصلا.

٢٩ ـ قوله [ قدس سره ] : ( بما هو مصداق لكلّيّ اللفظ ، لا بما هو

__________________

(١) في الكفاية ـ تحقيق مؤسّستنا ـ : مع أنّ حديث تركّب ..

(٢) الكفاية : ١٥ / ١.

٦٧

خصوص ... الخ ) (١).

إلاّ أن الحكم المرتب عليه لا يكاد يتعداه ، فانه تمام موضوع الحكم ، والطبيعي وإن وجد بوجود فرده ، إلاّ أنّ نسبته مع الافراد نسبة الآباء مع الأولاد ، لا نسبة أب واحد مع الأولاد ، فالطبيعي موجود بوجودات متعددة ، وترتيب الحكم على بعض وجوداته ـ من حيث إنه وجود الطبيعي ـ لا يقتضي السريان إلى سائر وجوداته ، فلا بد من الحكاية عنه ، فتأمل (٢).

٣٠ ـ قوله [ قدس سره ] : ( نعم فيما إذا اريد به فرد آخر مثله ... الخ ) (٣).

لأنّ الفرد المماثل مأخوذة فيه الخصوصية ، والمباين لا يتحقق بالمباين.

٣١ ـ قوله : [ قدّس سرّه ] ( كما في مثل : ضرب فعل ماض ... الخ ) (٤).

لأن ما يمكن إيجاده بوجود فرده نفس طبيعي اللفظ لا الطبيعي بما له من المعنى ؛ إذ الطبيعي بما له من المعنى إنما يوجد فيما إذا استعمل في معناه ، وهو مما لا يخبر عنه.

٣٢ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه ... الخ ) (٥).

لا يخفى عليك : أن دخل الارادة ـ بحيث يوجب انحصار الدلالة الوضعية في الدلالة التصديقية ـ لا يكون متوقفا على صيرورة الإرادة قيدا في

__________________

(١) الكفاية : ١٥ / ١٢.

(٢) إشارة إلى دفع ما يمكن أن يقال من أن الحكم بلحاظ نفس الطبيعة ، لا بلحاظ وجودها الخاص. وجه الاندفاع : أن الموجود بهذا الوجود حصة من الطبيعي ، وقطع النظر عن وجودها لا يوجب تغيّرها وخروجها عن كونها حصة ، مضافا إلى لزوم ثبوت الموضوع إما جعليا أو حقيقيا ، والمفروض عدم الأوّل وقطع النظر عن الثاني. [ منه قدس سره ].

(٣) الكفاية : ١٥ / ١٤.

(٤) الكفاية : ١٦ / ٢.

(٥) الكفاية : ١٦ / ٧.

٦٨

المستعمل فيه ، بل يمكن الدخل بأحد وجهين :

إما على نحو تصوّره شيخنا العلامة ـ أدام الله أيامه ـ في الفرق بين الاسم والحرف ؛ بأن يقال : إن الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني لا مطلقا ، بل لأن يراد بها معانيها ، كما قال دام ظله : إن الاسم موضوع لأن يراد به المعنى استقلالا ، والحرف لأن يراد به المعنى حالة وآلة للغير ، فيتقيد العلقة الوضعية بصورة الارادة الاستعمالية ، وفي غيرها لا وضع. وما يرى من الانتقال إلى المعنى بمجرد سماع اللفظ ـ من وراء الجدار ، أو من لافظ بلا شعور وغير اختيار ـ فمن جهة انس الذهن بالانتقال من سماعه عند إرادة معناه هذا.

وإما على نحو تصوّرناه في الفرق بين الاسم والحرف ـ بناء على اتحاد معناهما ذاتا ـ بأن يكون اللفظ موضوعا للمعنى الذي يتعلّق به الإرادة الاستعمالية ، فهو إشارة إلى ذات الخاص لا بوصف الخصوصية ، وفائدته عدم الاختصاص الوضعي بين اللفظ والمعنى الذي لا يتخصص بالمراديّة.

وقد عرفت : أن الثاني أقرب إلى الاعتبار ؛ لأن اللحاظ والقصد من شئون المعنى والاستعمال ، فيصح جعلهما قيدا للمعنى ، ولا يصح جعلهما قيدا لما لا يكونان من شئونه وأحواله ؛ أعني الوضع ، فتدبّر جيّدا.

