نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-43-4
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٢٦

العقاب على مخالفتها للواقع ، فحينئذ لا ينتهي إلى حكم شرعي أصلا.

ومفاد دليل اعتبار الامارة الغير العلمية دلالة ـ كظواهر الألفاظ ـ كذلك ، بل يتعين فيها الوجه الثاني ، فان دليل حجية الظواهر بناء العقلاء ، ومن البيّن أنّ بناءهم في اتباعهم على مجرد الكاشفية والطريقية ، فالظاهر حجة عندهم ؛ أي مما يصحّ للمولى أن يؤاخذ به عبده على مخالفته لمراده ، لا أنّ هناك حكما من العقلاء مماثلا لما دل عليه ظاهر اللفظ ؛ حتى يكون إمضاء الشارع أيضا كذلك.

وأما مباحث الألفاظ فهي وإن كانت نتائجها غير مربوطة ابتداء بهذا المعنى ، لكن (١) جعل تلك النتائج في طريق الاستنباط لا يكاد يكون إلا بتوسط حجية الظهور ، وقد عرفت حالها ، فلا ينتهي الأمر من هذه الجهة إلى حكم شرعي أبدا ، فلا مناص من التوسعة والتعميم ؛ بحيث يعم موضوع فن الاصول ما يمكن أن يقع في طريق الاستنباط ، وما ينتهي إليه أمر المجتهد في مقام العمل.

والغرض من تدوين فن الاصول لا بد من أن يجعل أعم ـ لا بأن يجعل الغرض الانتفاع بقواعدها في مقام الاستنباط وفي مقام العمل ؛ فإنّ تعدّد الغرض يوجب تعدّد العلم في المورد القابل ؛ حيث إن القواعد التي ينتفع بها في مقام الاستنباط غير القواعد التي ينتهي إليها الأمر في مقام العمل ـ بل بأن يجعل الغرض أعمّ من الغرضين ؛ ليرتفع التعدد من البين ؛ لئلا يلزم كون فن الاصول علمين ، إلا أن يوجه مباحث الامارات الغير العلمية ـ بناء على إنشاء الحكم المماثل ـ بأن الأمر بتصديق العادل ـ مثلا ـ ليس عين وجوب ما أخبر بوجوبه العادل ، بل لازمه ذلك. كما أن حرمة نقض اليقين بالشك ليست عين

__________________

(١) وليس هذه المباحث بالاضافة إلى حجية الظاهر ـ بناء على أنها إنشاء حكم مماثل ـ واسطة في الاستنباط ؛ لأنها مثبتة لموضوعه ، لا أنها واسطة في الاستنباط من دليله ، فتدبر. [ منه قدس سره ].

٤١

وجوب ما أيقن بوجوبه سابقا ، بل لازمه ذلك. والمبحوث عنه في الاصول بيان هذا المعنى الذي لازمه الحكم المماثل ، واللازم والملزوم متنافيان ، وهذا القدر كاف في التوسيط في مرحلة الاستنباط. بل يمكن التوجيه ـ بناء على كون الحجية بمعنى تنجيز الواقع ـ بدعوى : أن الاستنباط لا يتوقف على احراز الحكم الشرعي ، بل يكفي الحجة عليه في استنباطه ؛ إذ ليس حقيقة الاستنباط والاجتهاد إلا تحصيل الحجة على الحكم الشرعي ، ومن الواضح دخل حجيّة الأمارات ـ بأي معنى كان ـ في إقامة الحجة على حكم العمل في علم الفقه.

وعليه فعلم الاصول : ما يبحث فيه عن القواعد الممهّدة لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي ، من دون لزوم التعميم إلا بالإضافة إلى ما لا بأس بخروجه ؛ كالبراءة الشرعية التي معناها حلية مشكوك الحرمة والحلية ، لا ملزومها ، ولا المعذّر عن الحرمة الواقعية.

وأما الالتزام بالتعميم على ما في المتن ففيه محذوران :

أحدهما : لزوم فرض غرض جامع بين الغرضين لئلا يكون فن الاصول فنين.

ثانيهما : أنّ مباحث حجية الخبر وأمثاله ليست مما يرجع إليها بعد الفحص واليأس عن الدليل على الحكم العمل ؛ إذ لا يناط حجية الامارات بالفحص واليأس عن الدليل القطعي على حكم الواقعة ، نظير حلية المشكوك ؛ حيث إنها لا يرجع إليها إلا بعد الفحص واليأس عن الدليل على حرمة شرب التتن. وأما جعلها مرجعا ـ من دون تقييد بالفحص واليأس ـ فيدخل فيها جميع القواعد العامة الفقهية ؛ فإنها المرجع في جزئياتها كما لا يخفى.

ثم لا يخفى عليك : أنّ الالتزام بأعمّية الغرض إنما يجدي بالإضافة إلى ما لا يقع في طريق الاستنباط ، وكان ينتهي إليه الأمر في مقام العمل ، لا بالنسبة إلى ما كان بنفسه حكما مستنبطا ـ من غير مرجعية للمجتهد بعد الفحص

٤٢

واليأس عن الحجية على حكم العمل ـ فانه داخل في القواعد الفقهية الباحثة عن عوارض أفعال المكلفين. واختصاصها أحيانا بالمجتهد ليس من حيث كونها واسطة في الاستنباط المختص بالمجتهد. كيف؟ والمفروض كونها أحكاما مستنبطة ، بل من حيث إن تطبيق القواعد الكلية على مواردها موقوف على الخبرة بالتطبيق.

١٤ ـ قوله [ قدس سره ] : ( في الشبهات الحكمية ... الخ ) (١).

لأنها القابلة للمرجعية بعد الفحص واليأس عن الدليل ، دون الجارية في الشبهة الموضوعية ؛ فان مفادها حكم عملي محض ، وحال المجتهد فيها والمقلد على السوية.

__________________

(١) الكفاية : ٩ / ١٥.

