نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-43-4
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٢٦

جعل الأمارة منجّزة للواقع عند الإصابة ، فالأمر في عدم اقتضاء الإجزاء في غاية الوضوح ، وهذا هو الصحيح وإن كان منافيا للمشهور.

لا يقال : دليل الأمارة وإن لم يفد الإجزاء ، إلاّ أنّ موردها دائما (١) من موارد حديث الرفع ؛ حيث إن الواقع الذي أخطأت عنه الأمارة (٢) مجهول ، فيأتي الإجزاء ، من حيث انطباق مورد حديث الرفع (٣) الحاكم على الأدلة الواقعية على موارد الأمارات.

لأنا نقول : الظاهر من ( ما لا يعلم ) ما جهل حاله رأسا لا ما قامت الحجة على عدمه.

٢١٤ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( وأما بناء عليها ... الخ ) (٤).

__________________

(١) قولنا : ( إلاّ أنّ موردها دائما .. إلخ ).

ليس الغرض جريان حديث الرفع مع وجود الحجة ، بل الغرض أنّ المجهول حيث إنّ الغرض منه أو دخله في الغرض ليس بفعلي ، فلذا رفع حكمه ، وإن كان الدليل على رفعه محكوما بدليل الأمارة ، فلذا يدفع إما بأن الظاهر من المجهول ومن ( ما لا يعلمون ) هو غير المعلوم بنفسه ، لا ما قامت الحجة على عدمه ، فلا يتحد مع مورد الأمارة مصداقا ، وإما بأنّ من المحتمل تقيّد المصلحة الواقعية بما إذا لم يقم دليل على رفع الحكم ظاهرا ، لا تقيّدها بمجرد الجهل الذي هو مورد للرفع ، فتدبّر [ منه قدس سرّه ].

(٢) كذا في الأصل ، والصحيح : الذي أخطأته الأمارة.

(٣) حديث الرفع عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : « رفع عن امّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما اكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة ». ورد هذا الحديث في كلّ من :

الخصال ٢ : ٤١٧ / من باب التسعة ـ ح ـ ٩.

التوحيد : ٣٥٣ ، باب الاستطاعة : ٥٦ ، حديث : ٢٤.

الفقيه ١ : ٣٦ باب من ترك الوضوء أو بعضه أو شك فيه ، حديث : ٤ والاختصاص : ٣١ ولم يذكر الثلاثة الاخيرة.

(٤) كفاية الاصول : ٨٦ / ١٦.

٤٠١

هذا إذا قلنا بكشف الدليل (١) على الحجية عن المصلحة البدلية ، وأما إذا قلنا بكشفه عن مجرّد المصلحة في صورة المخالفة ـ في قبال الطريقية ـ فلا يفيد الإجزاء عن المصلحة الواقعية.

ومن البيّن ـ كما بيّن في محلّه ـ : أن ظهور الإنشاء في الإنشاء بداعي جعل الداعي ـ لا بغيره من الدواعي ـ لا يقتضي أزيد من انبعاثه عن مصلحة مقتضية لجعل الداعي إلى تحصيلها ، أمّا إنها مصلحة بدلية عن مصلحة الواقع فلا. وحديث تفويت المصلحة ـ ولزوم تداركها بمصلحة مسانخة لها ـ مذكور في مسألة جعل الطريق إشكالا وجوابا.

__________________

(١) قولنا : ( هذا إذا قلنا بكشف الدليل ... إلخ ).

توضيحه : أن الالتزام بالموضوعية والسببية : تارة بملاحظة قبح تفويت المصلحة ، فلا بد من الالتزام بمصلحة في المؤدّى بحيث يتدارك بها مصلحة الواقع ، واخرى بملاحظة ظهور الإنشاء في كونه بداعي جعل الداعي لا بسائر الدواعي ، وظهور متعلّقه في كونه عنوانا لا معرّفا للواقع ، فيندفع بالظهور الأوّل احتمال كونه بداعي تنجيز الواقع ، ويندفع بالظهور الثاني احتمال كونه بداعي ايصال الواقع بعنوان تصديق العادل مثلا ، إلا أنّ مقتضى كلا الظهورين جعل الداعي على أيّ تقدير وانبعاثه عن مصلحة زائدة على مصلحة الواقع ، أمّا أنّها مصلحة بدلية عن مصلحة الواقع حتى يسقط التكليف الواقعي بحصول ملاكه ، أو مصلحة غير بدلية حتى يكون التكليف الواقعي باقيا ببقاء ملاكه ، فلا محالة تتوقّف على ضميمة معيّنة لبدلية المصلحة.

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون مؤدّى الأمارة وجوب شيء نفسيا أو حرمة شيء والواقع غيره ، أو شرطية شيء كذلك أو عدمها ، فكما لا يدل وجوب شيء نفسيا بعنوان تصديق العادل مثلا على مصلحة بدلية في ذلك الشيء ، كذلك لا يدلّ جزئية شيء على كونه بعض ما يفي بالغرض الواقعي ، بل مقتضى جعل الجزئية ـ بجعل منشأ انتزاعها ـ إيجاب ما يتألّف منه ومن غيره ، فلا بد من أن يكون هذا الإيجاب عن مصلحة ، أمّا إنها بدلية فلا ، وهكذا الشرطية ، فإنّ جعلها بجعل إيجاب المتقيّد به ، وكذا نفي الجزئية والشرطية ، فإن مرجعه إلى إيجاب ما عداه أو ما لا تقيد له به ، وسيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ بعض الكلام فيما يتعلق بالمقام.

وأما إثبات المصلحة البدلية رأسا ، أو إثبات بدلية المصلحة بعد استظهار أصلها بالبيان الذي تفردنا به من طريق قبح تفويت المصلحة الواقعية ، فقد دفعناه في مسألة جعل الطريق بأنّ إيكال العبد إلى طرقه العلمية ربما يوجب تفويت الواقعيات أكثر من جعله متعبدا بالأمارة

٤٠٢

__________________

فالزائد فائت لا مفوّت حتى يقبح ، مع أن تفويت مصلحة بإيصال مصلحة تساويها أو أقوى منها ـ ولو لم يكن من سنخها ـ لا قبح فيه.