ولا يخفى أنّ لازمه ـ كما مر سابقا ـ وضع اللفظ للحصص المتعيّنة بالإرادة ، فيكون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا.

وأما توهم منافاة الوضع للمعنى حال كونه مرادا ، لما وقع النزاع فيه من : أن الظهور حجة مع الظن الشخصي ، أو النوعي بالمراد ، أو لا ، بل يكون حجة تعبّدا.

فمندفع بالفرق بين الظهور الذاتي ـ وهو كون اللفظ قالبا بالقوة للمعنى ـ والظهور الاستعمالي الفعلي ـ وهو كونه قالبا له بالفعل ـ فالقطع بكون اللفظ

٦٩

قالبا بالقوة للمعنى المراد لا ينافي الشك في كونه قالبا له بالفعل ، كما أنه ربما يقطع بكونه قالبا بالفعل ، لا مجرد التلفظ ، لكنه يشك في كونه قالبا بالفعل لما هو قالب له بالذات ، كالفرق بين الارادة الاستعمالية أو التفهيمية ، والارادة الجدية المتعلّقة بمضمون الكلام ، فلا منافاة بين القطع بالارادة الاستعمالية والتفهيمية ، وعدم الظن بالإرادة الجديّة ؛ لامكان الاستعمال بداع آخر.

وأما ما في بعض الكلمات ـ من أن الارادة : إن اخذت على وجه الحرفية ، فلا محذور فيها ، وإن اخذت على وجه الاسميّة ، ففيها محذور ـ فالغرض منه أنّ الإرادة الاستعمالية حال تعلقها بالمعنى غير مقصودة بالذات ، بل المقصود بالذات إيجاد المعنى ، ومعنى اعتبارها على وجه الآلية ، اعتبار العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى المتخصص بها بذاته ، بخلاف ما إذا اخذت على وجه الاسمية ، فان مقتضاه دخل الارادة في الموضوع له ـ على حد دخل المعنى ـ فلا بد من إرادة اخرى استعمالية ، وإلاّ لزم أن يكون الارادة المقوّمة للاستعمال آلية واستقلالية معا ، فتدبر جيدا.

ثم لا يذهب عليك : أن الارادة الاستعمالية بالدقة إرادة إيجاد المعنى باللفظ بالعرض ، والارادة التفهيمية إرادة احضار المعنى في موطن فهم المخاطب مثلا ، وكل من الارادة الاستعمالية والتفهيمية متأخر بالطبع عن الاستعمال والتفهيم ، فضلا عن ذات المعنى ، فلا يعقل أخذها في المستعمل فيه أو المراد إفهامه ، إلا أن تقدم الاستعمال على التفهيم المتولد منه وجودا وطبعا لا يمنع من أخذ الارادة التفهيمية في المراد الاستعمالي ؛ لأن. الإرادة التفهيمية مقدّمة على الإرادة الاستعمالية ، لا أنها متأخّرة عنها وجودا أو طبعا ؛ حتى لا يعقل أخذ المعنى متقيدا بها في مرحلة الاستعمال ، بل المحذور ـ حينئذ ـ أن الارادة التفهيمية سبب للاستعمال في ذات ما يراد تفهيمه لا غير ، فلو كان المستعمل فيه متقيدا بالارادة

٧٠

التفهيمية ، لزم تعلق الارادة التفهيمية بالمعنى المراد تفهيمه ، فيلزم الدور على المشهور ، والخلف على التحقيق ، فتدبره ، فإنّه دقيق.

٣٣ ـ قوله [ قدس سره ] : ( بل ناظر إلى أن دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية ... الخ ) (١).

ما أفاده ـ من أن مرادهما تأخّر مقام الإثبات عن مقام الثبوت ، وتبعية خصوص الدلالة التصديقية للإرادة ، لا تبعية الدلالة الوضعية للارادة ـ لا يوافق صريح هذين العظيمين وغيرهما من الأعاظم ؛ من انحصار الدلالة الوضعية في التصديقية.

قال العلامة ( قده ) في شرح منطق التجريد (٢) ـ بعد ما أورد إشكال

__________________

(١) الكفاية : ١٧ / ٢.