٤٣

الوضع

١٥ ـ قوله [ قدس سره ] : ( الوضع : هو نحو اختصاص اللفظ بالمعنى ، وارتباط خاص ... الخ ) (١).

لا ريب في ارتباط اللفظ بالمعنى واختصاصه به ، وإنما الإشكال في حقيقة هذا الاختصاص والارتباط ، وأنه معنى مقولي ، أو أمر اعتباري.

وتحقيق الكلام فيه : أن حقيقة العلقة الوضعية لا يعقل أن تكون من المقولات الواقعية ـ لا ما له مطابق في الأعيان ، ولا ما كان من حيثيات ما له مطابق في الأعيان ـ لأن المقولات العرضية ـ سواء كانت ذات مطابق في الخارج ، أو ذات منشأ لانتزاعها واقعا ـ مما تحتاج إلى موضوع محقق في الخارج ؛ بداهة لزومه في العرض ، مع أنّ طرفي الاختصاص والارتباط ـ وهما اللفظ والمعنى ـ ليسا كذلك ، فإنّ الموضوع والموضوع له طبيعي اللفظ والمعنى ، دون الموجود منهما ، فإنّ طبيعيّ لفظ الماء موضوع لطبيعي ذلك الجسم السيال ، وهذا الارتباط ثابت حقيقة ، ولو لم يتلفظ بلفظ الماء ، ولم يوجد مفهومه في ذهن أحد.

ومنه يظهر : أنه ليس من الامور الاعتبارية الذهنية ؛ لأن معروضها ذهني ، بخلاف الاختصاص الوضعي ، فان معروضه نفس الطبيعي ، لا بما هو موجود ذهنا كالكلية ، والجزئية ، والنوعية ، والجنسية ، ولا بما هو موجود خارجا كالمقولات العرضية ، فتدبر.

وتوهم : أن صيغة ( وضعت ) منشأ للانتزاع ، فقد وجد الاختصاص والارتباط بوجود المنشأ ، نظير ثبوت الملكية ـ مثلا ـ بالعقد أو المعاطاة.

__________________

(١) الكفاية : ٩ / ١٨. وفيه : نحو اختصاص للفظ.

٤٤

مدفوع : بأن الأمر الانتزاعي مما يحمل العنوان المأخوذ منه على منشئه ، والحال أن الاختصاص والارتباط بنحو الاشتقاق لا يحملان على صيغة ( وضعت ) ، كما لا يحمل الملك بالمعنى الفاعلي أو المفعولي على صيغة ( بعت ) ، بل اللفظ هو المختص بالمعنى ، وأحدهما مربوط بالآخر ، كما أن الملك بالمعنى الفاعلي يحمل على المالك ، وبالمعنى المفعولي يحمل على المملوك ، فلا وجه لدعوى : أن الانشاء في الملك وفي الوضع وغيرهما منشأ الانتزاع.

ومما يشهد لما ذكرنا ـ من عدم كون الاختصاص معنى مقوليا ـ أن المقولات امور واقعية لا تختلف باختلاف الأنظار ، ولا تتفاوت بتفاوت الاعتبار ، ومع أنه لا يرتاب أحد في أن طائفة يرون الارتباط بين لفظ خاصّ ومعنى مخصوص ، ولا يرونه بينهما طائفة اخرى ، بل يرونه بين لفظ آخر وذلك المعنى.

ومما يؤكد ذلك أيضا : أن المقولات الحقيقة أجناس عالية للماهيات ، ولا تصدق المقولة صدقا خارجيا إلا إذا تحققت تلك الماهية في الخارج. وقد عرفت : أن وجود معنى مقولي في الخارج لا يكون إلا إذا كان له مطابق فيه ، أو كان (١) حيثية وجودية لما كان له مطابق فيه ، ويسمى بالأمر الانتزاعي ، ومن الواضح أن مفهوم الاختصاص ـ بعد عمل الواضع ـ لم يوجد له مطابق في الخارج ، ولم يختلف اللفظ والمعنى حالهما ، بل هما على ما كانا عليه من الذاتيات والأعراض ، وما لم ينضمّ إلى اللفظ ـ مثلا ـ حيثية عينية لا يعقل الحكم بوجود الاختصاص فيه وقيامه عينا به قيام العرض بموضوعه.

فان قلت : لا ريب في صدق حدّ مقولة الاضافة على الملكية (٢)

__________________

(١) في الأصل : ( أو كانت ... ) والصحيح ما أثبتناه.

(٢) هذا اعتبار الملكية بالمعنى الفاعلي والمفعولي ، وأما نفس المبدأ فقد أوضحنا حاله في مبحث الأحكام الوضعية من الاستصحاب من الجزء الثاني من الكتاب. ( منه عفي عنه ).

٤٥

والاختصاص ونحوهما من النسب المتكررة.

قلت : فرق بين كون المفهوم من المفاهيم الاضافية ، وبين صدق حد مقولة الإضافة على شيء ، والمسلّم هو الأول ، والنافع للخصم هو الثاني.

ومن الواضح : أن كون المفهوم من المفاهيم الإضافية لا يستدعي وجود مطابق له في الخارج بحيث يصدق عليه حد المقولة ، والشيء لا يعقل أن يكون فردا من المقولة ومصداقا لها ، إلا إذا وجد في الخارج على نحو ما يقتضيه طبع تلك المقولة ؛ ألا ترى صدق العالمية والقادرية عليه تعالى ، مع تقدس وجوده عن الاندراج في العرض والعرضي ؛ لمنافاة العروض مع وجوب الوجود ، بل تلك الإضافات إضافات عنوانية لا إضافات مقولية ، فكذا الملكية والاختصاص ، فان مفهومهما من المفاهيم الاضافية المتشابهة الأطراف ؛ بحيث لو وجدا في الخارج حقيقة كانا من حيثيات ما له مطابق في الأعيان.