وأما ما يستظهر من كلام الشيخ الأعظم ـ قدّس سرّه ـ في الرسائل : من الالتزام بالتدارك بمقدار الفوت بتقريب : أنه إذا صلى الجمعة في أول الوقت فانكشف وجوب الظهر واقعا ، فقد فاتته فضيلة أول الوقت ونلتزم بتداركها ، لكن مصلحة أصل الوقت ـ ومصلحة طبيعة الصلاة ـ باقية على حالها ، ويمكن استيفاؤها بالإعادة ، وإذا انكشف الخلاف بعد الوقت ، فقد فاتته مصلحة الوقت ، وهي متداركة ، لكن مصلحة طبيعة الصلاة باقية فتستوفى بالقضاء ، كما في سائر موارد القضاء ، وإن لم ينكشف الخلاف فمصلحة طبيعة الصلاة أيضا متداركة ، ويصحّ حينئذ أن يقال بعدم الإجزاء عند انكشاف الخلاف ، مع الالتزام بتدارك المقدار الفائت ، ومرجعه إلى القول بالموضوعية والمصلحة البدلية وعدم الإجزاء عند انكشاف الخلاف.

فمخدوش : بأنّ مقتضى اشتمال الصلاة في أول الوقت على مصلحة أوّل الوقت ـ وهي غير لزومية ـ أن يكون التكليف بمؤدّى الأمارة غير لزومي ، مع أنّ المفروض جعل الحكم المماثل لما أدّت إليه الأمارة من وجوب صلاة الجمعة ، مضافا إلى أن الصلاة إذا اتي بها في وقت الإجزاء ، وانكشف الخلاف في الوقت ، فلازم كلامه ـ قدس سره ـ أن لا يكون مأمورا بها أصلا ؛ حيث لا تشتمل على مصلحة لزومية ولا غير لزومية.

ولا يمكن التفصّي عن ذلك : بأنّ الإنشاء الطريقي لمجرّد تنجيز الواقع ، فإنّ الفعل إذا كان ذا مصلحة لزومية أو غير لزومية ، فهو يقتضي الحكم اللزومي أو غيره على حدّ التكاليف الواقعية ، خصوصا عند من يلتزم بصحة الصلاة واقعا إذا لم ينكشف الخلاف فإنها واجدة لجميع ما تكون الصلاة الواقعية واجدة لها من مصالحها. هذا كلّه بالنسبة إلى إثبات المصلحة البدلية بلحاظ قبح تفويت المصلحة.

ويمكن : دعوى بدلية المصلحة من طريق آخر ، وملخّصه أنّ مصلحة الواقع ومصلحة المؤدى : إمّا أن تكونا قابلتين للاجتماع ، وإمّا أن تكونا غير قابلتين له.

فعلى الأول ـ يجب الأمر بتحصيلهما تعيينا ، مع أنه لا يتعين عليه تحصيل المصلحة الواقعية بالتكليف بتحصيل العلم ، بل له الاقتصار على التعبد بمؤدى الامارة.

وعلى الثاني ـ يجب الأمر بتحصيلهما تخييرا لمكان المضادّة بينهما ، مع أن ظاهر الأمر الواقعي والطريقي كونهما تعيينيين ، والمفروض لزوم تحصيل مصلحة الواقع بعد انكشاف الخلاف وإحراز مصلحة المؤدى ، والتخييرية منافية لمقامي الثبوت والإثبات معا ، بخلاف ما إذا كانت مصلحة المؤدّى بدلية ، فإنّ مقتضى قيامها مقام المصلحة الواقعية عدم تعيّن تحصيل المصلحة الواقعية ،

٤٠٣

٢١٥ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( فيجزي لو كان الفاقد معه في هذا الحال كالواجد ... الخ ) (١).

فإن قلت : لو كان مؤدّى (٢) الأمارة ـ بما هو مؤداها ـ وافيا بتمام مصلحة الواقع لزم الأمر بالجامع بينهما عقلا ؛ لاشتراكهما من حيث وحدة الأثر في جامع لهما ، ويكون الأمر بكلّ من الواقع والمؤدّى تخييريا ، مع ظهور الأمر الواقعي والطريقي في التعييني ، ونفس هذا الظهور كاشف عن كيفية الأمر في مقام الثبوت ، ولا ينتقض بالأمر الاضطراري ، مع أنه كذلك ، وذلك لأنّ المأمور به الاختياري غير مقدور شرعا في حال الاضطرار ، فلا فرد للجامع في كلّ من الحالين إلا أحد الأمرين معينا ، بخلاف الواقعي فإنه مقدور بذاته في حال قيام الأمارة على خلاف الواقع.

ومنه يظهر : أنه لا مانع من فعلية المصلحة الواقعية تخييرا ، وإن منع الجهل بها عن فعليتها تعيينا.

__________________

بل له الاقتصار على تحصيل ما يقوم مقامها. وحيث إن موضوع مصلحة المؤدّى في موقع التعبّد وفي ظرف عدم وصول الواقع ، فلا تخيير كما سيأتي في المتن.

ويندفع هذه الدعوى : بأنّ المصلحتين قابلتان للاجتماع ، إلاّ أنّ عدم تعيّن تحصيل المصلحة الواقعية بالطرق العلمية في عرض لزوم تحصيل مصلحة المؤدّى لعدم كون الغرض الواقعي بحدّ يوجب تكلّف تحصيله بالطرق العلمية أو بالاحتياط ، بل بحيث لو وصل عادة كان لازم التحصيل ، فمع عدم وصوله العادي يجب عليه فعلا تحصيل مصلحة المؤدّى المتحقّق موضوعه بعدم وصول الواقع عادة ، ومع وصوله عادة لا موضوع لمصلحة المؤدى ، فالمصلحتان في نفسهما متغايرتان لا متضادتان وتعيينيتان لا تخييريتان. [ منه قدس سره ].

(١) كفاية الاصول : ٨٦ / ١٨.

(٢) قولنا : ( فإن قلت : لو كان مؤدّى .. إلخ ).