(٢) المسمى بالجوهر النضيد ـ انتشارات بيدار ـ ص : ٨ ، مع اختلاف يسير لا يخلّ بالمعنى.

وهو الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن سديد الدين يوسف بن زين الدين علي بن محمد بن مطهر الحلي المعروف بالعلامة الحلي والعلامة على الاطلاق ، وهو الذي طار ذكره في الآفاق ، ولم يتفق لأحد من علماء الإمامية ان لقب بالعلامة على الإطلاق غيره.

ولد في شهر رمضان سنة ( ٦٤٨ ه‍ ) في الحلة ، وقرأ على والده سديد الدين وخاله المحقق الحلي صاحب الشرائع والمحقق الطوسي وابن ميثم البحراني وغيرهم.

صنف كتبه الحكمية والكلامية قبل أن يكمل له ٢٦ سنة ، سبق في فقه الشريعة والاصول والحكمة واللغة.

له مصنفات في مختلف الفنون من حكمة وفلسفة وعرفان وفقه وكلام وحديث ورجال وغيرها.

منها : الالفين ، منتهى المطلب ، غاية الاحكام ، التذكرة ، استقصاء الاعتبار ، الخلاصة في الرجال ، ارشاد الاذهان ، وغيرها كثير.

توفي (رحمه الله) ليلة السبت (٢١) محرم سنة ( ٧٢٦ ه‍ ) في الحلة ، ونقل إلى النجف الأشرف ودفن على يمين الداخل إلى الحضرة الشريفة من جهة الشمال.

( أعيان الشيعة ٥ : ٣٩٦ ) بتصرف.

٧١

انتقاض الدلالات الثلاث ـ : ( ولقد أوردت عليه ـ قدّس الله روحه ـ هذا الإشكال علامه على المحقق طوسى بانتقاض الدلالات الثلاث ، فاجاب : بأن اللفظ لا يدّل على معناه بذاته ، بل باعتبار الإرادة والقصد ، واللفظ حين يراد منه معناه المطابقي لا يراد منه معناه التضمني ، فهو لا يدلّ إلاّ على معنى واحد لا غير. وفيه نظر .. الخ ).

وأصرح منه ما أفاده العلامة الطوسي ( قده ) في شرح منطق الإشارات (١) ـ في دفع انتقاض تعريف المفرد والمركب ـ حيث قال ( قده ) : ( دلالة اللفظ لما كانت وضعية ، كانت متعلّقة بإرادة المتلفّظ الجارية على قانون الوضع ، فما يتلفّظ به ، ويراد منه معنى ما ، ويفهم عنه ذلك المعنى ، يقال : إنه دالّ على ذلك المعنى.

وما سوى ذلك المعنى ـ مما لا يتعلّق به إرادة المتلفظ ، وإن كان ذلك اللفظ ـ أو جزء منه ـ بحسب تلك اللغة أو لغة اخرى أو بإرادة اخرى ـ يصلح لأن يدل عليه ـ فلا يقال : إنه دالّ عليه .. الخ ).

__________________

(١) الإشارات والتنبيهات ، الجزء الأول في علم المنطق ـ دفتر نشر الكتاب ـ ص : ٣٢ مع اختلاف يسير.

وهو للشيخ الرئيس ومصدر التأسيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا الحكيم المشهور ، أحد فلاسفة المسلمين ، ولد سنة ٣٧٠ ه‍ بقرية من ضياع بخارى ، نادرة عصره في علمه وذكائه وتصانيفه. لم يستكمل ثماني عشرة سنة من عمره إلاّ وقد فرغ من تحصيل العلوم بأسرها.

وذكر صاحب روضات الجنّات ( ٣ : ١٧١ ) إذا تردّد الشيخ الرئيس في مسألة يتوضأ ، ويعزم جامع البلد ، فيصلي فيه ركعتين بالخشوع ، ويشتغل بالدعاء والاستعانة بالله إلى أن ترتفع شبهته.

صنف كتاب ( الشفاء ) و ( النجاة ) و ( القانون ) و ( الاشارات ) وغير ذلك مما يقارب مائة مصنف ، وله شعر.