فالتحقيق (١) في أمثال هذه المفاهيم أنها غير موجودة في المقام وأشباهه بوجودها الحقيقي ، بل بوجودها الاعتباري بمعنى : أنّ الشارع أو العرف أو طائفة خاصة يعتبرون هذا المعنى لشيء أو لشخص ؛ لمصلحة دعتهم إلى ذلك ، كما في التنزيلات ، والحقيقة الادعائية. أما نفس الاعتبار فهو أمر واقعي قائم بالمعتبر ، وأما المعنى المعتبر فهو على حدّ مفهوميته وطبيعته ، ولم يوجد في الخارج ، وإنما وجد بمعنى صيرورته طرفا لاعتبار المعتبر ، فينسب إليه الوجود ، فالموجب والقابل ـ مثلا ـ ما لكان ، والعوضان مملوكان في عالم اعتبار الشارع أو العرف ، لا في الخارج مع قطع النظر عن اعتبارهما.

ثم إن هذا المعنى : قد يكون من الامور التسبيبية ، فيتسبب المتعاقدان

__________________

(١) وتفصيل القول فيه في مقدمة الواجب في البحث عن الشرط المتأخر. [ منه قدس سره ].

٤٦

بالإيجاب والقبول اللّذين جعلهما الشارع سببا يتوصل به إلى اعتبار الشارع للملكية. فالملكية توجد بوجودها الاعتباري من الشارع بالمباشرة ، ومن المتعاقدين بالتسبيب.

وقد لا يكون المعنى المعتبر تسبيبيا ؛ كالاختصاص الوضعي ، فإنّه لا حاجة في وجوده إلا إلى اعتبار من الواضع. ومن الواضح أن اعتبار كل معتبر قائم به بالمباشرة ، لا بالتسبيب كي يتسبب إلى اعتبار نفسه بقوله : ( وضعت ) ونحوه ، فتخصيص الواضع ليس إلا اعتباره الارتباط والاختصاص بين لفظ خاص ومعنى خاص.

ثم إنه لا شبهة في اتحاد حيثية دلالة اللفظ على معناه ، وكونه بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه ، مع حيثية دلالة سائر الدوالّ ، كالعلم المنصوب على رأس الفرسخ ، فإنه أيضا ينتقل من النظر إليه إلى أن هذا الموضع رأس الفرسخ ، غاية الأمر أن الوضع فيه حقيقي ، وفي اللفظ اعتباري.

بمعنى : أن كون العلم موضوعا على رأس الفرسخ خارجي ليس باعتبار معتبر ، بخلاف اللفظ فانه كأنّه وضع على المعنى ليكون علامة عليه ، فشأن الواضع اعتبار وضع لفظ خاص على معنى خاص.

ومنه ظهر : أن الاختصاص والارتباط من لوازم الوضع ، لا عينه.

وحيث عرفت اتحاد حيثية دلالة اللفظ مع حيثية دلالة سائر الدوالّ تعرف : أنه لا حاجة إلى الالتزام بأن حقيقة الوضع تعهد ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ـ كما عن بعض أجلة العصر (١) ـ فانك قد عرفت : أن كيفية الدلالة والانتقال في اللفظ وسائر الدوالّ على نهج واحد بلا إشكال ، فهل ترى تعهدا من

__________________

(١) الملاّ علي النهاوندي ـ رحمه الله ـ ( صاحب تشريح الاصول ) : ٢٦ ، ٢٩.

٤٧

ناصب العلم على رأس الفرسخ. بل ليس هناك إلاّ وضعه عليه بداعي الانتقال من رؤيته إليه ، فكذلك فيما نحن فيه ، غاية الأمر أن الوضع هناك حقيقي وهنا اعتباري.

ولا يخفى عليك : أن من يجعل الوضع عبارة عن التعهد ، لا يدعي أنه عين الارادة المقومة لتفهيم المعنى باللفظ ؛ حتى يتخيل أنها إرادة مقدمية توصلية ، فلا يعقل أن تتعلق بما لا يكون مقدمة لتفهيم المعنى إلا بنفس هذه الارادة.

بل المراد من التعهد هو : الالتزام والبناء الكلي على ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى به في مرحلة الاستعمال ، وتلك الارادة الاستعمالية وان كانت تتوقف على سبق العلم بالوضع من المخاطب ، إلا أن هذا التوقف ليس من خصوصيات التعهد ، بل الوضع ـ بأي معنى كان ـ لا بد فيه من العلم به في مرحلة انفهام المعنى من اللفظ ، فالارادة المفهمة المقومة للاستعمال وإن كانت تتوقف على سبق الوضع والعلم به ، إلاّ أن ذلك التعهد والالتزام غير موقوف على كون اللفظ مفهما فعلا ؛ حيث إنه لم تتعلّق الإرادة الفعلية بالتفهيم به.

فالتعهّد ـ المعبّر عنه في كلام مدّعيه بالإرادة الكلية ـ قد تعلق بأمر مقدور في موطنه وإن كان التعهّد والعلم به دخيلا في إمكانه. فتدبّر جيّدا.

١٦ ـ قوله [ قدس سره ] : ( وبهذا المعنى صح تقسيمه إلى التعييني

__________________

وهو الشيخ علي بن المولى فتح الله النهاوندي النجفي ، علامة كبير ومحقق جليل من أكابر العلماء وأجلاّء الفقهاء وأحد أساطين الدين والعلم البارزين ، وكان بحثه من أبحاث النجف المعدودة ومن دروسها المحترمة. ومن تلامذته : الميرزا حبيب الله الرشتي ، والمولى كاظم المرندي ، والسيد محمد الخلخالي ، وشيخ الشريعة الأصفهاني.

توفّي في غرّة ربيع الآخر سنة ١٣٢٢ ه‍ عن عمر ناهز الثمانين ، ودفن في وادي السلام في مقبرته الخاصّة المعروفة. من آثاره كتابا تشريح الاصول الصغير والكبير.