إنما أرجعنا الإشكال إلى الأمر بالجامع بناء على مسلكه ـ قدّس سرّه ـ في الواجب التخييري من أن الغرض إذا كان واحدا ، فلا بدّ من الأمر بالجامع ، وإذا كان متعدّدا ، ولا يمكن الجمع بينهما ، فلا بد من التخيير الشرعي ، وحيث إن المفروض هنا وحدة الغرض ، ووفاء ـ

٤٠٤

قلت : ليس ذات المؤدّى ذات مصلحة ، بل بما هي مؤدّى الأمارة المخالفة للواقع ، فهي بهذه الحيثية مصداق الجامع لا مطلقا ، فالجامع ـ بوجوده الساري في الواقع ، وفي مؤدّى الأمارة المخالفة للواقع ـ لا يعقل أن يكون مأمورا به بحيث يسري الأمر منه إلى الفردين تخييرا ؛ إذ ما لم يتعلّق أمر بالواقع ، ولم تقم أمارة مخالفة له لا يكون المؤدّى ذا مصلحة ولا مصداقا للجامع ، فكيف يعقل انبعاث الأمر إلى فردي الجامع تخييريا من قبل الأمر بالجامع بوجوده الساري في الفردين؟ إذ لا ثبوت لهذا الموضوع في حد موضوعيته قبل تعلّق الأمر بالجامع في ضمن الواقع ، فلا محالة يكون الأمر بالجامع في ضمن الواقع ، والأمر بالجامع في ضمن المؤدّى تعيينيين.

__________________

المؤدّى بمصلحة الواقع ، فلذا أرجعنا التخيير إلى الأمر بالجامع ، وإنما التزمنا في الجواب باعتبار حيثية قيام الأمارة المخالفة للواقع ، مع أن الأمارة الموافقة أيضا كذلك ؛ لأن المفروض الحاجة إلى المصلحة البدلية في صورة عدم مصادفة الواقع.

نعم ، ما أجبنا به ـ من تأخّر رتبة المؤدّى عن رتبة الواقع الذي يقابله ، وأنه مانع عن الأمر بهما تخييرا في عرض واحد ، أو عن سريان الأمر بهما من الأمر بالجامع ـ فهو مبني على ما هو المعروف من مانعية تأخّر الرتبة عن عرضية حكمي المرتّب والمرتب عليه.

وأما بناء على ما مرّ منا مرارا ـ من عدم المانعية ـ فلا مانع من الأمر بالجامع وتسريته إلى الواقع والمؤدّى في عرض واحد ، بل لا مانع من هذه الحيثية ابتداء من جعل الحكم لهما تخييرا بنحو القضايا الحقيقية.

نعم الأمر الفعلي بهما في عرض واحد محال تعيينا وتخييرا ؛ إذ فعلية الأمر بالمؤدّى منوطة بعدم وصول الواقع ، وفعلية الواقع منوطة بوصوله ، فلا فعليّ إلا أحدهما دائما ، وكما يستحيل فعلية الأمر بهما تعيينا ، فكذا تخييرا.

ولا فرق في محذور التخييرية بين مقام الإنشاء الواقعي ومقام الفعلية ، فان الإنشاء الواقعي في الواقع ، والمؤدّى بداعي جعل الداعي ، ويستحيل الانشاء التخييري بالنسبة اليهما بداعي الإيجاب التخييري عند وصولهما ؛ إذ يستحيل اجتماع وصولهما ، فلا بدّ من الأمر بكلّ منهما تعيينا ، فإنّ التعيينية لا تستدعي الاجتماع في الوصول ، بخلاف التخييرية ، فإنها متقوّمة بطرفين فتدبر. [ منه قدّس سرّه ].

٤٠٥

ومنه يظهر : أن مصلحة الواقع والمؤدّى ـ عند قيام الأمارة ـ وإن كانت فعلية ، لكن فعلية البعث إلى المؤدّى ـ لوصوله ـ مانع عن فعلية البعث إلى الواقع ؛ لاستحالة بعثين فعليين تعيينيين مع وحدة الغرض ، بل على ما سلكناه في محله يستحيل البعث الفعلي مع عدم الوصول بنحو من أنحائه.

٢١٦ ـ قوله [ قدس سره ] : ( وإلاّ فلا مجال لإتيانه ... الخ ) (١).

هذا كالوا في بتمام الغرض إشكالا وجوابا ، غاية الأمر أن الطلب في المأمور به الواقعي متأكّد من حيث زيادة المصلحة.

٢١٧ ـ قوله [ قدس سره ] : ( فأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه ... الخ ) (٢).

لا يخفى أن عدم الإتيان بالمسقط ؛ حيث إنه ليس بأثر شرعي ، ولا بذي أثر شرعي ، فلا بد من حمل كلامه (قدس سره) على استصحاب الاشتغال ، وبقاء ما في الذمة. وصحة استصحاب الاشتغال ـ كلية ـ مبنية على دعوى : أن هذا المعنى منتزع من توجه التكليف بفعل إلى العبد ، وكفى به في صحة استصحابه.

وقد أشكلنا عليه وعلى قاعدة الاشتغال ـ هنا ـ في محلّه بما محصله :

أن الحكم الذي تعلق العلم به لم يكن فعليا حال ثبوته على الفرض ، ولم يعلم بقاؤه حال تعلّق العلم به ليصير فعليا به ، فلا أثر لتعلّق العلم به.

ويندفع : باستصحاب (٣) بقاء التكليف الواقعي الذي هو عبارة عن

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٦ / ٢١.

(٢) كفاية الاصول : ٨٧ / ٤.

(٣) قولنا : ( ويندفع باستصحاب .. إلخ ).

توضيحه : أن للتكليف الواقعي فعلية بالذات ، وفعلية بالعرض ، فاذا علم به حقيقة ، فهو الواصل بالحقيقة والبعث الفعلى بالذات ، وإذا قامت عليه حجة شرعية متضمنة لجعل الحكم

٤٠٦

الإنشاء بداعي جعل الداعي ، والحكم الاستصحابي حكم مماثل ، وحيث إنه واصل فيصير فعليا. وينسب الفعلية بالعرض إلى الحكم الواقعي ، كما هو كذلك عند قيام الأمارة عليه أيضا ، فإن الواصل الحكم المماثل المجعول على طبق المؤدّى.

ويمكن دفعه أيضا (١) : بأن حال العلم هنا حال الحجة الشرعية بمعنى

__________________

المماثل ، فالواصل بالحقيقة والبعث الفعلي بالذات هو الحكم المماثل ، وحيث إنه بعنوان أنه الواقع فلذا ينسب الوصول والفعلية إلى الواقع بالعرض ، وترتب الفعلية على الحكم المماثل الواصل ليس تعبّديا ، بل انتزاع البعث الفعلي منه لوصوله عقلي لتمامية منشأ انتزاعه ، فالحكم المماثل الواصل محقق له لا موجب للتعبّدية.