ولما ضعف وأشرفت قوته على السقوط أهمل المداواة ، وقال : المدبّر الذي في بدني قد عجز عن تدبيره ، فلا تنفعني المعالجة ، فاغتسل وتاب ، وتصدّق بما معه على الفقراء ، وردّ المظالم على من عرفه ، وأعتق مماليكه ، وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة.

توفي بهمدان يوم الجمعة من شهر رمضان ( ٤٢٨ ه‍ ) ، ودفن بها.

( وفيات الأعيان ٢ : ١٥٧ رقم ١٩٠ ) بتصرف.

٧٢

ولذا أورد عليه العلامة قطب الدين في محاكماته (١) ، وغيره في غيرها : بعدم انحصار الدلالة الوضعية في الدلالة التصديقية.

__________________

أما شرح الإشارات والتنبيهات :

فهو للشيخ المحقق أبي جعفر محمد بن محمد بن الحسن الطوسي المعروف بالمحقق الطوسي وبالخواجة نصير الدين الطوسي الحكيم الفيلسوف استاذ الحكماء والمتكلمين.

ولد في طوس سنة ( ٥٩٧ ه‍ ) ، درس في صغره مختلف العلوم ؛ وأتقن علوم الرياضيات وكان لا يزال في مطلع شبابه. ظهر نبوغه وتفوّقه حتى عدّ أشهر علماء القرن السابع ، وقال العلامة الحلّي في حقه : أفضل أهل زمانه في العلوم العقلية والنقلية ، وهو استاذ البشر والعقل الحادي عشر.

التقى بهولاكو عند غزوه وحمى إيران من الدمار بإقناع الغزاة بالعدل والإنصاف ، فباشر بإنشاء مرصد ( مراغة ) وجامعتها ومكتبتها.

حضر درس المحقق الحلي عند ما زار الفيحاء بصحبة هولاكو ، وكان المحقق في بحث القبلة في استحباب التياسر قليلا لأهل الشرق من أهل العراق عن السمت الذي يتوجهون إليه فاعترض الطوسي عليه أن التياسر إما إلى القبلة فيكون واجبا لا مستحبّا ، وإما عنها فيكون حراما ، فأجاب المحقق الحلي في الدرس : بأن الانحراف منها إليها.

كتب (رحمه الله) ما يناهز (١٨٤) مؤلفا في فنون شتى.

توفي سنة ٦٨٢ ه‍ ، ودفن في جوار الإمام موسى الكاظم عليه السلام.

( أعيان الشيعة ٩ : ٤١٤ ) بتصرف.

(١) الإشارات والتنبيهات : الجزء الأول في علم المنطق ـ دفتر نشر الكتاب ـ ص : ٣٢ هامش :

١. والمحاكمات المذكور في المتن هو حاشية على شرح الإشارات ، وهو للحبر الفاضل الحكيم أبي جعفر قطب الدين الرازي البويهي ينتهي نسبه إلى آل بويه الذين هم سلاطين الديالمة المشهورين أو إلى أولاد أبي جعفر بن بابويه (رحمه الله).

ولد في دولة المؤمنين ( ورامين ) من أعمال الري ، وسكن المدرسة الظاهرية وأخذ عن القاضي عضد الايجي ، وأخذ عن العلامة الحلي (رحمه الله) ، وكتب قواعده بيده ، وأجازه الرواية عنه ، قصد الشام ودرّس فيها ، فأخذ منه الشهيد الأول (رحمه الله) والسيد الشريف الجرجاني والقاضي بدر الدين الحنفي.

له آثار كثيرة منها : شروح على ( الحاوي ) و ( المطالع ) و ( الإشارات ) و ( الشمسية ) ، وكتب على ( الكشاف ) حاشية.

٧٣

ونحوه ـ أيضا ـ ما ذكره في شرح حكمة الاشراق (١) في باب الدلالات الثلاث ؛ حيث قال : ( الدلالة الوضعية تتعلق بارادة اللافظ الجارية على قانون الوضع ، حتى أنه لو اطلق واريد منه معنى وفهم منه لقيل : إنه دالّ عليه ، وإن فهم منه غيره فلا يقال : إنه دالّ عليه ، وإن كان ذلك الغير ـ بحسب تلك اللغة أو غيرها أو بارادة اخرى ـ يصلح لأن يدل عليه .. الخ ) ، ثم قال : ( والمقصود هي الوضعية : وهي كون اللفظ بحيث يفهم منه عند سماعه أو تخيّله بتوسّط الوضع معنى هو مراد اللافظ ). انتهى.