( طبقات أعلام الشيعة ـ نقباء البشر في القرن الرابع عشر ٤ : ١٤٩٧ ) بتصرف.

٤٨

والتعيني ... الخ ) (١).

وأما على ما ذكرنا ـ من أن حقيقة الوضع اعتبار الواضع ـ فلا جامع بينهما ، بل الوضع التعيني يشترك مع التعييني في نتيجة الأمر ؛ إذ كما أن اعتبار الواضع يوجب الملازمة بين اللفظ والمعنى من حيث الانتقال من سماع اللفظ إلى المعنى ، كذلك كثرة الاستعمال توجب استيناس أذهان أهل المحاورة بالانتقال من سماع اللفظ إلى المعنى ، فلا حاجة إلى دعوى اعتبار أهل المحاورة على حد اعتبار الواضع فانه لغو بعد حصول النتيجة.

١٧ ـ قوله [ قدس سره ] : ( الملحوظ حال الوضع إما يكون ... الخ ) (٢).

لا يخفى عليك : أن الغرض من الملحوظ حال الوضع ما لا بد من لحاظه ؛ حيث إن العلقة الوضعية نسبة بين طرفيها ، فلا بد من ملاحظة طرفيها إما بالكنه والحقيقة ، أو بالوجه والعنوان.

ومنه يظهر فساد القسم الرابع ؛ لأن الوضع للكلي لا يحتاج إلا إلى ملاحظته ، بخلاف الوضع للأفراد الغير المتناهية ، فان لحاظ الغير المتناهي غير معقول ، فلا بد من لحاظها بجامع يجمع شتاتها ، ويشمل متفرّقاتها ، وهو الكلي المنطبق عليها ، فان لحاظها (٣) بالوجه لحاظها بوجه.

فما أفاده بعض الأعلام ( قده ) (٤) : من معقولية القسم الرابع ؛ نظرا إلى أنه كالمنصوص العلة ، فان الموضوع للحكم فيه شخصي ، ومع ذلك يسري الى كل ما فيه العلة. وكذلك إذا وضع لفظ لمعنى باعتبار ما فيه من فائدة ، فان الوضع

__________________

(١) الكفاية : ٩ / ١٩.

(٢) الكفاية : ١٠ / ١.

(٣) المراد ملاحظة الكلي بما هو كلي كما في المحصورة ، لا نفس الطبيعي ولو مهملة. ومن البديهي أن لحاظ ما لا يمتنع صدقه على كثيرين ليس لحاظ الكثيرين ، بل لا بد من أن يكون بحيث يصدق فعلا على الكثيرين حتى يكون لحاظه لحاظ الكثيرين. فتدبر. [ منه قدس سره ].

(٤) المحقق الرشتي ـ قدس سره ـ في بدائعه : ٤٠.

٤٩

يسري إلى كل ما فيه تلك الفائدة ، فيكون الموضوع له عامّا ، مع كون آلة الملاحظة خاصا.

مدفوع : بأنّ اللحاظ الذي لا بد منه ولا مناص عنه في الوضع للكلّي لحاظ نفسه ، ولحاظ الفرد من حيث فرديته أو لحاظ الكلّي الموجود فيه لا دخل له بلحاظ الكلي بما هو كلّي.

وربما يتخيّل انقسام الوضع العام والموضوع له العام إلى قسمين ؛ نظرا إلى أن الواضع ربما يلاحظ المعنى العام مستقلا ، فيضع اللفظ بإزائه ، وربما يلاحظ المعنى المنتزع عن الجهة المشتركة بين الأفراد الذهنية ، فيضع اللفظ بمرآتية العنوان المنتزع لمنشئه ، وهي الجهة المشتركة بين الافراد الذهنية ؛ لبداهة أن الأفراد الذهنية ـ كالأفراد الخارجية ـ ذات جهة جامعة مشتركة لكل فرد منها حصة متقررة في مرتبة ذاتها. ويترتب على هذا القسم من الوضع : أن إفادة الجهة المشتركة بنفس الدالّ عليها غير ممكن ؛ لأن الايجاد الذهني للطبيعة ـ كالخارجي ـ بايجاد فردها ، فالخصوصية المفرّدة لا بد من إحضارها بما يدل عليها ؛ حتى يعقل إحضار الجهة المشتركة بإحضارها.

وهو تخيل فاسد من حيث المبنى والبناء :

أمّا من حيث المبنى : فان الموجودات ـ خارجية كانت ، أو ذهنية ـ ليس فيها بما هي موجودات ، جهة واحدة مشتركة ، إلا بناء على وجود الطبيعي بوجود واحد عادى ، يتوارد عليه المشخصات ، وهو بديهي البطلان ، فاعتبار الاشتراك والكلية ليس للمعنى بما هو هو ؛ لأنّ الماهية في حد ذاتها غير واجدة إلا لذاتها وذاتياتها ، ولا لها بما هي موجودة خارجا أو ذهنا ؛ إذ هي بهذا القيد شخص لا كلي ولا جزئي ، فان مقسمهما المعنى ، لا الموجود بما هو موجود ، بل الكلية والاشتراك من اعتبارات الماهية حين كونها في الذهن ، فاذا كان النظر مقصورا عليها ، ولوحظت مضافة إلى الافراد الخارجية أو الذهنية ، وكانت غير آبية عن الصدق

٥٠

عليها ، يقال : إنها جهة جامعة مشتركة ، فالمنتزع عن الأفراد هي الجهة المشتركة ، وهي واحدة بوحدة طبيعية ، لا بوحدة وجودية عددية.

وصحة انتزاع هذا الواحد من كل واحد من الوجودات هو معنى وجود الطبيعي بالعرض في الخارج ـ بناء على أصالة الوجود ـ وهو معنى أن الطبيعي كالآباء بالإضافة إلى الأبناء ، في قبال القائل : بأنه واحد عددي ، فإنه كالأب الواحد ، والمشخصات كالأبناء.