إذا عرفت ما ذكرنا تعرف ما في أصالة عدم كون التكليف فعليّا ، فإنه إن اريد منه الفعلية بالعرض فهو محقق وجدانا بوصول الحكم المماثل المصحّح لفعلية الواقع بالعرض ، وإن اريد منه الفعلية بالذات فاحتمال بقاء الواقع على عدم فعليّته بالذات لحصول ملاك التكليف الواقعي قائم لا يرتفع بالتعبّد بالحكم المماثل ، إلا أنّ الفعلية وعدمها إن اريد منهما نفس هذه الصفة وجودا وعدما ، فهي ليست من المجعولات الشرعية ، وإن اريد البعث المجعول بجعل منشأ انتزاعه عند وصوله ، فحيث إنّ الشك فيه ناش عن الشك في بقاء منشئه ، فالتعبد ببقاء التكليف الواقعي تعبّد بالمجعول بجعله ، فلا مجال لأصالة عدم فعلية التكليف ولأصالة عدم البعث الفعلي. لعدم كونه أثرا شرعيا أو ذا أثر شرعي على الأوّل ، ولكونه محكوما بأصالة بقاء التكليف على الثاني. وهذا أولى من رفع الأصل المزبور بما في المتن من أنه لا يجدي ولا يثبت كون ما أتى به مسقطا إلا على الأصل المثبت ، فانه وإن كان بالإضافة إلى ذلك أصلا مثبتا ، إلا أنه لا حاجة إلاّ إلى عدم التكليف بالإعادة ، وأصالة عدم البعث إلى الظهر الواقعي ـ مثلا ـ كافية في عدم الإعادة سواء علم أن ما أتى به مسقط ، أو لا ، فتدبّر جيدا. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

(١) قولنا : ( ويمكن دفعه أيضا .. إلخ ).

هذا دفع للإشكال على قاعدة الاشتغال من حيث تعلّق العلم بتكليف سابق لا علم ببقائه حتى يكون فعليا منجزا.

ومحصّل الجواب : أن المنجّز العقلي كالمنجّز الشرعي ، فكما أنّ الخبر منجّز شرعا مع تعلّقه بما لم يعلم ثبوته فعلا ـ لا عقلا ولا شرعا ـ ومع ذلك ينجّزه على تقدير ثبوته ، وهو الحامل للعبد على امتثاله ؛ لأنه يقطع بوقوعه في تبعة مخالفته على تقدير موافقته ، كذلك العلم ـ هنا ـ تعلّق بتكليف

٤٠٧

المنجز ، فكما ان قيامها يوجب تنجزه ، على تقدير ثبوته ، كذلك العلم هنا تعلّق بتكليف لو كان باقيا لكان فعليا منجزا. وتمام الكلام في محلّه (١).

٢١٨ ـ قوله [ قدس سره ] : ( أو الظاهرية بناء على ... الخ ) (٢).

لا مجال لقياس الأمر الظاهري بالأمر الاضطراري ؛ إذ لا تكليف بالمبدل حال الاضطرار بوجه من الوجوه ، فيتمحّض الشكّ في حدوثه ، بخلاف التكليف الواقعي حال الجهل به ، فإنه لا شكّ في ثبوته ، وإنما الشكّ في سقوطه ، وإن قطع باشتمال المأتيّ به على المصلحة ، لكنه حيث لم يعلم أنه بحيث يوجب سقوط ما علم بثبوته ، فلا محالة يجب إتيان المأمور به الواقعي تحصيلا لليقين بسقوطه.

٢١٩ ـ قوله [ قدس سره ] : ( وكان الفوت المعلّق عليه وجوبه لا يثبت ... الخ ) (٣).

لا يخفى عليك أنّ الفوت مما ينسب ويضاف إلى المأمور به ، وهو من

__________________

سابقا بحيث لو كان باقيا لكان فعليا منجزا ؛ لأنه المعلوم بعينه دون غيره ، فتقدير البقاء هنا كتقدير أصل الثبوت هناك ، بل يمكن أن يقال : إن الأمر كذلك في قاعدة الاشتغال كلية ، فإنه إذا تعلّق العلم بتكليف ثابت حال العلم ، فالعلم به منجّزه ما دام متعلّقا به ـ لا بقاء ـ ولو زال العلم لغفلة ونسيان ، فالعلم بثبوته سابقا بعد زوال الغفلة واحتمال الامتثال هو المنجز له بقاء ، وليس إلاّ كما نحن فيه من العلم يتنجّز على تقدير بقائه بنفس هذا العلم ، وليس منشؤه احتمال التكليف المنجّز حتى يفترق عما نحن فيه حيث لم يتنجز سابقا ؛ لما مرّ من أنّ العلم به لا ينجّزه إلى الأبد ، بل ما دام متعلّقا به ، فليس احتمال التكليف بقاء احتمال التكليف المنجّز بقاء. فتأمل جيّدا. [ منه قدّس سرّه ] ( ن ، ق ، ط ).

(١) في الجزء ٣ : ١٥١ تعليقة ٦٦. وذلك في تعليقة (رحمه الله) على قول الآخوند (قدس سره) : ( ضرورة عدم لزوم امتثال الأحكام الإنشائية ... ) من الكفاية : ٢٧٨.

(٢) كفاية الاصول : ٨٧ / ٩.

(٣) كفاية الاصول : ٨٧ / ١٣.

٤٠٨

عناوينه ، لا مما ينسب إلى المأمور ومن وجوه فعله ، كما أنه ليس عنوانا للترك ولعدم الفعل مطلقا ، بل فيما إذا كان للشيء استعداد الوجود من حيث كونه ذا مصلحة فعلية ، أو مأمورا به واقعا أو مبعوثا إليه فعلا ، فإنّ هذه جهات مقرّبة له إلى الوجود. والظاهر أن الفوت ليس مجرّد عدم ما كان له الإمكان الاستعدادي للوجود من إحدى الجهات المزبورة ، بل هو عنوان ثبوتي ملازم لترك ما كان كذلك في تمام الوقت المضروب له ، وهو مساوق لذهاب شيء من يده تقريبا ، كما يساعده الوجدان.

وعليه فعدمه المستصحب في تمام الوقت ليس مصداقا للفوت ؛ كي يرتب عليه وجوب القضاء ، بل ملازم له ؛ بداهة أن العناوين الثبوتية لا تكون منتزعة عن العدم والعدمي كما هو واضح.