وبعد التدبّر في هذه الكلمات ـ الظاهرة أو الصريحة في حصر الدلالة

__________________

توفي في ذي القعدة سنة ( ٧٦٦ ه‍ ) في دمشق ، ودفن في الصالحية.

( روضات الجنات ٦ : ٣٨ ) بتصرف.

(١) شرح حكمة الاشراق للحكيم المحقق قطب الدين الشيرازي ـ انتشارات بيدار ـ ص : ٣٦ مع اختلاف يسير.

وهو مسعود بن مصلح الفارسي الكازروني الشافعي الملقّب بالعلاّمة عند علماء العامة صاحب المصنفات الكثيرة المتينة في الحكمة والاصول والأدب وغيرها والمعروف بالقطب الشيرازي.

ولد بشيراز سنة ( ٦٣٤ ه‍ ) وكان أبوه طبيبا بها ، وهو ابن اخت الشيخ مصلح الدين السعدي الشيرازي الشاعر المشهور.

قرأ على والده وعمه والزكي الركشاوي والشمس الكاتبي ، ثم سافر إلى نصير الدين الطوسي ، ولازم خدمته ، وقرأ عليه ، وبرع في العلوم ، ثم دخل الروم فأكرمه صاحبها ، وولي قضاء سيواس وملطية ، وقدم الشام ، ثم سكن تبريز ، ودرس بها العلوم العقلية ، وحدث عن الصدر القونوي وعن يعقوب الهمداني ، وأدرك آخر زمان فخر الدين الرازي وشهاب الدين السهروردي ومحيي الدين بن عربي ، وكان جامعا للعلوم فاشتهر بلقب العلاّمة.

له مؤلفات مبسوطة منها : ( شرح قانون الطب ) و ( شرح حكمة الاشراق ) وغيرها.

انصرف في آخر عمره عن الاشتغال بالمطالب الحكمية وأخذ في مراسم العبادة والتلاوة وتعليم القرآن المجيد في محوطة تبريز ، وكانت وفاته في سنة ( ٧١٠ ه‍ ).

( روضات الجنات ٦ : ٤٦ ) بتصرف.

٧٤

الوضعية في التصديقية ، مع استحالة أخذ الإرادة في المعنى الموضوع له بنحو القيدية ـ لا مناص من تصحيحها بأحد الوجهين المتقدّمين ، وإلاّ فلا يكاد يخفى استحالة دخل الارادة بنحو القيدية على هؤلاء الأكابر ، بل بملاحظة الباعث للحكيم على الوضع ـ وهو التوسعة في ابراز المقاصد ـ تعلم أن الأمر كما ذكروه ، والعلقة الوضعية جعلية تتبع مقدار الجعل والاعتبار سعة وضيقا.

ودعوى : مصادمة الحصر في الدلالة التصديقية للبداهة ؛ حيث إن الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ بديهي وإن لم يكن هناك إرادة.

مدفوعة : بما تقدم من أن الانتقال بواسطة اعتياد الذهن ، فالانتقال عادي لا وضعي ، فتدبر جيّدا.

٣٤ ـ قوله [ قدس سره ] : ( نعم لا يكون حينئذ دلالة ... الخ ) (١).

فإن قلت : لا واقع للكشف وراء نفسه ، فما معنى عدم الدلالة مع عدم الإرادة واقعا؟

نعم ، الدلالة تتبع إحراز الإرادة ، وكون المتكلم في مقام الإفادة.

قلت : المنكشف بالذات المتقوم به الكشف والمتحقق في مرتبته ، هو الذي يستحيل تخلّفه عنه ، دون المنكشف بالعرض ، فمع عدمه يكون المنكشف صورة مثله ، لا صورة شخصه ، فتدبره ، فإنه حقيق به.

٣٥ ـ قوله [ قدس سره ] : ( لا وجه لتوهّم وضع للمركبات غير وضع المفردات ... الخ ) (٢).