وأما من حيث البناء : فلأن مفرد الجامع في الذهن هو الوجود الذهني ، فايجاده في الذهن باللفظ عين تفريده وجعله فردا ، والمفروض عدم الاختصاص في المفردات ، ومنها وجوده في ذهن المخاطب. فافهم ولا تغفل.

١٨ ـ قوله [ قدس سره ] : ( فقد توهم أنه وضع الحروف وما الحق بها من الأسماء ... الخ ) (١).

تحقيق المقام يتوقف على تحقيق المعاني الحرفية والمفهومات الأدويّة ، وبيان المراد من عدم استقلالها في المفهومية ، فنقول : الذي ينساق اليه النظر الدقيق بعد الفحص والتدقيق : أن المعنى الحرفي والاسمى متباينان بالذات لا اشتراك لهما في طبيعي معنى واحد.

والبرهان على ذلك هو : أن الاسم والحرف لو كانا متحدي المعنى ، وكان الفرق بمجرد اللحاظ الاستقلالي والآلي ، لكان طبيعي المعنى الوحداني قابلا لأن يوجد في الخارج على نحوين كما يوجد في الذهن على طورين ، مع أن المعنى الحرفي ـ كأنحاء النسب والروابط ـ لا يوجد في الخارج إلا على نحو واحد ، وهو الوجود لا في نفسه ، ولا يعقل أن توجد النسبة في الخارج بوجود نفسي (٢) ، فإن

__________________

(١) الكفاية : ١٠ / ١٩.

(٢) وإلا لم يكن ثبوت شيء لشيء ، بل ثبوت أشياء ثلاثة ، فتحتاج إلى رابطة اخرى. [ منه قدس سره ].

٥١

القابل لهذا النحو من الوجود ما كان له ماهية تامة ملحوظة في العقل كالجواهر والاعراض ، غاية الأمر أنّ الجوهر يوجد في نفسه لنفسه ، والعرض يوجد في نفسه لغيره.

ومنه ظهر : أن تنظير المعنى الاسمي والحرفي بالجوهر والعرض ، غير وجيه ، فان العرض موجود في نفسه لغيره. والصحيح تنظيرهما بالوجود المحمولي والوجود الرابط ـ لا الرابطي ـ كما لا يخفى على العارف بالاصطلاح المرسوم في تقسيم الوجود. فراجع.

وبالجملة : لا شبهة في أن النسبة لا يعقل أن توجد في الخارج إلا بوجود رابط لا في نفسه ، مع أن طبيعي معناها لو كان قابلا للّحاظ الاستقلالي ، لكان من الماهيات التامة في اللحاظ ، وهي قابلة للوجود النفسي.

فعدم قابلية الربط والنسبة للوجود النفسي المحمولي كاشف عن انه لا يتصور أن يكون للنسبة في حد ذاتها قبول اللحاظ الاستقلالي ، وإلا كان في تلك الحال ماهية تامة في اللحاظ ومثلها إذا كان قابلا للوجود العيني كان قابلا للوجود النفسي.

وقد عرفت آنفا : أن مجرّد لزوم القيام بالغير لا ينافي الوجود النفسي ، كيف؟ والعرض من أنحاء الموجود في نفسه ، مع أن وجوده في نفسه عين وجوده لغيره ، فكون النسبة حقيقة أمرا قائما بالمنتسبين ـ لو لم يكن نقصان في حد ذاتها ـ لم يكن مانعا عن وجودها في نفسها ، مع أنّ من البديهي أن حقيقة النسبة لا توجد في الخارج إلاّ بتبع وجود المنتسبين من دون نفسية واستقلال أصلا ، فهي متقومة في ذاتها بالمنتسبين ، لا في وجودها فقط. بخلاف العرض ، فان ذاته غير متقومة بموضوعه ، بل لزوم القيام بموضوعه ذاتي وجوده ، فان وجوده في نفسه وجوده لموضوعه.

٥٢

وإذا كانت النسبة بذاتها وحقيقتها متقومة بالطرفين ، فلا محالة يستحيل اختلافها باختلاف الوجودين من الذهن والعين.

ومنه ظهر : أن الأمر كذلك في جميع أنحاء النسب ، سواء كان بمعنى ثبوت شيء لشيء ، كما في الوجود الرابط المختص بمفاد الهليات المركبة الايجابية ، أو بمعنى ( كون هذا ذاك ) الثابت حتى في مفاد الهلية البسيطة ، وهو ثبوت الشيء ، أو كان من النسب الخاصة المقومة للأعراض النسبية ، ككون الشيء في المكان ، أو في الزمان أو غير ذلك.

فإن قلت : إذا لم يكن بين الاسم والحرف قدر جامع ، فما المحكيّ عنه بلفظ الربط والنسبة والظرفية وأشباهها من المعاني الاسمية؟

قلت : ليس المحكي عنه (١) بتلك الألفاظ إلا مفاهيم وعناوين ، لا حقيقة الربط والنسبة ، كما في لفظ العدم ، فانه لا يحكي إلا عن عنوان موجود في ظرف الذهن ، لا عما هو بالحمل الشائع عدم ، وليس العدم كالماهية يوجد بنحوين من الوجود ، بل وكذلك الأمر في لفظ الوجود بناء على أصالة الوجود ، فان حقيقة الوجود ليست كالماهية ؛ حتى توجد تارة في الذهن ، واخرى في العين.

وبالجملة : مفاهيم هذه الالفاظ ما هو ربط ونسبة وعدم ووجود بالحمل الأوّلي ، لا بالحمل الشائع ، وإلا فهي غير ربط ولا نسبة بالحمل الشائع. وما هو ربط ونسبة بالحمل الشائع نفس ذلك الأمر المتقوّم بالمنتسبين المحكيّ عنه بالأدوات والحروف.