ثم لا يذهب عليك : أن الشكّ في صدق الفوت بلحاظ الملاك القائم بالمأمور به الواقعي ، وإلاّ ففوت الفريضة الفعلية مقطوع العدم ؛ حيث لا فرض فعلي في الوقت ، وفوت المأمور به الواقعي بذاته مقطوع الثبوت ؛ حيث إنه ذهب بنفسه من يده في الوقت ، فالمشكوك هو فوته بملاكه ؛ لاحتمال حصول ملاكه واقعا بالمأمور به الظاهري ، فلا بدّ من ملاحظة أن المنسوب إليه الفوت أيّ واحد من الامور المزبورة. فتدبّر.

٢٢٠ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( غاية الأمر أن تصير صلاة الجمعة .... الخ ) (١).

هذا كذلك لو كان مفاد الأمارة مجرّد وجوب صلاة الجمعة ، وأما لو كان مفادها أنّ الواجب الواقعي (٢) في اليوم هي الجمعة ، فمقتضى السببية قيامها مقام

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٧ / ١٩.

(٢) قولنا : ( وأما لو كان مفادها أنّ الواجب الواقعي .. إلخ ).

٤٠٩

الفرض الواقعي فيما له من المصلحة. وكما أن ضم الأصل ـ مثلا ـ إلى الدليل الواقعي مبين لاختصاص فعلية جزئية السورة بحال العلم بالواقع ، وأن الأمر بما عداها فعلي ، كذلك ضم دليل الأمارة إلى دليل وجوب الظهر واقعا ، يوجب اختصاص فعلية وجوب الظهر بما إذا لم تقم الأمارة على أن الغرض غيرها ،

__________________

لا يخفى أن غاية مفاد الدليل هنا وفي إثبات الجزء أو الشرط أو نفيهما أنه واجب واقعا ، لا أنّه الواجب الواقعي ، وأنه جزء واقعا ، لا أنه الجزء الواقعي إذا فرض أن الجزء غيره ، وأنه ليس بجزء واقعا ؛ لأن المؤلّف مما عداه هو المركّب الواقعي.

وغاية ما يمكن أن يقال في الفرق بين الأصل الجاري في إثبات أصل التكليف والجاري فيما تعلّق به التكليف من الجزء والشرط : هو أن عدم الجزئية : تارة بعدم جعل منشأ انتزاعها ، ومقتضاه تعلق الأمر بما عداه ، فلا يكشف عن مصلحة بدلية فيه ، واخرى بجعل منشأ انتزاع عدم الجزئية حتى يكون عدم الجزئية مجعولا بجعل منشئه تبعا ، فمقتضاه جعل عدم وجوب المركّب من المشكوك وغيره ، لا مجرّد المعذورية عن ترك الجزء أو ترك المؤلّف منه ، فإنه مبنى الطريقية دون الموضوعية ، فيعلم من جعل المنشأ أنه لا مصلحة ملزمة في المؤلّف من المشكوك وغيره.

وحيث إنّ تعلّق الأمر بما عداه معلوم بعنوان نفسه لا بعنوان آخر ، فيكشف عن انبعاث الأمر عن مصلحة الصلاة بنفسها لا بعنوان آخر.

ويندفع : بأن كشف عدم الوجوب جعلا عن عدم المصلحة الملزمة واقعا ، معناه عدم بلوغ الغرض إلى حدّ يجب إيصاله ، ولو بجعل الاحتياط ، وأنه منوط بوصوله العاديّ ، وإلاّ فكشفه عن عدمها رأسا خلف ؛ لفرض تعلّق الأمر واقعا بالمركّب من المشكوك ، وأما [ كشف ] الأمر الفعلي بما عداه بعناوينها (أ) ، فغاية مقتضاه ترتّب مرتبة من الغرض على ما عدا (ب) المشكوك من سنخ الغرض الواقعي ، وإلاّ لزم مساواة الزائد والناقص في المحصلية للغرض ، فلا دليل على حصول الغرض الواقعي بمقدار لا يمكن استيفاء الباقي ، ولا على مصلحة بدلية وبقية الكلام في محله. ( منه عفي عنه ).

__________________

(أ) كذا ولعلها هكذا : ( واما تعلق الامر الفعلي بما عداه بعنوانه )

(ب) في المطبوع : ( ما عداه ... )

٤١٠

واختلاف الجمعة والظهر في الآثار ، وإن كان كاشفا عن اختلاف حقيقتهما بحدهما ، لكنه لا ينافي اشتراكهما في جامع به يقتضيان الغرض اللازم استيفاؤه كما لا يخفى.

[ في مناط الإجزاء والتصويب ]

٢٢١ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( فإنه لا يكون موافقة للأمر فيها ... الخ ) (١).

لا يقال : ليس موافقة الأمر مناط الإجزاء ، ولا عدم موافقة الأمر الواقعي ملاك عدمه. كيف؟ وقد عرفت في أول البحث : أن الإجزاء وعدمه من شئون المأتيّ به ، لا من شئون الأمر ؛ حتى يقال : حيث لا أمر هنا بوجه ، فلا معنى للتكلّم في الإجزاء ، بل ملاكه وفاء المأتي به بمصلحة المأمور به ، وهو على الفرض ممكن ، بل في الجملة واقع ايضا ، فما الوجه في إخراجه عن محل البحث.

لأنا نقول : مجرّد إمكان وفاء الأجنبي عن المأمور به بمصلحته لا يقتضي البحث عنه في الاصول على وجه الكلية ، بل لا بدّ أن يكون هناك شيء بلحاظه يبحث عن اقتضائه عقلا كالمأمور به الاضطراري والظاهري ، فإنّ حيثية كون المأتيّ به مأمورا به قابلة للكشف عن مقام الثبوت ، ونفس تعلّق الأمر به قابل لأن يبحث عن اقتضائه لقيام متعلّقه بمصلحة المأمور به الواقعي.

٢٢٢ ـ قوله [ قدّس سره ] : ( فان الحكم الواقعي بمرتبته محفوظ ... الخ ) (٢).

توضيحه : أن التصويب : إما بلحاظ خلوّ الواقعة عن الحكم الواقعي

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٨ / ٢.

(٢) كفاية الاصول : ٨٨ / ١٢.

٤١١

رأسا ، أو بلحاظ عدم فعلية الحكم الواقعي للجهل به ، أو لقيام الأمارة على خلافه ، أو بلحاظ سقوط الحكم بمراتبه بعد إتيان المأمور به الظاهري.