لا ريب في أن المركبات ليس لها موادّ غير موادّ مفرداتها. نعم ، ربما يكون لها هيئة زائدة على هيئات مفرداتها ، فإن هيئات المفردات ـ بما هي مفردات ـ

__________________

(١) الكفاية : ١٧ / ١٣.

(٢) الكفاية : ١٨ / ٣.

٧٥

لا تتفاوت بالتقديم والتأخير ـ مثلا ـ مع أن التقديم والتأخير يوجب تفاوتا في هيئة المجموع بما هو مجموع. ولا أظن بمن يدعي الوضع للمركبات أزيد من وضع هيئاتها الزائدة على مفرداتها مادة وهيئة لفوائد خاصة ، فإنّ أمثال تلك المزايا والفوائد لا يعقل أن تكون إلا بالجعل والمواضعة.

وعليه فلا معنى لدعوى : كفاية وضع المفردات ـ بجزءيها المادي والصوري ـ عن وضع هيئة المركبات لتلك الخصوصيات ، ولا وجه لدرج مثل هذه الهيئة القائمة بالمجموع في هيئة المفردات ؛ بداهة أن هيئات المفردات قائمة بموادّها كل على حياله ، والهيئة التركيبية قائمة بالمجموع ، وتوصيف المفردات بها من باب وصف الشيء بحال متعلقه لا بحال نفسه. وأما إدراج الهيئة التركيبية في المفردات نظرا إلى أنّها جزء صوري آخر للكلام ـ فيؤول إلى عدم تعقّل المركب حتى يكون له وضع أو لا.

نعم يظهر من بعض النافين : أنّ محلّ النزاع ـ بينه وبين خصمه ـ دعوى الوضع للمركب بعد الوضع للمفردات منفردة ومنضمة ، كما عن ابن مالك في شرح المفصل على ما حكي عنه ، حيث قال ما ملخصه : إنّ المركبات لو كان لها وضع ، لما كان لنا أن نتكلم بكلام لم نسبق إليه ؛ إذ المركب الذي أحدثناه لم يسبق إليه أحد ، فكيف وضعه الواضع؟

فإنه ظاهر في أن محلّ النزاع هذا الأمر البديهي بطلانه ، وإلاّ فلا يخفى على مثل ابن مالك أن الوضع نوعي لا شخصي. وعليه فالنزاع لفظي نشأ من إسناد الوضع إلى المركبات ، فتوهّم النافي أن الهيئة التركيبية المفيدة للخصوصية من أنحاء هيئات المفردات ، فلم يبق ما يتكلم فيه إلا ذلك الأمر الواضح فساده. وقد عرفت أن هيئات المركبات لا دخل لها بهيئات المفردات ، وأن الحق ـ حينئذ ـ مع المثبت.

٧٦

وأما ما في المتن ـ من استلزام الدلالة على المعنى تارة بنفسها ، واخرى بمفرداتها ـ فغير ضائر ؛ حيث لا يلزم منه محذور اجتماع السببين على مسبب واحد ؛ لأن معاني المفردات ملحوظة بنحو الانفراد ، ومعنى المركب ملحوظ بنحو الجمع واللف ، كما في مفهوم الدار بالاضافة إلى مفاهيم السقف والجدران والبيت ـ مثلا ـ فلكلّ دالّ مدلول على حياله.

وتوهم : لزوم لحاظ المعنيين في آن واحد ؛ لأن الجزء الأخير من الكلام علة لنفس حضور معناه ، ومتمم لعلة حضور معنى آخر للمركب.

مدفوع : بما تقرر في محله من امكان اجتماع لحاظين لملحوظين في آن واحد.

ثم إنه ربما أمكن الإشكال على جعل وضع الموادّ شخصيّا ووضع الهيئات نوعيّا ـ كما هو المعروف ـ بما محصله : أن شخصية الوضع في الموادّ إن كانت بلحاظ وحدتها الطبيعية وشخصيتها الذاتية ، فالهيئات أيضا كذلك ؛ فإن هيئة فاعل ـ مثلا ـ ممتازة بنفسها عن سائر الهيئات ، فلها وحدة طبيعية ونوعية الوضع في الهيئات ، إن كانت بلحاظ عدم اختصاص زنة فاعل بمادة من المواد ، فالمواد كذلك ؛ لعدم اختصاص المادة بهيئة من الهيئات ، فلا امتياز مادة عن مادة ملاك الشخصية لامتياز كل زنة عن زنة اخرى ، ولا عدم اختصاص زنة بمادة ملاك النوعية لعدم اختصاص مادة بهيئة.