وأما الظرفية والاستعلاء والابتداء فهي معان اسمية ، وليس معنونها معنى حرفيا ، بل كلمة ( في ) ـ مثلا ـ معنى رابطة للظرف والمظروف ، وكلمة ( على ) رابطة

__________________

(١) وبالجملة : المعاني على قسمين ـ بالاضافة إلى ما في الخارج ـ : فتارة من قبيل الطبيعي وفرده ، فالجامع بين الموجود الذهني والخارج متحقق ، واخرى من قبيل العنوان والمعنون ، والعنوان لا يتعدى عن مرحلة الذهن ، وهو غير المعنون ذاتا ووجودا. ( منه عفي عنه ).

٥٣

للمستعلي والمستعلى عليه ، وكلمة ( من ) رابطة للمبتدا به والمبتدأ من عنده ، وهكذا ، لا أن الظرفية مشتركة مع أداتها في معنى ، أو أحدهما (١) عنوان والآخر معنون كمفهوم الرابطة ومصداقها. فتدبره ، فانه حقيق به.

وما ذكرناه في تحقيق المعاني الحرفية والمفاهيم الأدويّة ، هو الذي صرّح به أهل التحقيق والأكابر من أهل فن المعقول.

نعم بعض المعاني الاسمية ربما يكون آلة لتعقّل حال الغير ، وحينئذ يكون كالمعنى الحرفي في عدم الاستقلال في القصد واللحاظ ، فيتخيل أن مجرد عدم الاستقلال في اللحاظ ملاك الحرفية ومناط الأدويّة ، مثلا الإمكان والوجوب والامتناع معان اسمية ، إلاّ أنّا إذا حكمنا على الانسان بالإمكان فالمحكوم به معنون هذا العنوان لا نفسه ، فمفهوم الامكان ـ مع كونه بحسب الاستعمال ملحوظا بالاستقلال ـ مقصود بالتبع ، وكالآلة للقوة العاقلة يتعرف بها حال الانسان ، فهو ملحوظ بالاستقلال في مرتبة الاستعمال ، وملحوظ آلي في مرحلة الحكم ، فيكون كالمعنى الحرفي. وقد يلاحظ الإمكان بماله من العنوان ، وهو ليس من أحوال الماهيات الإمكانية حقيقة ، بل هو موجود من الموجودات الذهنية. فحقيقة الامكان لها وجود رابط للانسان ، وعنوانه له وجود محمولي رابطي ؛ حيث إنه موجود في الذهن ، والعرض وجود في نفسه وجوده لموضوعه ، وهو معنى كونه رابطيا.

وأما حقيقة المعنى الحرفي والمفهوم الأدويّ فهو : ما كان في حدّ ذاته غير استقلالي بأيّ وجود فرض.

فعدم استقلاله باللحاظ كعدم استقلاله في الوجود العيني ، من جهة

__________________

(١) لأن الظرفية ـ مثلا ـ مفهوم إضافي مستقل باللحاظ له نحو من الوجود في الخارج كسائر أنحاء مقولة الإضافة ، فليس كالنسبة الحقيقية التي لا استقلال ولا نفسية لوجودها الحقيقي. [ منه قدس سره ].

٥٤

نقصان ذاته عن قبول الوجود النفسي في أي وعاء كان ، لا أن اتصافه بعدم الاستقلال بلحاظ اللحاظ ؛ حتى يكون الوصف المذكور وصفا له بحال متعلقه لا بحال نفسه.

وتفاوت المعاني ليس أمرا مستنكرا ، والوجود مبرز ومظهر لما هي عليه ، لا أن المعنى في حد ذاته كسائر المعاني ، ويعرضه الآلية والاستقلال في مرحلة اللحاظ والاستعمال.

فان قلت : ما برهنت عليه وركنت اليه ـ من أنّ النسبة غير قابلة للوجود النفسي ـ غير مسلّم ، كيف؟ والأعراض النسبية ـ كمقولة الأين ومتى والوضع وأشباهها ـ من انحاء النسب ، مع أنها موجودات في نفسها ، وان كان وجودها لموضوعاتها.

قلت : التحقيق كما عليه أهله : أن الأعراض النسبية ليست نفس النسب ، بل هيئات وأكوان خاصة ذات نسبة ، فمقولة الأين ليست نسبة الشيء في المكان ، بل الهيئة القائمة بالكائن في المكان ، غاية الأمر أن الأعراض النسبية أضعف وجودا من غيرها ، كما أن مقولة الاضافة أضعفها جميعا ؛ حيث إن وجودها في الخارج ليس إلا كون الشيء في الخارج بحيث إذا عقل عقل شيء آخر معه ، إلا أن هذه الحيثية زائدة على نفس الشيء ؛ إذ ذات الأب له وجود غير متحيث بتلك الحيثية ، وله وجود متحيث بالحيثية ، ومنشأ هذا التفاوت ليس إلا أمر وجوديّ.

وأما النسب والروابط الصرفة ، فوجوداتها أضعف جميع مراتب الوجود ، حيث لا يمكن وجودها ـ لا في الخارج ، ولا في الذهن ـ من حيث هي هي مع قطع النظر عن الطرفين ، فلذا لا تندرج تحت مقولة من المقولات ؛ لأن المقولة لا بد من أن تكون طبيعية محمولة.

إذا عرفت ما حققناه ـ في حقيقة المعنى الحرفي ـ تعرف : أنه لا يعقل

٥٥

الوضع لها ـ من حيث هي هي ـ إلا بتوسط العناوين الاسمية ، كالابتداء الآلي ونحوه.