والأول تصويب ، إلا أنه لا داعي إلى الالتزام به ، بل الحكم الواقعي الإنشائي على حاله علم به أم لا ، قامت الحجة على خلافه أم لا.

وكون مؤدّى الأمارة ذا مفسدة غالبة ـ أو ذا مصلحة مضادّة غالبة على مصلحة الواقع ، أو ذا مصلحة مماثلة أقوى موجبة لفعلية الحكم على وفقها ـ لا يقتضي سقوط مصلحة الواقع عن الاقتضاء ؛ كي تخلو الواقعة عن الحكم رأسا بسقوط ملاكه ، بل يقتضي سقوط مقتضي الحكم الواقعي عن التأثير وبلوغه درجة الفعلية وصيرورته بعثا جديا.

والثاني مع أنه ليس من شئون الإجزاء لاجتماع عدم فعلية الواقع حال الجهل مع عدم الإجزاء ـ ليس من التصويب في شيء ؛ لبقاء الحكم الواقعي المشترك بين العالم والجاهل على حاله ، كما أن اختصاص الجاهل بحكم فعلي آخر ، كذلك ؛ إذ المجمع عليه اشتراك الجاهل مع العالم لا العكس.

والثالث يؤكّد ثبوت الحكم المشترك ؛ لأنّ مجرّد قيام الأمارة وتعلّق الجهل لم يوجب السقوط ، بل إتيان المأمور به الظاهري المحصّل للغرض ـ وسقوط الحكم بحصول غرضه ، أو بعدم إمكان حصوله ، كسقوطه بإطاعته ومعصيته ـ ليس من التصويب قطعا ؛ إذ المراد من ثبوت الحكم المشترك ليس هو الثبوت أبدا ـ ولو مع الإطاعة والمعصية أو ما بحكمهما ـ بل مجرّد الثبوت حال الجهل بحيث لا يختلف حال العالم والجاهل.

قلت : الحكم الذي أمره (١) بيد المولى هو الإنشاء بداعي جعل الداعي

__________________

(١) قولنا : ( قلت : الحكم الذي أمره .. إلخ ).

حيث إن الفعلية عنده ـ قدّس سرّه ـ غير متقومة في نفسها بالوصول وان سقوط الحكم

٤١٢

وانبعاث المكلف ، والإنشاء لا بذاك الداعي ليس من الحكم الحقيقي ولا من

__________________

عن الفعلية بلحاظ فعلية حكم آخر على وفاقه أو على خلافه ، فلذا كان التصويب عنده في مرحلة الفعلية دون الواقع ، والكسر والانكسار بين مقتضيات الفعلية ، لا بين مقتضيات الأحكام بنفسها ، إلاّ أن هذا المبنى حيث إنه غير صحيح حتى عنده ـ قدس سره ـ على ما ذكره ـ قدس سره ـ في مبحث جعل الطريق مما يرجع إلى ما سلكناه.

فلا محالة لو كان هناك كسر وانكسار لكان بين مقتضى الحكمين (أ) الصادرين من الشارع ومقتضى سقوط المقتضي عن التأثير سقوط مقتضاه فيلزم التصويب ، لكن هذا المحذور على فرض المزاحمة في التأثير ، وهذا الفرض غير صحيح.

وتوضيح الحال يستدعي بسطا في المقال ، فنقول : المصالح المقتضية للأحكام تتصوّر على خمسة وجوه :

أحدها ـ أن يكون المصلحة المقتضية للحكم الواقعي ـ الذي حقيقته الإنشاء بداعي جعل الداعي ـ متقيّدة بعدم الجهل بمقتضاها ، أو بعدم قيام الأمارة على خلاف مقتضاها ، ففي صورة الجهل أو قيام الأمارة المخالفة لا مصلحة أصلا ، فلا حكم أصلا لا واقعا ولا بنحو ثبوت المقتضى بثبوت مقتضيه ؛ حيث لا مصلحة مقتضية في هذه الحال ، وهذا من أوضح أفراد التصويب الذي قد ادّعي استحالته من حيث الدور أو الخلف ، إذ كما أنّ تقيّد الحكم بالعلم بنفسه أو بعدم الجهل به محال لأحد الوجهين ، كذلك تقيّد المصلحة بالعلم بنفسها أو بعدم الجهل بها أو تقيّد المصلحة بالعلم بمقتضاها المنبعث عنها ، وقد ذكرنا في محلّه وجه استحالته وإن لم يلزم دور ولا خلف.

ثانيها ـ أن يكون المصلحة ثابتة حتى في صورة الجهل وقيام الأمارة المخالفة فمقتضاها ـ أيضا ـ ثابت بثبوت مقتضية ، إلا إنها مزاحمة في التأثير بمصلحة اخرى تقتضي خلاف مقتضى الاولى ، فلا حكم في الأوّل لعدم المقتضي ، ولا حكم هنا لوجود المانع ، ويفترقان في ثبوت الحكم بثبوت المقتضي هنا دون الأوّل.

وهذا الوجه لو صح للزم منه التصويب ، لكنه في نفسه غير صحيح ؛ إذ المزاحمة في التأثير مع فرض اجتماع المصلحتين لمكان التنافي بين الأثرين ، ولا تنافي هنا ؛ إذ الإنشاءان ـ بما هما ـ قابلان للاجتماع ، وبلحاظ بلوغهما مرتبة الفعلية المحقّقة لتنافي الفعليين لا ينتهي الأمر إلى اجتماعهما في مرتبة الفعلية ؛ لأن فعلية الحكم الظاهري منوطة موضوعا بعدم وصول الواقع ، فلا حكم فعلي دائما إلاّ أحد الحكمين.

__________________

(أ) في ( ن ) و ( ق ) و ( ط ) : ( بين مقتضى الحكمين. )

٤١٣

مراتبه ؛ بداهة أن المنشأ بداع آخر لا يكون جعلا للداعي ، فلا ينقلب عما هو

__________________

نعم ، التنافي في هذه المرحلة يتصور في العنوانين العرضيين أو الطوليين اللذين لم يمتنع اجتماعهما.