والتحقيق : أن جوهر الكلمة ومادتها ـ أعني الحروف الأصلية المترتبة الممتازة عن غيرها ذاتا او ترتيبا ـ أمر قابل للحاظ الواضع بنفسه ، فيلاحظ بوحدته الطبيعية وتوضع لمعنى ، بخلاف هيئة الكلمة فإنّ الزنة لمكان اندماجها في المادة لا يعقل ان تلاحظ بنفسها لاندماجها غاية الاندماج في المادة ، فلا استقلال لها في الوجود اللحاظي ـ كما في الوجود الخارجي كالمعنى الحرفي ـ فلا يمكن تجريدها ـ ولو في الذهن ـ عن الموادّ ، فلذا لا جامع ذاتي لها

٧٧

كحقائق النسب ، فلا محالة يجب الوضع لاشخاصها بجامع عنواني ـ كقولهم : كلما كان على زنة فاعل .. ـ وهو معنى نوعية الوضع ؛ أي الوضع لها بجامع عنواني ، لا بشخصيتها الذاتية.

أو المراد : أن المادة حيث يمكن لحاظها فقط ، فالوضع شخصي ، والهيئة حيث لا يمكن لحاظها فقط ـ بل في ضمن مادة ـ فالوضع لها يوجب اقتصاره عليها ، فيجب أن يقال : هيئة فاعل وما يشبهها .. ، وهذا معنى نوعية الوضع ؛ أي لا لهيئة شخصية واحدة بوحدة طبيعية ، بل لها ولما يشبهها. فتدبّر.

٣٦ ـ قوله [ قدس سره ] : ( لا يقال : كيف يكون علامة مع توقفه على العلم ... الخ ) (١).

ربما يقال (٢) : معنى كون التبادر علامة ، كونه دليلا إنّيّا على الوضع ؛ حيث إنّه معلول له ، وهو لا يقتضي الا كون الوضع مقتضيا ، والعلم به شرط تأثيره ، فلا مجال لتقرير الدور ؛ حيث أنّ صفة الاقتضاء والمعلولية غير موقوفة على العلم ، كما لا مجال لدفعه بأنه علامة للجاهل عند العالم ، فان صفة المعلولية بالمعنى المذكور ثابتة في حد ذاتها من غير نظر إلى العالم والجاهل.

وفيه ـ مضافا إلى لزوم الدور ، من ناحية توقف المشروط على شرطه ، والشرط على مشروطه ـ أن الانتقال إلى المعنى لا يعقل أن يكون معلولا للوضع ومن مقتضياته ؛ لأن حقيقة الوضع جعل طبيعيّ اللفظ وجودا تنزيليا لطبيعي المعنى بالقوة ، وبالاستعمال يكون وجود اللفظ خارجا وجودا بالذات لنفس طبيعة اللفظ ، ووجودا بالعرض لنفس المعنى بالفعل ، وهذا هو مقتضى الوضع الذي لا يتفاوت العلم والجهل به ؛ حتى أنه لو وجد اللفظ ذهنا كان هذا الوجود الواحد وجودا بالذات للّفظ حقيقة ، ووجودا بالعرض لنفس المعنى ، سواء علم السامع

__________________

(١) الكفاية : ١٨ / ١٦.

(٢) القائل صاحب المحجة ـ كما في هامش الأصل ـ.

٧٨

بأنه وجود تنزيلي له أم لا.

وأما وجود المعنى في الذهن ـ كوجوده بعد وجود اللفظ خارجا ـ فهو يتبع وجود علته لذلك السنخ من الوجود ؛ إذ من البديهي أن وجود المعنى في الذهن وجود بالذات له ، لا وجود بالعرض بتبع وجود اللفظ في الذهن ، بل هذا الوجود معلول للعلم بالملازمة الجعلية بين اللفظ والمعنى ـ عند تحقق العلم باللفظ ـ كما في جميع موارد الملازمة ، وليس وجود المعنى ذهنا معلولا لوجود اللفظ ذهنا بشرط العلم بالملازمة ؛ إذ الانتقال من أحد المتلازمين إلى الآخر غير مخصوص بأحدهما فقط. فيلزم أن يكون كل واحد صالحا للعلية والمعلولية معا.