وميزان عموم الوضع وخصوص الموضوع له ، ليس الوضع للجزئيات الحقيقية ؛ حتى يورد علينا : بأن مجرد الوضع لحقيقة الابتداء النسبي بتوسط عنوان الابتداء الآلي ، لا يوجب خصوص الموضوع له ؛ لبقاء المعنون على كليته وشموله الذاتي ، بل الميزان في العموم والخصوص : أن نسبة الموضوع له والملحوظ حال الوضع : إن كانت نسبة الاتحاد والعينية ـ كما إذا لاحظ أمرا عامّا أو خاصّا ، فوضع اللفظ بازاء نفس ذلك الملحوظ ـ كان الوضع والموضوع له عامين أو خاصين. وإن كان الموضوع له غير الملحوظ حال الوضع ـ بأن كان الملحوظ ما هو ابتداء آلي بالحمل الأوّليّ ، والموضوع له ما هو ابتداء نسبي بالحمل الشائع ـ فلا محالة يكون نسبة الموضوع له إلى الملحوظ حال الوضع نسبة الأخص إلى الأعم ، وسرّه أن أنحاء النسب ليس لها جامع ذاتي ، بل جامع عنواني ، وهذا شأن كل أمر تعلّق في حد ذاته.

لا يقال : الابتداء النسبي الملحوظ بتبع لحاظ طرفيه ، يصدق على الابتداءات الخاصة النسبية الخارجية ، فهي كلي ذاتي يصدق على أفراده.

لأنا نقول : قد عرفت سابقا أن الابتداء معنى اسمي من مقولة الإضافة ، وما هو معنى حرفي هو نسبة المبتدأ به بالمبتدإ (١) منه ، كما أن الظرفية والمظروفية أيضا كذلك. ونسبة الكون في المكان ـ المقومة لمقولة الأين تارة ، ولمقولة الاضافة اخرى ـ معنى حرفي ، ونسبة شيء إلى شيء ليست شيئا من الأشياء ، ولا مطابق لها في الخارج ، بل ثبوتها الخارجي على حد ثبوت المقبول بثبوت القابل على نهج القوة لا الفعل. وهكذا ثبوتها الذهني ، فلا ثبوت فعلي

__________________

(١) لعله : الى المبتدأ.

٥٦

للنسبة إلا هكذا ، وهي دائما متقومة بطرفين خاصين ـ بحيث لو لوحظ ثانيا كان ثبوتا فعليا آخر للنسبة ـ فلا ثبوت فعلي للنسب خارجا ؛ حتى يكون النسبة الذهنية بالاضافة إليها كالطبيعي بالاضافة إلى أفراده ، وإن كانت النسبة الذهنية تطابق النسبة الخارجية ، فان المطابقة تتحقق بين جزءين ، وهي غير الصدق ، وأما مفهوم النسبة فقد عرفت سابقا : أن نسبتها إلى النسب الحقيقية نسبة العنوان إلى المعنون. فتدبّر جيّدا.

١٩ ـ قوله [ قدس سره ] : ( وذلك لأنّ الخصوصية المتوهمة إن كانت ... الخ ) (١).

حاصله : أن الماهية ـ مقولية كانت أو اعتبارية ـ في حد ذاتها كلية ، وصيرورتها جزئية لا تكون إلا بالوجود ـ سواء كان عينيا حقيقيا أو ذهنيا ظلّيّا ـ إذ التشخص كما حقق في محله بالوجود.

فإن اريد بالجزئي ما هو جزئي عيني ، ففيه : أن المستعمل فيه ربما كان كليّا كما في قولك : ( سر من البصرة إلى الكوفة ).

وإن اريد بالجزئي ما هو جزئي ذهني ؛ حيث إن الموجود في الذهن ، وإن كان في حد ذاته ومفهومه كليّا ، إلا أنه بحسب وجوده الذهني جزئي ؛ إذ التشخص بالوجود ، بل هو عين التشخص.

ففيه : أن هذا الوجود المأخوذ في الموضوع له أو المستعمل فيه : إن كان نفس اللحاظ المقوم للاستعمال فاستعمال اللفظ فيما هو جزئي بهذا المعنى محال ؛ إذ المفروض أنه مقوم للاستعمال ، فكيف يعقل أخذه فيما هو مقدم عليه طبعا؟! وإن كان أعم ؛ كي يعم لحاظا آخر فالمستعمل فيه أمر عقلي لا موطن له إلا في الذهن ، فانطباقه على الخارج إنشاء وإخبارا محال ، فلا بد من التجوّز الدائمي

__________________

(١) الكفاية : ١١ / ٣.

٥٧

بإلغاء الخصوصية ، فيلغو الوضع المتخصّص بهذه الخصوصية.

مضافا إلى أن الجزئية ـ على أي تقدير ـ بنفس اللحاظ لا بآليته كي تختصّ بالحروف ، فما المخصّص للوضع للملحوظ بما هو ملحوظ في الحروف دون الأسماء؟

والجواب ما أسمعناك في الحاشية المتقدمة من أن أنحاء النسب الحقيقة في حد ذاتها ـ مع قطع النظر عن أحد الوجودين من الذهن أو العين ـ تعلقية ، ولا يعقل انسلاخها عن هذا الشأن ، والوجود ـ ذهنيا كان أو عينيا ـ مبرز لأحكامها ومظهر لأحوالها ، لا أن النسبية والتعلّقية بأحد الوجودين ؛ كي لا يكون فرق بين الاسم والحرف في حد ذات المعنى ، وحيث إن ذات النسبة تعلقية ، فلا جامع ذاتي بين أنحائها ؛ لأن إلغاء التعلق منها إخراج لها عن النسبية ، فلا بد من الوضع لانحائها بجامع عنواني يجمع شتاتها ، بل تلاحظ به. وحيث إن النسبة بين عنوان النسبة الكذائية ومعنوناتها نسبة الأعم والأخص ، كان الوضع عامّا والموضوع له خاصّا (١) ، من دون لزوم الالتزام بالجزئية الحقيقية ـ عينية كانت أو ذهنية ـ فإنه من باب لزوم ما لا يلزم. فافهم واستقم.