ثالثها ـ أن تكون مصلحة الحكم الواقعي ومصلحة الحكم الظاهري متضادتين ، ومتزاحمتين وجودا ، وحيث إن الحكم على طبق الأقوى ، والمفروض فعلية الحكم الظاهري ، فيكشف عن أقوائية مقتضيه وعدم الحكم الواقعي ؛ لاستحالة التسبيب إلى إيجاد المتضادّين ابتداء أو بواسطة ، فيلزم منه التصويب حتى بلحاظ ثبوت الحكم بثبوت مقتضيه ، وهذا الوجه أيضا لا يستلزم التصويب عند التحقيق ، فإنّ التسبيب إلى المتضادّين في عرض واحد محال ، لكن لا يترقّب إيجاد المصلحة للحكم الظاهري في عرض إيجاد المصلحة للحكم الواقعي ، بل في ظرف عدم وصوله ، فلا ينتهي الأمر إلى التسبيب إلى إيجاد المتضادّين ؛ حيث لا تسبيب حقيقة إلا بالفعلية البعثية.

وأما سقوط الحكم الواقعي بعد امتثال الحكم الظاهري وحصول مصلحته ، فهو غير مناف لثبوت الحكم إلى حال حصول ملاك الحكم الظاهري ، فالإنشاء الواقعي بنحو القضية الحقيقية في الطرفين ـ ليكون كل واحد منهما فعليّا بوصوله وتمامية موضوعه ـ لا محذور فيه.

رابعها ـ أن تكون مصلحة الحكم الواقعي مغايرة لمصلحة الحكم الظاهري فقط ، لا مضادة لها وجودا ، ولا مزاحمة لها أثرا ، فمن الواضح أنه لا يستلزم التصويب ، لكنه لا يستلزم الإجزاء بخلاف الوجه السابق ، فإنه يستلزم الاجزاء بمعنى عدم التكليف بالواقع بعد امتثال الحكم الظاهري لعدم امكان استيفاء ملاكه ، لا بمعنى موافقته بحسب النتيجة بتحصيل ملاكه.

خامسها ـ أن تكون المصلحتان متسانختين ، وتقوم مصلحة الحكم الظاهري مقام مصلحة الحكم الواقعي ، فلا تصويب أصلا ، مع أنه يستلزم الإجزاء هذا كله بالنسبة إلى المصالح الواقعية والظاهرية من حيث الإجزاء والتصويب ، وأما بالنسبة إلى اجتماع المفسدة الواقعية والمصلحة الظاهرية كصلاة الجمعة المحرمة واقعا والواجبة ظاهرا ، فالكلام فيه مربوط بخصوص التصويب دون الإجزاء.

وتحقيق الحال فيه : أن المفسدة الواقعية في الجمعة ربما تكون مزاحمة وجودا بالمصلحة بعنوان آخر بحيث تندكّ المفسدة في جنب المصلحة ، فصلاة الجمعة التي قامت الأمارة على وجوبها ذات مصلحة فقط من دون مفسدة ، وإنما تكون ذات مفسدة لو خليت ونفسها ، كالكذب القبيح عقلا ، فإنه لو خلّي وطبعه قبيح ، وبعنوان إنجاء المؤمن حيث إنه عدل وإحسان ممدوح عليه وحسن ، لا إنه قبيح مرخّص فيه ، فلا محالة حيث لا مفسدة فيما قامت عليه الأمارة ، فلا حرمة فيه من الأول ، فهو تصويب حقيقة في مرحلة الواقع.

٤١٤

عليه ، ولا يمكن أن يصير باعثا وداعيا وزاجرا وناهيا ، بل إنما يعقل أن يصير بعثا جدّيا وتحريكا حقيقيا إذا انشئ بهذا الداعي.

ولا يخفى عليك : أنّ الإنشاء بالداعي المزبور هو تمام ما بيد المولى ، وبلوغه إلى حيث ينتزع عنه عنوان البعث والتحريك يتبع وصوله إلى المكلّف بنحو من أنحاء الوصول ، لا لتلازم البعث والانبعاث كتلازم الإيجاد والوجود ؛ ضرورة دخالة إرادة المأمور واختياره في انبعاثه ، مع أن البعث بعث فعلي أراد المأمور امتثاله ، أم لا ، بل لأنّ المراد من البعث الحقيقي والتحريك الجدي ، جعل ما يمكن أن يكون باعثا وداعيا ومحرّكا وزاجرا وناهيا.

ومن الواضح أن الإنشاء بداعي البعث لا يعقل أن يتّصف بإمكان الباعثية والدعوة ، إلاّ بعد وصوله إلى المأمور لوضوح أنّ الأمر الواقعي ـ وإن بلغ من القوة ما بلغ ـ لا يمكن أن يصير بنفسه باعثا وداعيا ، وإن خلا المأمور عمّا ينافي مقتضيات الرقية ، وعما ينافر (١) رسوم العبودية ، بخلاف الواصل. فافهم واستقم.

__________________

فما عن الشيخ الأعظم ـ قدس سره ـ في مبحث الظن من رسائله (أ) ـ من أنه لا تصويب هنا ، فإن المراد من الحكم الواقعي الذي يلزم بقاؤه هو الحكم المتعلق بالعباد الذي يحكي عنه الأمارة إلى آخر كلامه ـ غير مفهوم المراد فإنه إن اريد أنّ الحكم المتعلّق بالعباد بنحو القضية الحقيقية تعلّق بمثل هذا الموضوع الذي ليس فيه ملاك الحكم ، فهو التزام بوجود المعلول بلا علة ، وإن اريد أنّ عنوان الموضوع المحكوم عليه ظاهرا متقيد بما يقتضي وجود حكم واقعي ، فهو التزام بثبوت الحكم عنوانا لا حقيقة وإلاّ لجرى في غالب أقسام التصويب. هذا إذا كانت المفسدة مندكّة في المصلحة ، وأما إذا كانت موجودة حقيقة ، ومزاحمة في التأثير بمصلحة الحكم الظاهري ، ففرض المزاحمة والعلية وسقوط المفسدة عن التأثير وإن كان يقتضي عدم بقاء الحكم الواقعي إلا أنك قد عرفت في الوجه الثاني أن لا مزاحمة في التأثير لا بحسب مقام الإنشاء ولا

__________________

(أ) فرائد الأصول : ٣٠ في وقوع التعبد بالظن عند قوله : ( ففيه أن المراد بالحكم الواقعي ... )

٤١٥

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الحكم الحقيقي المشترك بين العالم والجاهل هو ما ذكرنا ، فإنه الذي يعقل أن يبلغ درجة الفعلية والتنجز. ومن الواضح أن مثله لا يعقل أن يتقيّد بعدم الجهل به ، أو بعدم قيام الأمارة على خلافه ، بل نفس الجهل به وعدم وصوله كاف في عدم بلوغه درجة الفعلية ، ووجود الحكم بهذا المعنى لا يمنع عن بعث فعلي آخر على وفاقه أو على خلافه ؛ لأن حقيقة البعث إنما تنافي بعثا آخر ؛ لاستحالة علّية كلّ منهما لداع مماثل أو مضادّ ؛ لاستحالة انقداح داعيين متماثلين أو متقابلين نحو فعل واحد.