مضافا إلى أن العلية ليست جزافية ، والعلم بأمر مباين لا معنى لأن يكون علة لأمر مباين آخر بمجرد الاشتراك في العلمية ، بخلاف ما إذا جعلنا العلم بالملازمة علة ، فان معنى العلم بالملازمة العلم بتحقق المعنى عند تحقق اللفظ ، فقهرا ينتج العلم باللفظ العلم بالمعنى ، وليس العلم بالملازمة معلولا لها حتى ينتهي أمر الانتقال إلى الوضع بالواسطة ؛ لأن المعلوم لا يكون علة للعلم ، بل الانتقال إلى المعنى عند العلم بالوضع من فوائد جعل الملازمة ، لا من معلولاته ، فحينئذ يصحّ تقرير الدور. وجوابه ما في المتن. فتدبر جيّدا.

٣٧ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( وصحة الحمل عليه بالحمل الأوّليّ الذاتيّ ... الخ ) (١).

وهو أن يتصور المعنى المقصود كشف حاله ، ويحمل اللفظ بما له من المعنى الارتكازي عليه ، أو يجد صحة حمل اللفظ بمعناه ـ عند العارفين ـ عليه ، وصحة الحمل كاشفة عن أن المعنى المتصور هو معنى اللفظ ، وإلا لم يصح الحمل.

واعلم أنه لا بد من فرض اللفظ مجردا عن القرينة ، وإلا لما كان الحمل فقط ـ أو عدم صحة سلب المعنى عنه ـ علامة للحقيقة ؛ إذ لا يزيد الحمل على

__________________

(١) الكفاية : ١٩ / ٨.

٧٩

اتحاد المعنيين ، ولا يزيد التعبير عنه باللفظ على مجرّد الاستعمال ، وشيء منهما لا يثبت الوضع.

كما أن التحقيق يقضي بجعل الحمل والسلب علامة للحقيقة والمجاز ، فيما إذا كان صحة الحمل وعدمها عند العرف ؛ لأنّ العلم بأن اللفظ بما له من المعنى ـ بحيث يصح أن يحمل ـ لا بد له من سبب آخر من تنصيص أهل اللسان ، أو التبادر ، أو الحمل المقيد ، والمفروض كون هذه العلامة علامة ابتدائية مستقلة ، بخلاف نفس الحمل والسلب ، فإنه بنفسه علامة الاتحاد والمغايرة من دون سبق أمر آخر.

ومنه تعرف : أن علامة المجاز هو السلب ، دون صحته ، ودون عدم الحمل ؛ لأن عدم الحمل ليس أمرا محقّقا من العرف ؛ حتى يكون دليلا على المجاز ، وكونه بحيث لا يحمل راجع إلى حيثية عدم صحة الحمل ، وقد عرفت أنه يتوقف على العلم بسبب آخر.

فإن قلت : إن كان المحمول غير المحمول عليه ، لم يصح الحمل ؛ لأن مفاد الحمل هو الاتحاد ، وإن كان عينه لم يصح أيضا ؛ إذ لا اثنينية حتى يتصور محمول ومحمول عليه. وهذا غير جار في الحمل الشائع ؛ لأنّ مغايرتهما بالمفهوم يصحّح الاثنينية ، واتحادهما في الوجود يصحح الحمل ، لكنه بنفسه غير مفيد لاستعلام الحقيقة ، لفرض تغاير المفهومين.

قلت : هذا الإشكال هو الباعث لإنكار جماعة للحمل الذاتي لاستعلام الحقيقية والمجازية ، وإثبات أصل الوضع ، بل لاسقاط هذه العلامة عن الاعتبار مطلقا.

والتحقيق : أن الحمل لا بدّ فيه من مغايرة من جهة واتحاد من جهة اخرى ، والمغايرة قد تكون بالمفهوم ، كما في الحمل الشائع بأنحائه ، وقد تكون

٨٠