٢٠ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( ولذا التجأ بعض الفحول (٢) إلى جعله

__________________

(١) وليس حقيقة النسبة كلّيّة ؛ بمعنى الصدق على كثيرين ، فانّ الصدق والحمل شأن المعاني المستقلّة باللحاظ.

كما أنها ليست بجزئية بمعنى ما يأبى الصدق على الكثيرين.

نعم ، الكلية بمعنى قبولها لوجودات مقولة فإنّ المقدار الذي ساق إليه البرهان عدم الاستقلال والنفسية من حيث التقوّم بالمنتسبين ، لا زيادة على ذلك ، فالنسبة المتقوّمة بالسير والبصرة يمكن أن يكون لها وجودات حقيقة ، ومع ذلك لا جامع ذاتي لها ، إذ الجامع الذاتي بإلغاء خصوصية الطرفين لا بالغاء الوجود الذهني الخارجي ـ كما لا يخفى على من لاحظ ميزان الكلّية والجزئية في المفاهيم دون الجزئية والتعيّن والتشخّص الذي لا يكون إلاّ بنفس الوجود. [ منه قدس سره ].

(٢) المحقق التقي في هداية المسترشدين : ٣٠ عند قوله : ( ثالثها .. ).

٥٨

جزئيّا إضافيا ... الخ ) (١).

قد عرفت وجهه ، وأنّ ميزان العموم والخصوص مجرد كون النسبة نسبة الأخصّ إلى الأعمّ ، لا نسبة الكلي والفرد فلا تغفل.

٢١ ـ قوله [ قدس سره ] : ( ويكون حاله كحال العرض ... الخ ) (٢).

قد عرفت : أن الأنسب تنظيره بالوجود الرابط ، لا العرض الذي هو وجود محمولي رابطي ، وذلك لأن العرض موجود في نفسه ، إلا أنه لغيره في قبال الجوهر حيث إنه موجود في نفسه لنفسه ، وأنحاء النسب الحقيقية لا نفسية لها أصلا ـ لا خارجا ولا ذهنا ـ فالمعنى الحرفي ليس موجودا ذهنيا قائما بموجود

__________________

وهو الشيخ محمد تقي بن محمد رحيم الأيوان كيفي الوراميني الأصفهاني.

احد رؤساء الطائفة ومحقّق الإمامية هاجر في أوائل شبابه إلى العراق بعد تكميل المبادئ والمقدّمات ، حضر في الكاظمية على السيد محسن الأعرجي ، وفي كربلاء على الأستاذ الوحيد محمد باقر البهبهاني والسيّد علي صاحب الرياض ، وفي النجف على السيّد مهدي بحر العلوم ، والشيخ الأكبر جعفر كاشف الغطاء ، لازم الأخير زمانا ، وصاهره على كريمته ، واستمرّ على اكتساب المعارف منه ومن أقرانه حتى فاز بدرجة عالية من العلم والعمل معقولا ومنقولا وفقها واصولا.

وشيخنا هو ابن الميرزا مهدي الذي عمّر بأمر السلطان نادر شاه صحن الأمير عليه السلام في النجف ، وهو أخو الشيخ محمد حسين صاحب الفصول.

له آثار هامّة وجليلة أشهرها حاشية المعالم ، وسماها ( هداية المسترشدين ) في شرح اصول معالم الدين ، نالت القبول والاستحسان لدى الأكابر والفحول من المحقّقين والأعلام حتى اشتهر المترجم له (ره) بصاحب الحاشية.

توفي رحمه الله في يوم الجمعة منتصف شوال (١٢٤٨) ه.

( طبقات أعلام الشيعة في القرن الثالث بعد العشرة ١ : ٢١٥ ) بتصرف.

(١) الكفاية : ١١ / ٥.

(٢) الكفاية : ١١ / ٨.

٥٩

ذهني آخر ، بل ذاته وحقيقته متقوّمة بمتعلّقه ، لا موجود لمتعلّقه.

٢٢ ـ قوله [ قدس سره ] : ( ما دلّ على معنى في غيره ... الخ ) (١).

أي على معنى هو في حدّ ذاته في غيره ، لا أنه موجود في غيره ، فإنّ النسبة في حدّ ذاتها متقومة بغيرها ، لا في وجودها ، كالعرض في الجوهر ، فلا دلالة لهذه العبارة المعروفة على كون المعنى الحرفي ـ بحسب وجوده الذهني ـ موجودا قائما بموجود آخر ، كالعرض في الجوهر خارجا.

وأما جعله آلة وحالة في غيره فبملاحظة أن وقوع السير مبتدأ به ، والبصرة مبتدأ من عندها ؛ بلحاظه مضافا إلى البصرة ، فالإضافة المزبورة آلة لتعرف حال السير والبصرة من حيث المبتدئية بالمعنيين ، وحيث إن نفس الإضافة متقومة بهما ، فهي حالة للغير.

وبهذين الوجهين تارة يقال : إن الحرف ما أوجد معنى في غيره ، فإنه بلحاظ الآلية المزبورة. واخرى يقال : ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل ، فانه باعتبار كون اللفظ بالوضع حاكيا عن الإضافة المزبورة. فلا تنافي بين الكلامين المنسوبين إلى الرواية ، كما لا موجب لجعلهما بلحاظ موردين من موارد استعمالهما.

٢٣ ـ قوله [ قدس سره ] : ( الفرق بينهما إنما هو في اختصاص كل منهما بوضع ... الخ ) (٢).

محصله : أن العلقة الوضعية ـ في كل منهما ـ على نهج خاص ؛ لتقيدها في أحدهما بما ذا أريد منه المعنى استقلاليا ، وفي الآخر بما ذا أريد آليّا. فاستعمال الأول في مورد الثاني استعمال في ما لا علقة وضعية له.

لكنه لا يذهب عليك أن لحاظ المعنى وإرادته من شئون المعنى وأحواله ،

__________________

(١) الكفاية : ١١ / ١٠.

(٢) الكفاية : ١٢ / ٩.

٦٠