ومن الواضح أن الحكم الواقعي وإن كان بداعي جعل الداعي ، إلا أنه ـ كما عرفت ـ لا يعقل أن يتّصف بالدعوة إمكانا بماله من الوجود النفس الأمري ، بل إذا وصل إلى من اريد انبعاثه ، فهذا سرّ فعلية البعث الطريقي دون الواقعي ، لا مانعية مصلحة الأمر الطريقي عن تأثير مصلحة الأمر الواقعي في فعليته.

ومنه ظهر : أن مصلحة الحكم الواقعي تامّة ، وأن مصلحة المؤدّى لو كانت غالبة على مصلحة الواقع ، لاقتضت سقوط الحكم الواقعي ؛ لأن بقاء المعلول ببقاء علته ، ومن البين أن العلّة التامّة للإنشاء بداعي البعث نفس مصلحة الواقع ، وأنّ عدم بلوغه إلى درجة الفعلية ليس لقصور في مصلحة الواقع كي يكون نسبته إلى الحكم الفعلي نسبة المقتضي إلى المقتضى ليكون الكسر والانكسار في فعلية التأثير ، بل حقيقة الحكم المنبعث عن علّته التامّة نفس

__________________

بحسب مقام الفعلية. وبقية الكلام في مسألة التخطئة والتصويب من مباحث الاجتهاد والتقليد ، ومن الله ـ تعالى ـ التسديد. [ منه قدس سره ] ..

__________________

(١) سبق أن أشرنا إلى عدم ورود هذا الفعل ـ في اللغة ـ بمعنى النقرة والمنافاة ، وأنه بمعهى : فاخر أو حاكم ، فراجع.

٤١٦

الإنشاء بداعي البعث ، واتصافه بالبعث فعلا يتبع الوصول عقلا ، فلا محالة تكون غلبة مصلحة المؤدّى ، موجبة لسقوط الحكم الواقعي الذي هو تمام ما بيد المولى لسقوط علته. فتدبره فإنه حقيق به.

نعم ، القول بالإجزاء يدور مدار كون مصلحة المؤدّى مساوية لمصلحة الواقع ، أو بمقدار لا يمكن استيفاء ما بقي منها ، فلا موهم لسقوط مصلحة الواقع بمصلحة غالبة ، وإشكال لزوم التخيير والأمر بالجامع قد تقدّم منا جوابه (١) ، فراجع.

٢٢٣ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( كيف وكان الجهل بها ... الخ ) (٢).

يمكن أن يقال : إنّ مقتضى تأخّر الجهل بشيء عنه ثبوته حال تعلّقه به ـ لا ثبوته أبدا ـ فلا مانع من السقوط بعد الثبوت الموقوف عليه العلم والجهل ونحوهما ، بل اللازم ـ كما مرّ مرارا ـ ثبوته العنواني المقوّم للعلم والجهل ، لا ثبوته الخارجي.

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ٢١٥.

(٢) كفاية الاصول : ٨٨ / ٢.

٤١٧
٤١٨

الفهرس الموضوعي

موضوع كل علم الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ............................. ١٩

ميزان العرض الذاتي ........................................................... ٢١

فعل المكلف عنوان انتزاعي ..................................................... ٢٥

بعد اشتراك العلمين في تمام المسائل ............................................... ٢٨

المشهور تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ........................................... ٢٩

العلم عبارة عن مركب اعتباري ................................................. ٣٢

موضوع علم الأصول خصوص الأدلة الأربعة ..................................... ٣٥

المراد من السنة ................................................................ ٣٧

المراد من الدليل العقلي ......................................................... ٣٩

تعريف علم الأصول ........................................................... ٣٩

وجه الأولوية في تعريف الماتن ................................................... ٤٠

الغرض من تدوين فن الأصول .................................................. ٤١

تحقيق الكلام في الوضع ........................................................ ٤٤

الارتباط بين اللفظ والمعنى من لوازم الوضع ....................................... ٤٧

٤١٩

الوضع عبارة عن التعهد ........................................................ ٤٨

المراد من التعهد ............................................................... ٤٨

تحقيق المعاني الحرفية ............................................................ ٥١

عدم وجاهة تنظير المعنى الاسمي والحرفي بالجوهر والعرض ........................... ٥٢

بعض المعاني الاسمية كالمعنى الحرفي في عدم الاستقلال .............................. ٥٤

ميزان عموم الوضع وخصوص الموضوع له ....................................... ٥٦

الإخبار والإنشاء من شئون الاستعمال ........................................... ٦١

وحدة المستعمل فيه في الجمل الخبرية والانشائية ................................... ٦٢

أسماء الاشارة والضمائر موضوعة لنفس المعنى ..................................... ٦٤

الموضوع في القضية الحقيقية يحتاج الى الواسطة .................................... ٦٧

دخل الإرادة يتصور على وجهين ................................................ ٦٩

الإرادة الاستعمالية والتفهيمية ................................................... ٧٠

إشكال العلامة على المحقق الطوسي بانتقاض الدلالات الثلاث ...................... ٧٢

المركبات ليس لها مواد غير مواد مفرداتها ......................................... ٧٥

جوهر الكلمة أمر قابل للحاظ الواضع بنفسه ..................................... ٧٧

معنى كون التبادر علامة كونه دليلا إنّيّا .......................................... ٧٨

معنى صحة الحمل ............................................................. ٧٩

علامة المجاز هو السلب ......................................................... ٨٠

تحقيق في الحمل ............................................................... ٨٢

الاطراد وعدمه ................................................................ ٨٤

الحقيقة الشرعية ............................................................... ٨٥

ما يمتاز به الوضع عن الاستعمال ................................................ ٨٦

الصلاة بمعنى العطف والميل ..................................................... ٨٩

تقرير ثمرة بحث الحقيقة الشرعية ................................................ ٩١

الصحيح والأعم ............................................................... ٩٢

الصحيح في تقريب مقالة الأعمي ............................................... ٩٤

٤٢٠